الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير، والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب زيارة أهل الخير:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((مَنْ عَادَ مَرِيضاً أَوْ زَارَ أخاً لَهُ في الله، نَادَاهُ مُنَادٍ: بِأنْ طِبْتَ، وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأتَ مِنَ الجَنَّةِ مَنْزِلاً))رواه الترمذي، وَقالَ: ((حديث حسن)) وفي بعض النسخ غريب.ابن ماجه (1443)، والترمذي (2008)
هذا الحديث الشريف الذي يخبر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الثواب والأجر المرتب على عيادة المرضى وزيارة الإخوان، فقد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عملين؛ إما أن يكون قد ذكرهما جميعًا وإما أن يكون الراوي قد شك في ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقوله: "من عاد مريضًا أو زار أخًا" يحتمل أن ذلك شك وهذا بعيد عن السياق في ما يظهر, والظاهر ـ والله تعالى اعلم ـ أن هذا على وجه التنويع، أي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر عن عملين يتفقان في الثواب، وهما في الحقيقة متفقان في الباعث والغرض والقصد، فإن العيادة للمرضى إحسان إلى الخلق وزيارة الإخوان مثل ذلك أيضًا إحسان إلى الخلق.
وكلاهما مما يوجب الود والمحبة بين أهل الإيمان، وهي من الحقوق التي تطيب بها الصلات بين أهل الإسلام قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من عاد مريضًا" أي: من زاره, والمريض هنا هو من به علة جرت العادة في أن يعاد مثله، وقد ضبطها بعض الفقهاء: بكون المرض يحبسه عن الصلاة, والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن المرض الذي يعاد أمرًا يعود تحديده إلى العرف، فليس كل ما لا يحبس عن صلاة الجماعة من الأمراض لا يعد فقد يأتي الإنسان يتكلف إلى المسجد وهو مريض، كما كان حال الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ كما قال ابن مسعود: "وإنه ليأتى بالرجل يهادي بين الرجلين" يعني من ثقل المرض؛ لكن ما في قلبه من الإيمان يحمله على المسابقة مع مشقة المجيء.
فالذي يظهر أن المرض الذي يعاد فيه، يعود إلى عرف الناس، لا إلى كونه يحبسه عن صلاة الجماعة وسواء كان المرض ممتدًا أو عارضًا، فكلاهما مما يندب فيه العود "من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله" أي: زار من له ومعه إخوة وهذا يشمل على يشمل زيارة كل أهل الإيمان، لأن الله ـ تعالى ـ قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات: 10] فيشمل هذا الفضل زيارة كل من كان من أهل الإيمان وأهل الإسلام، فإذا تحقق ذلك أي تحقق أحد هذين العملين عيادة المرضى أو زيارة الإخوان نال ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الفضل والأجر. "ناداه منادٍ" والنداء هو رفع الصوت في دعاء الشخص فلا يكون نداء إلا برفع صوته، "ناداه منادٍ" ولا يلزم أن يسمع ذلك النداء، فإن الإنسان يعود المرضى ويزور إخوانه في الله ولا يسمع نداء، لكننا نؤمن بما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن مناد ينادي في هاتين الحالين قائلًا: "طبت" أي أيها العائد للمريض, وأيها الزائر لأخيك في الله "طبت" أي كان هذا العمل من أسباب طيبك، والطيب ذكاء وصلاح واستقامة وانتفاء للعيب وزوال للنقص وسكن للفؤاد وطمأنينة للقلب "طبت" فإن الشيء إذا طاب زكى وسلم من الآفات "وطاب ممشاك" أي وطاب عملك الذي اشتغلت به من عيادة مريض أو زيارة أخ في الله، ثم بعد هذه التزكية للفاعل ولفعله ذكر الأجر المرتب في الآخرة فإن الطيب وطيب الممشى من الأجر المعجل والثواب الحاضر الذي يدركه من اشتغل بهذا العمل "وتبوأت من الجنة منزلاً" هذا الثواب الآخروي تبوأت أي نلت ورجعت من هذا العمل بمنزل في الجنة "وتبوأت من الجنة منزلًا" أي موضع للنزول وهذا فضل عظيم وأجر كبير على عمل يسير، "فإن موضع سوط في الجنة كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير من الدنيا وما فيها"صحيح البخاري (3250) فكيف إذا تبوأ الإنسان في الجنة منزلًا، يكون بذلك قد حاز فضلًا عظيمًا وأجرًا كبيرًا، والجنة هي دار النعيم الكامل التي أعد الله ـ تعالى ـ فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
في هذا الحديث بيان فضيلة هذين العملين, وفيه من الفوائد:
من الفوائد: بيان فضيلة عيادة المرضى، وبيان فضيلة زيارة الإخوان، وأن تكون هذه الزيارة لله ـ عز وجل ـ لأنه قال: "زار أخًا له في الله" أي لأجل الله ـ عز وجل ـ لا يبتغي من ذلك مصلحة ولا يرجو من ذلك منفعة دنيوية.
وفيه من الفوائد أيضًا: أن الأجور على أعمال قد يدركها الإنسان وقد لا يدركها، فإن قول المنادي "طبت وطاب ممشاك" دعاء أو خبر وقد يكون دعاء وخبرًا بأن يطيب وأن يطيب ممشاه ومسعاه.
وفيه من الفوائد: أن الأجر منه ما هو معجل وهذا لما يكون من هذا النداء، ومنه ما يكون مؤجلًا وهو ما يكون من النعيم في الآخرة كما قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: "وتبوأت من الجنة منزلًا" فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واستعملنا فيما تحب وترضى في القول والعمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد.