الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي –رحمه الله-في كتابه رياض الصالحين في باب فضل الحب في الله وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلاَ أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بينكم)) رواه مسلم(54)
هذا الحديث يقسم فيه النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-بالله –عز وجل-فيقول: "والذي نفسه بيده" والنفس هنا الروح يقبضها جل في علاه ويرسلها –سبحانه وبحمده-متى شاء وكيف شاء؟ فيقسم بالله –عز وجل-بشيء من صفاته وأفعاله، وهو أن نفوس العباد بيديه ـ جل في علاه ـ فالقسم يأتي إما توكيدًا لتصديق أو تكذيب وإما توكيدًا لحث أو نفي، فجاء في هذه الصيغة بما يبين عظيم استحضار منزلة المقسم به، فالمقسم به هو الله الذي أنفس العباد بيديه، فهو عليهم قدير، وبهم عليم لا يخرجون عن حكمه، ولا عن سلطانه جل في علاه.
فالقسم به –سبحانه وبحمده-بجليل ورفيع المنزلة، فإذا جاء بهذه الصيغة كان المقسم مستحضرًا ضعفه وعظمة من يقسم به، فلا يكون في ذلك خروج، بل يكون في ذلك خروج عن الصدق فيما يخبر به أو يتكلم عنه بل ما يقوله حق مطابق للواقع، "والذي نفسي بيديه لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا" "لا تدخلوا الجنة" نفي لدخول دار النعيم الكامل، فالجنة هي دار النعيم الكامل التي أعدها الله ـ تعالى ـ فيها لعباده الصالحين لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا" أي حتى يتحقق منكم الإيمان، والإيمان المقصود به ما يدخل الإنسان فيه إلى الإسلام من قول لا إله إلا الله شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والإتيان بسائر ما يكون من أصول الإيمان وحقوقه.
فالإيمان الذي يدخل الجنة هو الإيمان، الإيمان الذي يكون فيه الإنسان قد أتى بأصله واستوجب بذلك فضل الله ـ تعالى ـ وإنعامه فهو مطلق الإيمان، وليس المقصود الإيمان الكامل إلا بالنظر إلى المال، والمنتهى فإنه في المآل والمنتهى يدخل أهل مطلق الإيمان، وفي المبدأ لا يدخل الجنة إلا من كان كامل الإيمان.
وقوله: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا" أي حتى يتحقق منكم ما يلزمكم من خصال الإيمان، ثم بين النبي –صلى الله عليه وسلم-خصلة من خصال الإيمان قال: "ولا تؤمنوا حتى تحابوا" أي لا يتحقق لكم الإيمان الكامل حتى يكون بينكم حب وود، والمقصود بالحب هنا ما كان سببه الإيمان، أي بسبب إيمانكم "لا تؤمنوا حتى تحابوا" أي حتى يثمر إيمانكم حب فيما بينكم لله –عز وجل-وليس المقصود الحب لأجل ما يكون من مصالح الدنيا، فإن هذا لا علاقة له بالإيمان حب الرجل لولده طبيعة، حب الرجل لزوجته، حبه لأبيه، حب الرجل لبلده، حب الرجل لأصدقائه ومن أحسنه كل هذه المحاب طبيعية.
لكن المقصود بقوله: "لا تؤمنوا حتى تحابوا" هو حب الله ورسوله وحب ما يحبه الله ورسوله مما يكون بين أهل الإيمان من الود وطيب العلاقة، وجميل الخصال فيما يكون بين أهل الإسلام من عمارة قلوبهم بالود والمحبة لإخوانهم.
ثم بين النبي –صلى الله عليه وسلم-بعد ذلك الطريق الذي تحصل به المحبة بين أهل الإيمان، فقال: "أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم" يعني هل أدلكم على شيء إذا عملتم به كان بينكم الود والحب "أفشوا السلام بينكم" أي انشروه والسلام هو قول: السلام عليكم ورحمة الله، وهذا أدنى ما يكون من موجبات المحبة، فالسلام المقصود به هنا إظهاره، والسلام الذي ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم-في قوله: "افشوا السلام بينكم" عامة العلماء والشراح على أنه قول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا لا يعني ألا يدخل في ذلك ما يكون من خصال أهل الإسلام، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويديه.
فالسلام هنا يشمل القول ويشمل أيضًا السلام العملي بكف الأذى عن الناس وبذل الندى لهم فإن ذلك مما يوجب الحب ولو فسر كما قال أكثر الشراح بالسلام القولي، فإن ذلك مفتاح لما بعده من أوجه السلام التي تكون بين الناس ويتحقق بها الحب بينهم.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد من فوائده:
القسم دون الحاجة فإن النبي –صلى الله عليه وسلم-أقسم، وهو الصادق المصدوق ولكنه أقسم تأكيدًا وحثًا وترغيبًا فيما يقوله –صلى الله عليه وسلم-.
وفيه: نفي دخول الجنة إلا بالإيمان فلا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة: 72] فالإيمان شرط من شروط دخول الجنة، فلا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
وفيه من الفوائد: وجوب الحب في الله من حيث أصله، فإنه قال –صلى الله عليه وسلم-: "لا تؤمنوا حتى تحابوا" وقال بعض أهل العلم: لا تؤمنوا إيمانًا كاملًا، لكن فيما يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن هذا في الإيمان الواجب وهذا ليس لأفراد أهل الإيمان، بل لمجمل أهل الإيمان وهذا لا شك أن من لم يحب أهل الإيمان في الجملة، فإنه أخل بواجب من واجبات الإيمان، وأما الأفراد فقد تحب شخصًا من المؤمنين وقد تكره شخصًا من المؤمنين لسبب غير إيمانه.
وفيه من الفوائد: حرص النبي –صلى الله عليه وسلم-على إقامة الحب بين أهل الإسلام فإنه قال: "أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم" وهذا فيه ندب إلى أخذ الأسباب المفضية إلى المحبة.
وفيه: أن من أيسر الأسباب التي تكون بها المحبة بين أهل الإيمان طيب القول بالسلام.