بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
أفي دار الخراب تظل تبني ... وتعمر ما لعمران خُلقتا
وما تركت لك الأيامُ عذرًا ... لقد وعظتك لكن ما اتعظتا
تُنادي للرحيل بكل حين ... وتُعلن إنَّمَا المقصودُ أنتا
وتُسمعك النداءَ وأنت لاهٍ ... عن الداعي كأنَّك ما سمعتا
وتعلم أنَّه سفرٌ بعيد ... وعن إعداد زادٍ قد غفلتا
تنام وطالب الأيام ساع...وراءك لاينام فكيف نمتا
معائب هذه الدنيا كثيرة...وأنت على محبتها طبعتا
يضيع العمر في لعب ولهو...ولو أُعطيت عقلا ما لعبتا
فما بعد الممات سوى جحيمٍ ... لعاص أو نعيم إِنْ أطعتا
ولست بآمل باطلٍ ردًّا لدنيا ... فتعملُ صالحًا فِيما تركتا
وأوَّلُ من ألوم اليوم نفسي ... فقد فعلتْ نظائرَ ما فعلتا
أيا نفسي أخوضًا في المعاصي ... وبعد الأربعين وفيت ستّا
وأرجو أن يطول العمرُ حتى ... أرى زاد الرحيل وقد تأتَّى
أيا غُصن الشباب تميل زهوًا ... كأنك قد مضى زمن وشبتا
علمتَ فدع سبيلَ الجهل واحذر ... وصحِّحْ قد علمتَ وما عملتا
ويا من يجمع الأموال قل لي ... أيمنعك الردى ما قد جمعتا
ويا من يبتغي أمرًا مطاعًا ... ليسمع نافذًا مَن قد أمرتا
عججت إِلَى الولاية لا تُبالي ... أجرت عَلَى البرية أم عدلتا
ألا تدري بأنك يوم صارت ... إليك بغير سكين ذُبحتا
وليس يقوم فرحةُ قد تولَّى ... بترحة يوم تسمع قد عُزلتا
ولا تمهل فإن الوقت سيف ... فإنْ لم تغتنمه فقد أضعتا
ترى الأيام تُبلي كل غُصن ... وتطوي مِن سرورك ما نشرتا
وتعلم إنَّما الدُّنْيَا منام ... فأحلى ما تكون به انتبهتا
فكيف تصدّ عن تحصيل باق ... وبالفاني وزخرفه شُغلتا
هي الدُّنْيَا إذا سرتك يومًا ... تسوءك ضعف ما فيها سررتا
تغرّك كالسراب فأنت تسري ... إليه وليس تشعر قد غررتا
واشهد كم أبادت من حبيب ... كأنك آمن مما شهدتا
وتدفنهم وترجع ذا سُرور ... بما قد نلت من إرث وحرثا
وتنساهم وأنت غدًا ستفنى ... كأنك ما خلقت ولا وجدتا
تُحدِّث عنهم وتقول كانوا ... نعم كانوا كما والله كنتا
حديثك هم وأنت غدًا حديث ... لغيرهم فأحسن ما استطعتا
يعود المرء بعد الموت ذكرًا ... فكن حسن الحديث إذا ذكرتا
سل الأيام عن عم وخال ... ومالك والسؤال وقد علمتا
ألست ترى ديارهم خلاء ... فقد أنكرت منها ما عرفتا
هذه الأبيات التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى، فيها من الموعظة، والتذكير ما هو جيِّد، وحري بأن يوقف عنده، وأن يتأمل، ولكن لضيق الوقت لا نتمكن من التعليق عليها، لكن خلاصتها أنه تأمل في هذه الدنيا، وإقبال الناس عليها، وذكر بعد ذلك ما تطلبه النفوس من ملاذّ الدنيا.
ثم ختم ذلك بالولاية، وطلبها، والافتتان بها، فقال:
عججت إِلَى الولاية لا تُبالي ... أجرت عَلَى البرية أم عدلتا
ألا تدري بأنك يوم صارت ... إليك بغير سكين ذُبحتا
ثم ذكر ما ذكر، بعد ذلك عاد إلى التذكير بالموت:
يعود المرء بعد الموت ذكراً *** فكن حسن الحديث إذا ذكرتا
صحيح، إنما يبقى بعد رحيلك ذكرك، فأحسن العمل ليُحسن الله تعالى لك الأثر.
سل الأيام عن عمٍّ وخال *** وما لَكَ والسؤالَ وقد علمتا
علمت، لا تحتاج أن تسأل قد ذهبوا،
ألست ترى ديارهمُ خلاءً *** فقد أنكرت منها ما عرفتا
ثم قال رحمه الله في ذكر مزيلات قسوة القلب:
(ومنها: النظر في ديار الهالكين، والاعتبار بمنازل الغابرين.
روى ابن أبي الدنيا في كتاب (التفكر والاعتبار)، بإسناده عن عمر بن سليم الباهلي، عن أبي الوليد أنه قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: كل شيء هالك إلا وجهه.
وروى في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن قدامة، قال: كان الربيع بن خُثيم إذا وجد من قلبه قسوة يأتي منزل صديق له قد مات في الليل فينادي: يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، ثم يقول: ليت شِعري ما فعلتَ وما فُعل بك؟ ثم يبكي حتى تسيل دموعه، فيُعرف ذلك فيه إلى مثلها).
البارحة كان أحد المشايخ حاضر الدرس، فأرسل لي قصة، عن أحد الزهاد العباد الصالحين، في مكة، وهو توفي يوم الاثنين الماضي رحمه الله، على كل سمى أحد العباد الزهاد، قال: إنه كثير العبادة وله عمل صالح وعلم ودعوة, كان يكثر من زيارة القبور ويتأمل فيها ويعتبر، وقبل أربعة أيام من موته، وهو توفي ضحى يوم الاثنين الماضي، وهو صائم.
يقول: ذهب إلى مقبرة [المعلاة] في جنازة، وهو من أهل مكة، ووقف عند قبر، وأطال البكاء عند هذا القبر، حتى عجب من رآه ممن صاحبه، ثم رجعوا، وبعد أربعة أيام دفن في ذلك القبر الذي كان واقفاً عليه يتأمل، يعني كأنه يندب نفسه، سبحان الله العظيم.
فالمقصود أن الاعتبار والاتعاظ بالأحوال والأخبار مما يحيي القلب ويليِّن قسوته.
(النظر في ديار الهالكين) المقصود به: سواء كانوا معذبين، أو غير معذبين، ليس المقصود به هنا المعذبين، إنما المقصود بالهالكين: أي من رحلوا وماتوا وفنوا وذهبوا، سواء أخذوا بعقوبة، أو لم يؤخذوا بعقوبة، فالنظر في ديار الهالكين يعني الموتى، والاعتبار بمنازل الغابرين الراحلين، هذا مما يُحيي القلب.
وذكر قصتين عن ابن عمر أنه كان يقف على خربة، والخربة: مكان معطل، كأنه يذهب إلى هدام و أماكن قد خلت من أهلها، وليس المقصود بالخربة: أماكن جمع الزبل، لا إنما المقصود بالخربة: ما ليس فيه أحد، ممن قد هجره أهله وذهبوا، وكان ينادي: أين أهلك؟ عمرت ثم خلت، ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: كل شيء هالك إلا وجهه.
وكذلك ما ذكر في القصة عن من بعده، فيه الاعتبار و الاتعاظ.
قال رحمه الله:
(ومنها: أكل الحلال؛ روى أبو نعيم وغيره، من طريق عمر بن صالح الطرسوسي، قال: ذهبت أنا ويحيى الجلاء -وكان يقال: إنه من الأبدال- إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل فسألته وكان إلى جنبه بوران، وزهير [وهارون] الجمال، فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله بم تلين القلوب؟ فنظر إلى أصحابه، فغمزهم بعينه، ثم أطرق، ثم رفع رأسه فقال: يا بني بأكل الحلال. فمررت كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث، فقلت له: يا أبا نصر، بم تلين القلوب؟ فقال: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾([1]) فقلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله، قال: هيه، أي شيء قال لك أبو عبد الله؟ قلت: بأكل الحلال، فقال: جاء بالأصل، جاء بالأصل.
فمررت إلى عبد الوهاب الوراق، فقلت: يا أبا الحسن بم تلين القلوب؟ فقال: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾، قلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله، فاحمرت وجنتاه من الفرح، فقال لي: أي شيء قال أبو عبد الله؟ قلت: قال: بأكل الحلال، فقال: جاءك بالجوهر، جاءك بالجوهر، الأصل كما قال، الأصل كما قال.([2])
والحمد لله وحده) .
قال رحمه الله: (ومنها: أكل الحلال؛ روى أبو نعيم وغيره، من طريق عمر بن صالح الطرسوسي، قال: ذهبت أنا ويحيى الجلاء -وكان يقال: إنه من الأبدال-) (من الأبدال) أي من أصحاب الخير، الذين يخلف بعضهم بعضاً، والأبدال يثبتهم أهل السنة والجماعة، وهم من يقوم بالدين علماً وعبادة، في كل خلف: ((يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله...)) إلى آخره.
هذا آخر ما ذكره المؤلف في هذه الرسالة المباركة، وهي رسالة ذم قسوة القلب.
قال: من أسباب لين القلب: (أكل الحلال) الحلال هو ما ليس فيه مخالفة لأمر الله تعالى ولا شبهة؛ لأن الأمور تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
o حرام.
o حلال.
o مشتبه.
دل على ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه النعمان بن بشير: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)) فذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أمور:
o الحلال بين.
o الحرام بين.
o بينهما أمور مشتبهات.
فالمقصود بالحلال: ما كان بيناً لا شبهة فيه، ومعلوم أن الأمور المشتبهة هل هي متفق عليها بين الناس، أو مختلف فيها؟ مختلف فيها: لا يعلمهن كثير من الناس.
فالحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، قد تكون حلالاً، وقد تكون حراماً، بالنظر إلى أي شيء؟ بالنظر إلى اشتباهها، واختلاط سبب الإباحة وسبب التحريم، وهذا يختلف فقد يراه شخص حلالاً فينضم إلى الحلال، وقد يراه شخص حراماً فينضم إلى الحرام، وقد يبقى مشتبهاً على الشخص فيكون دائراً بين الحلال والحرام فتركه هو المطلوب.
أكل الحلال له أثر، وذلك أن الطعام الداخل إلى الجوف يؤثر على القلب، ولذلك ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض الأطعمة وتأثيرها: ((فالتلبينة تجم فؤاد المريض))([3]) كما في صحيح البخاري, وهي نوع من الطعام يحصل به انشراح للمريض والمحزون أيضاً، ويحصل به نوع من التأثير على قلبه, فهناك أطعمة تؤثر على القلوب، لكن معرفة هذه الأطعمة، فقد يكون هذا من حيث جنسها، وقد يكون هذا من حيث طريق حصولها وكسبها، فإذا كانت من حيث جنسها، ومن حيث كسبها مباحة، اجتمع في التأثير نوعان.
فذكر القصة عن الإمام أحمد لما سئل عن ما يلين القلب، فقال: ( رحمك الله يا أبا عبد الله بم تلين القلوب؟ فنظر إلى أصحابه، فغمزهم بعينه، ثم أطرق، ثم رفع رأسه فقال: يا بني بأكل الحلال). فأكل الحلال يليِّن القلب، كما أن أكل الحرام يقسي القلب، ويبعد عن الرب، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال كما في الصحيح، من حديث أبي هريرة: ((إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾([4])، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾([5]).
ثم ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((الرّجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام))، ثم قال: ((وغذي بالحرام))، أي شبع من الحرام، ((فأنى يستجاب له)) ([6]). فدلّ هذا على عظيم تأثير المطعم في الحيلولة بين الإنسان وبين الخير.
قال: ( فمررت كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث، فقلت له: يا أبا نصر، بم تلين القلوب؟ فقال: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾([7])) وهذا جواب حاضر، وظاهر، في أن الذكر يلين القلب.
(فقلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله، قال: هيه) يعني واصل، فأنا متشوف إلى الحديث، هذا طلب مزيد من الحديث والبيان، (أي شيء قال لك أبو عبد الله؟) هذا فيه تشوف إلى كلام العلماء (قلت: بأكل الحلال) فماذا أجاب بشر بن الحارث؟ (فقال: جاء بالأصل، جاء بالأصل). الأصل يعني القاعدة والأساس الذي يبنى عليه صلاح القلب، فالمقصود بالأصل: الأساس الذي يبنى عليه الصلاح للقلب والاستقامة والبعد عن الانحراف، (جاء بالأصل، جاء بالأصل).
(فمررت إلى عبد الوهاب الوراق، فقلت: يا أبا الحسن بم تلين القلوب؟ فقال: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾، قلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله) يعني الإمام أحمد (فاحمرت وجنتاه من الفرح، فقال لي: أي شيء قال أبو عبد الله؟ قلت: قال: بأكل الحلال، فقال: جاءك بالجوهر، جاءك بالجوهر، الأصل كما قال، الأصل كما قال).
والسبب في هذا، أن ذكر الله تعالى يليّن القلب، لكن أعظم منه في التليين أن يلتزم الإنسان ذكر الله تعالى بالعمل؛ لأن ذكر الله يكون باللسان، وذكر الله يكون بالقلب، وذكر الله يكون بالعمل، أعظم ذلك أن يكون ذاكراً لله تعالى في كل أحواله.
يعني الذي يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، ويأكل الحرام، ويزني، ويسرق، ويسفك الدماء، هذا ذكر الله بلسانه، لكنه فعل من أسباب قسوة القلب الشيء الكثير، لكن الذي يتحرى الحلال، ويطلب طيب المكسب، هذا عمله في لحظة، أو عمله دائم ودائب؟ عمله دائم، فهو يتحرى يطلب ما يجوز، ويتوقى الشبهات، فليس عمله مقصوراً على لحظة.
ثم ذكره لله تعالى ذكر بالقلب، بخلاف ذكر اللسان، ولذلك قال هؤلاء لكلام الإمام أحمد: جاء بالأصل، جاء بالأصل؛ لأنه لا يمكن أن يتحرى أحد أكل الحلال إلا من ذكر الله بقلبه، وذكر الله بحاله، وذكر الله بلسانه، وبهذا يكون أعلى الدرجات، فلذلك قالوا: (جاء بالأصل، جاء بالأصل)، يعني بالذي إذا لزمته لان قلبك، واستقام.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلين قلوبنا بذكره، وأن يعمّرها بمحبته وتعظيمه، وأن يجزي الشيخ ابن رجب رحمه الله خير الجزاء علىٰ ما في هذه الرسالة المباركة.
وبهذا تتم المجالس التي كانت بقراءة هذا الكتاب المبارك، وإن كنا بخسناه حقه؛ لكن فيما مضى خير وبركة، ولعل فيه نفعاً. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
([1]) سورة: الرعد الآية (28).
([2]) في الكتاب المحقق: الأصل كمال الأصل. وجاء بعد هٰذه الفقرة: (قال بعضهم: لقد حكيت ولكن فاتك الأنسب).