المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحية طيبة في هذه الحلقة لبرنامج "الدين والحياة" والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة مستمعينا الكرام تقبلوا تحيات الزملاء من الإخراج ماهر نضراء، وماهر الصحفي، وتقبلوا أجمل تحية مني محدثكم وائل حمدان الصبحي، فأهلا وسهلا ومرحبا بكم.
مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، أهلا وسهلًا فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ:-سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك حياك الله أخي وائل.
المقدم:-أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله فضيلة الشيخ، اليوم -بمشيئة الله تعالى- مستمعينا الكرام سيكون حديثنا حول الكسوف، هذه الظاهرة الكونية سننظر لها من نظرات شرعية -بمشيئة الله تعالى- بالتأكيد في سنة المصطفي -عليه الصلاة والسلام- ما يحثُّ المسلمين على الصلاة والذكر والعبادة في حال وجود هذه الظاهرة الكونية، لكن سننظر لها من نظرة شرعية، ولعلنا نبدأ الحديث فضيلة الشيخ عن الكسوف هذه الظاهرة قبل أن نتحدث عن سياقات ذكر الكسوف في كتاب الله –عز وجل-، وفي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
بودي أن نتحدث ابتداء عن الشمس والقمر، وأنهما آيتان من آيات الله –تبارك وتعالى- ووجه كونِهما أنهما من آيات الله –تبارك وتعالى-.
الشيخ:- الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحمد الله تعالى على ما مَنَّ به على عباده المؤمنين، بل على سائر خلقه من الإنس والجن أجمعين أنَّ الله تعالى سخر لهم ما في السموات وما في الأرض، سخر لهم هذه المخلوقات العظيمة في السماء والأرض وجعلها آياتٍ دالة على عظيم قَدرِه، وعظيم قُدرته، وعظيم تدبيره، وكبير شأنه -جل في علاه-، فآياته –جل وعلا- في السموات وفي الأرض، في الآفاق وفي الأنفس عظيمة دالة على أن لهذا الكون ربًّا خالقًا صانعًا مدبرًا، له القوة والقدرة، له الخلق والأمر تبارك الله أحسن الخالقين.
ومن جملة ما ذكره الله تعالى من آياته في السموات وفي الأرض: الشمس والقمر، فقد ذكرهم الله تعالى في مُحكم القرآن مُشيرًا إلى أن الله تعالى خلق هذين القمرين الشمس والقمر، وأنه من دلائل إتقانه خلق هذا الخلق العظيم الذي يراه الناس ويدركون به عظمةَ الخالق.
الآن أيها الإخوة والأخوات عندما يشهد واحد منا شيئًا من صنع البشر في عقار وبناء، أو في أجهزة ومصنوعات يتعجَّب ويندهش من تلك القُدرة البشرية التي وَصَلت بالإنسان إلى هذا الإنجاز في بناء شاهق، أو في جهاز خادم، أو في مصنوع من المصنوعات ينبهر لعظيم ما أنتَجَه ووصل إليه من الإنجاز، إلا أنه يغفل عن مُنجَزات ومخلوقات عظيمة وآيات كبيرة هي خلق من خلق الله –عز وجل-، بل لو تأمل الإنسان أن هذا الإنجاز البشري، الذي أوصل الإنسان إلى هذا الإتقان في الصنع في بناء شاهقٍ مَتقَن أو في مصنوع خادِم سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، دارجًا أو طائرًا، فإنه يندهش بالمصنوع عما وراء ذلك، لو تأمل العقل البشري مَن الذي خلق تلك القدرات البشرية التي أوصلت الناس إلى هذا الإنجاز من الذي خلقها؟
الله -جل في علاه-، فيفوِّته النظرُ في المصنوعات والمنتجات عن النظر إلى ما وراء ذلك من عظمة الخالق الذي سخَّر للإنسان تلك القدرة، وتلك الإمكانات التي أوصلته إلى هذا الإنجاز، خلق الله عظيم، وفي السماء والأرض من الآيات ما يُبهر العقول، ويأسر الأفئدة ويملؤها محبة لله وتعظيمًا.
الشمس والقمر آيتان من آيات الله أي: علامتان ودليلان على عظمة الله –عز وجل-، على قدرته، على بديع صنعه، على إتقان خَلقه، على كبير شأنه جل في علاه –سبحانه وبحمده-، على رأفته ورحمته وجميل إحسانه بعباده –سبحانه وبحمده-.
آيات عظيمة يشهدها الناس ليلًا ونهارًا لا يَخلُون فيه لحظة من لحظاتهم عن شهود شيء من آياته -جل في علاه- كما قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا*وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾[الفرقان: 61- 62] وهما محل هاتين الآيتين، فآية النهار الشمس، وآية الليل القمر ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفرقان: 62].
فتشهد هذه الآيات صباحَ مِساء، وينظر إليها الناس في تقلُّب أوقاتهم، واختلاف أحوالهم، ويَجْنُون من منافع هذا الصنع ما يجنون، ومع ذلك قلَّ من يعتبر ويتعظ، قَلَّ من يلتفت إلى ما في هذه الآيات العظيمة من دلائل على عظيم قَدرِ الربِّ الذي إذا تأمَّل العبد آياته ملأ قلبَه تعظيمًا له وإجلالًا، وملأ قلبه محبة له وخضوعًا، قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ﴾[يوسف: 105] يعني كثير من الآيات ﴿فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف: 105] لا يلتفتون إلى ما فيها من الأسرار، ولا ما فيها من دلائل العظمة التي تدل على عظمة الخالق الجبار، الخالق الرحمن، الخالق الذي له ما في السموات وما في الأرض.
فلا تلتفت الأنظار ولا تلتفت العقول لتلك الآيات التي تدل على عظمة الصانع الذي له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
الآيات في الشمس والقمر عديدة، فهما خلقٌ من خلق الله مُسخَّر يجري على وفق أمر الله –جل وعلا- لا يتقدَّم ولا يتأخر، فقد أخبر الحكيم العظيم -جل في علاه- أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مسخَّرتان، ومعنى مُسخَّرة أي أن الله سخَّرها لعباده، وهي مسخرة جارية بأمره لا تخرج عن تدبيره قال -جل في علاه-: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾[الأعراف: 54]، الليل يطلب النهار، والليل يستر النهار وهكذا دواليك قال –جل وعلا-: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾[الأعراف: 54] –سبحانه وبحمده- تجري على نحو تقديره، لا تتقدم ولا تتأخر ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[الأعراف: 54]، ﴿خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًاوَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾[نوح: 15- 16]، فالشمس والقمر والليل والنهار وهذه الأفلاك جميعها من الآيات الباهرة الدالة على عظمة وقدرته، وجميعها مسخرَّة للآمر –سبحانه وبحمده-.
ولذلك المؤمن عندما يشهد هذه الآيات لا يملك ألا أن يعظم الله الذي سخَّرها، وهي مسخرة بنحو من الدقة الفائقة التي تدل على عظمة الخالق –جل وعلا- يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾[الرحمن: 5]، أي بحسبان فالشمس والقمر يجريان جريًا دقيقًا لا يختلُّ في جزء الثانية، بل أقل من ذلك، جريان القمر والشمس بحساب لا ينخرم ولا يختل قال الله تعالى: ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[يس: 40].
هذا الحساب الدقيق الذي يشهده الناس بما يرونه من دقَّة سير الشمس والقمر، وهذا يشهده الناس اليوم ظاهرًا في الحسابات التي تُخبر بشروق الشمس وغروبها، وتخبر بسير القمر وموضع نزوله، وكذلك الشمس، هذه الاكتشافات البشرية التي قد ينبهر بها بعض الناس فيقول: سبحان الله الآن نحن نعرف متى تسير الشمس في المكان الفلاني، متى تنزل في البرج الفلاني، متى تغرب، متى تغيب، متى تكسف، متى يخسف القمر، وما إلى ذلك من المعلومات الفَلَكية التي يعرفون بها دِقَّة مسير هذه الأشياء، فيندهشون لقدرتهم حيث عرفوا هذه الأشياء، ويرغبون بهذه القدرة والنظر إليها والفرح بها عن قدرة الصانع الذي أجرى الشمس والقمر على هذا الحساب الدقيق الذي لا يختلُّ.
فسبحان الله كيف تشرق القلوب محبة لله وتعظيمًا، إذا أدركت مثل هذه المعاني، وشهدت مثل هذا الإتقان في صنع الرحمن، صنع الله الذي أتقن كل شيء -جل في علاه- ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾[الرحمن: 5]، لا يختل ولا ينخرم، ولذلك إذا نظرت إلى تقاويم غروب الشمس وشروقها رأيت دقَّةً باهرة في جزء الثانية، في وقت الشروق والغروب، وما إلى ذلك مما يتعلق بشأن الشمس والقمر، وبه يظهر عظيم خلق الله وصدق خبره ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾[الرحمن: 5]، نعم إنهما بحساب دقيق تولَّاه ربٌّ عظيم لا يغيب عنه شيء، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم –سبحانه وبحمده-.
هكذا ينظر المؤمن لتلك الآيات الباهرة، وفي منافع الشمس للخلق، وفي منافع القمر للخلق ما يفوق الوصف، ولا يحيط به بيان، وقد ذكر الله –جل وعلا- شيئًا من ذلك في محكم الكتاب على وجه الامتنان فيما ذكره من هذه الآيات، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾[القصص: 71] أي ممتدًّا لا ينتهي، كل العمر ليل ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾[القصص: 71- 72] جعل الشمس والضياء مستمرًّا، ليس ثمة ليل يأوي فيه الناس إلى ما يأوون إليه ويدركون ما يدركونه إليه من المنافع ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[القصص: 72] ومن رحمته جل في علاه –سبحانه وبحمده –﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[القصص: 73] فالشمس والقمر آيتان عظيمتان من آيات الله يدرك بهما العبد عظيمَ قدر ربِّه وعظيم رحمته وكبير فضلِه وإحسانه، فيمتلئ قلب العبد تعظيمًا وإجلالًا لربٍّ هذا صنعه –سبحانه وبحمده-، ويمتلأ محبة وخضوعًا ورقَّة لرب هذه رحمته وهذا إحسانه وهذا فضله -جل في علاه-.
هذه وقفة يسيرة ألمحنا فيها إلى شيء مما يتعلق بقوله –صلى الله عليه وسلم-: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله»[ أخرجه البخاري في صحيحه:ح1060، ومسلم:ح915/29من حديث المغيرة بن شعبةt] فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاعتبارَ بآياته والاتعاظ بعلامات قدرته، ودلائل صنعه في سمائه وأرضه، في الآفاق وفي الأنفس.
المقدم:- فضيلة الشيخ أيضًا تسمح لي بإضافة بسيطة في قول الله –تبارك وتعالى-: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾[يونس: 5]، الله –عز وجل- جعل من صفات القمر، ومن ميزات القمر أنه يُعلم به عدد السنين، ويعلم به الحساب، هذا من تفصيل الله –تبارك وتعالى- فيما ورد من الآيات الكريمة في كتابه الكريم.
الشيخ:- وهذا من أوجه آيات الشمس والقمر أنهما مما يحصل بهما معرفة الآيات والأوقات كما دلَّت عليه الآية.
المقدم:- فضيلة الشيخ تحدثنا في بداية الحلقة، وفي الجزء الأول منها عن الشمس والقمر، وأنهما آيتان من آيات الله –تبارك وتعالى- والمنافع التي أوجدها الله –عز وجل- من خلال هذين الآيتين الشمس والقمر، هذه المعاني التي ذُكرت في كتاب الله –تبارك وتعالى-.
فضيلة الشيخ في هذا الجزء بودي أن نتحدث عن الكسوف تحديدًا، وسياقات ذكره في كتاب الله –تبارك وتعالى- وفي السنة النبوية والتوجيهات الكريمة من النبي الأكرم- عليه الصلاة والسلام- في حالة الكسوف وسببه والحكمة منه أيضًا.
الشيخ:- في القرآن الكريم أقسم الله –عز وجل- بالشمس، وأقسم بالقمر والله تعالى إذا أقسم بشيء من خلقه في كتابه يُقسم بذلك لفتًا للأنظار إلى ما في تلك الأمور التي أقسم بها من الآيات والعِبر، من الدلائل الباهرة والآيات البينة على عظيم قدرته -جل في علاه- وبديع صنعه –سبحانه وبحمده-.
والشمس والقمر يجريهما الله تعالى بحساب دقيق، كما تقدم في صدر الحديث وقد ذكر الله –جل وعلا- في شأن الشمس والقمر الخسوف في محكم الكتاب، وقد قال الله –جل وعلا- في شأن يوم القيامة في سورة القيامة ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾[القيامة: 6] يسأل ويهتمُّ بمعرفة متى تكون الساعة فيسأل عن وقت الساعة؟ ومتى تكون؟ فجاءه الجواب من الله –عز وجل- في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ* فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ*وَخَسَفَ الْقَمَرُ*وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ*يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾[القيامة: 6- 10] لم يجب الله –عز وجل- في هذا السياق عن متى تكون الساعة؟ إنما أبان ما يكون فيها من عظيم الأحوال، وكبير الحوادث، وجليل الأهوال التي تطيش لها الألباب كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[الحج: 1- 2].
فذكر الله تعالى من أهوال يوم القيامة قال: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ*وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾[القيامة: 7- 8] انطمس نوره، هذا معنى قوله: ﴿ وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾، قال: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ أي اجتمع فيراهما الناس مقترنين ﴿يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ فجاء الجواب ﴿كَلَّا لا وَزَرَ﴾[القيامة: 11] ليس ثمة ملجأ ولا مكان يستتر به الإنسان ويفرُّ به من تلك الأهوال ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾[القيامة: 12] إلى الله –عز وجل- تصير الأمور، ويصير الخلق، فيجري حسابُهم، ينبَّه الإنسان يومئذ بما قدَّم وأخر، إلى آخر ما ذكره الله –عز وجل-: ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾[القيامة: 14- 15].
فذكر الله –عز وجل- من أحوال ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة: خسوف القمر، وذهاب َ ضوئه، وذهاب ضوء الشمس يشبه ذهاب ضوء القمر في أن الله تعالى يُذهب المنفعةَ العظمى التي يدركها البشر من هذه الآية، فالمنفعة العظمى التي يدركها البشر، الضياء الذي يرونه بنور الشمس وإشراقه، فإذا ذهب ذلك لم يجد الناس لهذه الآية منفعة، ولذلك قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾[القصص: 71] أي بهذا النور الذي تدركون به مصالحَكم أفلا تسمعون؟ أي يسمعون سمع اعتبار واتعاظ لمعرفة عظيم الآية التي تدركونها بهذه الشمس، فكسوف الشمس ذهاب ضوءه مثل ذهاب ضوء القمر، وقد ذكر الله –عز وجل- ذهاب ضوء القمر في جملة الآيات.
ولهذا إذا رأى الإنسان هذه الآية تذكَّر الآخرة من جهتين:
من جهة أنه يختلُّ نظام الكون بذهاب ضوء الشمس أو ذهاب ضوء القمر في الكسوف أو الخسوف، فاختلال نظام الكون على اختلاف المعتاد دليلٌ على عجز الإنسان، وعلى عدم دوام ما يكون في شأن الإنسان في هذه الدنيا.
أيضًا يتذكر الآخرة لهذا الذهاب لهذا الضوء الذي أخبر الله تعالى عنه في يوم القيامة، وأيضًا يتذكر اجتماع الشمس والقمر، وذلك أن الكسوف فيما يخبر به المختصون من أهل الفلك هو ناتج عن اجتماع الشمس والقمر في موضع واحد، فإن القمر يحول بين الشمس وضوئها وبين الأرض.
فينطمس نور الشمس وينحسر فينطمس كليًّا إذا كان كسوفًا كليًّا، أو ينحسر إذا كان جزئيًّا فيجتمع الشمس والقمر فيتذكر الإنسان قول الحق –جل وعلا-: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾[القيامة: 9].
إذًا الشمس والقمر وما يجريه الله تعالى فيهما من كسوف هما آيات تذكِّر الناس بعظيم قدر ربِّهم، وتذكِّرهم بالميعاد والمصير إلى الله –عز وجل- يوم القيامة، ولهذا لما كُسفت الشمس في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن تعامُله مع هذا الحدث تعاملًا عاديًّا، بل كان –صلى الله عليه وسلم- قد خرج إلى المسجد لما كسفت الشمس فزعًا يجر رداءه، أي فزع من هذا الحدث الكوني المُذكِّر بالآخرة يجر رداءه أي من شدة سرعته –صلى الله عليه وسلم- في خروجه إلى الصلاة وفَزَعه إلى ربِّه وقيامه بين يديه في صلاة الكسوف جرَّ رداءه يعني ما انتظر حتى يهيئ نفسه في الخروج في وضع الرداء، وهو ما يستر به البدن على كتفه ويتجهَّز -صلوات الله وسلامه عليه-.
بل خرج مُسرعًا –صلى الله عليه وسلم- فَزِعا يجرُّ رداءه بأبي هو وأمي –صلى الله عليه وسلم- وأَمَر المنادي ينادي: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، وهذا لجمع الناس على هذه العبادة وهذه الصلاة التي صلاها كما سيأتي بيانُه وإيضاحُه.
المقصود أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن في هذا الحدث جاريًا على المعتاد منه في خروجه إلى الصلاة بسكينة وطمأنينة وتهيؤٍ بل خرج فزعا يجرُّ رداءه -صلوات الله وسلامه عليه-، حتى جاء في بعض روايات الحديث يظنُّها الساعة يعني لما أُخبر بكسوف الشمس وذلك في السنة العاشرة من هجرته –صلى الله عليه وسلم- في اليوم التاسع والعشرين من شوال كيومنا هذا خرج –صلى الله عليه وسلم- فَزِعا يظنها الساعة؛ لأن كسوف الشمس واختلالَ نظام الكون مما يدل على حصول الساعة وقربها ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ*وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾[التكوير: 1- 3]، كل هذه الأحداث تكون يوم القيامة، وتجري في ذلك اليوم.
فلما رآها النبي –صلى الله عليه وسلم- ولم يكن قد رأى نظيرها -صلوات الله وسلامه عليه- خرج يجر رداءه -صلوات الله وسلامه عليه- وفي رواية يجرُّ ثوبه يظنها الساعة، فالمؤمن إذا رأى هذه الآيات انفعل قلبُه بما يكون من الوجل والتعظيم لله تعالى، والفزع إليه، والخوف مما يمكن أن يكون في هذه مُرافقًا لهذه الأحداث مما يجريه الله تعالى من الأَقضية والأقدار، فإن الله تعالى قال: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾[الإسراء: 59].
فالشمس والقمر لا ينخسفان إلا لغاية ومعنى، صحيح أن الخسوف والكسوف له أسباب طبيعية لكن هذه الأسباب الطبيعية لا تمنع أن يكون وراء هذه الأحداث الكونية أسبابٌ شرعية ينبغي أن تلاحظ وأن يُعتني بها، فليس كل ما كان له سبب مما يدركه الناس لا صلة له بما يتصل بالمعاني الشرعية، فالمرض له أسبابه وإذا مرض الإنسان كان عِبرة وعظة له، وتذكرة تزجره وتدعوه إلى المراجعة، وقد يخشى في المرض مما يكون سببا لهلاكه.
فكذلك الحوادث الكونية فإنه قد يرافقها ما يكون موجبًا للخوف، ولهذا قال –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ، لا يَنخسِفانِ لمَوتِ أحدٍ ولا لحَياتِه»[تقدم تخريجه]، وفي بعض الروايات:«يخوِّف اللهُ بهما عبادَه»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1048] وهذا معنى قوله: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾[الإسراء: 59].
فالتخويف هنا هو التذكير بعظيم قدرة الله، والتخويف من أن يغفل الإنسان عما من أجله خُلق، ويلتهي بما في الدنيا من مَلذَّات ومُتع، فلذلك ينبغي أن يعلم أن قوله –صلى الله عليه وسلم- يخوف الله بهما عباده لا يُلغي الأسباب الطبيعية التي يفهمها الناس، ويفسرون بها حدوثَ الكسوف والخسوف.
لكن يقين أن هذا الحدث الذي عَلِمت أسبابه الطبيعية له معنى شرعي أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾[الإسراء: 59]، وقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ، لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى يُخَوِّفُ بها عِبادَهُ».[سبق]
المقدم:- فضيلة الشيخ في النقطة الأخيرة لو تكرَّمت سؤال، العلة في انصراف الناس إلى العبادة ودعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- الناسَ للصلاة والعبادة والذكر وقت الكسوف هو لأن الله –تبارك وتعالى- يخوِّف بها عباده أليس كذلك؟
الشيخ:- نعم، قال:«ولكنهما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عبادَه» الحكمة الكبرى من الكسوف أيها الإخوة والأخوات هي تخويف العباد، ومعنى تخويف العباد أي لفت أنظارهم إلى وجوب الحذر من الانهماك والانغماس في الدنيا، من الخروج، تحذيرهم من الخروج عن الصراط المستقيم، حَمْلُهم على الطاعة وملاحظة التقصير، وبذل الوسع في التكميل، هذا معنى التخويف، التخويف هنا ليس أن يخاف الناس من مجهول أي يخافون لغير غاية وعِلَّة، بل يخافون ليقيموا شرع الله –عز وجل-.
وأما مما يخافون؟ يخافون مما يمكن أن يرافق هذه الآيات العظيمة من حوادث، من زلازل، كوارث، يرافقها ما يكون من أمور ينزلها الله تعالى، بلايا لا يدركها الناس ولا يبصرونها، أشبه ما يكون بالأمور التي تصيبهم وتنزل بهم وهم لا يشعرون بها، لا يحسونها، إنما هي مما يَفسَد بها معاشهم ويتعطل بها، وتخرب بها دنياهم دون أن يشعروا في ذلك بسبب مَلموسٍ محسوس من زلازل، أو بركان، أو صاعقة، أو ما أشبه ذلك.
فلله جنود السموات والأرض -جل في علاه-، فالله –عز وجل- يخوف العباد، ولهذا يخوف الله العباد في هذه الآيات حتى يرجعوا، وألا يتمادوا فينزل بهم ما يختلُّ بهم معاشهم وتُخرَّب به حياتهم كما قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الروم: 41]، هذا معنى التخويف في قوله –صلى الله عليه وسلم-«يخوِّف الله بهما عباده» هو تخويف العباد وزجرهم عن الخروج عن الصراط المستقيم، هو حثُّهم على طاعة الرحمن، يخوف الله عباده إذا عصَوه، يذكرهم إذا نَسوه، يأمرهم بما يُعيدهم إلى الصراط المستقيم من ترك المنهيات، والوقوع فيما يوقعهم في الهلاك في الدنيا والآخرة، فالله تعالى يخوِّف بهذه الآيات الظاهرة التي يدركها الصغير والكبير، العالِم والجاهل، الذكر والأنثى، بل حتى تدركه البهائم وينذرُهم بهذا الأمر أن الكون بأمره وأن انتظامَه بقدرته وأن اختلالَه إليه، يذكِّرهم بالآخرة بأن ما تشاهدون من كسوف القمر وخسوفه إنما هو تذكير بما يكون في المآل من وقائع تكون يوم القيامة.
هذه كلها معاني مُندرِجة في معنى قوله: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾[الإسراء: 59]، وفي قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «وَلَكِنَّهُما مِن آياتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بهِما عِبادَهُ».[سبق تخريجه]
وقد ذكر ابن القيم –رحمه الله- أن سبب مشروعية العبادة في هذه الأحوال المخوِّفة لخسوف القمر وكسوف الشمس هي لِدَفع ما يكون من البلايا المرافِقة لهذا الحدث الكوني، ولهذا يقول: "يدفع الله تعالى عن العباد في المواطن التي تُقام فيها الشعائر ويَفزع فيها الخلق إلى الله تعالى بالصلاة والدعاء وسائر أنواع القُربات والعبادات ما لا يتحقَّق في المناطق والأماكن التي لا يُعبد الله تعالى فيها، ولا يُفزع إليه ولا يُلجأ إليه، وهذا تنبيه مهمٌّ وبيان للحكمة والغاية من أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- الناس بالفزع إلى الصلاة، الفزع إلى الصدقة، الفزع إلى الدعاء، كل ذلك لأجل ما يكون مرافقًا لهذه الآيات من المخوِّفات والمكروهات التي تحيط بالناس.
المقدم:- فضيلة الشيخ استكمالًا لحديثنا حول الكسوف في الجزء الأخير من هذه الحلقة بودي أن نتحدث عن أحكام الكسوف، والتوجيهات النبوية التي جاءت في سنة المصطفي عليه الصلاة والسلام من الصلاة والذكر والدعاء وغيرها.
الشيخ:- هو أخي الكريم يبيِّن المشروعَ عند الكسوف عملُه وهديُه العملي -صلوات الله وسلامه عليه-، ويتبين ذلك بما جاء في الصحيحين من أن الشمس كُسفت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فخرج –صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد فَزِعا يجرُّ رداءه –صلى الله عليه وسلم- ثم أمر مناديًا ينادي: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة فاجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فصلى بهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صلاة على غير المعتاد صِفةً وطولًا، فقرأ –صلى الله عليه وسلم- في تلك الصلاة قراءة طويلة قريبًا من سورة البقرة، ثم أنه ركع –صلى الله عليه وسلم- ثم كان هذا الركوع طويلًا على نحو قيامه، ثم رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم عاد إلى القراءة ثانية فقرأ الفاتحة، وقرأ سورة طويلة هي أدنى من التي قبلها، ثم كبَّر –صلى الله عليه وسلم- فركع ركوعًا طويلًا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد –صلى الله عليه وسلم- سجدتين ثم قام –صلى الله عليه وسلم- ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك حتى استكمل- صلوات الله وسلامه عليه- في تلك الصلاة أربع ركعات في أربع سجدات.[عند النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها بيان لهيئة هذه الصلا:ح1497، وأحمد في مسنده:ح25248. وسنده صحيح لغيره]
وهذه صلاة على خلاف المعتاد طولًا وصفةً، فإن النبي أطال فيها القيام والقراءة والركوع والسجود طولًا خارجًا عن المعتاد، وزاد فيها ركوعا بكل ركعة من الركعات، فصار في كل ركعة ركوعان، وجاء في بعض الروايات أكثر من ذلك، لكن الرواية المحفوظة أنه صلى –صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات وأربعَ سجدات في تلك الصلاة، وقُدِّرت صلاتُه –صلى الله عليه وسلم- بأربع ساعات، انجلت الشمس قبل أن ينصرف رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، يعني امتدَّت الصلاة طول مُدة الكسوف، صلى بهم طولَ مدة الكسوف -صلوات الله وسلامه عليه-.
حتى عادت الشمس على هيأتها، ثم قام –صلى الله عليه وسلم- ووقف بين أصحابه فخطب خطبة بليغةً ذكَّرهم فيها بالله، وأخبرهم بسرِّ هذه الآية التي شاهدوها فقال: «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ، لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِه» ثم قال بعد أن بيَّن الحكمة من هذا الحَدَث، الحكمةَ الإلهية من هذا الحدث، وأن لا عَلاقة لها بحياة الناس من جهة الموت والحياة، وإنما لأجل أن يعتَبِر الناس ويتعظ، قال في رواية: «ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى يُخَوِّفُ بها عِبادَهُ»[سبقت]، قال: «فإذا رَأَيْتُمُوهُما فافْزَعُوا إلى الصَّلاةِ».[تقدم تخريجه]
كما فعل حيث خرج فزعا وقام في محرابه في مقام صلاته –صلى الله عليه وسلم- وصلى تلك الصلاة، وفي بعض روايات الحديث قال –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الشَّمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللَّهِ لا يخسِفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِهِ فإذا رأيتُم ذلكَ فادعوااللهَ وكبِّرُوا، وتصَدَّقُوا»أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بأمور ثلاثة؛ الدعاء وهذا لا يعجز عنه أحد صغير ولا كبير، ذكر ولا أنثى، رجل ولا امرأة، حاضر ولا بادٍ «فادعوا الله» أي أدعوا الله بما يكشف به عنكم هذا الحدث الكوني وما يمكن أن يرافقه مما تخشونه وتخافونه من الأضرار، «وكبِّروا» الله أكبر، وهو ذكره -جل في علاه-، وتعظيمه –سبحانه وبحمده- فإن التكبير يشرع في مواطن الاندهاش، وهذا من مواطن الدهشة ،إذ إن الشمس تحتجب، أو أن القمر يغيب ضوؤه، فيكون ذلك على خلاف المعتاد.
وقد حدثني بعض الناس الذين أدركوا حياة الناس قبل وجود وسائل الإنارة والإضاءة، وأيضًا قرب الناس إلى الخير والصلاح، يقول: كُسفت الشمس في يوم من الأيام حتى رأينا النجوم، فخرج الناس إلى المساجد فَزِعين يبكون، وهذا مما يذكَّر به الناس ويوعظون حتى يرجعوا إلى الله –عز وجل-، ويكفوا عن الخطأ والغفلة والنسيان،«فادعوا الله، وكبِّروا، وتصدقوا» أي أحسنوا إلى الناس بكل أوجه الصدقة المشروعة؛ لأن الإحسان إلى الناس يجلِب إحسانَ الله، يجلب رحمته، ﴿إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾[الأعراف:56]
فشُرع الدعاء والتكبير والصدقة، ثم جاء في حديث آخر وهو حديث أبي موسي الأشعري أيضًا في الصحيحين قال: «فافزَعوا إلى ذِكرِ اللهِ و دُعائِه واستغفارِه»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1059، ومسلم:912/24] وهذا يبين معنى من معاني الدعاء، أنه الاستغفار الذي تُكشف به المكروهات، وجاء في حديث آخر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر بالعَتَاقة[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1054]، وهو وجه من أوجه الإحسان والصدقة التي أمر بها –صلى الله عليه وسلم- وهو عِتق الرقاب، هذا إضافة إلى ما شرع من الصلاة التي فعلها –صلى الله عليه وسلم-، فإنه –صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة على النحو المتقدم ِذِكره.
وصلاة الكسوف متفق بين أهل العلم على مشروعيتها[ حكى الإجمع على ذلك ابن قدامة. انظر المغني:2/312، وقال ابن تيمية: فإن الصلاة عن الكسوف متفق عليها بين المسلمين. مجمع الفتاوى:24/258 ]وقد قال بعض أهل العلم بوجوبها، حتى حكي الإجماع على أنها مستحبة، وحكي بعضهم الوجوب، والصواب أنها مستحبة ومؤكَّدة[قال النووي: صلاة كسوف الشمس والقمر سنة مؤكدة بالإجماع. انظر المجموع:5/44]، وهذه الصلاة يسنُّ أن تُصلى في المساجد إذا تيسر ذلك، ويصليها الناس في بيوتهم يصلونها فُرادى وجماعات، ويقرءون فيها على نحو ما يسَّر الله لهم من القراءة الطويلة، فإذا لم يتمكنوا من طول الصلاة قصَّروها على أقرب ما يتيسَّر لهم، وإن كانوا لا يتقنون الصلاة على نحوِ ما صلى –صلى الله عليه وسلم- من صلاة ركعتين وقراءتين في كل ركعة، فلو اقتصروا على ركعة واحدة، فالركعة الثانية في صلاة الكسوف سُنة في قول جماهير العلماء.
هذا ما يتعلق بالأعمال المشروعية في زمن الكسوف، رأس ذلك الذي فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- الصلاة والتذكير بالخطبة، ثم بعد ذلك الأعمال الصالحة الذكر، التكبير، والاستغفار، والدعاء، وكذلك الصدقة، وكذلك العتق.
هذه مجموع الأعمال التي وردت بها السنة فيما يتصل بما يُشرع عند حدوث هذه الحادثة عندما يفرغ الناس من الصلاة قبل انجلاء الكسوف، فإنه يشرع لهم من الذكر والدعاء والصدقة والإحسان ما يدفعون به عنهم ما يكرهون من هذا الحدث العظيم، ولو كرروا الصلاة بمعنى أنهم اشتغلوا بالصلاة فرادى، كل يصلي ما شاء كان ذلك من العمل الصالح التي يتحقق به ما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- به.
فنسأل الله أن يدفع عنا وعنكم كلَّ سوء وبلاء، وأن يرزقنا العِبرة والاتعاظ والافتقار فيما نشاهده من آيات الله وشواهد قدرته وصنعه –سبحانه وبحمده-.
المقدم:-شكر الله لك، وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ على ما أجدت به وأفدت في هذه الحلقة، شكر الله لك.
الشيخ:-الحمد لله، وأشكر الله تعالى على ما يسَّر، وأساله -جل في علاه- المزيد من فضله، ولكم الشكر، وأسأله- جل في علاه- أن يحفظ بلادنا وقيادتنا وولاةَ أمرنا من كل سوء وشرٍّ، وأن يوفِّقهم إلى كل خير وبرٍّ، وأن يحفظ البلاد من كيد الكائدين ومكرهم، وأن يجمع كلمتنا على الحق والهدى، وأن يرزقنا الاستقامة في السرِّ والعلن، وأن يرفع الوباء عن بلادنا وعن سائر البلدان، وأن يعيذنا من نزغات الشيطان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.555