×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / دروس منوعة / رسالة ذم قسوة القلب / الدرس 2 من شرح رسالة ذم قسوة القلب لابن رجب الحنبلي

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:2104

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تَعَالىٰ: (أما ذم القسوة فقد قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾.([1])

ثم بيّن وجه كونها أشد قسوة بقوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ﴾([2]).

وقال الله تَعَالىٰ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾([3]).

وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)﴾([4])، فوصف أهل الكتاب بالقسوة ونهانا عن التشبه بهم.

قال بعض السلف: لا يكون أشد قسوة من صاحب الكتاب إذا قسا.

وفي الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإنّ أبعد الناس من الله القلب القاسي))([5]).

وفي مسند البزار عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا)) ([6]).

وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من طريق أبي داود النخعي الكذاب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس.

وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، ذكره عبد الله بن أحمد في الزهد. وقال حذيفة المرعشي: ما أصيب أحد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه، رواه أبو نعيم).

هٰذا المقطع من كلام المؤلف رحمه  الله ذكر فيه شيئاً من النصوص الدالة على ذم قسوة القلب.

وقسوة القلب من الآفات التي تصيبه وهي تنبئ عن موته؛ هي تخبر عن موته، فالقلب القاسي قلب ميت، والقلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام ذكرها أهل العلم رحمهم الله باستقراء النصوص:

قلب سليم: وهو أكملها، وأطهرها، وأنقاها، وهو الذي يسعد المرء إذا قدم على الله تعالى به، قال الله جلّ وعلا: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾([7])، وسلامة القلب تكون:

·       بسلامته من الشرك.

·       وبسلامته من المعصية.

·       وبسلامته من البدعة.

هٰذا هو أكمل القلوب، وهو قلب ليِّن خاشع مخبت، يقول الله تعالى في بيان حاله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾([8]). الوجل شعور يعتري القلب يحمله على الاتعاظ والاعتبار والانزجار عما يغضب الجبار سبحانه و بحمده.

هذا القسم الأول، نسأل الله أن يمن علينا بقلب سليم.

القلب الميت: وهو القلب القاسي، وأنت انظر إلى الميت كيف يصلب ويقسو إذا مات؟ فكذلك القلب إذا مات قسا نعوذ بالله، وقسوته هي في الحقيقة عدم انفعاله بذكر الله تعالى، وعدم خشيته، وخلوه من الخير، فالقلب القاسي قلب خالٍ من الخير.

وصفه خير الأنام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ في حديث([9]) حذيفة في الفتن التي تعرض على القلوب، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حتى تعود على قلبين: على أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة))، وهٰذا وصفه بوصفين، وهذا هو القلب السليم، ((على أبيض)) من جهة النضارة، و((مثل الصفا)) من حيث القوة والصلابة، وليست هذه هي القسوة المذمومة، إنما هذا كما قال الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى: اجعل قلبك كالزجاجة، ترى من ورائها ما تحذر، وتتقي بها ما تخاف، ولا تجعله كالإسفنجة، كل ما جاءه من الشر يشربه، حتى يمتلئ بالشرور والآثام. فهذا الحديث بيان للقسم الأول، هٰذا القسم الأول من القلوب.

ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان القسم الثاني من أقسام القلوب : ((أسود مربادّاً كالكوز مجخياً))، أي كالكوب مقلوباً، وانقلاب الكوب دليل على خلوه؛ لأنّ الكوب لا يكون مقلوباً إلا إذا كان خالياً، حتى إذا كان فيه شيء خلا، فهذا قلب خال عن الخير، ولما كان مقلوباً ما قيمة الكوب إذا كان مقلوباً، هل له قيمة؟ وهل ينتفع به إذا كان مقلوباً ؟! كذلك القلب إذا كان مقلوباً فهو كالكوب، لا يمكن أن ينتفع به، لا يجمع خيراً، ولا يبقى فيه بر، فلا ينتفع به بوجه من الوجوه.

وقد ذكر الله تعالى قسوة القلب في كلامه في عدة مواضع، ذكرها المؤلف رحمه الله، من ذلك قال: (قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) وقد ذكرنا أن قوله: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةًهنا للتنويع، وقيل: للترقي، بمعنى بل أشد قسوة، وهذا للترقي حيث قال: إنها كالحجارة، ثم إنه بين أنها أشد من الحجارة فقال: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.

قال رحمه الله: (ثم بيّن وجه كونها أشد قسوة بقوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ)، وهذا دليل على أن الحجارة يمكن أن ينتفع منها، بخلاف القلب القاسي فإنه لا يحصل منه نفع.

(﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ﴾([10])). وهذا فيه بيان عظيم تأثير الذكر على القلب؛ تأثير الطاعة والعبادة على القلب، أن الحجارة على عظمها وقسوتها وكبير خلقها، إلا أن الله جلّ وعلا ذكر أن منها ما يهبط من خشية الله، وقد قال الله تعالى في بيان عظيم تأثير الذكر والقرآن على وجه الخصوص على الأشياء: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾([11]). انظر كيف ذكر الله تعالى وصفين، لتأثير القرآن على الجبال الصماء: (الخشوع)، وهذا أمر قد لا يبدو ظاهراً، لكن لما قال: ﴿مُّتَصَدِّعًا﴾، التصدع يُرى بالعين أو لا يرى؟ يرى، فدل ذلك على عظيم تأثير القرآن.

ومن دلائل تأثير القرآن، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾([12]) الجواب: لكان هذا القرآن، فهذا يبين عظيم قسوة القلب الذي يرد عليه القرآن ولا يؤثر فيه، فهو أشد قسوة من الحجارة التي أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لكانت على هذه الصفة من التأثر الظاهر والباطن؛ لأنّ الخشوع أمر باطن، والتصدع أمر ظاهر، فكيف بالقلب القاسي الذي خفي فيه الأثر في ظاهره، وفي باطنه.

قال: (وقال الله تَعَالىٰ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ) يعني ألم يأت الوقت،  (﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾([13])) فذكر الله تعالى حالين للقلوب:

·       حال الخشوع، وهي الحال التي ينبغي للمؤمن أن يسعى لإدراكها.

·       وحال القسوة، وهي التي وصف الله تعالى بها أهل الكتاب الذين طال عليهم الأمد.

ومعنى (طال عليهم الأمد) أي إنهم لم يتأثروا مع عظيم تكرار القرآن على قلوبهم، وليس هذا اعتذاراً لهم، فقوله: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ ليس عذراً، إنما هو بيان أنه مع طول ترداد الكتاب عليهم، وسماعهم له، وأخذهم له، وتحملهم له، لم يتأثروا به، وهذا دليل على فساد قلوبهم، وعلى شدة قسوتها، ولذلك قال الله تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.

ثم قال: (وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾([14])). وهذا فيه الوعيد لمن قسا قلبه، وأن من قسا قلبه مهدد بالويل، وهي كلمة عقوبة، قيل: واد في جهنم، وقيل: كلمة عقوبة وعذاب في الدنيا وفي الآخرة، وهذا هو الصحيح؛ أنها كلمة عذاب تكون لمن أضيفت إليه، أو ذكرت له في الدنيا والآخرة.

قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ﴿مِّن﴾ قيل في تفسيرها: إنها بمعنى (عن)؛ فويل للقاسية قلوبهم عن ذكر الله،  أي التي تجانب ذكر الله، القلوب الخالية من ذكر الله، هي قلوب قاسية، فذكر العقوبة وذكر سببها وهو عدم ذكر الله تعالى.

وقيل: إن معنى قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أن ذكر الله تعالى قد يكون سبباً لقسوة القلب، لكنه في القلوب الرديئة، القلوب التي لا تُقبل على هذا الكتاب تعظيماً واهتداءً، فإنه من أقبل على القرآن طالباً الهدى، لا بد أن يهديه الله جلّ وعلا، فالله تعالى لا يخلف الميعاد: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾([15])، لكن الذي يرد القرآن يتتبع فيه الزلات، أو الموهوم الذي في ظنه وفي رأيه الفاسد، فإنه يحال بينه وبينها، و لذلك قال الله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾([16])، وهذا القفل عن فهمه وتدبره والاتعاظ به والتأثر به والأخذ بما فيه من الحكم والأحكام.

قال رحمه الله تعالى: (فوصف أهل الكتاب بالقسوة ونهانا عن التشبه بهم). في قوله تعالى: ﴿وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ([17]). (قال بعض السلف: لا يكون أشد قسوة من صاحب الكتاب) يعني صاحب العلم (إذا قسا) نعوذ بالله من الخسران.

العلم حقيقته أنه نور يدخل القلوب، وينير الأفئدة والصدور، ولذلك قال الله تعالى في أثر القرآن على القلوب: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ﴾ من؟ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾([18])، القرآن قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيح من حديث عمر: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين))،([19]) من الناس من يأخذ بالقرآن ويكون القرآن سبباً لسفوله ونزوله، وهم الذين أشار إليهم ما في الصحيحين من حديث ابن مالك الأشعري: ((القرآن حجة لك أو عليك))([20])، فإن من حجة القرآن على العبد أن يأخذ به ولا يعمل به، ولا يتأثر به.

فقوله: (لا يكون أشد قسوة من صاحب الكتاب إذا قسا) لماذا؟ لأنه قد أخذ الهداية، وتيسرت له أسباب سلوك الصراط المستقيم، ثم أعرض عنه، ولذلك أقبح مثل ذكره الله تعالى في كتابه، إنما هو في حق الذين أوتوا العلم ولم يعملوا به، قال الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾([21])، هذا مثل قبيح، وأقبح منه المثل الذي في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾، يعني لا يتأثر، والآيات مقتضاها أن تلين بها القلوب، وتخضع، وتخشع وتُقبل على الله تعالى، لكن هٰذا انسلخ منها؛ أي إنه لم ينتفع منها بالكلية، كما لو تسلخ الجلد من الشاة حيث لا يبقى منه شيء فيها، يقول الله تعالى في حال هٰذا: ﴿فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)﴾([22])، هذا مثل يقال لإنسان عنده كتاب، عنده بصيرة، عنده هداية، لكنه لم يعمل بها، والله تعالى قد مايز بين من أتاه النور فعمي عنه، وبين من لم يؤتَ النور من الأصل، لا شك أن من أوتي النور وأبصر ألَمه بفقد النور أعظم و والحجة عليه أكبر، ولذلك تجد أن الإنسان البصير الذي يمكث سنوات بصيراً ثم يكف، يعاني من العمى وعدم البصر أعظم من ذاك الذي ولد أعمى، فالذي ولد أعمى يمشي وتعود هكذا، لكن الذي يكون بصيراً ثم يفقد البصر تصيبه حاله من الاختلال في حياته وفي سيره، و في فقده لشيء كان يعرفه ما لا يُحتمل، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى: ((من ابتليته بإحدى حبيبتيه _ إحدى عينيه _ فصبر فله الجنة))،([23]) لا يمكن أن يكون هذا الأمر سهلاً، وإنما هذا الأمر لا يحتمل في الغالب إلا لمن روّض نفسه على الصبر.

القلوب -يا إخواني- تحتاج إلى أن تليَّن بالقرآن، نحن طلبة علم نقرأ كلام الله تعالى، ونسمع كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ يجب علينا أن ننظر في أثر هذا في قلوبنا، ننظر نبحث عن أثر قول الله وقول رسوله، يا أخي إذا كان الله تعالى يقول في الحجر: ﴿لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا﴾([24])، أين هذا الخشوع والتصدع في قلبك وأنت تتلو كلام الله وتقرأ كتابه في ليل وفي نهار، وتردّد الآيات البينات وتسمع حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وتقرأ سيرته، وتسمع أخبار الصالحين الأبرار؟ ما فيه شك، إذا لم يؤثر فهناك خلل لا بد أن تبحث عنه، لا بد أن تتلمّس، ما هو العائق المانع من وجود الأثر في قلبك؟ وإلا فإن العلم إذا لم يكن حجة لك فهو حجة عليك، فإذا لم تستفد منه خيراً، فعلامَ تشقي نفسك، وتحمل حجج الله تعالى على ظهرك؟ ينبغي لنا أن ننظر إلى هٰذا الأمر بهذا الاعتبار، وهذا الوزن حتى ننتفع مما نتعلم.

يقول: (وفي الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة))). وهذا المقصود به الكلام الذي لا ثمرة فيه، وقد جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضابطاً وقانوناً يضبط به الإنسان لسانه، ويحكم به كلامه، وهو ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))([25]).

الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: إما أن يكون خيراً، فتكلم، واجتهد في الاستكثار منه، فإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً، يعلو بها ويرفعه الله تَعَالىٰ بها في الجنات ما لا يحتسب.

الثاني: كلام قبيح، صن لسانك عنه، واتقه، واحذره، فإنه قد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)).([26])

الثالث: الذي ليس خيراً ولا شرّاً، وهذا ينبغي لك أن تحفظ لسانك عنه؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)). فما أمرنا بالكلام إلا في الخير، وأمرنا بالصمت عن المحرم، وعن الذي لا يوصف بأنه خير.

ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب)). ولو لم يكن من سوءات الكلام الذي ليس بشر وليس بخير إلا أنه يثمر القسوة، لكان كافياً في البعد عنه.

((وإنّ أبعد الناس من الله القلب القاسي)) وذلك أن القلب القاسي لا ينفعل بذكر الله تعالى، ولا يتأثر بآياته، فتمر عليه الآيات سماعاًَ فلا تؤثر فيه، وتمر به الآيات مرأىً ونظراً فلا تؤثر فيه، وتمر به العبر في نفسه فلا تؤثر فيه، ومثل هذا حياته لا قيمة لها؛ لأنه قد فقد لذة الاتصال بالله تعالى، الاتصال بالله تَعَالىٰ نعيم، ولذلك كانت لذة الإيمان كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تدور على تحقيق الصلة بالله تعالى محبة وودّاً، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) -لو تأملت هذه الثلاثة الأمور كلها لوجدت أنها تدور على محبة الله تعالى- ((: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله)) فالخصلة الثانية تعود إلى الخصلة الأولى وهي حب الله تعالى وحب رسوله، والثالثة: ((أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار))([27]). وهذا يعود أيضاً إلى عظيم محبة الله تعالى، لا يمكن أن يقدم أحد الدخول في النار على شيء إلا إذا كان ما يحمله على الدخول في النار أمراً يحبه الله تعالى،  ((أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)).

قال: (وفي مسند البزار عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا))). وهذه كلها من الشقاء، ومنها قسوة القلب، والحقيقة أن قسوة القلب هي المصدر لجمود العين، فمن قسا قلبه لم يلذ لذكر الله تعالى، ولم تدمع عينه، ومن قسا قلبه طال تعلقه بالدنيا وأمله، من قسا قلبه حرص على الدنيا وتعلق بها.

وهذه الأحاديث في أسانيدها بعض المقال والضعف، لكن في هذا المقام جرى ابن رجب رحمه الله على التجوز في الاستدلال بمثل هٰذه الأحاديث التي لا بأس بما فيها من المعاني الصحيحة، وإن كانت أسانيدها ليست بمستقيمة.

قال: (وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من طريق أبي داود النخعي الكذاب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس) ابن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو قد ذكره في المسند، وأنه قد ذكره ابن الجوزي من طريق أخرى.

قال رحمه الله: (وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب) قال رحمه الله: (ذكره عبد الله بن أحمد في الزهد) فقسوة القلب هي فقدان الخير كما تقدم.

(وقال حذيفة المرعشي: ما أصيب أحد بمصيبة أعظم من قسوة قلبه، رواه أبو نعيم) ولكن يا إخواني المشكلة في قسوة القلب أن من مات قلبه وقسا، لا يشعر بعظيم خسارته، ولكنه لا يتنبه إلى ذلك إلا بعد فقد الأمر وذهاب إمكان الاستدراك، وذلك بما يزيّنه الشيطان ويمليه له من الاستمرار في هذه الطريق المنحرفة، ويطلب لشفاء ما في قلبه من قسوة؛ لأن القلب إذا بعد عن الله ليس قلباً مطمئنّاً، ولا مرتاحاً، لأنه لا طمأنينة ولا ارتياح إلا بذكر الله تعالى ومحبته والانجذاب إليه: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾([28])، من لم يكن ذاكراً لله تعالى يقسو قلبه، هذا مظهر ونتيجة، لكن هذه القسوة هل هي مُتَحَمَّلَة للناس؟ يختلف الناس في تحملها، فمن الناس من يشتغل بالمسكنات، فتجده يطلب متع الدنيا ومرحها ولهوها والمعاصي لينسى هذه القسوة، وليغطي هذه القسوة التي علت قلبه، ويعينه الشيطان فينسيه ذكر الله، كما قال الله جلّ وعلا: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)﴾([29])، لكنه في شقاء، ولذلك قال الحسن البصري في بيان سوء حال هؤلاء، وحسن حال من يقابلهم: وإن هملجت بهم البراذين،([30]) وفعلوا ما فعلوا يأبى الله تعالى إلا أن يذل من عصاه. والذل هو ما يبدو في الوجه من أثر ما في القلب من السوء، وأما السعادة فقد قال رحمه الله تعالى: وإنا لفي سعادة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، يكفي في ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)﴾([31]) وهذا في دنياهم، وفي برزخهم، وفي أخراهم. ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)﴾([32])، وهذا في دنياهم، وفي برزخهم، وفي أخراهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الأبرار.

 


([1]) سورة: البقرة الآية (74).

([2]) سورة: البقرة الآية (74).

([3]) سورة: الحديد الآية (16).

([4]) سورة: الزمر الآية (22).

([5]) الترمذي: كتاب الزهد، باب (61)، حديث رقم (2411)، قال الترمذي: هٰذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، ضعفه الشيخ الألباني، انظر الضعيفة (920).

([6]) أخرجه البزار كما في كشف الأستار برقم (3230)، ورواه ابن عدي في الكامل (3/248) وقال عن هٰذا الحديث وغيره: هذان الحديثان وضعهما سليمان بن عمرو على إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة.

([7]) سورة: الشعراء الآيتان (88-89).

([8]) سورة: الأنفال الآية (2).

([9]) مسلم: كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، حديث رقم (144).

([10]) سورة: البقرة الآية (74).

([11]) سورة: الحشر الآية (21).

([12]) سورة: الرعد الآية (31).

([13]) سورة: الحديد الآية (16).

([14]) سورة: الزمر الآية (22).

([15]) سورة: العنكبوت الآية (69).

([16]) سورة: محمد الآية (24).

([17]) سورة: الحديد الآية (16).

([18]) سورة: العنكبوت الآية (49).

([19]) مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه..، حديث رقم (817).

([20]) مسلم: كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، حديث رقم (223).

([21]) سورة: الجمعة الآية (5).

([22]) سورة: الأعراف الآية (175).

([23]) سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في ذهاب البصر، حديث رقم (2401). وقال: حديث حسن صحيح، قال الألباني: صحيح.

([24]) سورة: الحشر الآية (21).

([25]) البخاري: كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، حديث رقم (6018).     مسلم: كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت..، حديث رقم (47).

([26]) البخاري: كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، حديث رقم (6477).     مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، حديث رقم (2988).

([27]) البخاري: كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، حديث رقم (16).مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث رقم (43).

([28]) سورة: الرعد الآية (28).

([29]) سورة: المجادلة الآية (19).

([30]) قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين.

([31]) سورة: الانفطار الآية (13).

([32]) سورة: الانفطار الآية (14).

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات93793 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89655 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف