الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي –رحمه الله-في باب فضل الحب في الله عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى ـ عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إنّ الله ـ تَعَالَى ـ يقول يَوْمَ القِيَامَةِ: أيْنَ المُتَحَابُّونَ بِجَلالِي؟ اليَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلِّي)) رواه مسلم(2566).
هذا الحديث الشريف يخبر فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-عن أمر يكون يوم القيامة فقال: "إن الله ـ تعالى يقول ـ يوم القيامة" يخبر عن قول الله –عز وجل-في ذلك اليوم يوم القيامة، وهو اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، حفاة عراة غرلًا غير مختونين يقومون في موقف عظيم، ومجمع كبير يجمع الله ـ تعالى ـ فيه الأولين والآخرين، ويحشر فيه الخلق أجمعين فيجمعهم –جل وعلا-ويكون في ذلك اليوم من الأهوال والأحوال ما تشيب له الولدان، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[الحج: 1-2].
ففي أهوال ذلك اليوم وأحواله يكون الناس أحوج ما يكونون إلى سبب نجاة يسلمون به من ذلك الهول ويأمنون به من ذلك الخوف ويزول عنهم ذلك الفزع، ومن ذلك ما يكون من العمل الصالح الذي ينجي الله ـ تعالى ـ به أصحابه في ذلك اليوم "يقول الله ـ تعالى ـ يوم القيامة أين المتحابون بجلالي؟" المتحابون بجلال الله –عز وجل-يناديهم الله –عز وجل-في ذلك الموقف العظيم.
فقوله: "أين المتحابون بجلالي؟" ليس سؤالًا عن مكانهم، فليس هو استفهام، إنما هو نداء أو أمر بإحضارهم وتمييزهم عن غيرهم من الخلائق في ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم المشهود، فأين هنا هي من ألفاظ الاستفهام من أدوات الاستفهام ؛ لكنها جاءت في سياق غير سياق الاستفهام، وهو سياق التنويه والإكرام فقوله: "أين المتحابون بجلالي؟" في رواية "في جلالي" هو إشادة بهم، وبيان فضلهم وتمييز لهم ونداء أو أنه أمر بتمييزهم وإحضارهم وبيانهم وتبينهم عن غيرهم من الخلق في ذلك اليوم "أين المتحابون؟" أي الذين عمرت قلوبهم بالمحبة لأجل الله –عز وجل-.
فقوله: "بجلالي" أي: بسبب جلالي أي بسبب عظمتي وهيبتي وسلطاني وتعظيمًا لحقي، فهؤلاء قوم لم يكن بينهم نسب، ولم يكن بينهم سبب من تجارة أو جيرة أو اتفاق لسان أو اشتراك في عمل أو إحسان، أو غير ذلك من الأوجه التي يرتبط بها الناس، وتكون بينهم محبات بسببها، بل لم يكن بينهم في موجب المحبة التي عمرت قلوبهم إلا هيبة الله وإجلاله ومحبته وتعظيمه ـ جل في علاه ـ فهؤلاء الذين تبوأوا هذه المنزلة أنهم تحابوا في الله أحب بعضهم بعضا ؛ لأجل الله، ليس لدنيا ولا لغيرها ولا لمصلحة ولا منفعة، بل لما هم عليه من طاعة الله –عز وجل-والقيام بأمره –سبحانه وبحمده-أين المتحابون بجلالي؟ هذا إشادة بهم وبيان سبب استحقاقهم والفضل والأجر الذي ذكره ـ جل في علاه ـ اليوم يعني يوم القيامة "اليَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلِّي" رواه مسلم(2566).
اليوم أي ذلك اليوم الذي تدنو فيه الشمس من رءوس الخلائق، ويبلغ العرق من الناس بقدر أعمالهم يضلهم الله –عز وجل-بظله –سبحانه وبحمده-والظل في هذا الحديث، أضافه الله ـ تعالى ـ إلى نفسه ـ جل في علاه ـ وقد جاء في القرآن مضافًا إلى نفسه، وقد جاء في النصوص الشرعية مضافًا إلى الله –عز وجل-كما في هذا الحديث، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وجاء مضافًا إلى عرشه، كما في بعض روايات حديث أبي هريرة في انذار المعسر، وأنه يظله الله ـ تعالى ـ في ظل عرشه يوم القيامة في المسند وغيره، وجاء مضافًا إلى الجنة، كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾[الرعد: 35] أي صفتها أن أكلها دائم وكذلك ظلها دائم فأضاف الظلال إلى الجنة.
فمن أهل العلم من فسر هذا المذكور في الحديث بأنه ظل العرش استناد إلى ما جاء في بعض الروايات من تقييده بالعرش، وآخرون قالوا: بل هو ظل الجنة، وهذا بعيد جدا ؛ لأن الظل الذي ذكره هنا هو في يوم القيامة في العرصات، ثم إن ظل الجنة لا يختص به أصحاب عمل عن عمل، بل كل أهل الجنة وأصحابها يستوون في الفوز بظلاله ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ﴾[المرسلات: 41].
فظل الجنة شامل لأهلها كلهم ليس خاصًا بأصحاب عمل من الأعمال، بخلاف الظل الذي يكون في يوم القيامة في الموقف، فإنه جاء مضافًا وموعودًا به فآم من الناس، والظل الذي في ذلك اليوم للعلماء فيه أقوال فمنهم من قال: أنه ظل أضافه الله إلى نفسه الله أعلم بحقيقته، فلا يفسر بظل العرش ؛ لأن ظل العرش يختلف عن ظله، وآخرون قالوا: بل هو ظل العرش كما جاء في بعض الروايات، وآخرون قالوا: بل هو ظل الأعمال التي يستظل بها العاملون، كما جاء ذلك في الصدقة وفي تلاوة القرآن وفي تلاوة البقرة وآل عمران، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "اقرءوا الزهراوين فإنهما تأتيان يوم القيامة كالغمامتين أو الفرقين الصواف تظلان صاحبهما"مسلم (408) فيكون هذا الظل المضاف إلى الله –عز وجل-إضافة تشريف، وهو ظل العمل الصالح الذي استجوبوا به ذلك الفضل والله أعلم بمراده، ولو فسر بهذا المعنى، فإنه غير بعيد.
وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "يوم لا ظل إلا ظلي" فيما يخبر به عن قول الله –عز وجل-هو إخبار عن انقطاع كل الأسباب التي تحصل بها النجاة في ذلك اليوم، فلا نجاة إلا بالله ولا سبيل إلى السلامة من أهوال ذلك اليوم إلا بجميل الصلة به –سبحانه وبحمده-ولذلك قال: "لا ظل إلا ظلي" هذا الحديث فيه جملة من الفوائد من فوائده:
إضافة القول إلى الله –عز وجل-بالفعل المضارع خلافًا لمن منع ذلك وقال: لا يصح أن يقول المؤمن يقول الله –عز وجل-بل يقول: قال الله، وهذا ليس بصحيح ويعارضه الكتاب والسنة، أما الكتاب فالله ـ تعالى ـ يقول في محكم كتابه والله يقول الحق، وأما السنة فكثير، ومنها هذا الحديث الذي فيه يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-إن الله ـ تعالى ـ يقول.
فقوله –جل وعلا-: يأتي بالإخبار عنه بصيغة الماضي، أو يأتي نسبته إلى الله –عز وجل-في صيغة الماضي وكذلك بصيغة المضارع.
وفيه: إثبات القول لله –عز وجل-وقوله الحق ـ جل في علاه ـ وهو كلامه سبحانه وبحمده.
وفيه: أن الله ـ تعالى ـ يكلم الخلق يوم القيامة ويسمعونه وكلامه يوم القيامة لخلقه منه ما هو إكرام كهذا الذي في هذا الحديث، ومنه ما هو عذاب على أصحابه، فإن الله –عز وجل-يكلم أهل الكفر يوم القيامة كلام تقريع وتبويخ، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم إلا وسيكلمه الله ليس بنيه وبينه ترجمان"أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016) وهذا خطاب لجميع من يبلغه من أهل الإسلام وغيرهم.
وفي الحديث أن الله ـ تعالى ـ يقول لعبده الكافر: "ألم أسودك ألم أربعك ألم أزوجك" كما في الصحيح من حديث أبي هريرة يقول: بلى فيقول: "أكنت تظن أنك ملاقيه؟ فيقول: لا فيقول الله –عز وجل-: اليوم أنساك كما نسيتني". أخرجه مسلم (2968)
وفيه من الفوائد:عظيم فضل الحب في الله وأنه في منزلة جليلة عظيمة.
وفيه: أن الحب الذي ينفع أصحابه وينجو به الناس يوم القيامة هو الحب في الله، أما ما عداه، فإنه يتقطع كل سبب بين الناس، ويزول أقوى الأسباب والصلات بين الناس هي الأنساب، ومع ذلك يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾[المؤمنون: 101] أي أنه لا ينتفعون بالنسب، بل على العكس ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِوَأُمِّهِ وَأَبِيهِوَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾[عبس: 34-36].
أما سائر الخلات والعلاقات والمحبات التي تكون بين الناس على أمور رديئة، أو أمور الدنيا فإنها تزول، وأما ما كان على أمور رديئة، فإنه يندم عليها الإنسان وتكون سببًا لحسراته ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًالَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾[الفرقان: 27-29]، وكذلك يقول الله –جل وعلا-في محكم الكتاب ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾+[الزخرف: 67].
وفيه من الفوائد:عظيم الأجر الذي رتبه الله ـ تعالى ـ على هذا العمل الصالح وهو الحب في الله، فإنه من أجل القروبات التي يحصل بها النجاة يوم القيامة، وذلك بالظل الذي يتوقى به الإنسان ما يكون من الشرور والآفات والأضرار حيث ينقطع عن الناس كل سبب نجاة إلا النجاة بما يكون من الله –عز وجل-من رحمة وفوز وتبليغ للغايات والمقاصد، اللهم اجعلنا من المتحابين فيك العاملين بطاعتك الراجين لفضلك الساعيين فيما تحب وترضى سرًا وعلنًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.