بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تَعَالىٰ: (ومنها: كثرة ذكر الموت؛ ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن منصور بن عبد الرحمن، عن صفية أن امرأة أتت عائشة لتشكو إليها القسوة، فقالت: أكثري ذكر الموت، يرق قلبك وتقدرين على حاجتك. قالت: ففعلتْ فآنست من قلبها رشداً، فجاءت تشكر لعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها.
ورُوي مرسلاً عن عطاء الخراساني قال: مرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمجلس قد استعلاه الضحك، فقال: ((شُوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات)) ، قالوا: وما مكدر اللذات يا رسول الله ؟ قال: ((الموت)).ومنها: زيارة القبور بالتفكر في حال أهلها، ومصيرهم؛ وقد سبق قول أحمد للذي سأله: ما يُرِقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة. وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((زوروا القبور فإنها تذكر الموت)).([2])وعن بريدة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة)). رواه أحمد والترمذي وصححه.([3])وعن أنس، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ثم قد بدا لي أنه ترق القلب، وتدمع العين، وتذكِّر الآخرة، فزوروها ولا تقولوا هُجْراً))، رواه الإمام أحمد وابن أبي الدنيا.([4]) وذكر ابن أبي الدنيا عن محمد بن صالح التمار، قال:كان صفوان بن سليم يأتي البقيع في الأيام فيمر بي، فاتبعته ذات يوم، وقلت: والله لأنظرن ما يصنع؟ قال: فقنع رأسه وجلس إلى قبر منها، فلم يزل يبكي حتى رحمته، قال: ظننت أنه قبر بعض أهله، قال: فمرّ بي مرة أخرى، فاتبعته فقعد إلى جنب قبر غيره، ففعل مثل ذلك، فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر، فقلت: إنما ظننت أنه قبر بعض أهله، فقال محمد: كلهم أهله وإخوانه، إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة. قال: ثم جعل محمد بن المنكدر بعد يمر بي فيأتي البقيع، فسلمت عليه ذات يوم فقال: ما نفعتك موعظة صفوان. قال: فظننت أنه انتفع بما ألقيت إليه منها.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في سياق ما ذكره المؤلف رحمه الله من مزيلات قسوة القلب- ليّن الله قلوبنا بطاعته، وعمرها بمحبته وتعظيمه- يقول رحمه الله: (ومنها كثرة ذكر الموت) ذكر الموت هو تذكّره، سواء كان ذلك بالقول أو بالقلب، وذكر الموت الذي ينفع هو ذكره بالقلب؛ أن يذكر الإنسان أنه ليس باقياً في هذه الدنيا؛ بل هو عنها زائل، وتكمل سعادته ويعظم انتفاعه بذكر الموت إذا ذكر أنه مسافر.
أنتم يا إخواني جئتم هذه الدورة، وأنتم أكثركم قد ترك أهله وبلده، وهو يعد الأيام والليالي حتى تنتهي هذه الدورة ويرجع إلى أهله، ينبغي أن تكون مسيرتنا في هذه الدنيا كسفرنا هذا، فالإنسان يتشوق، ويتشوف إلى أن يرجع إلى بلده وإلى أهله وإلى موطنه، كذلك يتشوف إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ويعد للمواقف العظيمة التي سيستقبلها.
ذكر الموت يذكره الناس على نحوين:
من الناس من يذكر الموت فيذكر ما يكون من حال الأموات، من فناء الأجساد، وانقطاع الأحباب، وعمارة الدور بالدود، وسكنى اللحود... وما إلى ذلك مما يعتري البدن، وهذا أكثر ما يتكلّم عنه الناس، وأكثر ما يحرِّك شجونهم، ولذلك الآن في أدعية القنوت إذا جاءت اللحود والدود بكى الناس.
لكن الحقيقة الأمر أعظم من هذا وينبغي أن يُذكر الموت لا بدوده، ولحوده، إنما يذكر الموت بما فيه من النعيم المقيم لأهل السعادة، والشقاء والعذاب الأليم لأهل الشقاء. فإن الناس في قبورهم منعمون ومعذبون، والعذاب والنعيم لا على الأجساد في الأصل، إنما هو للأرواح، فذكر القبور على هذا الوجه ينبغي أن يكون هو الذي في أذهاننا وفي مواعظنا.
أما أن نذكر اللحود والدود فهذه في الحقيقة يستوي فيها الصالح وغيره، يعني أنت الآن أحضر أصلح الصالحين، وأفسد الفاسدين، واقبر هذا واقبر هذا، ستجد أن ما يجري على هذا من التفسخ في البدن والدود كذاك في غالب الأحوال، هذا هو الغالب في الأرض أنها تأكل الأجساد ويكون فيها ما يكون، لكن ما الفرق بين صاحب هذا القبر، وصاحب هذا القبر؟
الفرق بين هذا وذاك هو: ما يكون من نعيم الروح ولذتها، وشقائها وعذابها.
فينبغي أن لا يقتصر ذكر الموت على ما يكون على الأجساد، إنما يُذكر ما يكون في نعيم الأرواح.
وهناك من يتصل ويسأل ويكلم أهل العلم ويقول: أنا أذكر الموت كثيراً، وأقلق ولا أنام؟ هذا جيد، ذكر الموت ينبغي أن يكون حاملاً على العمل، لا مقعداً عن السعي والطاعة، لأن بعض الناس يذكر الموت فيقعد عن العمل، يذكر انقطاع الملذات ومفارقة الأحباب، وتغيّر الحال، فيكون هذا كدراً على نفسه، لكنه لا يثمر صلاحاً واستقامة.
ذكر الموت المقصود فيما ذكره الأئمة وجاء في كلام السلف، وجاء ما جاء فيها من الأحاديث، إنما هو لأجل أن يتعظ الإنسان فيعمل صالحاً قبل انقطاع عمله، وارتهانه بما قدّمه.
فقوله رحمه الله: (ذكر الموت) هذا القسم الأول، القسم الذي يذكر ما يكون للأبدان .
والقسم الثاني: ما يعظ ويذكر ما يكون للأرواح، فالحياة البرزخية العمدة فيها على البدن، أو على الروح؟ العمدة فيما يجري فيها من نعيم وعذاب، إنما هو للأرواح، وأما الأبدان فهي تابعة، بخلاف الدنيا العمدة فيما يجري فيها من التنعيم والتعذيب إنما هو للأبدان، والأرواح تابعة، ويكمل الاقتران في الدار الآخرة بين الروح والبدن، فيكون النعيم لهما والعذاب عليهما، نعوذ بالله من الخسران.
إذاً ذكر الموت المثمر هو الذي يثمر عملاً صالحاً، لا الذي يقعد الإنسان، ويحزنه، وينغص حياته من جهة فقده لمن يحب، وذهابه ومفارقته لما ألف، من مُتع الدنيا وملذاتها.
ثم من ذلك وهو في سياق هٰذا ما ذكره المؤلف رحمه الله من ذكر زيارة القبور، ونأتي إن شاء الله تَعَالىٰ عليه في الدرس القادم.
والله تَعَالىٰ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
([1]) مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر، حديث رقم (7912)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في ذكر الموت، حديث رقم (2307). سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث رقم (4258)، قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
([2]) مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم (976).