الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب زيارة أهل الخير:
عن أَبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((إِنَّمَا مَثلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ وَإمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحاً طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً مُنْتِنَةً))مُتَّفَقٌ عَلَيهِالبخاري (5534)، ومسلم (2628)
هذا الحديث الشريف بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يجده الإنسان من الصحبة الطيبة والصحبة الرديئة من صحبة الخير ومن صحبة الشر وذكر ذلك بتمثيل للجليس؛ لأن الصحبة تقفز المجالسة والمخالطة فقال: "إنما مثل الجليس الصالح" وهو الذي ينفعك في دينك ودنياك، ويقيك شر ما يفسد عليك دينك أو يفسد عليك دنياك، هذا هو ضابط الجليس الصالح، فكل من انتفعت منه فيما يصلح دينك وما يصلح دنياك، فإنه جليس صالح؛ لأن به تصلح أمورك وتستقيم أحوالك، أما الجليس السوء فهو المقابل لذلك فهو الذي يوقعك في السوء والرجاء، فيزين لك الشر ويفسد عليك دينك أو يفسد عليك دنياك، فكلاهما من جليس السوء الذي ينبغي الحذر منه.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحذر بمقالة تذم مباشرة الجليس السوء وتمدح الجليس الصالح، إنما بين مثالًا يدرك منه العواقب التي تنتهي إليها الأمور في صحبة الأخيار وفي صحبة الأشرار، وبمعرفة العواقب والنهايات يتبين للبصيرة، والعقل ما الذي ينبغي أن يفعله في الساعة الحاضرة.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فحامل المسك" أي حامل الطيب ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير" فالجليس الصالح مثل حامل المسك الذي يحمل المسك, والمسك نوع من الطيب رفيع المنزلة فواح فقوله: "كحامل المسك" أي كحامل الطيب فذكر المسك هنا تمثيل لنوع من أنواع الطيب التي يتطيب بها الناس ويسعى إلى تحصيلها.
وأما الجليس السوء كنافخ الكير نافخ الكير أي الذي ينفخ في الكير، والكير هو وعاء من جلد ينفخ فيه الحداد ليشعل النار ويضلمها إما بآلة نفخ باليد أو بغير ذلك من وسائل النفخ، فنافخ الكير هو الذي يستعمل الجلد الذي بضغطه ينفخ النار فتطرم على الحديد الذي يريد تليينه ويسعى إلى صناعته، هذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كنافخ الكير" أي كالذي ينفخ في هذه الآلة، وهذه الأداة التي هي الكير لأجل إظلام النار على الحديد.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا التمثيل إيجاز واختصار لما يدركه الإنسان من صحبة الصالح ومن صحبة السوء فصل ذلك بالبيان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك بتوضيح وذكر ما يدركه الإنسان بصحبة الصالح بالجليس الصالح وما يدركه بالجليس السوء بعد التمثيل الذي يدرك به المعنى، لكن فصل ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتوضيح الأمر، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فحامل المسك ـ الذي هو مثل الجليس الصالح ـ إما أن يحذيك" يعني أن يطيبك فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يحذيك" أي يعطيك طيبًا من هذا الطيب، إما أن تأخذه معك أو أن يطيب بدنك ويطيب ثيابك "إما أن يحذيك" هذه صورة من صور المنافع التي يدركها الإنسان بصحبة الصالح، "وإما أن تبتاع منه" ما معنى تبتاع منه؟ أي تشتري منه "وإما أن تجد منه ريحًا طيبًا" فإن لم يحذيك ولم يبيعك أو لم تشتري منه، فإنه تجد منه ريحًا طيبًا وريح الطيبة تؤثر على النفس، فكل هذه الصور الثلاثة هي من صور المنافع التي يدركها الإنسان بصحبة الأخيار، فحامل المسك إما أن تأخذ منه شيئًا حسنًا إما بالهبة والعطية، وإما بالمعاوضة وبذل الثمن فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فإنك بمجالسته والإتيان عليه تجد منه ريحًا طيبة، وهذا نفع لأن الريح الطيبة لها من التأثير على النفس من الانشراح، ولها من التأثير على النفس بتقويتها وتقوية البدن ما هو معروف مشهود هذه هي المنافع التي يدركها الإنسان من حامل المسك، وهي التي يدركها من الجليس الصالح فالجليس الصالح لن تعدم من مجالسته من نفع في دينك أو دنياك، إما بالابتداء بأن يبتدئك بنفع وتوجيه وإرشاد وكلام مفيد وإما أن تبتاع منه تطلب منه تأخذ منه بطلب منك إما باستنصاح أو استرشاد أو خبر تخبره فيستدعي ذلك قولًا منه يكون إرشادًا إلى خير وإصلاحًا في معاشك ومعادك.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك مجرد المجالسة تؤثر عليك فهي ريح طيبة، فإن مجالسة الأخيار ولو لم يكن منها تذكير أو انتفاع مباشر، فإن المجالسة في حد ذاتها طيب يطيب قلبك، تجد منه ريحًا طيبًا يطيب به القلب وتنشط به النفس إلى الخير والبر والنفع والمصلحة في معاشك ومعادك، فلن تعدم خيرًا من مجالسة الصالح، إما بقوله وإما بفعله وإما بالنظر إليه ولذلك النظر إلى الشيء مما يفيد الإنسان إذا كان نافعًا ومما يوقعه في الضرر إن كان ضارًا.
ولهذا نهى الله ـ تعالى ـ المؤمن عن الجلوس في مكان السوء إذا كان لا يستطيع أن يغيره لماذا؟ لأن هذا فيه من التأثير عليه بالنظر إلى هذا السوء والشر ما ينعكس على قلبه، فينبغي للمؤمن أن يحرص على استحضار هذه المعاني في مصاحبة الصالحين والأخيار.
قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: "ونافخ الكير" هذا هو الثاني ممن ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو نافخ الكير مثل الجليس السوء قال: "إما أن يحرق ثيابك فيؤذيك" وهذا الحرق للثوب أذى ظاهري، لكنه يترتب عليه من الخطر الداخلي ما يمكن أن يتطور فحرق الثوب قد يفضي إلى حرق البدن وإلى فساد المال وفساد الحال، "وإما أن تجد منه ريحًا منتنة" يعني حتى لو لم يصلك منه إرشاد إلى شر حث على فساد تنشيط على ترك واجب أو وقوع في محرم أو إفساد لدنياك، فإنك ستجد منه ريحًا منتنة الأثر النفسي الذي ينعكس عليك بمخالطة هذا السيء، ولو لم يكن فيه إيقاع في محرم أو تشجيع على ترك واجب وإخلال بما يجب، فإنه في حد ذاته مما ينبغي توقيه؛ لأنه يقعدك عن الخير فصحبته تؤثر تأثيرًا للرائحة المنتنة الذي إذا وجد الإنسان انقبضت نفسه وكسل بدنه وقعد عن خيرًا ونشاط بسبب هذه الرائحة المنتنة.
ولهذا يفر الناس من الروائح المنتنة لما لها أثر على نفوسهم، ليس فقط أنها تؤثر على حاسة الشم بل تؤثر على المزاج وتؤثر على القلب وتؤثر على صفاء الذهن، فكذلك صحبة الأشرار تؤثر على القلب، تؤثر على النشاط في الخير، تؤثر على نشاط البدن فيما يعود على الإنسان بما ينفعه في دينه ودنياه.
هذا الحديث الشريف تضمن جملة من الفوائد المهمة التي ينبغي لنا جميعًا أن نستحضرها:
أولًا:التمثيل لأثر الصاحب الطيب والصاحب الرديء، وهذا من حسن بيان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقرب الخير ويوضحه ويوصل المعاني بأيسر الطرق وأسهلها.
وفيه:أن الجليس على أي حال كان يؤثر على مجالسه مهما كان الإنسان فإنه لابد أن يتأثر بمن يجالس ولهذا ينبغي للإنسان أن ينتقي من يجالسه؛ لأنه سيتأثر به ولا محالة شاء أم أبى، فإن التأثير لا يقتصر فقط على المقالة أو على الفعل، بل حتى بمجرد المجالسة يقع التأثير، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجليس الصالح، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، والثاني وإما أن تجد منه ريحًا منتنة, وهذا تأثير ليس من فعل المجالس من الفعل المباشر له يعني هو عندما تجلس عند صاحب الطيب صاحب الطيب لا يعمل عملًا لإيصال الرائحة إليك، بل هو من طيبه الذي في مجلسه يصلك ما يكون من الرائحة الطيبة والعكس كذلك عند نافخ الكير هو لا يفعل فعلًا مباشرًا ليوصل إليك الرائحة المنتنة؛ لكن الرائحة المنتنة ملازمة له، وكذلك جليس السوء وكذلك جليس الخير الجليس الصالح.
وفيه من الفوائد:أن منافع الجليس الصالح متعددة متنوعة أكثر وأعظم من الجليس السوء، فإن النبي ذكر في الجليس الصالح ثلاث فوائد وذكر في الجليس السوء فائدتين أو عاقبتين وثمرتين.
وفيه من الفوائد:أن الجليس الصالح يؤخذ ما عنده إما بالابتداء منه وإما بالطلب، وأما الأثر الذي لا طلب منه فهو بمجرد المجالسة؛ لأن النبي ذكر ثلاثة آثار، إما بطلب، وإما بابتداء من الجليس الصالح وإما بمجرد المجالسة بفعل المجالسة ولو لم يكن منه فعل إما أن يحذيك هذا ابتداء منه, وإما أن تبتاع منه وهذا طلب منك, وإما أن تجد منه ريحًا طيبًا، وهذا ليس بفعل منك ولا بفعل منه بل بمجرد المجالسة.
وفي المقابل فيه أن الجليس السوء يصلك شره ولو لم يقصد بمجرد مجالسته يحصل الضرر ولو لم يسعى إلى الإضرار بك إذ إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إما أن يحرق ثيابك" بما يكون من عمله الذي يشتغل به فهو سيحرق ثيابك إما باختياره وإما من غير اختياره بتطاير الشرر الذي ينتج عن فعله وهو نفخ الكير وهو ما يكون من سيء عمله، ولو لم يكن ذلك فإن الرائحة المنتنة التي تجدها عنده كافية في أن تصدك عن مجالسته.
وفيه من الفوائد:أن المخالطة مؤثرة على كل حال، فليجد الإنسان وليجتهد في مخالطة الأخيار وليبعد وليتقي مخالطة الأشرار، وفيه أن المجالسة بين الأصحاب أقوى ما يكون من أوجه التأثر، والتأثير بخلاف المرور، فإن المرور أقل تأثيرًا، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل الجليس الذي تجالسه سواء كانت هذه المجالسة في سيارة، كانت هذه المجالسة في استراحة، هذه المجالسة في مجلس، هذه المجالسة عبر وسائل التواصل الحديث، فإنها داخلة في المعنى الذي ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التمثيل للجليس الصالح والجليس السوء، وأحيانًا قد تكون اليوم مجالسات الناس عبر وسائل التواصل أكبر وأطول وأعظم تأثيرًا من المجالسة المباشرة، ولهذا تجد الكثير من الناس لا ينفك عن تواصله مع جهاز الاتصال بمطالعة أو محادثة أو غير ذلك من أوجه التواصل التي تقع بين الناس، وهذا يؤكد على أن المعنى في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل الجليس الصالح ومثل الجليس السوء ليس مقصورًا على المجالسة المباشرة، بل كل أنواع المجالسات المباشرة وغير المباشرة تدخل في الحديث في بيان تأثير الجليس الصالح والجليس السوء.
وفيه: أنه ينبغي إلينا أن نحرص على الحث على مجالسة الصالحين في أنفسنا وفي أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا وسائر الناس، فإن الجليس الصالح منافعه عظيمة في الدنيا والآخرة، والجليس السوء منافعه قبيحة رديئة في الدنيا والآخرة، هذا بعض ما في هذا الحديث من الفوائد والمعاني فجزى الله نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير ما جزاى به نبياً عن أمته, فقد بيّن وأرشد, وقرر ومهد لكل خير نناله في الدنيا والآخرة، فنسأل الله أن يتبعنا آثاره وأن يلزمنا سنته وأن يرزقنا اقتفاء هديه بإحسان إلى أن يتوفانا، وأن يجمعنا به في جنة عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.