بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: [إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا؛ أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته، كما قال ـ تعالى ـ: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس:58] وأفادك أيضاً الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما كان يفعل الكفار المشركون، خصوصاً إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله].
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } [النساء:48]
كيف تكون قد عرفت الشرك مع أن الشيخ ـ رحمه الله ـ لم يذكر تعريفاً اصطلاحياً للشرك فيما تقدم؟ يكون من خلال ما ذكره عن التوحيد أولاً، ويكون من خلال ما ذكره عن شبه الكافرين في صرفهم العبادة لغير الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا شك أن التوحيد والعلم به ودراسته مما يفيد الإنسان معرفة الشرك، إذ أن الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء، فإذا عرفت التوحيد ودرسته وعلمت ما يجب فيه لله ـ سبحانه وتعالى ـ عرفت الشرك.
معنى الشرك وأنواعه
الشرك في الاصطلاح هو: تسوية الله بغيره في ربوبيته أو إلهيته أو أسمائه وصفاته، وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في تعريف الشرك: هو التشبه بالخالق أو تشبيه المخلوق به، فإن كلا الأمرين شرك، فمن تشبه بالخالق فطلب العبادة من الناس فقد أشرك، ومن شبه مخلوقاً بالله ـ سبحانه وتعالى ـ في ربوبيته أو في إلهيته أو في أسمائه وصفاته فقد وقع في الشرك.
واعلم -يا أخي- أن الشرك الذي يشير إليه الشيخ هنا هو الشرك في الإلهية، والشرك في الإلهية قسمان: أكبر وأصغر، أما الشرك الأكبر فهو صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله ـ تعالى ـ سواءً كانت العبادة قولية أو فعلية أو اعتقادية، فكل ما ثبت في الشرع أنه عبادة فصرفه لغير الله ـ سبحانه وتعالى ـ شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة.
إذاً: الشرك الأكبر هو صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، سواء كانت العبادة قولية أو فعلية أو اعتقادية، وكيف نعرف أن هذا الفعل عبادة أو ليس بعبادة حتى نحكم هل هو شرك أو لا؟ كل ما أمر الله به أو أمر رسوله به فهو عبادة، سواء كان هذا الأمر أمر إيجاب أو أمر استحباب.
أما الشرك الأصغر فهو كل ما نهى الشارع عنه مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر، يعني: مما يوصل إلى الشرك الأكبر، والشرك الأصغر قد يكون في الاعتقادات، أو الأسباب أو الألفاظ، لكن غالبه يكون في الأسباب، وفي الألفاظ.
التحذير من الشرك
قال ـ رحمه الله ـ: (وعرفت الشرك بالله الذي قال فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48])، هذا فيه الترهيب والتحذير من الشرك، فإن الشرك أمره عظيم، فهو أظلم الظلم كما قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وكما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " أن تجعل لله نداً وهو خلقك"صحيح البخاري (4477)، وصحيح مسلم (86)، فالشرك أمره عظيم عند الله، ولذلك لم يجعله الله ـ سبحانه وتعالى ـ قابلاً للغفران إلا بالتوبة منه والإقلاع عنه، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، وهذه الآية لا إشكال أن الشرك الأكبر داخل فيها، فإنها تدل على أن الشرك الأكبر لا يغفره الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا بالإقلاع عنه والتوبة منه.
أما الشرك الأصغر فقد اختلف أهل العلم في دخوله في هذه الآية على قولين: منهم من قال: إن الآية تشمل الشرك الأصغر، فالشرك الأصغر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهذا لا يلزم منه أن يكون صاحب الشرك الأصغر مخلداً في النار، بل يعذب بحسب ما معه من الشرك الأصغر، حتى إذا طهر دخل الجنة.
والقول الثاني: أن الآية لا تشمل الشرك الأصغر، وهذا الأخير هو قول ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما صرح به في أكثر من موضع، وهو أحد قولي شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ والقول الثاني له: دخول الشرك الأصغر في الآية، أي: أن الله لا يغفر الشرك الأصغر ولا الشرك الأكبر إلا بالتوبة منهما والإقلاع عنهما، وعلى كلٍ فالشرك أمره خطير، فيجب على العبد أن يتقي الله ـ سبحانه وتعالى ـ وينأى عنه، وأن يكثر من قول: "اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" عمل اليوم والليلة لابن السني (286)
معرفة نعمة الإسلام والفرح به
يقول: (وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد سواه { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام } [آل عمران:19]، { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران:85 [.
الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والإسلام معناه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
قال: (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا) كل هذه مقدمات (أفادك هذا فائدتين: الأولى الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58]) فضل الله هو الإسلام والإيمان، ورحمته هي العلم والقرآن، فأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيه أن يفرح بالإيمان والإسلام الذي هو فضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبرحمته التي هي العلم والقرآن، فإن هذا من أجلّ ما يفرح به، بل هو أعلى مراتب العارفين، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: إن أعلى درجات العبد أن يفرح بالإسلام، وأن يفرح بالقرآن، وأن يفرح بالإيمان، وأن يفرح بالعلم الدال على عبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ الواحد الديان، قال: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) هذا تخصيص، (فبذلك) يعني: يفرحوا به ولا يفرحوا بغيره، فإن غيره فانٍ زائل، وأما هذا فهو باق ثابت في الدنيا والآخرة (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، ولا شك أن الإيمان والإسلام والعلم والقرآن خير ما جمع بحق، وخير ما حصله العبد في الدنيا والآخرة، ولا شك أن من هداه الله ـ سبحانه وتعالى ـ للإيمان والإسلام، ولما دل عليه القرآن من وجوب إفراد الله بالعبادة؛ فقد وفق إلى خير عظيم، وواجب هذه المنة الفرح، ومقتضى الفرح الشكر.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
فشكر بالقلب، وحمد باللسان، وشكر بالجوارح، وهو بامتثال شرع الله ـ سبحانه وتعالى، ـ وشعور هذه المنة مما ينبغي -أيها الإخوة- أن نهتم به، فإن بعض الناس يظن أن منة الإسلام منة كسائر المنن، ولا يتدبر مدى لطف الله به ورحمته به أن جعله من المسلمين؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ اصطفاك من هذا الخلق، وهذا الكون العظيم، وهذا العدد الهائل الكبير من الناس؛ فجعلك من أتباع الرسل، وخصك باتباع أفضلهم وأشرفهم وهو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو خير الأنبياء، وعليه أنزل أحسن الكتب، فهو أفضلهم وكتابه أحسن الكتب، فهذه منة عظيمة نسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نقوم بحقها وشكرها!
معرفة خطر الشرك والخوف منه
ثم قال: (وأفادك أيضاً الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله ـ تعالى ـ كما كان يفعل الكفار، خصوصاً إن ألهمك -يعني: يحدث عندك الخوف إن ألهمك- الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]؛ فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله).
الخوف من الشرك منهج نبوي قديم، فهذا إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي شهد الله له بالإمامة في التوحيد { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] يسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجنبه الأصنام، مع أنه معصوم من الوقوع في الشرك وعبادة الأصنام، إلا أنه قال ذلك لبيان خطورة الشرك، وأنه مما ينبغي أن يحذره حتى الأنبياء، فإنه قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ لنبيه في بيان عظم الشرك: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[الزمر:65] مع أنه منزه من الوقوع في الشرك، بل ومعصوم عن الوقوع في الكبائر التي هي أقل من الشرك، وما ذلك إلا لبيان خطورته وعظم أمره، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخاطباً خير القرون أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ: ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء )أخرجه أحمد (23680)، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان تحذيره من الشرك: ( الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصفاة السوداء) الكافي الشافي لابن حجر (325)، وما هذا إلا للتحذير من الشرك، فأفزع ذلك الصحابة رضي الله عنهم حتى قالوا: يا رسول الله! فما النجاء منه؟ كما في حديث أبي بكر ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم))أخرجه أبو يعلى (60 ).
فهذا الأمر الذي خافه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه الذين جاهدوا، وقدموا أنفسهم في سبيل تقرير التوحيد، ينبغي أن نخافه نحن على أنفسنا، وألا يأمن الإنسان على نفسه من الشرك؛ فإن الشرك كما وصفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدب إلى قلبك من حيث لا تعلم (كدبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء) فأنى تراه؟!
مسألة العذر بالجهل
ثم قال ـ رحمه الله ـ: (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يُخرجها من لسانه، وقد يكون جاهلاً بها)، مثال هذه الكلمة: سب الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن الفطر متفقة على قبح هذا الفعل؛ ولذلك سب الله ـ سبحانه وتعالى ـ من الكفر المخرج عن الملة، ولو جهل الساب أنه يكفر بالسب فإن ذلك لا يعفيه من الحكم بالكفر؛ لأن سب الله اتفقت الفطر على قبحه وأنه مُحرم، فجهل العبد بما يترتب على هذا المحرم لا يعفيه مما يترتب على الفعل، فإنه يكفر بفعله؛ ولذلك قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: (وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بجهله) وهذا يحمل على الجهل بما يترتب على قول المحرم، وإلا فإنه يعلم أنها محرمة، وإلا لم يكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليؤاخذه وهو لا يعلم حرمة هذا القول.
وقد استند بعض الشارحين لهذا الكتاب إلى هذه الجملة في القول بأن الشيخ رحمه الله يذهب إلى عدم العذر بالجهل! وهذه مسألة كبيرة، كثر فيها الكلام، وطال فيها الخلاف، وألفت كتب تنصر قول القائلين بعدم العذر، وكتب تنصر قول القائلين بالعذر بالجهل، والقول الفصل في هذه المسألة: أنه لا يقال بالعذر مطلقاً، ولا يقال بعدم العذر مطلقاً، بل يفصّل في الجهل، فمن الجهل ما يعذر به صاحبه، ومن الجهل ما لا يعذر به صاحبه، أما بالنسبة لعقيدة الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا، فله ـ رحمه الله ـ من النصوص ما يتبين من خلاله أنه لا يقول بعدم العذر مطلقاً، بل يقول بالعذر بالجهل في أحوال وأحيان، حتى في مسائل الاعتقاد، وسيتبين هذا من خلال نصوص نقرؤها عليكم من كلام الشيخ، ومن كلام طلابه وأتباعه على دعوته.
فمن ذلك ما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ في الدرر السنية في أحد رسائله، قال ـ رحمه الله ـ: (وإن كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبههم) وهذا النص من كلام الشيخ، وهو يفيد أنه يعذر بالجهل مع وجود سببه، كأن يكون الجهل فاشياً في البلاد، ولا يوجد من ينبه ويدعو إلى التوحيد.
ومن كلام ابنه عبد الله في الدرر السنية أيضاً، قال ـ رحمه الله ـ في بيان موقف أهل الدعوة، وبيان موقف الشيخ ـ رحمه الله ـ وكان كلامه في عدم تكفيره من يقول: يا رسول الله! أسألك، إذا كان جاهلاً بهذا؛ يقول رحمه الله: (ونعتذر عمن مضى لأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ)، ثم قال: (فإن قلت: هذا فيمن ذهل ثم لما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصراً على ذلك حتى مات -يعني على تجويز سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة-؟ قلت: -والقائل هو عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول أنه كفر، ولا لمن تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه؛ لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمان المؤلفين المذكورين -أي الذين اطلعوا على الأدلة ومع ذلك استمروا في تجويز هذه المسألة التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأساً، ومن اطلع عليه أعرض عنه قبل أن يتمكن ذلك في قلبه، ولم تزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم).
وقال أيضاً: (ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه وعلمه وورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصح الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئاً في هذه المسألة -وهي مسألة سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفاعة- أو غيرها كـ ابن حجر الهيتمي ) الذي كان له عدد من الردود والكلام على بعض المسائل التي تكلم عنها شيخ الإسلام رحمه الله.
وقال عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله ـ نقلاً عن شيخ الإسلام : (ونحن نعلم بالضرورة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يشرع لأحدٍ أن يدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لا لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله).
ثم قال: (ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين ما جاء به الرسول مما يخالفه).
وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله ـ: (والشيخ محمد رحمه الله -يقصد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور وغيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها).
هذه النصوص التي وقفت عليها -وغيرها كثير- تدل وتوضح موقف الشيخ ـ رحمه الله ـ وتلاميذه من مسألة التكفير، ومن مسألة العذر بالجهل، وأنه لا ينبغي الإطلاق بأن الشيخ لا يقول بالعذر بالجهل، بل المسألة من حيث أصلها فيها تفصيل، وذلك هو موقف الشيخ فيما يظهر من كلامه، فينظر في حال الواقع في الشرك، وعلى ضوء حاله يحكم عليه: هل جهله يعذر به أم لا يعذر به؟ وهذه المسألة قد أفردت بكتب، وتكلم عليها كثير من المؤلفين المتأخرين، ومن أراد الاستزادة فليرجع لهذه الكتب، وشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول بعدم التفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع في مسألة العذر بالجهل، وله في هذا كلام كثير في مواضع كثيرة.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: (وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما كان يفعل الكفار، خصوصاً إن ألهمك الله ـ تعالى ـ ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم) في قول الشيخ ـ رحمه الله ـ: (وعلمهم) بعض النظر، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد ذكر عنهم بعد هذه الآية من كلام موسى ـ عليه السلام ـ أنه قال: { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [النمل:55]، فهم ليسوا علماء، ولو كانوا علماء ما طلبوا إلهاً يعبد من دون الله، ففي قوله: (وعلمهم) بعض النظر، قال: (فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يُخلصك من هذا وأمثاله)
شرح كشف الشبهات [5]
أنزل الله القرآن وجعل فيه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأعداء التوحيد من أهل الأهواء يتبعون المتشابه منه ليضلوا الناس بغير علم، والراسخون في العلم يردون المتشابه إلى المحكم فيكون كله محكماً، وقد تصدى أهل العلم لإبطال شبه أهل الأهواء بالبراهين الساطعة والحجج الناصعة.