" الوصية الكبرى "[مطبوع ضمن "مجموع الفتاوى" (3/ 363 – 430).]
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية: قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ الْمُنْتَمِينَ إلَى جَمَاعَةِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ، أَبِي الْبَرَكَاتِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيِّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ -، وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِهِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ r، وَجَعَلَهُمْ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ؛ مُهْتَدِينَ لِصِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَجَنَّبَهُمْ طَرِيقَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالِاعْوِجَاجِ ؛ الْخَارِجِينَ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ rمِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ ؛ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْمِنَّةَ؛ بِمُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه ونثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فهذه الرسالة المباركة، المشهورة بــ"الوصية الكبرى"، وهي من رسائل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، وقد كتبها -رحمه الله- إلى جماعة من أهل السنة المنتسبين إلى الشيخ عدي بن مسافر، وليس هناك ما يدل على أن هذا الاسم من تسمية المؤلف رحمه الله، وإنما اشتهرت هذه الرسالة وعُرفت في كلام أهل العلم بـ"الوصية الكبرى".
قد تضمنت هذه الرسالة المباركة وصية من شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لهذه الطائفة ولجميع المسلمين، ففيها من تقرير أصول الإيمان وبيان ما يجب على المؤمن اعتقاده في رب العالمين، وطريق حل النزاعات الواقعة بين أهل الإسلام ما يَصلح أن يكون أصلاً لكل مسلم، يعتمده في اعتقاده وفي معاملته.
الشيخ -رحمه الله- بدأ هذه الرسالة المباركة بالبسملة كسائر الكتب والمؤلفات والرسائل التي يكتبها أهل العلم، وذلك تأسيًا بكتاب الله تعالى، واقتداء بهدي النبيr.
وقد نحى -رحمه الله- فيها المنحى الذي سلكه النبيrفي رسائله، فبدأ بالبسملة، ثم بيَّن المرسِل والمرسَل إليه، وهذا الذي كان عليه عمل النبي rوجرى عليه عمل الناس في المكاتبات إلى زمن ليس بالبعيد.
ثم إنه حدث تغيير في طريقة الكتابة، وأصبحت الرسائل لها نماذج اصطلاحية وسار الناس عليه، والمرجع في هذا إلى عرف الناس، فالعادة والعرف هو المحكَّم.
فالشيخ -رحمه الله- بدأ الرسالة ببيان المصدر " مِنْ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّة إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ الْمُنْتَمِينَ إلَى جَمَاعَةِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ، أَبِي الْبَرَكَاتِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيِّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِهِ...".إلى آخر ما ذكر من الدعاء.
ففهم أن هذه الرسالة ليست لشخص معين، إنما هي لجماعة أو طائفة، والكتابة إلى جماعة أو طائفة مشهور في عمل علماء الإسلام منذ قرون، فإنهم يكتبون إما إلى أشخاص وإما أن يكتبون إلى جهات.
وقد كتب النبيrإلى آل عمرو بن حزم كتابًا، وهذا كتاب إلى جماعة من الناس وليس لفرد، وكذلك الكتاب هنا لجماعة وليس لفرد.
والمقصود بهذه الرسالة من أرسل إليهم من هذه الجماعة المنتسبة إلى أهل السنة والجماعة، حيث قال:"مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ"، وهذه المظلة العامة التي يستظل بها ويتفيء بها أهل الإسلام ممن منَّ الله تعالى عليهم بالسلامة من كثير من البدع والضلالات.
سموا بهذا الاسم لتعظيمهم السنة، ولاجتماعهم على الحق، فهم أهل سنة لأنهم يعظمونها ويقدِّمونها، ويعتصمون بها، ويعتنون بها رواية ودراية، وسموا جماعة لأنهم أهل اجتماع ينبذون الفرقة ويأتلفون على الحق، وكذلك لأنهم يعتمدون الإجماع ويعتدون به في أحاكمهم ومسائلهم وعقائدهم.
ثم ذكر الانتماء الخاص بعد ذكر الانتماء العام، ذكر انتماء خاصًّا فقال " الْمُنْتَمِينَ إلَى جَمَاعَةِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ، أَبِي الْبَرَكَاتِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ ".
ومن هذا نفهم أن الانتماء إلى شيخ أو إلى فئة أو إلى مدرسة لا بأس به، ما لم يكن ذلك على وجه العمل بطريقتهم والأخذ بما يشتغلون به، لا على وجه التحزب والمنابذة والمفاصلة والمباعدة لبقية المسلمين من أهل السنة والجماعة؛ فهذا خطأ.
والانتساب إلى الطرق والمدارس الفقهية أمر مشهور ، فمدرسة الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية والظاهرية والأوزاعية والثورية والطبرية كانت موجودة، وبقي منها ما بقي من المذاهب المشهورة.
وليس في الانتساب في حد ذاته مذمَّة ولا نقيصة؛ لأن هذا الانتساب حقيقته هو أنه اعتمد ما سار عليه هذا الشخص، فالحنابلة هم الذين اعتمدوا في تفقههم على أصول الإمام أحمد، ومسائله ودرسوا أقواله، وكذلك المالكية، وكذلك الشافعية، وكذلك غيرهم.
فهذا انتساب فقهي، وهناك انتساب مسلكي، كما هو المذكور هنا، فالشيخ عدي بن مسافر ليس عالماً متفننا متفقهًا إنما هو إنسان عابد، ولذلك وصفه الشيخ هنا "الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ" .
العارف هذا وصف يطلق على أهل التنسُّك والتعبد، والقدوة لأنه تأسى به جماعات من الناس.
فالشيخ عدي بن مسافر من العبَّاد والنسَّاك، عاش في القرن السادس الهجري، وتوفي في سنة (557 من الهجرة)، وعمَّر تسعين سنة، فالرجل ممن أدرك القرن الخامس والسادس الهجري، وقد عرف بالطاعة والعبادة، وقد سكن في أعمال الموصل، وهو من الأكراد، ولذلك هو من كبراء الأكراد الذين نصروا الإسلام ودعوا إلى التعبد والتنسك.
وقد اشتهر أمره وظهر صلاحه حتى عُرف واجتمع له الناس، وانحصر في دعوته وعبادته خير كثير عليه وعلى من أخذ بطريقه، ترجم له الذهبي في "سير أعلام النبلاء"[انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (20/342) رقم (233).] ترجمة مختصرة بيَّن فيها شيئًا مختصرًا من أحواله ومن أعماله.
يقول -رحمه الله- :" الْمُنْتَمِينَ إلَى جَمَاعَةِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ، أَبِي الْبَرَكَاتِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيِّ"
هذا هو الاسم المشهور له، وإلا فمن أسمائه " عدي بن صخر الشامي ثم الهكاري"، نسبة إلى الجهة التي كان فيها.
قال :" - وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ- أي سار على طريقهم- وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِهِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ r، وَجَعَلَهُمْ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ؛ مُهْتَدِينَ لِصِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَجَنَّبَهُمْ طَرِيقَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالِاعْوِجَاجِ ؛ الْخَارِجِينَ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ rمِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ ؛ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْمِنَّةَ؛ بِمُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".
هذا دعاء؛ وفيه من ألوان من الخير ما جمع لهم كل برٍّ وخير، فسأل الله لهم الهداية والتوفيق للصراط المستقيم، والإعانة على طاعة الله وطاعة رسوله والعصمة من الضلال، أنواع من الخيرات وكل هذا فيه التلطف والتحبيب لمن اطلع على هذه الرسالة أن يستكملها وأن يقرأها؛ لأن من قرأ مثل هذا الدعاء في رسالة مرسلة إليه، علم أن المرسِل مُشفق، وأن المرسل مُحب، وأن المرسل نَاصح، فإنه سأل كل خير وبذل جهده في تقريب الخير له بالدعاء والنصح.
بعد ذلك قال -رحمه الله- : "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ".
وهذا بعد الدعاء افتتاح بالسلام، لأن السلام التحية التي تحيَّى بها المسلمون، ولقد حيَّى النبيrفي كتبه من أرسل إليهم، حتى إنه لما كتب إلى هرقل، قال :«سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى»[رواه البخاري في بدء الوحي(7)، ومسلم في الجهاد والسير (1773).].
فالسلام من شعائر الإسلام في مكاتبتهم ومراسلاتهم.
يقول -رحمه الله- :" وَبَعْدُ : فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ rوَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبِهِمْ إلَيْهِ زُلْفَى؛ وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ دَرَجَةً؛ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا rبِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ، وَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس،ِ فَهُمْ يُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ؛ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَيْ عَدْلًا خِيَارًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، هَدَاهُمْ لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ جَمِيعَهُمْ مِنْ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، ثُمَّ خَصَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا مَيَّزَهُمْ بِهِ وَفَضَّلَهُمْ مِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُمْ.
هذه الكلمة "وبعد" هي إيذان للانتقال من السلام والمقدمة إلى الرسالة التي قصد كتابتها وبعثها إليهم.
قوله:"وبعد" هذه ليست في المقام كقوله: "أما بعد"؛ لأنه ليس من كلام العرب الفصل بين المقدمة والمقصود بهذه الكلمة، "وبعد" إنما الذي اشتهر وعرف في كلام النبيrومن كلام العرب قوله "أما بعد"، أما قولهم "وبعد" ليست هي التي يفصل بها بين مقدمة الرسالة والمقصود من الرسالة.
يقول -رحمه الله-:"فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
افتتح كتابه إليهم -رحمه الله- بحمد الله تعالى بعد الدعاء لهم بما تقدم.
وحمد الله Iهو الثناء عليه Iبما هو أهله من الكمالات.
ولذلك أصوب ما قيل في تعريف الحمد :"أنه ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً". [انظر مقدمة "تفسير سورة الكهف" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.]
هذا أجود ما قيل في تعريف الحمد أنه ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً، محبةً له وتعظيماً له جل وعلا.
وحمد الله على انفراده بالإلهية فقال:"فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ ".
أي هو أحق من حُمد، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة سبحانه وبحمده، فهو أحق من حمد وأجدر من أثني عليه I، وهو على كل شيء قدير.
ثم قال :"وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ rوَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبِهِمْ إلَيْهِ زُلْفَى".
سأل الصلاة على النبيrفي ابتداء الرسالة؛ لأن الصلاة على النبيrمن مفاتح الخير التي يستجلب بها خير كثير للعبد، ولذلك جاء عن عمر tأن الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يصلى فيه على النبيr[رواه الترمذي في الصلاة (486) وإسناده حسن.].
والصلاة على النبيrمما أمر الله به العبد، ووعد عليه خيراً، فإن الله وعد أنه يصلي وملائكته على المؤمنين ليخرجهم من الظلمات إلى النور[قال تعالى في سورة الأحزاب (43) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا.].
وقد قال النبي r:«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ،...»[رواه أحمد (3/102)، والنسائي في السهو (1297)، وإسناده صحيح.] .
ومن صلاة اللهUعلى عبده أن يخرجه من الظلمات إلى النور.
وبهذا تتحقق الولاية من الله Uللعبد، فإن الله تعالى قال: ]اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور[.[ سورة البقرة :257.]
فهذا كله يدل على أن افتتاح الكلام بالصلاة على النبيrمما يستفتح به الخير، ومما يحصل به النور للعبد والخروج من الظلمة إلى النور، والخروج من الغي إلى الرشد.
يقول في وصف النبيr:"خَاتَمِ النَّبِيِّينَ "]مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[[سورة الأحزاب :40.].
"وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ r" كما أخبر بذلك عن نفسه في "الصحيح" r:«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ»[رواه مسلم في الفضائل (2278).].
قال :"وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ"، نعم هو أكرم الخلق على ربه بإقرارهr، كما في "الصحيح" من حديث عمر بن الخطاب قال:«فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ rوَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ....ثم قال:"وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِrوَصَفْوَتُهُ»[ رواه مسلم في الطلاق (1479).].
والصفوة هو المختار، فهو صفوته -جل وعلا- من خلقه، وهو أكرمهم عليه.
"وَأَقْرَبِهِمْ إلَيْهِ زُلْفَى" أي: أقربهم إليه درجة، وأعلاهم عنده منزلةr.
ولذلك قال:"وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ دَرَجَةً؛ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ"، وهذا أبلغ وأكمل ما وصف به النبيr، فمهما وصف النبيrمن الأوصاف فإن أعلى أوصافه أنه عبد الله ورسوله، ولذلك ذكر الله تعالى وصف العبودية في أشرف مقامات النبوة، في الإيحاء إليهr، وفي نصره، وفي دعوته، كل هذا لبيان أنهrأشرق مقاماته، وتلك المقامات العالية الشريفة بتحقيق العبودية للهU.
يقول:"مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا".
والصلاة على النبيrمعناها: سؤال الخير الكثير لهr.
وقد قال أبو العالية في معنى الصلاة على النبيr:"صَلاَةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَلاَئِكَةِ، وَصَلاَةُ المَلاَئِكَةِ الدُّعَاءُ "[رواه البخاري معلقاً في التفسير6/120.].
والذي يظهر أن الصلاة أوسع من ذلك، إنما الصلاة تدل على خير كثير، كما قال الله تعالى لرسوله:]إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[[ سورة الكوثر: 1.].
والخير الكبير هذا في نفسه، وفي دعوته، وفي أمته، وفي أجر،ه وفي الدنيا وفي الآخرة، وهو أوسع من أن يذكر الله تعالى رسوله rفي الملأ الأعلى.
ثم قال :"أَمَّا بَعْدُ"، وهذا فاصل بين الحمد والثناء، والمقصود بالحديث.
يقول -رحمه الله- :"أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا rبِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا ".
هذه المقدمة التي افتتح الشيخ -رحمه الله- بها الرسالة، مقدمة في غاية البلاغة لمن تنصحه بالتزام السنة والرجوع إلى هدي النبيr، فإن هذه المقدمة تضمنت الخبر، بأن الله تعالى قد بعث محمداً بما يَكمل به حال الخلق والبشر، وهو كمال العلم وصلاح العمل، فقال -جل وعلا- : ]هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى[.
أي بالعلم النافع، ]وَدِينِ الْحَقِّ [وهو العمل الصالح،]لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [. [سورة الفتح :28]
وهذه الآية المباركة التي اقتبس من معناها الشيخ -رحمه الله- هنا، وذكر مضمونها في قوله -رحمه الله- :"فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا rبِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ" أي ليعليه ويجعله غالباً، ومن العلماء من قال: "إظهاره" هنا أي: محو كل دين سوى دينهr، وسوى ما جاء به.
والذي يظهر أن الإظهار لا يلزم منه إلغاء العقائد الأخرى، إنما إظهاره هو علوُّه وشرفه، وأنه لا يزداد مع ازدياد الزمن إلا علوًّا، فإنه أعلى الأديان وأشرفها وأسماها، مع شدة ما لقيه هذا الدين من الأذى والتضييق والتشويه، وسائر ألوان العداوة، أنت إذا نظرت وجدت أن جميع الأمم ينابذون هذا الدين من غير الإسلام، فالمشركون، واليهود والنصارى، والملحدون، وسائر أصحاب الملل المنحرفة كلهم يضادون هذا الدين ويحاربونه، وما نشاهده الآن من الهجمة العالمية على الإسلام تجد أنه يشترك فيها اليهودي والنصراني، والملحد والمشرك، وهذا يصدِّق ما جاء به الخبر عن النبيrفيما رواه الإمام أحمد من حديث ثوبان :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»[رواه أحمد (5/278)، وأبو داود في الملاحم (4297).].
المقصود أنه مع شدة الكيد وعظمه إلا أن هذا الدين قد تكفل الله تعالى بإظهاره وحفظه، وهذا من منَّة الله ورحمته وعظيم إحسانه، وعظيم بره وفضله على الخلق أن حفظ هذا الدين وجعله ظاهراً؛ لأنه الدين الذي به يسعد به الناس، فحفظ الدين ليس منَّة على أهل الإسلام فقط، بل هو منة لجميع البشر، لماذا؟ لأن حفظ هذا الدين معناه أنه سيبقى ملاذًا يفيئ إليه من ضل ومن غوى، ومن تشرب من أنواع الضلال حتى تعب في البحث عن الحق، سيجد هذا الدين ظاهراً ، ويستطيع أن يلتحق به، ويكون من أهله.
يقول الله -جل وعلا- :]وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا[أي حسبكم أن الله تعالى مطلع، هل هذا الوعد سيتخلف؟ الجواب: لن يتخلف هذا الوعد لأن اله شهيد ومطلع ورقيب جل وعلا على أحوال العباد وإذا كان رقيباً وشهيداً Iفإنه لن يخلف وعده وهو أن الله تعالى سيظهر هذا الدين، ولن يتطرق إلى هذا الدين أي خلل في العقل أو في العمل، إذا كان ملتزماً بالكتاب والسنة فإن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذه الرسالة ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[[سورة الحجر : 9.].
ثم قال :"وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ".
كما أخبر الله تعالى بذلك في سورة المائدة[في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.[المائدة:48]]
"مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" أي: مطابقاً له، ومعنى مطابقاً له أي: لم يخالف الكتب المتقدمة فيما جاءت به من الأخبار.
"مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ"، والكتاب هنا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، فالقرآن يصدق تلك الكتب.
وانظر كيف جاء القرآن مصدقاً لتلك الكتب كالحاكم عليها، ولذلك قال: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، فهو العالي، وهو الرقيب الذي يُرجع إليه في صحة الكتب المتقدمة، فالهيمنة ليس فقط هي العلو والارتفاع، إنما هي علو وارتفاع ورقابة، فمن معاني اسم الله "المهيمن" أي: المطلع على عباده الذي يرقب أفعالهم.
وكون القرآن مهيمن على الكتب السابقة؛ لأنه يصوِّبها ويصدقها ويكذبها، ويحكم على صوابها وخطئها.
قال:"وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ"، قال تعالى: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[[سورة المائدة : 3.].
قال :"وَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ "، فهي خير الأمم على مر العصور وكر الدهور، هذه الأمة هي خير أمة ، كما قال الله تعالى]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[[سورة آل عمران :110.].
ثم قال :"فَهُمْ يُوفُونَ" أي: يتمُّون ويكملون"سَبْعِينَ أُمَّةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ"، هذه الأمة تكمل سبعين أمة.
هذا الخبر جاء فيما رواه الإمام أحمد من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال سمعت نبيَّ الله rيقول:«ألا أنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللهU».[رواه أحمد (5/3) وإسناده صحيح..]
هذا الخبر من النبيrهو عد الأمم أمة، أمة بالإحصاء، أم المقصود بالسبعين التكثير؟ قولان لأهل العلم:
فمن أهل العلم من قال :"سبعين أمة"، المقصود أمم معينة بلغ عددها تسعًا وستين، وأنتم تكملون السبعين، "توفون" أي: تكملون، تتمون السبعين.
وقيل إن العدد هنا المقصود به التكثير، أي توفون أمما كثيرة، فسبعون تطلق في كلام العرب ويراد به كثرة الشيء، لا العدد بعينه.
ومنه قول ابن عباس -رضي الله عنهما- لما سئل عن الكبائر سبعة؟ قال :" هي إلى السبعين أقرب"[ رواه البغوي في "شرح السنة" (1/87).]
والمقصود بالسبعين هنا الكثرة.
ثم قال -رحمه الله- :"هُمْ خَيْرُهَا" في أعمالها"وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ"أي: في إثابتها وإعطائها والإحسان إليها والتفضل.
ثم قال :"وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا"بيَّن معنى "أمة وسطاً" "أَيْ: عَدْلًا خِيَارًا ".
قال تعالى: ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[[سورة البقرة: 143.].
فالوسط هو العدل، الخيار، وهذا هو الذي أوجب لهم منزلة الشهادة، ولذلك قال:"وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"، لا يمكن أن يكون الشاهد على الناس إلا أعدلهم وخيرهم، وإلا فإن الشهادة تتخلف.
قال :"هَدَاهُمْ لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ جَمِيعَهُمْ مِنْ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ"، الله تعالى هداهم لما بعث به رسله من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، فشرع الله Uلجميع الخلق، وجعل هذا الدين جامعاً لخير الرسالات كلها.
قال :"ثُمَّ خَصَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا مَيَّزَهُمْ بِهِ وَفَضَّلَهُمْ مِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ".
الشرعة والمنهاج، قال الله تعالى: ]لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[[سورة المائدة:48.] .
الشرعة هي : تفاصيل الشريعة، والمنهاج هو الطريق الذي توصف به الشريعة على وجه العموم.
هذا الفرق بين الشرعة والمنهاج، فالشرعة هي التفاصيل، والمنهاج هو الوصف العام.
فمثلاً شريعة اليهود من حيث التفصيل شريعة جاء فيها من الأحكام ما جاء.
ومن حيث الوصف العام شريعة فيها آصار وأغلال.
شريعة عيسى من حيث التفاصيل جاء فيها ما جاء، ومن حيث المنهاج هي شريعة رحمة ووضع آصار وأغلال.
هذه الشريعة المباركة التي جاء بها النبيrجمعت وصف الخير في الشرائع كلها، فكانت شريعة فيها من الأصول، فمثلاً من الوصف العام لهذه الشريعة أنها شريعة عدل، من الوصف العام لهذه الشريعة أنها شريعة يسر، من الوصف العام لهذه الشريعة أنها شريعة رحمة ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[[سورة الأنبياء: 107.] ، الوصف العام لهذه الشريعة أنها شريعة قيام وشهادة على الأمم، هذه أوصاف عامة تمثل المنهاج، أما الشرعة فهي تفاصيل هذه الأحكام في الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج، وما جاء في هذه الشريعة من الأحكام التفصيلية.
إذاً الشرعة هي الشريعة المفصلة، والمنهاج هو الوصف العام الذي توصف به الشريعة، أو يوصف به هذا الطريق.
قال -رحمه الله- :"ثُمَّ خَصَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا مَيَّزَهُمْ بِهِ وَفَضَّلَهُمْ مِنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ" أي: خصهم به.
هذا الذكر ما اختصت به هذه الأمة عن الأمم المتقدمة في الشريعة وفي المنهاج.