الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم:
"عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ أَبُو بكر لِعُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أيْمَنَ ـ رضي الله عنها ـ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا، بَكَتْ، فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ ؟ أمَا تَعْلَمِينَ أنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لرَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَتْ: مَا أبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَم أنَّ مَا عِنْدَ الله ـ تَعَالَى ـ خَيْرٌ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولَكِنْ أبكي أنَّ الوَحْيَ قدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّماءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى البُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا". رواه مسلمحديث رقم (2454).
هذا الخبر الذي ذكره أنس من شأن أبي بكر وعمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وهما وزيرا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخليفتاه فقد خلفه أبو بكر ثم عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال أبو بكر لعمر بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ انطلق بنا إلى أم أيمن وأم أيمن هي حاضنة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فإنها كانت مولاة رقيقًا لأمه، ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعتقها لما تزوج خديجة فكانت مولاة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها ويتعهدها بالزيارة بين فترة وأخرى وقد تزوجت زيدًا وأنجبت أسامة وكانت قد تزوجت قبل ذلك برجل وأنجبت أيمن كان من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استشهد يوم خيبر, وأم أيمن ـ رضي الله تعالى عنها ـ لما جاءها أبو بكر وعمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ كان منها ما كان.
الباعث عن الزيارة بينه أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: "انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها" فعلى ذلك تأسيًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحفظًا للعهد الذي كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا من جميل الصحبة أن يحفظ الإنسان ود صاحبه ويحفظ العهد وحسن العهد له حتى بعد وفاته، فإن أبا بكر وعمر زارا هذه المرأة ـ رضي الله تعالى عنها ـ إكرامًا لما كان يفعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تباعًا لما كان يفعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإكرامًا لها كما كان يكرمها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "فلما انتهيا إليها" يعني أتيا إليها زائرين بكت رضي الله تعالى عنها.
"فقالا: ما يبكيكِ؟" وهذا سؤال أتبعه باستعجاب واستبعاد لسبب البكاء؛ لأنهما ظنا أنها بكت لفراق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "فقالا: أما تعلمين إن ما عند الله خيرًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت ـ رضي الله تعالى عنها ـ: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله ـ عز وجل ـ خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم" فما عند الله خير وأبقى وقد قال الله ـ تعالى ـ لرسوله ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾[الضحى: 4-5] فيقين أن ما كان عندها من البكاء لأجل هذا السبب، أي أنها لم تكن تبكي ـ رضي الله تعالى عنها ـ لجهل هذا، فقد علمته ولذلك قالت: "ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله" فقد نكر الله ذلك في كتابه ولكنها بكت ـ رضي الله تعالى عنها ـ لأمر آخر، وهذا لكونها أجابت ما أوردها ـ رضي الله تعالى عنها ـ حيث ظنا أنها بكت لفراق رسول الله, فبينت أنها لم تبكي لهذا على عظيم ألمه وشديد وقعه على أصحابه، لكنهم تسلوا بأن ما عند الله لرسوله خير مما له في الدنيا على عظيم منزلته ورفيع مكانته صلى الله عليه وسلم.
قالت: "ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء" أي أن القرآن قد توقف نزوله بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان من أعظم المصاب بوفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقطاع الوحي من السماء، ولهذا لما ذكرت هذا بكيا ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فهيجتهما على البكاء أي أثارت في نفوسهم ما يدعو إلى البكاء وهو انقطاع الوحي.
ولاشك أن انقطاع الوحي مصيبة عظمى جليلة كبيرة، لا يعرف قدرها إلا من عرف الحالين، ما كانوا عليه وقت تنزل الوحي، وما صاروا إليه بعد انقطاع الوحي، فإنهم كانوا يسددون ويصوبون ويقومون ويرشدون, ويهدون بما ينزل عليهم من القرآن، فلما انقطع لم يبقى إلا النظر في القرآن الذي يحتاج إلى فهم ونظر واستنباط للوصول إلى ما فيه من أحكام بخلاف ما كان عليه الحال زمن تنزل القرآن، فإن القرآن ينزل على الحوادث فيعالجها, ويجيب على إشكالاتهم يسدد أحوالهم، يصوب أعمالهم، ويريهم مواقع الهدى ومواطن الفلاح فلذلك لما ذكرت هذا ـ رضي الله تعالى عنها ـ لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ هيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها، أي فوجدا من الألم الموجب للبكاء ما وجدته فبكيا معها رضي الله تعالى عنهما.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: تواضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحفظه للعهد وحسن العشرة وطيب المعاملة، فإنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حفظ لأم أيمن ما كانت قد عملته من حضانته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان يزورها ويعودها ولا ينقطع عنها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين فينة وأخرى.
وفيه من الفوائد: جواز زيارة الرجال للمرأة إذا انتفى المحذور من خلوة وشبهة فإن أبا بكر وعمر زارا هذه المرأة ولم تكن لهم محرم ولكن هذه الزيارة كانت لمصلحة وهي إتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعهد حال هذه المرأة بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل هذه الفوائد وغيرها مما جعل هذين الصحابيين الكريمين وزيري رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعودان ويزوران هذه المرأة رضي الله تعالى عنها.
وفيه: أن الإنسان قد يعظ بناء على ما تبين له من حال الإنسان، فإنهما وعظاها في بكائها بناء على ما تبادر لهما من أنها بكت لفراق النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أن الإنسان يسلي المصاب بما يخفف عنه ألم المصيبة فإنهما ـ رضي الله تعالى عنهما ـ بادرًا إلى التخفيف عنها لما رأيا بكاءها، فذكرا ما يكون سببًا لخفة الألم، وتهوينه حيث ذكرا أن ما عند الله خير لرسوله مما هو في الدنيا.
وفيه: إبانة الإنسان عن السبب الذي يفسر ويترجم ويبين ويكشف ما كان منه من قول أو فعل في حال الالتباس، فإنها لما قال لها ذلك لم تسكت قالت: "ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله" يعني ليس هذا الذي حملني على البكاء، فليس الذي حملني جهل أن ما عند الله خير لرسوله إنما الذي حملني على البكاء شيء آخر وبينته له وهو انقطاع الوحي من السماء.
وفيه من الفوائد: عظيم المصيبة بانقطاع الوحي من السماء حيث بكت ـ رضي الله تعالى عنها ـ ولما ذكرت ذلك بكيا وزيرًا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو بكر وعمر وخليفتاه، فدل ذلك على عظيم الألم الحاصل للأمة بانقطاع الوحي، فإن تنزل الوحي هداية ونور وبصيرة وخير عظيم انقطع بوفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبقي هذا القرآن فيه من الهدى والنور ما يخرج الناس من الظلمات إلى النور وما يهديهم سبل السلامة، فجدير بنا أن نقبل عليه، فالمصيبة بانقطاع الوحي عظيمة بكى لها أبو بكر وعمر لما ذكرت ذلك أم أيمن رضي الله تعالى عنها.
وفيه: أن الموعظة تحمل النفوس على التأثر، فإنها لما ذكرت ذلك وكان هذا مما يؤثر انفعل له وبكيا رضي الله تعالى عنهما.
وفيه: بكاء الإنسان لبكاء غيره إذا كان البكاء له سبب, وأن ذلك لا ينقص الأجر فيما أصابه من ذلك ولا يعكر على الإخلاص، فإنهما بكيا لبكاءها لما ذكرت سبب البكاء.
وفيه من الفوائد: عظيم علم هذه المرأة ـ رضي الله تعالى عنها ـ حيث أشارت إلى هذا المعنى العظيم الذي كان سببًا لتنبه أبي بكر وعمر لسبب بكاءها وفيه أن حال الصحابة بعد انقطاع الوحي غير حالهم قبل ذلك وهذا معروف فقد كثرت الفتن وتشتت الآراء، وإن كان ذلك في أول الأمر على نطاق ضيق فقد حفظ الله تعالى الأمة في الخلافة الراشدة من شرور كثيرة لكن بعد ذلك حصل في الأمة من الفرقة والخلاف والفتنة ما هو أعظم وأكثر وهو مصداق قول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا».سن الترمذي (2676)وقال:حديث حسن صحيح
وفيه: عظيم فائدة ونفع زيارة الأخيار ومجالستهم وصحبتهم، فإنه من انتفعوا بهذه المنفعة العظيمة بزيارة هذه المرأة.
وفيه: أن الأعلى في المنزلة والمكانة يزور الأدنى وليس في ذلك غضاضة، بل ذلك من رفعة من تواضع لله ـ عز وجل ـ فأبو بكر وعمر زارا أم أيمن ـ رضي الله تعالى عنها ـ فكان ذلك رفعة لهما وثوابًا لهما ـ رضي الله تعالى عنهما ـ إحياء لسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحفظًا لعهده ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وصلى الله وسلم على نبينا محمد.