الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم:
عن أَبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ: أن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ))مُتَّفَقٌ عَلَيهِ صحيح البخاري (6170)، وصحيح مسلم (2641).في رواية:قيل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الرَّجُلُ يُحبُّ القَومَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ: ((المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)).
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ أعرابياً قَالَ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((مَا أعْدَدْتَ لَهَا؟)) قَالَ: حُبَّ الله ورسولهِ، قَالَ: ((أنْتَ مَعَ مَنْ أحْبَبْتَ))مُتَّفَقٌ عَلَيهِ صحيح البخاري (3688)، وصحيح مسلم (2639) ، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية قال: ((ما أعددت لها كثيرًا صوم ولا صلاة ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله)).
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم؟ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((المرء مع من أحب)) متفق عليه صحيح البخاري (6169)، وصحيح مسلم (2640).
هذه الأحاديث الثلاثة مضمونها واحد في الدلالة على عظيم منزلة المحبة في الله ـ عز وجل ـ وكبير نفعها للإنسان في المعاش والميعاد في الدنيا والآخرة، فالحب في الله من أعظم ما ينال به الإنسان خير الدنيا والآخرة ويدرك به ما فاته من الفضائل والمراتب.
حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ موافق لحديث عبد الله بن مسعود في أن رجلًا سأل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن الرجل يحب القوم أي يحب رجالًا؛ لكنه لم يلحق بهم في العمل بمعنى أنه نقص عنهم في أعمالهم، وهو إنما أحبهم لما هم عليه من الصلاح، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "المرء مع من أحب" في جواب الرجل أي مع من أحبه في الله ـ عز وجل ـ أي أحبه لأجل ما معه من الإيمان والطاعة والإحسان، فالحب في الله هو أن تحب الرجل أو تحب الشخص حيًا كان أو ميتًا أدركته، أو لم تدركه بسبب ما معه من الإيمان والصلاح والهدى والاستقامة والإحسان هذا هو الحب في الله، فإذا أحب الرجل الرجل لله، إذا أحب الإنسان غيره لله، فإنما يحبه لأجل الله أي لأجل قربه من الله ـ عز وجل ـ ولأجل سعيه في رضا الله عز وجل.
فهذا الرجل في حديث أبي موسى ـ رضي الله تعالى عنه ـ وحديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول في سؤاله: "الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم" قصر عمله عنهم لم يبلغ ما كانوا عليه من صلاح وهداية لم يصل إلى درجة ما هم عليه من استقامة وطاعة لله ـ عز وجل ـ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "المرء مع من أحب" في جواب هذا السائل المرء أي الشخص مع من أحب أي مقارن له والمعية هنا تشمل المعية في الطباعة والأعمال والأخلاق, والدنيا والآخرة, فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لم يجعل ذلك مقصورًا على منزلة من المنازل أو حال من الأحوال، بل ذلك في كل أحواله هو مع من أحب في طباعه، فكل يعمل على شاكلته، هو مع من أحب في صلاحه واستقامته هو مع من أحب فيما يجريه الله ـ تعالى ـ عليه في الدنيا من مجيبات رحمته وعطاياه وهباته، هو مع من أحب فيما يكون في الآخرة من الفوز, والسبق وعلو المنازل, ورفعة الدرجات ودخول الجنان كل هذا يشمله قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "المرء مع من أحب" فهذه المعية أشرف المعيات بين الناس وبين الخلق، هي معية نافعة للإنسان في الدنيا والآخرة, وفي الدنيا من أمثلة ذلك ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرجل يحضر مجلسًا من مجالس الخير وحلقة من حلق العلم ومجلسًا من مجالس الذكر لحاجة أو غرض فإذا صعد الملائكة لله ـ عز وجل ـ وأخبره بما كان من حال أهل هذا المجلس. قال ـ جل وعلا ـ لهم: قد غفرت فتقول الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، فيقول الله ـ عز وجل ـ هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"صحيح البخاري (6408)، وصحيح مسلم (2689) وهذا من معاني قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "المرء مع من أحب" فإن هذا نال المغفرة ونال العطاء الجزيل من رب العالمين لما وافق هؤلاء فيما هم فيه من ذكر, ولو لم يكن جاء لذلك فالمرء مع من وافقه في عمله من أهل الصلاح، فإذا كان قلبه عامرًا بمحبة الصالحين بلغ منزلة عالية ومرتبة رفيعة إذ إن ذلك من الطاعات, فالحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان, فمن جزائه وأجره وثوابه ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "المرء مع من أحب".
وفي حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ في خبر الرجل الذي قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ سأله عما ينفعه وما يعود عليه بالنفع الحاضر والآجل، العاجل والمؤجل من كونه مشتغلًا بما ينفعه إذا قامت الساعة فإن علم الساعة إلى الله ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾[النمل: 65] وعنده علم الساعة ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾[النازعات: 42-44] فعلمها عند الله ـ عز وجل ـ لا يعلمها إلا هو ـ جل في علاه ـ قال الله ـ تعالى ـ:﴿لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾[الأعراف: 187] فلا سبيل إلى علمها ولذلك وجهه إلى ما ينفعه في استقبال الساعة من التهيؤ لها والاستعداد، قال: ما أعددت لها؟ أي: أي شيء تجهزت به للساعة للقاء ربك لقيام القيامة, فقال الرجل: ما أعددت لها كثيرًا صيام ولا صلاة ولا صدقة؛ ولكني أحب الله ورسوله، فذكر من حاله أنه ليس بكثير صوم ولا بكثير صدقة ولا بكثير صلاة والمقصود بذلك ما كان من التطوعات والنوافل والقروبات، أما الواجبات فلابد منها فالتقصير فيها وصول يوجب الإثم ويلحق ذلك المقصر العقوبة قال: ولكني أحب الله ورسوله، فذكر عملًا صالحًا، وهو محبة الله ومحبة رسوله، وهي من المنزلة في العلو والمرتبة تبلغ الإنسان من الرفعة والمكانة ما لا يبلغه بعمله في صلاة أو صدقة أو صوم، فالصلاة والصدقة والصوم التي خلت، أو قصر فيها أو نقص ما يكون من حب الله ورسوله ليست كحال من أحب الله ورسوله، ولو قصر عن بعض العمل، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في جواب هذا السائل لما سأله قال: أنت مع من أحببت أي لك معية مع من أحببت فلك معية مع الله لك معية من الله ـ عز وجل ـ بالتسديد والتوفيق والهداية والإرشاد والإعانة بما تقتضيه معيته الخاصة ـ جل في علاه ـ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[النحل: 128]، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 153] وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في الحديث الإلهي في بيان معية الله لأوليائه «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه،وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره التي يبصر بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها»صحيح البخاري (6502) كل ذلك في معية التوفيق والتسديد والإعانة والهداية والإرشاد وكل ما يتمناه الإنسان في تحصيل المطالب والأمن من المكروهات فيوفقك ويحفظك في سمعك وبصرك وبطش يدك ونقل قدمك، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعامل ولا تنتقل إلا على نور من الله وهداية منه معية ثم قال: ولئن استنصرني لأنصرنه ولئن استعاذني لأعيذنه، فمن كان الله معه أمنه من كل ضر في دنياه وفي آخراه، فنسأل الله يجعلنا من المتقين المحسنين الذين معهم رب العالمين كما قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[النحل: 128].
أما معية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي الدنيا بموافقته على هديه والعمل بسنته ومحبته والذب عنه وفي الآخرة بمرافقته في الجنة نسأل الله من فضله، فيكون الإنسان واردًا لحوضه في الموقف ومحشورًا تحت لوائه ويكون معه في دخول الجنة سبقًا ويكون معه في الجنة باللقاء معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفضل الله وكرمه ـ جل في علاه ـ فينبغي للمؤمن أن يدرك عظيم ما يناله بمحبة الله ورسوله، وهذا كله يبين عظيم فضل محبة الله وفضل محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفضل محبة الصالحين ومحبة أولياء الله عز وجل.
هذه الاحاديث فيها جملة من الفوائد:
من فوائدها: بيان عظيم فضل الحب في الله وأن الحب في الله من منازل السعادة في الدنيا والآخرة.
وفيه من الفوائد: أن محبة أولياء الله ـ عز وجل ـ توجب موافقتهم ومشاكلتهم والانضمام إليهم والاجتماع معهم والموافقة لهم في العمل.
وفيه من الفوائد:أن المحبة في الله ومحبة أولياء الله جميلة العواقب في الآخرة، فإنها تبلغ الإنسان من المراتب ما لا يبلغه بعمله، فإن هذا الرجل لما قال: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم في العمل والمنزلة فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبشر: المرء مع من أحب.
وفيه من الفوائد: أن أعمال القلوب يجتاز بها الإنسان مراتب كثيرة ويبلغ بها منازل عالية قد قصر عنها عمله، فينبغي للإنسان أن يعتني بقلبه وأن يعمره بكل جميل، وأن يصرف عنه ويدفع كل قبيح، فإن العناية بالقلوب تبلغ الناس عال المنازل ورفيع المكانة، وقد قال القائل قطع المسافة بالقلوب إليك لا بالسير فوق مقاعد الركبان، فقطع المسافة إلى الله ـ عز وجل ـ بما يكون في القلب، ولا شك أن العمل تابع ومطلوب؛ لكن المرتبة الأولى الذي ينبغي ألا يفرط فيه ويبلغ به الإنسان ما لا يبلغ بعمله ما يكون في قلبه من إيمان وتصديق وحسن قصد وسلامة نية ورغبة في الخير ومحبة لله ورسوله ومحبة لأولياء الله.
وفيه من الفوائد:خطورة محبة أهل الفسق والفجور، فإنه كما تضمن الحديث الترغيب في محبة أولياء الله وعباده الصالحين فيه التحذير والتنفير من محبة أهل الفسق والفجور، فإن ذلك مما يوجب الهلاك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: المرء مع من أحب، ولقوله: أنت مع من أحببت.
فاحذر أن يتمكن في قلبك محبة أهل الفسق وأهل الفجور، وذلك بالميل إليهم والركون إليهم، فإن ذلك يوجب العقوبة ويوجب أن توافقهم في العمل في الدنيا، وأن توافقهم في المآل والمنتهى في الآخرة.
وفيه من الفوائد: أن الإنسان ينبغي له أن ينتقي ما يحب وأن يجتهد في محبة أولياء الله وعباده الصالحين فإن ذلك مما يوجب الخير للإنسان في دنياه وفي آخراه، وهذا لا يعني ألا يقع بينه وبين أحد من أهل الإيمان وأولياء الله بغضة، فقد يقع بينه وبين أحد من أولياء الله والصالحين شيء من البغض والكره لأمر يتعلق بالدنيا، أو لأمر يتعلق بالطباع والنفرة، فهذا ليس مقصودًا، إنما وهذا ليس مؤثرًا؛ لأن هذا قد تقتضيه الطبيعة؛ لكن الشأن كل الشأن فيما يتعلق بالمحبة لطاعة الله، الإنسان قد يحب غيره لإحسان، قد يحب غيره لقرباته، قد يحب غيره لصدقاته، قد يحب غيره لموافقته في أمر من الأمور؛ لكن أعلى ما يكون من المحاب، وأشرف ما يكون من أنواع الحب، هو أن تحبه لله لا تحبه لسوى ذلك، ليس بينك وبينه نعمة أو فضل أو إحسان، لا تحبه إلا لله، فليس في قلبك له إلا المحبة؛ لأجل ما ترى وتشاهد من محبته.
وفيه: أن المحبة موجبة للمنازل العالية ما لم يوجد مانع، فإن الإنسان إذا أحب غيره محبة لله لكنها محبة مغلوطة في غير محلها سلك فيها غير الطريق الموصل إلى النجاة فإنها لا تنفعه، ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[آل عمران: 31] فليس نافعًا أن يدعي الإنسان محبة الله، ثم لا يجري على ما جعله الله طريقًا لتحصيل محبته ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[آل عمران: 31] فرتب على محبة الله شرطًا لا ينال به حب الله إلا به، وهو أن يكون متبعًا.
ولهذا الذين يزعمون أنهم يحبون أولياء الله، فيغلون فيهم غلوًا يصرفون إليهم أنواع من العبادات ويتوجهون إليهم بأنواع من القروبات، ويسألونهم قضاء الحاجات، فهؤلاء ليسوا مع من أحبوا، بل هؤلاء يتبرأ منهم يوم القيامة قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[البقرة: 165] ولو ترى ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾[البقرة: 166] المودات فينبغي للإنسان أن يحرص على صدق المحبة، وأن تكون محبة على نحو ما شرع الله ـ عز وجل ـ وما كان عليه هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليصل إلى هذه النتيجة "أنت مع من أحببت" "والمرء مع من أحب".
هذه جملة من الفوائد التي تضمنها هذا الخبر النبوي الشريف، فنسأل الله ـ عز وجل ـ يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.