الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب زيارة أهل الخير وصحبتهم:
عن عبد الله ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: كَانَ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزور قُبَاءَ رَاكِباً وَمَاشِياً، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري (1193)، وصحيح مسلم (1399) .وفي رواية: كَانَ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَأتي مَسْجِد قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ رَاكباً، وَمَاشِياً وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
مناسبة ذكر هذا الحديث في باب زيارة أهل الخير من وجهين: أو للعلماء فيه قولان:
القول الأول: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يزور أهل هذه البقعة من الأنصار، وهي أول المواضع التي جاء إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة بعد هجرته، فإنه عندما قدم من مكة مهاجرًا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نزل على بني عمرو بن عوف في قباء، فكانت زيارته كل سبت لتفقدهم، ولما تميزوا به من كون نزول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أول ما يكون في المدينة عندهم.
وقيل: إن مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب هو أن زيارة المواضع المباركة تشبه زيارة أهل الخير فيما يحصل من الخير بزيارتها والمجيء إليها.
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يزور قباء طلبًا للخير، فإنه كان يأتيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويصلي فيه لكونه المسجد الأول الذي بني في الإسلام أول قدوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، وهذا وذاك كلاهما له وجه، وأما ما قيل: من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأتي إلى قباء كل سبت ليتفقد من تأخر من أهل تلك الجهة عن صلاة الجمعة، فوجه بعيد لاسيما مع تكرره، واقتداء الصحابة به رضي الله عنهم.
وقول ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في خبره كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزور قباء راكبًا وماشيًا فيصلي فيه ركعتين، إخبار عن عمل كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يديمه، فكان تفيد الاستمرار والديمومة على الشيء، وإن كان أصل هذه الكلمة من حيث اللغة يدل على شيء قد مضى، وانقضى فكان من أفعال المضي والتقدم؛ لكن يستعمل فيما يكون دائمًا، أو فيما أدامه الإنسان واستمر عليه من العمل فقوله: كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يزور قباء راكبًا وماشيًا، إخبار عن عمل أدامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويؤكد هذا الملحظ، أو هذا الوجه في أن كان هنا للاستمرار والدوام ما جاء في الرواية الأخرى من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حيث قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتي مسجد قباء كل سبت، أي كل يوم سبت فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر ذلك ويديمه، وبه يعلم أن مجيء المؤمن إلى مسجد قباء تأسيًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتحقق على وجه الكمال بتكرار ذلك لا بالاكتفاء به مرة واحدة، لكن حصوله مرة واحدة هو مما يتحقق به موافقة السنة في بعض صورها أو في بعض أوجهها.
وقباء موضع في المدينة جهة مكة على يسار المتجه إلى مكة، وهو موضع معروف في أعالي المدينة وسميت تلك البقعة قباء؛ لأن فيها بئرًا بهذا الاسم, وكان قد نزلها قوم من الأنصار من بني عمرو بن عوف وهم بطن من بطون الأنصار، فكان قدوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول ما قدم من جهة مكة جاء إلى هذا الموضع الذي فيه هؤلاء القوم من الأنصار ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وهي على ثلاثة أميال من المدينة ما يقارب خمسة كيلو مترات بالحساب المعاصر فيما يتعلق بالمسافة بين مسجد النبي –صلى الله عليه وسلم-ومسجد قباء، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتي إلى هذا الموقع، وهو قباء والمسجد الذي كان فيه هو أول مسجد كان في الإسلام اجتمع فيه المسلمون، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قدم إلى المدينة نزل في قباء، وبقي فيها بضعة ليال، وأقام في هذا المسجد صلى فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه واجتمعوا فيه على الصلاة، وفيه نزل قول الله ـ تعالى ـ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾[التوبة: 108] فالآية نزلت في أهل قباء بالاتفاق لا خلاف بين أهل التفسير في ذلك.
وقد أشكل على هذا أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سئل عنه، كما في صحيح الإمام مسلم عن أول مسجد أسس على التقوى أو عن المقصود بالمسجد الذي أسس على التقوى فقال: "مسجدي هذا, أو مسجدكم هذا"صحيح مسلم 1398) يقصد المسجد الذي كان يصلي فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي فيه موضع المسجد اليوم, فالجواب عن هذا أن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ﴾[التوبة: 108] لأنه أحق بهذا الوصف إذ أنه مسجده الذي أدام الصلاة فيه، وهو حقيق بالوصف؛ لأنه أسس على التقوى فقد بناه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه من أول يوم لإقامة ذكر الله وطاعته وعبادته.
وأما كون الآية نزلت في مسجد قباء، فلا يمنع هذا أن يكون الوصف أيضًا منطبقًا على مسجد قباء، فإنه مسجد أسس على التقوى من أول يوم، لكن الأحق بالوصف هو مسجد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فإن الأولية هنا لا باعتبار السبق المطلق، إنما باعتبار أنه الأول من جهة تحقيق الوصف أنه بني على التقوى، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن قوله ـ تعالى ـ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ﴾[التوبة: 108] يصدق على مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدرجة الأولى فيما يتعلق بمساجد المدينة يصدق على مسجد قباء, ويصدق على كل مسجد أسس على التقوى ولم يقصد به المضارة والضرار الذي نهى الله ـ تعالى عنه ـ أن يقوم فيه لا تقوم فيه أبدًا لمسجد أسس على التقوى، فكل مسجد بني لطاعة الله ـ عز وجل ـ ولم يقصد به المضارة والأذى لأحد فإنه يدخل في هذا الوصف، وإن كان أحق المساجد بهذا الوصف، مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وزيارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمسجد قباء، وتخصيص ذلك بيوم السبت، قال بعض أهل العلم: إنه امتثال لأمر الله ـ عز وجل ـ ومبادرة، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة في صلاة الجمعة، ثم يقوم في مسجد قباء يصلي فيه يوم السبت، وهو اليوم الوالي ليوم الجمعة، فكان من مبادرته ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لامتثاله ما أمر الله ـ تعالى ـ به في قوله: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ﴾[التوبة: 108] كان يصلي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في مسجد قباء يوم السبت، والمجيء إلى قباء سنة ثابتة عنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال بها جماهير أهل العلم وعامتهم من السلف والخلف، فالمجيء إلى قباء والصلاة فيه مما اتفق على استحبابه أهل العلم اقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبما كان عليه عمل الصحابة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فإنه قد أدام ذلك ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فكان يفعله اقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتأسيًا به, وقد جاء في فضل الصلاة في قباء أحاديث متعددة.
فجاء عن سهل بن حنيف ـ رضي الله تعالى عنه ـ وجاء عن أسيد بن ظهير وعن غيرهما: "أن الصلاة في مسجد قباء تعدل عمرة" ففي لفظ الترمذي وغيره من حديث أسيد بن ظهير قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رواية "من توضأ ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة كان كمثل عمرة أو كان كأجر عمرة أو كان كعمرة"سنن الترمذي (324). وهذا الحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح في بعض النسخ, وفي بعضها حسن غريب, وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وجماعة من أهل العلم وأشار الحافظ بن عبد البر إلى أن في إسناده لينًا.
وعلى كل حال الحديث لا بأس بإسناده، وهو دال على فضيلة الصلاة في هذا المسجد المبارك الذي ندب الله ـ تعالى ـ إلى القيام فيه في قوله ـ تعالى ـ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾[التوبة: 108] فالصلاة فيه امتثال؛ لأمر الله ـ عز وجل ـومتابعة لسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث كان يأتي إلى مسجد قباء, ويصلي فيه ركعتين كل يوم سبت، وطمعًا في حصول هذه الفضيلة التي جاءت فيه في هذا الحديث حديث أسيد بن ظهير من أن صلاة فيه تعدل عمرة.
ولهذا من زار المدينة، فينبغي له أن يحرص على أن يصلي في قباء؛ لأجل هذه المعاني الثلاثة، وهذه الفضيلة لمن أتى قباء من غير شد رحل، ومن غير سفر في قول عامة أهل العلم، فإن المساجد التي يشد إليها الرحل، ويتكلف في الوصول إليها بالسفر ثلاثة كما جاء ذلك فيما رواه أبو سعيد وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".صحيح البخاري(1188)صحيح مسلم (1397)
لكن من كان مقيمًا في مدينة، فإنه يأتي إلى مسجد قباء إتباعًا لسنة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقد أخبر ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأتي قباء راكبًا وماشيًا أي أنه يأتيه راكبًا تارة وماشيًا تارة، أو أنه يركب في بعض الطريق ويمشي في بعض الطريق، والإنسان يفعل من هذا ما هو أوفق لحاله وأيسر عليه، فلو جمع بين الركوب والمشي إما مرة كذا ومرة كذا أو في بعض الطريق كذا وفي بعض الطريق كذا أدرك فضيلة متابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
حرص الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ على متابعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى اقتفاء أثره فكان ابن عمر يفعله.
وفيه من الفوائد: حفظ منزلة أهل الخير والبر في كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأتي إلى بني عمرو بن عوف كل سبت حيث كان أول نزوله عندهم، فكان هذا من زيارة أهل الخير وصلتهم، ولما كانوا عليه من فضل حيث أثنى الله ـ تعالى ـ عليهم بقوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾[التوبة: 108].
وفيه من الفوائد: شريف قدر الصلاة في المسجد العتيق القديم، فإن عتق المسجد وقدمه مما يكسب المكان فضلًا ويثبت له أجرًا، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتعنى في المسير إلى قباء، ويذكر في المسجد الذي ذكر الله ـ تعالى ـ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾[التوبة: 108] فجعل الأولية والسبق إلى الطاعة والتقوى مما يوجب الفضل، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾[آل عمران: 96] وقال ـ تعالى ـ في الهدي قال: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج: 33] وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29] فجعل عتق البيت وقدمه مما يوجب الفضل فيه ويثبت المنزلة له.
وفيه: من الفضائل فضيلة مسجد قباء وأنه في الفضل يلي المسجد الثلاثة، وإن كان لا خاصية له من جهة ما للمساجد الثلاثة من خاصية بشد الرحل.
وفيه:فضيلة صلاة الإنسان في المسجد الذي يزوره، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يزور قباء ويصلي فيه.
وفيه: أن السنة في صلاة النهار كصلاة الليل أنها مثنى مثنى فإنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي فيه ركعتين.
وفيه: أن الإنسان ينبغي له إذا اشتغل بعمل صالح أن يحرص على ديمومته، فإن أحب العمل إلى الله ـ تعالى ـ أدومه وإن قل، ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يديم مجيئه إلى قباء والصلاة فيه على هذا النحو الذي ذكر ابن عمر يصلي فيه ركعتين.
هذه جملة من الفوائد في هذا الحديث الذي فيه الخبر عن مجيء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مسجد قباء نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا وإياكم العمل بسنته والسير على منهجه، والثبات على دينه، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته وصلى الله وسلم على نبينا محمد.