الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي –رحمه الله-في باب فضل الحب في الله والحث عليه خبر أَبي إدريس الخولاني مع معاذ بن جبل ـ رضي الله تعالى عنه ـ وقد قال له معاذ ـ رضي الله تعالى عنه ـ بعد أن أخبره أبو إدريس بمحبته له في الله قال وقد جبذه إليه وقربه منه أبْشِرْ! فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ((وَجَبَتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَحابين فيَّ، وَالمُتَجَالِسينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ)) حديث صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح.أخرجه أحمد (22030)، ومالك في ((الموطأ)) (2/953)
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد من فوائده:
أدب السلف الصالح وحرصهم على الخير والمسابقة إليه، فإن أبا إدريس لما قدم دمشق دخل مسجد دمشق، وأقبل على هذا المجلس الذي فيه هذا الرجل الذي وصفه بأنه براء الثنايا.
وفيه: حرص السلف على تعلم العلم وأخذه من أهله، فإنهم كانوا إذا وقع بينهم ما يكون محتاجًا إلى بيان وإيضاح رجعوا إلى أهل العلم والمعرفة وأهل البصيرة والدراية، فيصدرون عن قولهم، ويأخذون بما يوجهونهم إليه، فكانوا إذا أشكل عليهم شيء أسندوه إليه، وصدروا عنه إلى معاذ وصدروا عنه أي أخذوا بقوله وهذا امتثال لما أمر الله ـ تعالى ـ به في قوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 43].
وكذلك فيه حرص الصحابة على تعليم العلم وقربهم من الناس وبذلهم الخير، فإن معاذ ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان بين الناس ولم يكن منعزلًا عنهم، وإنما كان سباقًا إلى الخير، فكان بينهم في التعليم وكان سباقًا إلى العمل الصالح ؛ حيث أنه سبق أبا إدريس في التهجير إلى المسجد، واشتغل فيه بالصلاة ثم لما جاءه أبا إدريس أحسن وفادته واستقباله بأن استمع إليه، وأفاده بما يحث على الخير ويشجعه عليه.
وفيه: صفاء قلوبهم وسلامة صدورهم، فإن أبا إدريس لما قام في قلبه حب الله وأحب له –جل وعلا-من ظهرت عليه سماء الصلاح والسبق وتميز بالصحبة أخبر معاذ ـ رضي الله تعالى عنه ـ بمحبته لله فيه، فجاءه وسلم عليه وقال: إني أحبك لله وهذا من أشرف ما يخبر به الشخص لما فيه من الخير للمخبر والمخبر، ولهذا لما كان الأمر عظيمًا وهو ما يتصل بالحب في الله استوثق منه معاذ ـ رضي الله تعالى عنه ـ وطلب منه توكيد ذلك بالقسم المقرر (آلله فقال أبو إدريس: آلله، ثم أعاد قال: آلله) يعني تحلف على ذلك بالله والله هذا الذي قام في قلبك تجاه قال: آلله والله إني لأحبك لله فلما استوثق من ذلك استقبل هذا الخبر بما فيه إدخال السرور على المخبر حيث قربه منه تأنيثًا وساق إليه البشارة.
والبشارة هي ما أخبر به عن النبي –صلى الله عليه وسلم-فيما رويه عن ربه وهذا أعظم مكافأة وإهداء وبشارة للمتعلم الحريص على معرفة ما جاء عن الله وعن رسوله.
وفيه:أن الإنسان إذا اشتغل بالتعليم، فينبغي أن يحرص على أن يعضد تعليمه، وما يلقيه إلى الناس بالدليل من كلام الله أو كلام رسوله –صلى الله عليه وسلم-ولهذا لم يزد معاذ على أن نقل ما سمعه من النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-يقول: "يقول الله ـ تعالى ـ: وجبت محبتي للمتحابين في ..... إلى آخر الحديث".
وفيه من الفوائد: خبر النبي –صلى الله عليه وسلم-عن الله –عز وجل-في غير القرآن، فإن الله –عز وجل-تكلم بالقرآن، وأوحاه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-وهو معروف مميز، وأوحى إلى نبيه كلامًا غير القرآن لا يأخذ أحكام القرآن، وهو ما يعرف بالحديث الإلهي، ويسميه العلماء الحديث القدسي، وهو من كلام الله –عز وجل-يرويه النبي –صلى الله عليه وسلم-عن ربه.
وفيه: إثبات صفة القول لله –عز وجل-وهذا ما عليه الأدلة في الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
وفيه: إثبات محبة الله لعباده الموصوفين بهذه الصفات، وهو إثبات لصفة المحبة وقد جاء ذلك في القرآن يحبهم ويحبونه والسنة مليئة بذلك ومنها هذا الحديث.
وفيه: أن محبة الله تدرك بأسباب أن محبة الله لعبده لها أسباب متى قامت في أصحابها كانت موجبة لثبوت ذلك لمن اتصف بها وقامت به، وجبت محبتي للمتحابين في وهذه الصفة الأولى التي ذكرها، أو العمل الأول الذي ذكره مما يوجب محبة الله ويثبت محبة الله للعبد التحاب في الله، وهذا يبين شريف منزلة هذا العمل ويدل على فضل الحب في الله.
وفيه أيضًا:فضيلة المجالسة لله –عز وجل-ويشمل ذلك كل مجلس جلست فيه ترجو ما عند الله لا لمصلحة دنيوية سواء كان ذلك المجلس لتعليم أو لتعلم، أو كان ذلك المجلس لتلاوة القرآن أو كان ذلك المجلس للإصلاح، أو كان ذلك المجلس لصلة رحم، أو كان ذلك المجلس برًا بوالد، أو إكرامًا لجار أو كان ذلك المجلس إدخالًا للسرور إلى قلب مسلم كل ذلك مما يدخل في المجالسة لله ؛ لأنك لم تجلس لمصلحة دنيوية إنما لله.
ومنه إذا زرت جارك وجلست معه إكرامًا للجار، فأنت ممن جلس لله فيدخل في فضل هذا الحديث ومثله المتزاورين في الله فوجبت محبته للمتزاورين لله الذين يزور بعضهم بعضًا لله، وهذا يدل على خلوص الإنسان من مصالح الدنيا فيزور أخاه ويجالسه ويأتي إليه ويكرمه لأجل الله –عز وجل-فدل ذلك على صفاء النية.
وفيه أيضًا: الخصلة الرابعة فضل التبادل في الله الإنفاق والعطاء مستحضرًا الثواب منه وطالبًا للأجر منه لا ترجو من أحد جزاء ولا شكورًا، كما قال الله ـ تعالى ـ في وصف الأبرار ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان: 9].
وفيه من الفوائد:أن المساجد محال للاجتماع على طاعة الله تعلمًا وتعليمًا ومجالسة ومزاورة.
وفيه من الفوائد:المسابقة إلى العمل الصالح، واغتنام الفرصة في مجالسة الصالحين، كما فعل أبو إدريس الخولاني رحمه الله.
وفيه من الفوائد أيضًا:فضيلة التهجير إلى المساجد، وفضيلة طول المكث فيها، فإن ذلك من أسباب الخير وموجباته.
وفيه من الفوائد:مشروعية الإخبار بمحبة الله –عز وجل-إذا أحب أحدًا في مشروعية الإخبار بأنك تحب المرأة لله –عز وجل-فأبو إدريس أخبر معاذ رضي الله تعالى عنه.
وفيه:التحقق من الخبر باليمين والتسليم للحالف، وإجراء الأمر على الظاهر إذا لم يكن هناك ما يوجب التهمة.
هذه جملة من الفوائد وفوائد هذا الخبر كثيرة، وأعلى ما فيه ما هو مما اتصل في الباب من فضيلة الحب في الله والحث عليه، فنسأل الله أن يجعلني وإياكم من المتحابين فيه، وأن يجمعنا وإياكم على طاعته، وأن يسلك بنا سبيل الرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.