بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد،
فقال المؤلف رحمه الله تعالى:
(وأما أسباب القسوة فكثيرة:
منها: كثرة الكلام بغير ذكر الله، كما في حديث ابن عمر السابق.
ومنها: نقض العهد مع الله تعالى، قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾([1]).
قال ابن عقيل يوماً في وعظه : يا من يجد من قلبه قسوة احذر أن تكون قد نقضت عهداً، فإن الله يقول: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾.
ومنها: كثرة الضحك، ففي الترمذي عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب))،([2]) وقد رُوي عن الحسن قوله.
وخرَّج ابنُ ماجه من طريق أبي رجاء الْجَزَري، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كثرة الضحك تميت القلب)).([3])
ومن طريق ابراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.([4])
ومنها: كثرة الأكل، ولا سيما إن كانت من الشبهات أو الحرام؛ قال بشر بن الحارث: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام، و كثرة الأكل. ذكره أبو نعيم.
وذكر المروذي في كتاب الورع قال: قلت لأبي عبد الله – يعني أحمد بن حنبل-: يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع؟ قال: ما أُرى. ومنها: كثرة الذنوب، قال تعالى: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) ﴾([5])، وفي المسند والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾))، قال الترمذي: صحيح.([6]) قال بعض السلف: البدن إذا عري رقَّ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته. وفي هذا المعنى يقول ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب*** ويورثك الذلَّ إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين الذي بعثه الله تَعَالىٰ بإصلاح القلوب وإقامتها على طاعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد،
فالمؤلف رحمه الله بعد أن فرغ من ذكر ما يتعلق بقسوة القلب التي هي غلظه، ويبسه، وصلابته، وشدته، وخلوّه من المعارف القلبية، من المحبة والتعظيم والإنابة والخشية، وانخلاعه من رسوم العبودية، انتقل إلى بيان أسباب قسوة القلب، وما ذكره رحمه الله في هذه الرّسالة إنما هو شيء يسير من الأسباب التي تُفضي بالقلب إلى القسوة والغلظ واليبس، فقد ذكر خمسة أسباب من أسباب قسوة القلب بدأها رحمه الله بـ(كثرة الكلام)، وبه يتبين لك عظيم تأثير اللسان على عمل الإنسان، فاللسان له من الأثر في مسيرة الإنسان إلى ربه جلّ وعلا ما ينبغي للمؤمن أن يحكم لسانه، وأن يكون رقيباً على لسانه، يقول ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ما شيء في الأرض أحق بطول سجن من اللسان. وهذا يدل على خطورة اللسان، ولتدرك ذلك انظر إلى حديث معاذ الذي سأل فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبواب البر وصنوف الصلاح وعن عمل يقربه إلى الجنة ويبعده عن النار، فذكر له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفناناً وألواناً من العمل الصالح، ثم بعد أن فرغ من ذلك كله قال: ((ألا أدلك على ملاك ذلك؟)) قال : بلى يا رسول الله. ملاك ذلك يعني الذي تملك به كل هذه الخيرات، وتدرك به كل هذه الأبواب الصالحة، من قيام الليل، وصدقة وجهاد وتوحيد، وسائر ما ذكره الحديث من أبواب البر، ملاك ذلك يعني التحكم بالنفس الذي يعينك على إدراك تلك الفضائل، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((كُفَّ عليك هٰذا)) وأشار إلى لسان نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكف معناه: الإيقاف والحبس.
ومن الألفاظ التي تدل على وجوب الحزم في الوقوف أمام طغيان هذا اللسان، قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كف عليك هذا)). فالكف هو التوقيف الذي فيه من القوة والحزم ما يمنع المكفوف من المضي، ولذلك قيل: كُفَّت يده يعني رُفعت وأوقفت عن التحكم في ما كان فيه متحكماً أو عاملاً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((كف عليك هذا))، ثم إن معاذاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تعجب واستغرب من هذا الأمر فقال: أو إنا مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ)) ومعاذ ليس من أطراف الناس، إنه من فقهاء الصحابة حتى جاء فيه الحديث -وإن كان فيه ضعف-: ((إنه يأتي يوم القيامة وقد تقدم العلماء برتوة))،([7]) أو ((نبذة))، وذلك أنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جمع من العلم والمعرفة والفقه ما فاق به غيره، مع ذلك يقول: أو إنا مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم ، -وفي رواية: ((على مناخرهم))- إلا حصائد ألسنتهم))([8])، أي نتاج ما تكلموا به.
فاللسان شأنه خطير وكبير، والنصوص في هذا كثيرة، مستفيضة، فبه يحصل الإيمان والتقوى، وبه يحصل الكفر والبهتان، به يحصل الخير، وبه يحصل الشر، ولذلك لما كان اللسان مفتاحاً للجنة، كما أنه مفتاح للنار، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))، وهذه قاعدة وقانون يحكم به الإنسان ما يصدر عنه من الكلام.
فكثرة الكلام هنا المقصود بها: الكلام المباح، وليس كثرة الكلام مطلقاً، إنما المقصود بالكثرة هنا كثرة الكلام في المباحات.
وأما كثرة الكلام في الطاعات فهذا مما أمر به، وهو مما يلين القلب، ويصلحه.
وأما كثرة الكلام بالمعاصي فهو داخل في السبب الأخير الذي ذكره المؤلف في قوله: (كثرة الذنوب).
إنما مقصوده بقوله رحمه الله: كثرة الكلام بغير ذكر الله، أي في المباحات، وإنك لتعجب من بعض الناس تجلس ، فمنذ جلوسك إلى انصرافك وهو لا يكف عن كلام وحديث، لكن إذا أردت أن تخرج من هذا الكلام بفائدة، بخير لا تجد فيه إلا ما لا يذكر من ذلك، وقد لا تجد شيئاً، وهذا لا شك أنه قصور بالعبد، ومواقعة للشر؛ لأن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أعطى في هذا تصوراً لما ينتهي إليه ويؤول إليه كثرة الكلام: من كثر كلامه كثر سقطه. وإذا كثر سقطك كثر ذنبك وإثمك عند رب العالمين.
فينبغي للمؤمن أن يحفظ لسانه، وأن يكفه ما استطاع، فالصمت حكمة، وهو رحمة إذا كان في محله، فينبغي للمؤمن أن يحرص على ذلك، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله، كما في حديث ابن عمر السابق: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب)). وهذا يدل على تأثير اللسان على القلب، واللسان يؤثر على القلب تأثيراً بالغاً، فكم من كلمة اسودّ بها القلب، وكم من كلمة أشرق بها القلب.
فينبغي للمؤمن أن يكون حريصاً على لسانه، وكلامه، وأن لا يكثر الكلام إلا فيما يحبه الله تعالى ويرضاه، وأما ما عدا ذلك فليقتصر على ما تدعو إليه الحاجة.
وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
هل معنى هذا أنك لا تتكلم إلا في حديث وفقه وتفسير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتسبيح وتهليل، وما إلى ذلك من الأذكار والعمل الصالح؟
الجواب: لا، لأن الخير نوعان، حتى لا نصل إلى نوع من الغلو، ولا أظن أننا نصل إليه، لكن هذا من باب تكميل الفائدة والفهم للمقصود أن الخير نوعان:
خيرٌ في ذاته، وهذا مأمور به أمراً أوليّاً، كقراءة القرآن، قراءة الحديث، الأمر بالمعروف، تعليم العلوم الشرعية، الذكر، هذا خير يدخل في قوله: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)). وهذا من النوع الذي الخير في ذاته، في ذات الكلام، في جنس الكلام.
أما النوع الثاني من الخير فهو ما كان فيه الخير في نتيجته، وأثره، لا في ذاته، إنما في أثره وثمرته، وذلك في الكلام الذي تدفع به عن أخيك سآمة، أو تدخل به عليه سروراً، أو تلاطفه به، فيدخل في عموم ما أمر الله تَعَالىٰ به في قوله جلّ وعلا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾([9])، فإذا قلت: كيف حالك؟ صبحك الله بالخير، وما أشبه ذلك من الكلام الذي هو من التحايا، قد تقول: يكفي السلام عليكم، وأديت الواجب، ثم ما زاد فلا، نقول: الخير ليس فقط فيما أمرت به، بل حتى فيما يؤدي إلى الخير من إدخال السرور، والملاطفة، وإزالة ما قد يعلق في النفوس من الشر أو ما إلى ذلك، فهذا من الخير الذي يترتب على الكلام، فيدخل في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
إذاً قوله رحمه الله: (منها كثرة الكلام بغير ذكر الله) أي الكلام المباح، فينبغي للإنسان أن يحفظ لسانه عن ذلك.
قال: (ومنها: نقض العهد مع الله تعالى) نقض العهد هو: إبطال ما سبق إبرامه وعقده، فإذا نقضت شيئاً فقد حللته بعد توثيقه وربطه، فنقض العهد هو: إخلاف ما عاهدت الله تعالى عليه.
ونقض العهد نوعان:
· نوع مقصود بكلام المؤلف.
· ونوع لا يدخل في كلام المؤلف دخولاً مباشراً.
كل مخالفة، ومعصية يعصيها الإنسان ربه بعد علمه بأنها معصية، هذا من نقض العهد، ولذلك نحن نقول في سيد الاستغفار، حديث شداد بن أوس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت))([10]) يعني فيما أستطيع، هذا العهد والوعد العام الذي يشمل كل أوامر الشريعة، كل ما أمرك الله به وكل ما نهاك عنه فهو عهد وميثاق أخذه الله تَعَالىٰ عليك، أن تمتثل أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلتزم شرعه، فهذا العهد ليس المقصود في هذا الكلام، إنما المقصود هنا العهد الخاص، الذي يعاهد فيه العبد ربه على أمر من الأمور، إما بفعل أو ترك، وإما بعطاء، أو صدقة، ثم يخلف ذلك بعد أن يحصل له ما يريد، فهذا لا شك أنه من أعظم ما تقسو به القلوب، ومما يورث في القلوب نفاقاً وشرّاً، وقد قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾([11])، والميثاق الذي أخذه عليهم أن يتبعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاءهم، وبانت لهم علاماته. فهؤلاء نقضوا العهد فكانت عقوبتهم أن لعنهم الله، وجعل قلوبهم قاسية.
وتأثير نقض العهد على القلب أيضاً في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76)﴾ فماذا كانت العاقبة؟ ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا﴾ أين؟ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾([12])، وهذا يبين أثر نقض العهد على القلب، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يكون في غاية الحذر من أن يعد وعداً، أو أن ينذر نذراً، أو أن يعاهد الله عهداً ثم بعد ذلك يخلف هذا العهد.
أما المخالفة العامة التي تكون بارتكاب معصية أو تقصير في واجب، فهذا ينبغي للمؤمن أن يستغفر منه، ولذلك كان من المشروع في سير المؤمن إلى ربه أن يقول في أذكار صباحه ومسائه، هذا الذكر الذي هو أعلى الاستغفار وأجمعه وهو: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي)) أي أقر بنعمتك علي ((وأبوء بذنبي)) ـ أي أقر بذنبي، وهذا الإقرار إقرار يستلزم الإقلاع وإعلان الرجوع إلى رب العالمين ((فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
قال رحمه الله: ( قال ابن عقيل يوماً في وعظه : يا من يجد من قلبه قسوة احذر أن تكون قد نقضت عهداً) وهذا تنبيه، أنه إذا وجدت في قلبك قسوة فينبغي أن تفتش عن الأسباب، من الناس من يشكو قسوة قلبه ويقول: أنا قلبي ما يلين، عيني لا تدمع، لا أجد لذة للطاعة، ولا أجد أنساً بذكر الله تعالى، أقرأ القرآن ولا يؤثر علي. هذا لا شك أن هناك مانعاً، هذه الأمور موجبة -الذكر، الطاعة، الصدقة، الإحسان، قراءة القرآن، كلها أسباب- للين القلب، فإذا كان هناك عدم ثمرة مع حصول الأسباب، فاعلم أن هناك مانعاً، فتّش عن هذا المانع في قلبك، لا يمكن أن تقول: أروح لطبيب يشخص، الطبيب هو أنت، فانظر ماذا معك من السّوء، وماذا معك من التقصير في الخير، فقد يكون الإنسان مدخولاً عليه في نيته، وقد يكون الإنسان مبليّاً بآفة قلبيه غفل عنها.
الكبر مثلاً هذا من الآفات التي تدب إلى قلوب كثير من الناس حتى ممن يُرى فيه الصلاح، ولا ينتبه لهذا البلاء الذي يفتك بقلبه، حتى إن ابن مسعود ذكر فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر))([13])، (مثقال) يعني وزن، وهو أدنى ما يوزن، حبة من كبر.
فينبغي لنا أن نفتش عن الأسباب التي من خلالها حصلت هذه القسوة.
أما أن يشتكي الإنسان من المرض، ولا يشخص الأسباب، ولا يسعى في إزالة موجبات هذا البلاء، فلا شك أن هذا من التقصير الذي لا تحصل معه نتيجة، ولو جلسنا نشكو قسوة قلوبنا من اليوم إلى غد، ونحن لا نعمل على إزالة أسباب القسوة، وحصول أسباب اللين، فلا شك أننا لن ندرك مأمولنا.
السبب الثالث من الأسباب التي ذكرها المؤلف: (ومنها كثرة الضحك، ففي الترمذي عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب))، وقد روي عن الحسن قوله) يعني هذا روي من قول الحسن رحمه الله، والحسن هو الحسن البصري الزاهد رحمه الله.
وهذا الحديث صححه جماعة من أهل العلم المتأخرين، وفيه النهي عن كثرة الضحك, والنهي عن كثرة الضحك هو النهي عن التمادي فيما يُلهي القلب؛ لأن الضحك هو نوع من الغفلة التي تصيب القلب، هي من حيث الحاجة إليها القلوب تحتاج إلى شيء من الترويح، تحتاج إلى شيء من الابتهاج والسرور، وهذا أمر كان عليه عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذُكر له ما ذكر من عمل بعض العاملين قال: ((مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))([14]).
فينبغي لنا أن نعطي القلوب نصيبها من الترويح والابتهاج والسرور, لكن إذا طغى، البحث ليس في أصل الضحك إنما البحث في كثرة الضحك، وهو أن يخرج عن الحد المعقول الذي تحتاجه القلوب لتتزود في سيرها وتستعين به في مُضيها وسفرها إلى ربها جل وعلا. وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان تأثير كثيرة الضحك: ((فإن كثرة الضحك تميت القلب)).
كيف تكون كثرة الضحك تميت القلب؟ كثرة الضحك تقترن بالغفلة، والغفلة من أعظم الأدواء الفتاكة بالقلوب، وإلا فالضحك نفسه الذي هو ظهور السّرور على وجه الإنسان، وظهور ثناياه ابتهاجاً، وسروراً وضحكاً، هٰذا قد يكون عملاً طبيعيّاً، لكن الإشكال أن هذا العمل الطبيعي الذي إذا أسرف الإنسان في أخذ أسبابه، والإقبال عليه، أصاب قلبه غفلة، ولذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) ثم أنتج هذا عملاً وهو ((ولخرجتم إلى الصعدات)) وهي الجبال، والبراري، والصحاري ((تجأرون إلى الله))([15]) يعني تطلبون منه الرحمة، وتطلبون منه العفو؛ لعظيم ما تستقبلون من الأهوال.
وهذا يبين أنه ينبغي للعبد أن يبعد عن كل سبب يغلف قلبه بالغفلة، فالغفلة من أعظم الأسباب الفتاكة التي تذهب برونق القلوب وتميتها.
ثم قال رحمه الله: (وأخرج ابن ماجه من طريق أبي رجاء الجزري عن برد بن سنان عن مكحول عن واثلة بن الأسقع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كثرة الضحك تميت القلب))). وهذا الحديث في معنى الحديث السابق، وإسناده لا بأس به.
(ومن طريق ابراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ). في معنى الحديث المتقدم.
إذاً بهذا نكون قد قرأنا في هٰذه الليلة ثلاثة أسباب من أسباب قسوة القلب، وهي: كثرة الكلام بغير ذكر الله تَعَالىٰ، نقض العهد مع الله تَعَالىٰ، كثرة الضحك.
وما بقي إن شاء الله تَعَالىٰ نقرؤه في الدرس القادم. والله تَعَالىٰ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
--
([1]) سورة: المائدة الآية (13).
([2])سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، حديث رقم (2305)، قال الترمذي: هٰذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، قال الشيخ الألباني: حسن، انظر السلسلة الصحيحة برقم (930).
([3]) سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب الورع والتقى، حديث رقم (4217)، قال الشيخ الألباني: صحيح، وقال الدارقطني في العلل: الحديث غير ثابت.
([4]) سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، حديث رقم (4193)، قال الشيخ الألباني: صحيح، وانظر الصحيحة (506).
([5]) سورة: المطففين الآية (14).
([6]) مسند أحمد، بتحقيق أحمد شاكر، حديث رقم (7939)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب سورة المطففين، حديث رقم (3334)، وقال: هٰذا حديث حسن صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
([7]) ابن سعد في الطبقات (2/347)، كما ذكر الشيخ الألباني في الصحيحة (1091)، وذكر له طرقاً أخرى وقال: وبالجملة فالحديث بمجموع هٰذه الطرق صحيح بلا شك، ولا يرتاب في ذلك من له معرفة بهـٰذا العلم الشريف.
([8]) سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، حديث رقم (2616). سنن ابن ماجه: كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، حديث رقم (3973). قال الشيخ الألباني: صحيح.
([9]) سورة: البقرة الآية (83).
([10]) البخاري: كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا أصبح، حديث رقم (6323).
([11]) سورة: المائدة الآية (13).
([12]) سورة: التوبة الآيات (75-77)
([13]) مسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، حديث رقم (91).
([14]) البخاري: كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه، حديث رقم (43). مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم، حديث رقم (785).
([15]) سنن الترمذي:كتاب الزهد، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً))، حديث رقم (2312) وأصله في الصحيحين. قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الشيخ الألباني: حسن.