بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومنها: زيارة القبور بالتفكر في حال أهلها، ومصيرهم؛ وقد سبق قول أحمد للذي سأله: ما يُرِقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة.
(ومنها زيارة القبور والتفكر في حال أهلها) هذا يتصل بالموت، زيارة القبور نافعة لتذكّر الآخرة، ولين القلب، والمقصود بالزيارة التي يحصل بها الاعتبار والاتعاظ، فيما أشاهده من حال الناس أن زيارتهم للقبور حال اتباعهم للجنائز لا تحصل بها عظة ولا عبرة، في الغالب الذين يتبعون الجنائز يحصّلون أجر الجنازة؛ ولكن لا يحصل لهم من الاتعاظ والاعتبار ما يلين القلوب؛ لأن كثرة الناس والاشتغال بالميت، وكثرة الكلام، واللغط مما يذهب في الحقيقة معنى الاعتبار والاتعاظ.
فزيارة القبور المقصود بها أن يأتي القبر سواء كان واحداً أو جمعاً، ويعتبر بحال الميت، ويتعظ بما سيصير إليه، ويخلو بنفسه تفكراً واتعاظاً واعتباراً، حتى ينزجر عن غيره، وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة))، ومعنى تذكّر الآخرة: تذكر ما يستقبله الإنسان بعد موته، فإنّ الآخرة مبدؤها هو هذه الحفرة.
ولذلك كان عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إذا ذكر القبر بكى، فقيل له في ذلك، فقال: إنه أول المنازل، فإن كان صالحاً فما بعده مثله. وإن كان غير ذلك فيتوقع الإنسان أسوأ بعد ذلك.
على كلٍّ الإنسان ينبغي له أن يزور القبور، وزيارة القبور مشروعة يتحقق بها فائدتان:
الفائدة الأولى: اتعاظ الزائر واعتباره.
الفائدة الثانية: نفع المزور (الميت) بالدعاء له، فإنّ الإنسان إذا دخل المقبرة شُرع له أن يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين. ثم إذا أراد أن يخص ميتاً بالزيارة، وقف على قبره فدعا له وخصّه بسؤال المغفرة والرحمة والخير ودفع الشر، فيكون في هذا قد حصّل الزائر فائدتين:
فائدة تخصه وهي الاعتبار والاتعاظ.
فائدة تخص الميت وهي الدعاء والسؤال له بعد انقطاع عمله.
قال رحمه الله: ومنها: (ومنها زيارة القبور والتفكر في حال أهلها، ومصيرهم) فشقي وسعيد، ومسرور ومحزون، ومستريح ومستراح منه، هذه أقسام المقبورين، أقسام الناس بعد موتهم.
(وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((زوروا القبور فإنها تذكر الموت)).
وعن بريدة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة))، رواه أحمد والترمذي وصححه).
وذكر جملة من الأحاديث والقصص، فذكر في القصص، قال: (وذكر ابن أبي الدنيا) وغالب ما يذكره ضعيف. (عن محمد بن صالح التمار، قال:كان صفوان بن سليم يأتي البقيع في الأيام فيمر بي، فاتبعته ذات يوم، وقلت: والله لأنظرن ما يصنع؟) يعني ماذا يفعل عند القبور، (قال: فقنع رأسه) أي غطاه (وجلس إلى قبر منها، فلم يزل يبكي حتى رحمته، قال: ظننت أنه قبر بعض أهله) يعني ظن أن ما يجد من البكاء لفراقه (قال: فمرّ بي مرة أخرى، فاتبعته فقعد إلى جنب قبر غيره، ففعل مثل ذلك) أي بكى حتى رحمه (فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر) وهو من التابعين (فقلت: إنما ظننت أنه قبر بعض أهله، فقال محمد: كلهم أهله وإخوانه) يعني ليس هذا البكاء لقرابة ولا لأخوة، (قال: إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة) وهذا يفيد أن ذكر الأموات بزيارتها مما يحرك القلوب وينفي عنها القسوة. (قال: ثم جعل محمد بن المنكدر بعد يمر بي فيأتي البقيع، فسلمت عليه ذات يوم فقال: ما نفعتك موعظة صفوان؟) الله أكبر، هذه موعظة قولية أو موعظة فعلية؟ موعظة فعلية، كان يقول له: ما نفعتك موعظة صفوان؟ يعني هل انتفعت بها أنك تراه يأتي ويبكي، ويتعظ ويليّن قلبه بالقبور، لأن صاحب القصة هو صفوان بن سليم، هو الذي كان يأتي إلى القبور ويبكي عندها، فقال له محمد بن المنكدر -قال لمحمد بن صالح التمار ، قال له-: ما نفعتك موعظة صفوان ؟ (قال: فظننت أنه انتفع بما ألقيت إليه منها). انتفع من؟ محمد بن المنكدر انتفع من سؤال محمد بن صالح التمار عن حال صفوان بن سليم.
وهكذا ينبغي أن ينتفع الإنسان من كل حال. حتى السائل قد ينفعك، حتى السائل قد ينبهك إلى أمر يلين به قلبك، أو تهتدي به إلى الصواب, فلذلك ينبغي أن لا يحقر الإنسان السائلين, ولا يظن أنما المستفيد هو السائل, فالفائدة للسائل والمسؤول.
قال: (وذكر) يعني ابن أبي الدنيا (أيضاً أن عجوزاً متعبدة من عبد القيس، كانت تكثر من إتيان القبور) يعني لقائل أن يقول: كيف ابن رجب يأتي بهذه القصة وهي منكرة؛ أي زيارة النساء للقبور مما نُهي عنه ؟ الجواب على هٰذا: أن زيارة النساء للقبور مما اختلف فيه العلماء، فهذه لعلها كانت ترى إباحة زيارة القبور, أو أنها ترى كراهيتها لا تحريمها. (فعوتبت في ذلك) أي في إتيان القبور (فقالت: إن القلب القاسي إذا جفا لم يلينه إلا رسوم البلى) أي صورة الفناء والذهاب والموت. (وإني لآتي القبور وكأني أنظر إليهم وقد خرجوا من بين أطباقها) الله أكبر ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾([5]) ((حفاةً عراةً غرلاً([6])))([7]) (وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المتعفرة) أي المتعفرة بالتراب (وإلى تلك الأجسام المتغيرة، وإلى تلك الأكفان الدنسة) يعني التي تغيرت بسبب تفسخ الأبدان (فيا له من منظر لم أسر به قلوبهم، ما أنكل مرارة الأنفس، وأشد تلفة الأبدان) ولو أنها أبعدت النظر إلى ما وراء ذلك من الحبور، والعذاب، لكان أكمل في الاتعاظ.
قال رحمه الله تَعَالىٰ:
(وقال زياد النميري: ما اشتقت إلى البكاء إلا مررت عليه، قال له رجل: وكيف ذلك؟ قال: إذا أردت ذلك خرجت إلى المقابر فجلست إلى بعض تلك القبور، ثم فكرت فيما صاروا إليه من البِلى([8])، وذكرت ما نحن فيه من المهلة، قال: فعند ذلك تختفي أطواري.
وقلت والله الموفق([9]).
([1]) مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم (976).
([2]) مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم (977).