الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب زيارة أهل الخير ومجالستهم:
عن أَبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((لا تُصَاحِبْ إلاَّ مُؤْمِناً، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إلاَّ تَقِيٌّ)).رواه أَبُو داود والترمذي بإسناد لا بأس بِهِ.أخرجه: أبو داود (4832)، والترمذي (2395) وقال: «حديث حسن».
تضمن هذا الحديث نهيين:
النهي الأول: عن مصاحبة غير المؤمن.
والنهي الثاني: عن مؤاكلة غير التقي.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تصاحب إلا مؤمنًا" والصحبة هي المقارنة والمخالطة، والمقصود بالصحبة هنا ما كان على وجه الاختيار والانتقاء، فإن الصحبة تكون انتقاء وتكون من غير اختيار وانتقاء كصاحب يصحبك في سفر في مركب في موضع طارئ عارض، فيكون معه نوع من المقارنة، وقد يصاحب الإنسان في مثل هذه العوارض والطوارئ من لا يكون موصوفًا على نحو من الصفات التي يتحقق بها ما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ما وجه إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عدم مصاحبة المؤمن، فهذه الصحبة العارضة ينبغي الحرص فيها على ما يكون فيها من الصحبة الدائمة من الأوصاف الكريمة المنبثقة من الإيمان بالله ـ عز وجل ـ ولكن لو اضطر الإنسان إلى مخالطة عارضة تكون لغير الموصوف بالإيمان، فإنه لا يدخل فيما نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن هذا من الاضطرار فمن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدو له ما من صداقته بد، أي ليس ثمة مخلص من مصاحبته ومصداقته، إما لكونه في عمل أو لكونه في لقاء عارض، أو غير ذلك من أوجه اللقاء الذي تحصل به أنواع من المصاحبة.
فقوله: "لا تصاحب إلا مؤمنًا" على وجه الاختيار والانتقاء، وفي حال الاضطرار ينبغي للإنسان أن يتجنب مصاحبة الأشرار، وأن يحرص على من يكون من أهل الإيمان كذلك، إلا فيما لابد له من مصاحبة غيرهم على وجه عارض.
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تصاحب إلا مؤمنًا" المؤمن: هو ضد الفاسق المؤمن ضد الكافر والمقصود بالمؤمن هنا من كملت فيه صفات الإيمان، وهذا يختلف باختلاف ما يتيسر للإنسان من أهل الإيمان، فإن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تصاحب إلا مؤمنًا" أي من كان حقيقًا بهذا الوصف فكلما ازداد الشخص من خصال الإيمان وأوصافه كان ذلك مما يندرج فيمن وجه إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مصاحبته ومقارنته.
وكلما خفت هذه الصفات نزل مرتبة في استحقاق ما وجه إليه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ والمؤمنون بالإطلاق هم أهل الإسلام، وهم في إسلامهم وإيمانهم على مراتب ودرجات، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾[فاطر: 32] فكل هؤلاء من المصطفين لكن مراتبهم متفاوتة من حيث تحقيق الإيمان الذي به يتفاوت هؤلاء في منازلهم ومراتبهم، فينبغي للمؤمن أن يحرص على مصاحبة من كمل في أوصافه وهي أوصاف الإيمان التي نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مصاحبة غير صاحبها.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ولا يأكل طعامك إلا تقي" توجيه إلى أن المخالطة التي تقتضي المشاركة في أمور خاصة، كالأكل لا تكون إلا لمن هو أعلى في خصال الإيمان، وهو التقييد وهو من كان حريصًا على طيب مطعمه، ولذلك ذكر التقوى هنا في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يأكل طعامك إلا تقي" لأن التقي يمتنع من أكل ما هو محرم، ويمتنع من أكل ما هو مشتبه، فيطيب مطعمه وإذا طاب مطعم الإنسان طاب عمله وصلح، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾[المؤمنون: 51], وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[البقرة: 172] فطيب المطعم مما يطيب به عمل الإنسان ولذلك أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الصورة من صور المصاحبة، وهي المؤاكلة على أن يكون من يؤاكل الإنسان تقيًا، فإنك إذا أكلت تقيًا وخالطته في المطعم توقيت ما يتوقى التقي، فلا يأكل حرامًا ولا يأكل مشتبهًا، ويكون بذلك عونًا لك على ألا تأكل حرامًا، وعلى ألا تأكل مالًا مشتبهًا هذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ولا يأكل طعامك إلا تقي".
وفي رواية "ولا تأكل إلا مع تقي" يعني لا تأكل إلا مع من يكون حاله في التقوى أنه موصوف بها أي يكون تقيًا، وهو من يتقى الحرام ويجتنبه، ويبعد عن أن يصل إلى جوفه شيء من المكاسب المحرمة والمطاعم المحرمة، وذكر الأكل على وجه الخصوص؛ لأن الأكل من أعظم ما يؤثر على سلوك الإنسان وأخلاقه وحاله، فالمطاعم لها تأثير بالغ في حال الإنسان، فمن أكل طيبًا طاب عمله، ومن أكل رديئًا محرمًا خبيثًا انعكس ذلك على قوله وعمله وما يصدر منه.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على مؤاكلة التقي؛ ليتقي ما يمكن أن يكون من السوء والشر.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته في توجيهها إلى ما يكون فيه صلاح معاشها وصلاح معادها فمصاحبة المؤمنين، ومصاحبة المتقين ومؤاكلتهم خير في الدنيا والآخرة.
وفيه من الفوائد:أنه ينبغي للإنسان أن ينتقي من يصاحب، وألا يكون إمعة يجري ويسير مع كل أحد بل ينبغي أن ينتقي الأصحاب، فيبتعد عن كل من تكون صحبته نقصًا له في دينه أو دنياه، فيجتنب أهل البدع وأهل الشبهات الذين يشككونه في دينه، ويصرفونه عن إيمانه ويريدون عليه ما يضعف يقينه ويبعد عن أهل الشهوات الذين يزينون له الملذات المحرمة، فإن ذلك مما ينبغي تجنبه والنأي عنه، فإن مصاحبة هؤلاء ومخالطتهم تفسد الدين، وتفسد الإيمان وتفسد العمل، ويكون شؤمها على الإنسان في معاشه وميعاده، فالقرين بالمقارنة يقتضي، والصاحب ساحب، كما أن مصاحبة غير المؤمن سبب لسوء العاقبة وشؤم النهاية، فقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾[الزخرف: 67] وكما قال ـ تعالى ـ في الأتباع والمتبوعين قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾[البقرة: 166] يعني المودات، وما كان بينهم من محبات على أمر محرم، فينبغي للإنسان أن يحرص على انتقاء الصحبة.
فيه من الفوائد:النهي عن مصاحبة الناقص في دينه سواء كان نقصه ببدعة، أو كان نقصه بمعصية فضلًا عن أن يكون من غير أهل الإيمان، فإن مصاحبته نقص على الإنسان.
وفيه من الفوائد:أن الإنسان في مخالطته الخاصة يحرص على أن يكون المخالط لهم من أهل التقوى أي ممن يتقوى الحرام، ويجتنب مغاضب الرحمن، ويسعى فيما يرضي الله ـ عز وجل ـ فإن ذلك خير له في دينه ودنياه.
والحديث فيه الحث على الصحبة الطيبة والنهي عن الصحبة الرديئة وذاك لما للصاحب من تأثير بالغ على الإنسان في معاشه وميعاده، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك حسن عبادتك.
ومما ينبغي أن يتنبه إليه أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ولا يأكل طعامك إلا تقي" هذا ليس فيه حجز للإحسان عن سائر الإنسان، بل فيه التنبيه إلى أن من ينتقيه الإنسان لطعام المخالطة والمصاحبة والمؤانسة، والمجالسة لا يكون إلا لأهل التقوى، أما سد الحاجات فإن سد الحاجات يكون لكل أحد في كل كبد رطبة أجر، وقد قال الله ـ عز وجل ـ في وصف الأبرار: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾[الإنسان: 8] فجعل الإطعام حتى للأسير والأسير مخالف للمطعم في دينه مخالف للأبرار في دينهم، وعموم قوله: "في كبد رطبة أجر" يدل على أن سد الحاجات، والإطعام هو مما يندب إليه مع كل أحد، وفضله بثبوت الأجر عند الله ـ عز وجل ـ لكن التقي إطعام التقي يجمع خيرين يجمع أجر الإطعام والإعانة على الطاعة؛ لأن التقي يستعين بهذا الطعام على طاعة الله ـ عز وجل ـ وتقواه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.