بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف ـ رحمه الله ـ: [ولهم شبهة أخرى: وهي ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً.
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال ـ تعالى ـ في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص:15]، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.
إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه صلى الله عليه وسلم؟].
قال ـ رحمه الله ـ: (ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً) وهذا من جملة ما يتعلق به المبتدعون في تجويز صرف العبادة لغير الله ـ سبحانه وتعالى ـ وإلا فلو كان ما ذكروه دالاً على ما ذهبوا إليه من جواز استغاثة المخلوق بغير الله، وأن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً؛ لعددنا ذلك من المتشابه الذي يحمل على المحكم، وهو أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد قال: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[الجن:18]، ونقول: أحوال يوم القيامة تختلف عن أحوال الدنيا، هذا إن سلّمنا بأن ما ذكروه يصح الاحتجاج به أو فيه شبهة لما قالوا؛ كيف وما ذكروه ليس فيه دليل على جواز الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى؟ وبيان ذلك من خلال ما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ في جوابه.
معنى الاستغاثة وأنواعها
قبل أن نشرع في مطالعة كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ في الجواب نقول: الاستغاثة: هي طلب الغوث، وطلب الغوث لا يكون إلا عند الشدة والكرب، وفي الغالب يكون عند نزوله وحلوله، خلافاً للاستعاذة فإنها قد تكون قبل نزول البلاء، وأما الاستعانة فهي تكون في الشدة والرخاء، بينما الاستغاثة لا تكون إلا عند نزول البلاء والكرب وشدته وطلب الغوث على نوعين: النوع الأول: ما لا يقدر عليه إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهذا لا يجوز طلبه من غيره بل لابد أن يتوجه العبد بقلبه ولسانه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ طالباً أن يُغيثه، وأن يكشف عنه كربه.
النوع الثاني: ما كان في مقدور المخلوق، والمخلوق حي حاضر، فهذا يجوز طلب الغوث منه، ومنه قوله ـ تعالى ـ في كتابه: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص:15] في قصة موسى، فهذه الاستغاثة جائزة؛ لأنها طلب لما هو في مقدور المخلوق الحاضر، فإن كان المخلوق غائباً فإن نداءه وطلب الغوث منه يكون من الشرك إلا إذا كان النداء يبلغه ويسمعه.
وأيضاً من باب أولى لو كان المخلوق ميتاً فإنه لا يجوز سؤاله؛ لأنه ليس في مقدوره.
الرد على المشركين فيما أوردوه من استشهادهم باستغاثة أهل المحشر بالأنبياء
أما ما ذكروه مما ورد في حديث الشفاعة العظمى التي تكون في الموقف من سؤال الناس للأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسألوا الله أن يكشف ما بهم؛ فإن هذا ليس من الشرك، بل هو سؤال للمخلوق فيما يقدر عليه، وهو سؤال الله ـ سبحانه وتعالى ـ ودعاؤه، وهذا ليس من الشرك في شيء؛ ولذلك أجاب الشيخ ـ رحمه الله ـ بهذا الجواب فقال ـ رحمه الله ـ: (والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه! فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها) إذاً: الذي ننكره هو الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلو كان المخلوق يقدر عليه ولكنه ليس حاضراً كالذين يستغيثون مثلاً بالأولياء الأحياء البعيدين الذين لا يسمعون، فإذا نزل به كرب قال: يا فلان! أغثني، فهذا أيضاً من الشرك؛ لأنه ولو كان حيّاً قادراً على الفعل لو كان حاضراً إلا أنه بسبب غيبته لا يقدر أن يجيبك، فهذا دعاء لغير الله ـ سبحانه وتعالى ـ أما سؤال المخلوق فيما يقدر عليه فلا إنكار، سواء كان ذلك استعانة أو استغاثة أو استعاذة، أما دليل الاستغاثة فظاهر، وأما دليل الاستعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في حديث الدجال: ( من وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به)صحيح البخاري (7082)، وصحيح مسلم (2886)، وأما الاستعانة فلا إشكال في جواز طلب العون من المسلم فيما يقدر عليه.
ثم قال ـ رحمه الله ـ في الاستدلال على جواز طلب الإعانة من المخلوق فيما يقدر عليه: (كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص:15]، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحروب أو غيرها في الأشياء التي يقدر عليها المخلوق)، وهذا لا ينكره أحد.
الاستغاثة الشركية المحرمة هي استغاثة العبادة
قال ـ رحمه الله ـ: (ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه).
إذاً: هذا الذي ننكره، وهذا الذي نقول: إنه من الشرك، وهو استغاثة العبادة، وهي التي تكون عند قبور الأولياء، وذلك أن هؤلاء لا يقدرون، فسؤالهم من التعلق بالأموات الذي نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عنه، وبعث رسله لأجل نفيه والتحذير منه.
وأيضاً (في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله) فإن سؤالهم في غيبتهم أيضاً من الشرك، وذلك أنه إذا غاب ليس في مقدوره كشف البلاء عنك، ولا رفع الكرب عنك؛ ولذلك سؤالك الغائب تفريج الكربات وكشف النكبات وما إلى ذلك من جنس سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
يقول: (إذا ثبت ذلك -أي: إذا ثبتت هذه المقدمة- فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة) فلا إشكال في جواز سؤال المخلوق الآخر أن يدعو له في كشف أمر في الدنيا أو في الآخرة إذا كان ذلك في مقدوره، بشرط حضوره، وهذا هو الذي حدث، فإن الناس يوم القيامة يقولون لما يشتد عليهم كرب الموقف: (اذهبوا إلى آدم أبيكم، الذي خلقه الله بيده، فيذهبون إلى آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه فيطلبون منه أن يسأل الله أن يفرج عنهم، فيحولهم إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيحولهم إلى إبراهيم، ثم يحولهم إبراهيم إلى موسى، ثم يحولهم موسى إلى عيسى، ثم يحولهم عيسى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: أنا لها، أنا لها، ثم لا يشفع ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرة، بل يقوم ويسجد عند العرش، ولا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له فيقال له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع، وقل يسمع)صحيح البخاري (7510)، وصحيح مسلم (193) فيطلب من الله ـ عز وجل ـ الشفاعة في القضاء بين الناس.
وهذا لتفريج الكرب عن أهل الإيمان، وإلا فإن أهل الكفر لا يستفيدون من هذا بشيء، إذ أن ما يقبلون عليه أعظم وأدهى وأمر؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله: (أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف) وإلا فالكفار في ظلمات بعضها فوق بعض، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية.
مسألة سؤال الحي الحاضر الدعاء
يقول: (وهذا جائز في الدنيا والآخرة) أي: سؤال الدعاء من الحي الحاضر جائز في الدنيا والآخرة، ولا إشكال في ذلك.
يقول: (وذلك أن تأتي عند رجل -توضيح لقوله: وهذا جائز في الدنيا والآخرة- صالح حيّ يجالسك، ويسمع كلامك، وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره).
فسؤال الحي الدعاء لا بأس به، هذا الذي يفهم من كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ والذين كرهوا سؤال الحي الدعاء إنما كرهوه لأجل ذم المسألة عموماً، وليس لأن ذلك من الشرك، فإن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ له قول بكراهة سؤال المخلوق الدعاء إلا إذا كان يقصد من سؤاله نفع المسئول، وله قول آخر قال فيه ـ رحمه الله ـ: وطلب الدعاء من المؤمن للمؤمن مشروع، فله في المسألة قولان، والقول الذي فيه كراهة سؤال الدعاء من المسلم أو من المؤمن هو بسبب أن المسألة مذمومة مطلقاً، وأن الواجب على العبد أن يعود نفسه السؤال والتضرع إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وذلك أن الدعاء عبادة وقربة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ فالأولى للعبد أن يباشر ذلك بنفسه، وألا يعتمد على غيره في ذلك، ثم أيضاً قد يُخشى أن يترتب على هذا السؤال مفسدة للمسئول، فيظن في نفسه خيراً فيغتر، وقد يُخشى أيضاً من هذا أن يتكل الإنسان على دعاء غيره، فيكون من عادته إذا أراد الدعاء أن يذهب إلى غيره ليدعو له، كل هذه المفاسد جعلت شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول في أحد قوليه: إن سؤال الغير الدعاء مكروه، وليس ذلك لكونه من الشرك أو ما إلى ذلك، بل لكونه تترتب عليه بعض المفاسد التي تقدم ذكر شيء منها.
الصحابة لم يكونوا يسألون النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد موته
ثم قال ـ رحمه الله ـ: (كما كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألونه في حياته وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره) فلم يُنقل عن أحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم كانوا يأتون إلى قبره ويسألونه الدعاء، ولو فُعل لنُقل، بل الذي نُقل عنهم ـ رضي الله عنهم ـ أنهم نهوا من أتى يسأل الله عند قبره كما روي ذلك عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ فإنه رأى رجلاً كان يأتي إلى فرجة عند بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو فنهاه، وقال له: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليّ أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"سنن أبي داود (2042)، وهذا فيه النهي عن قصد القبر من أجل الدعاء، فمن قصد قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو غيره لأجل أن يدعو الله ـ سبحانه وتعالى ـ عنده فإن هذا بدعة، وأما لو قصده للطلب من الميت أن يدعو الله ـ سبحانه وتعالى ـ له فهذا بدعة منكرة، وهو من وسائل الشرك، فلو سأل الميت نفسه فإنه يكون قد وقع في الشرك الذي ينقل عن الملة، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]، فمن دعا غير الله فقد أشرك في هذه العبادة، ومن صرف عبادة لغير الله ـ سبحانه وتعالى ـ فقد وقع في الشرك، وفُهم من هذا خطأ ما يفعله كثير من الناس الآن إذا ذهب للسلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قبره توجه إلى القبلة يدعو، فإن هذا الأمر محدث، بل نص شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في الجواب الباهر على أن هذا من البدع، فعلى العبد إذا سلم أن ينصرف ويدعو في أي مكان في المسجد، ولا يتقصد ولا يتحرى الدعاء عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن هذا من المحدثات، ولو قال قائل: إن هذا من المسجد، فإن المسجد قد أحاط ببيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كل جانب، فالجواب: أن الممنوع هو أن تتقصد هذا المكان للدعاء؛ لأن الناس لا يفهمون أن هذا من المسجد، بل هم يظنون أنك وقفت تدعو هنا لأجل بركة المكان، وهو قربك من قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاذهب وانصرف وادع الله حيثما شئت.
وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يُنقل عنهم قصد الحجرة للسلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر يأتي ويسلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى أبي بكر ، وعلى عمر يقول: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر ! السلام عليك يا أبي! وينصرف، ونُقل مثل هذا عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أيضاً، وأما سائر الصحابة فلم يفعلوا ذلك، ولم يثبت عنهم حتى المجيء للسلام، بل كانوا يكتفون بالسلام عند دخول المسجد، ولا يقصدون الحجرة أو القبر للسلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا من الأمور التي انتشرت بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم.
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الوفود كانت تفد إلى المسجد النبوي وتدخل وتخرج ولا تقف عند القبر لا للسلام ولا لغيره.
والذي يظهر لي أن هذا هو الأحسن والأكمل، فيكتفي بالسلام عند دخوله للمسجد، ولا يقصد الحجرة أو القبر للسلام، فإن هذا لم يفعله إلا ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ فمن فعله تأسياً بـابن عمر ـ رضي الله عنه ـ فليقف عند ورد عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ فإن الذي ورد عنه أنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر ! السلام عليك يا أبتي! وينصرف، ولا يفعله إلا عند المجيء من السفر، أما ما يفعله كثير من الناس من السلام عليه بعد كل صلاة، وبعضهم إذا لم يتمكن أو كان عنده شغل ولا يستطيع الذهاب إلى جوار الحجرة وقف في مكانه، وتوجه إلى القبر، وتمتم ببعض الكلمات، ثم انصرف؛ فهذا لا شك أنه من البدع والمحدثات، وكل بدعة ضلالة.
الرد على من استشهد بعرض جبريل على إبراهيم إعانته عندما أراد قومه إحراقه على جواز الاستغاثة العبادية بغير الله
ثم قال ـ رحمه الله ـ: [ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار، اعترض عليه جبريل في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا.
قالوا: فلو كانت الاستغاثة شركاً لم يعرضها على إبراهيم.
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله ـ تعالى ـ: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم ـ عليه السلام ـ في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئاً يقضي به حاجته، فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟] .
هذه شبهة أخرى، ولعلها آخر الشبه التي يوردها الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا الكتاب المبارك، قال ـ رحمه الله ـ: (ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار، اعترض له جبريل في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما لك فلا.
قالوا: فلو كانت الاستغاثة شركاً لم يعرضها على إبراهيم).
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى) فإن الشبهة الأولى فيها سؤال المخلوق ما يقدر عليه، وهذا أيضاً فيه عرض المخلوق ما يقدر عليه، فإن جبريل ـ عليه السلام ـ عرض على إبراهيم لما ألقي في النار أو قبل أن يلقى في النار لما تآمر قومه على إلقائه فيها فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، فقالوا: فلو كانت الاستغاثة شركاً لم يعرضها على إبراهيم، فنقول: هذه ليست من الاستغاثة الممنوعة، بل هي من الاستغاثة التي نتفق معكم على جوازها، لكننا نختلف معكم في كونها دالة على جواز الاستغاثة العبادية التي لا يجوز صرفها إلا لله ـ سبحانه وتعالى ـ أما الاستغاثة التي من هذا الجنس وهي سؤال المخلوق ما يقدر فليس ذلك من الشرك في شيء.
قال ـ رحمه الله ـ (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، وأنتم تلاحظون -أيها الإخوة- أن هذه الشبهات التي مرت معنا في غالب الأحيان تكون مكررة، والخلاف فيها خلاف لفظي، فهو من تنويع العبارة لعرض نفس الشبهة المتقدمة؛ ولذلك سلك الشيخ ـ رحمه الله ـ مسلكاً جيداً في هذه الشبهات، فقد عرض أولاً كبريات شبهاتهم، ثم بعد أن فرغ من عرض هذه الكبريات ذكر ما هو فروع أو ما هو تنوع في اللفظ للشبه المتقدمة، وكذلك هنا فإنهم أعادوا ما أجبنا عليه قبل قليل في القصة المتقدمة.
قال ـ رحمه الله ـ: (فالجواب على هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه)، وتوضيح هذا قوله ـ رحمه الله ـ: (فإنه كما قال الله ـ تعالى ـ فيه -يعني: في جبريل-: (شَدِيدُ الْقُوَى)، فلو أُذن له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، وهذا لا شك فيه، ولو أمره أن يضع إبراهيم عليه السلام في مكان بعيد عنهم لفعل -وهذا لا شك أنه في قدرة جبريل- ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئاً يقضي به حاجته، فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد) وهذا تفسير من الشيخ ـ رحمه الله ـ لما فعله إبراهيم، فإن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال: (أما إليك فلا)، أي: فلا حاجة لي بما عندك.
ومعنى هذا الكلام: أما إلى الله فنعم فإنه صبر على ما لقي منتظراً فرج الله ـ سبحانه وتعالى ـ وما يختاره له، وهذا فيه غاية التسليم، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ إنما كان أُمة قانتاً لله حنيفاً بسبب تسليمه لله ـ سبحانه وتعالى ـ ومن أبرز ما يظهر فيه تسليم إبراهيم ـ عليه السلام ـ قصة رؤياه التي رأى فيها ذبح ابنه الذي حرمه سنين طويلة، ثم لما جاءه وبلغ معه السعي رأى هذه الرؤيا، فما كان منه إلا أن سلم وآمن {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}[الصافات:103] فما كان إلا أن فرّج الله ـ سبحانه وتعالى ـ عنه، وفداه بذبح عظيم، وما ذلك إلا لتسليم إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ فمن السمات البارزة في حياة إبراهيم ـ عليه السلام ـ تسليمه لله ـ سبحانه وتعالى ـ وهذا من تسليمه، إذ أنه رضي بما يختاره الله ـ سبحانه وتعالى ـ له، وما يُقدّره له، ولم يركن إلى اختياره لنفسه، وهذه فائدة ينبغي لطلبة العلم والدعاة وأهل الخير أن يتنبهوا لها، وهي أنه قد نختار لأنفسنا أمراً من الأمور نحب وقوعه، ونجاهد في تحقيقه، ويكون الخير فيما اختاره الله لنا، إذ يقع شيء يخالف ما نحب، فتجد بعض الإخوة وبعض أهل الخير يضجر ويغضب لهذا الذي وقع، أو على أقل الأحوال يشعر في نفسه بمضاضة وغضاضة لما وقع، فنقول له: ينبغي لك أن تسلم، وأن تعلم أن ما قدره الله ـ سبحانه وتعالى ـ لك هو خير لك ولا شك (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير: إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)صحيح مسلم (2999) فالواجب على العبد المؤمن أن يرضى بما اختاره الله ـ سبحانه وتعالى ـ من تأخر النصر أو من تأخر تحصيل العلم أو من فوات فرص أو ما إلى ذلك ولا يستعجل، وإنما يعلم أن ما اختاره الله ـ سبحانه وتعالى ـ له هو الخير {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}[القصص:68]، والله يصنع لدينه ما لا نصنع، فينبغي لنا أن نسلّم، وهذا بارز من هذه القصة، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أما إليك فلا) فجاءه الفرج من الله ـ سبحانه وتعالى ـ بأن قال: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69] تفريج من رب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ فالواجب علينا -أيها الإخوة- أن ننتبه إلى هذه الفوائد، وهذه العبر من قصص الأنبياء في كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما قص علينا قصصهم للعبرة، وليس للتسلي والنظر فيما جرى لهم بل للاعتبار، وأشار الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى ذلك مخاطباً نبيه: {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فلقصص الرسل فائدة، وهي التثبيت والاعتبار، فينبغي لنا أن نتنبه لهذا.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: (فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟).
شرح كشف الشبهات [11]
إن عقيدة أهل السنة والجماعة في التوحيد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، لكن هناك كثير من الناس من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد، ومن الناس من يعمل بالحق ظاهراً لا باطناً، ولا نجاة للعبد إلا بالعلم بالتوحيد والعمل به ظاهراً وباطناً.