الدرس (3) من شرح رسالة الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
قال -رحمه الله-:"وَهَذَا "الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ" هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضُ، وَهُوَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ " فَإِنَّ السُّنَّةَ الْمَحْضَةَ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ rرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ رَوَاهَا أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ؛ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَالَ :«سَتَفْتَرِقُ هَذِهِالْأُمَّةُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ»[ أخرجه أحمد في مسنده (12208) وابن ماجه (3993)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(2042).]وَفِي رِوَايَةٍ « مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[أخرجه الترمذي في سننه(2641)، وحسنه.]. وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ " أَهْلُ السُّنَّةِ " وَهُمْ وَسَطٌ فِي النِّحَلِ؛ كَمَا أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ فِي الْمِلَلِ.
المؤلف -رحمه الله- بيَّن أن الصراط المستقيم الذي يسأله أهل الإسلام وأمر الله تعالى بسؤاله في قوله :]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[[سورة الفاتحة: 6.] ، هو دين الإسلام المحض، وهذا أحد ما فُسِّر به الصراط المستقيم.
أحد الأقوال في تفسير الصراط المستقيم أنه دين الله المحض، الإسلام، وقيل: إنه القرآن، وقيل: إنه العلم النافع والعمل الصالح، وجميع الأقوال هي من باب التفسير بتنوع العبارة، فهو ليس اختلاف تضاد، وإنما هو اختلاف تنوع.
وذكر أن السنة المحضة هي دين الإسلام، واستشهد لذلك بحديث الافتراق، الذي فيه أن الأمة ستفترق وهو حديث مشهور، وقد صححه الأئمة وقبلوه، وذهب بعض الأئمة إلى ضعفه، والطعن في إسناده، لكن الحديث جاء من طرق عديدة يشد بعضها بعضاً، وهو قابل للاحتجاج.
ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة وطائفة، اجتهد بعض أهل العلم إلى التعيين، لكن الله أعلم بالتعيين الجازم؛ لأن النبيrأخبر بافتراق ولم يخبر بمدته.
فالذين ألَّفوا في الفرق من القرون الماضية، ألفوا في الفرق بناءاً على ما عاشروه وعاصروه من الفرق التي حدثت في وقتهم ومن قبلهم، لكنهم لا يكتبون في الفرق التي ستأتي، فمثلاً العلمانيون من الفرق التي بُلي بها بعض طوائف الأمة، فهل هذه خارجة عن الثنتين والسبعين فرقة أم أنها منها؟ هذه مسائل تحتاج إلى تحرير.
أيضاً بدع جدَّت وبلايا وأقوال شاذة حدثت لم تكن في سابق الزمن، هذه أيضاً لابد من اعتبارها وضمها ضمن الثلاث والسبعين فرقة.
مع أن بعض العلماء جعل هذه الثلاث والسبعين فرقة ترجع إلى أصول من فرق الضلال، لكن الظاهر أن ما كان متفقاً في الأصول فإنه يعد فرقة واحدة ولا يفصل بعَدٍّ مستقل.
على كلٍّ الشاهد أن النبيrأخبر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وميَّز صفة هذه الواحدة بميزتين:
الرواية الأولى أنها الجماعة.
والرواية الثانية: ما كان عليه وأصحابه، والذي عليه وأصحابه هو السنة.
يقول -رحمه الله- :"وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ "أَهْلُ السُّنَّةِ"، وَهُمْ وَسَطٌ فِي النِّحَلِ؛ كَمَا أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ فِي الْمِلَلِ" هذه أي ومثل أهل الإسلام في سائر أهل الأديان فكذلك أهل السنة في سائر طوائف الأمة.
والشيخ -رحمه الله- قد ابتدأ هذا المقطع من كلامه بقوله :"وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ "أَهْلُ السُّنَّةِ " وَهُمْ وَسَطٌ فِي النِّحَلِ؛ كَمَا أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ فِي الْمِلَلِ".
المؤلف -رحمه الله- بيَّن وسطية أهل السنة في الطوائف والنحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل والأديان، وابتدأ ذلك بذكر وسطية المسلمين بين سائر أهل الأديان.
قال -رحمه الله-:"وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ " أَهْلُ السُّنَّةِ " وَهُمْ وَسَطٌ فِي النِّحَلِ؛ كَمَا أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ فِي الْمِلَلِ،فَالْمُسْلِمُونَ وَسَطٌ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ؛ لَمْ يَغْلُوا فِيهِمْ كَمَا غَلَتْ النَّصَارَى، فَــــ]اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[[ التوبة(31).]، وَلَا جَفَوْا عَنْهُمْ كَمَا جَفَتْ الْيَهُودُ؛ فَكَانُوا يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ، وَكُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا. بَلْ الْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِرُسُلِ اللَّهِ وَعَزَّرُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ وَوَقَّرُوهُمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَأَطَاعُوهُمْ، وَلَمْ يَعْبُدُوهُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوهُمْ أَرْبَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:]مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [.[ آل عمران(79-80)]
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَوَسَّطُوا فِي "الْمَسِيحِ"، فَلَمْ يَقُولُوا هُوَ اللَّهُ وَلَا ابْنُ اللَّهِ، وَلَا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى، وَلَا كَفَرُوا بِهِ وَقَالُوا عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا حَتَّى جَعَلُوهُ وَلَدَ بَغِيَّةٍ كَمَا زَعَمَتْ الْيَهُودُ، بَلْ قَالُوا: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ "وَسَطٌ فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ"، فَلَمْ يُحَرِّمُوا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَنْسَخَ مَا شَاءَ وَيَمْحُوَ مَا شَاءَ، وَيُثْبِتَ كَمَا قَالَتْهُ الْيَهُودُ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:]سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[[ البقرة:142.]، وَبِقَوْلِهِ:]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ[[البقرة:91]، وَلَا جَوَّزُوا لِأَكَابِرِ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ أَنْ يُغَيِّرُوا دِينَ اللَّهِ فَيَأْمُرُوا بِمَا شَاءُوا وَيَنْهَوْا عَمَّا شَاءُوا كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ[[ التوبة:31.]، قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ tقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَبَدُوهُمْ ؟ قَالَ :«مَا عَبَدُوهُمْ ؛ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ»[أخرجه الترمذي في سننه(3095)، وحسنه.].
وَالْمُؤْمِنُونَ قَالُوا : "لِلَّهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ " فَكَمَا لَا يَخْلُقُ غَيْرُهُ لَا يَأْمُرُ غَيْرُهُ، وَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ؛ فَأَطَاعُوا كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَقَالُوا:]إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ[[ المائدة:1.]. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَ أَمْرَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ عَظِيمًا .
وَكَذَلِكَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنَّ الْيَهُودَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِالنَّاقِصَةِ؛ فَقَالُوا: هُوَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَقَالُوا : يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ، وَقَالُوا : إنَّهُ تَعِبَ مِنْ الْخَلْقِ فَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى وَصَفُوا الْمَخْلُوقَ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَقَالُوا: إنَّهُ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ؛ وَيَغْفِرُ وَيَرْحَمُ وَيَتُوبُ عَلَى الْخَلْقِ وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَالْمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ وَلَا نِدٌّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .
فَإِنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ عِبَادٌ لَهُ فُقَرَاءُ إلَيْهِ ]إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[[مريم:93-95]، وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ]فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ[[النساء:160]، فَلَا يَأْكُلُونَ ذَوَاتِ الظُّفُرِ؛ مِثْلَ الْإِبِلِ وَالْبَطِّ، وَلَا شَحْمَ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ؛ وَلَا الْجَدْيَ فِي لَبَنِ أُمِّهِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا؛ حَتَّى قِيلَ:إنَّ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نَوْعًا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ مِئَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَمْرًا وَكَذَلِكَ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي النَّجَاسَاتِ حَتَّى لَا يُؤَاكِلُوا الْحَائِضَ وَلَا يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَاسْتَحَلُّوا الْخَبَائِثَ وَجَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَبَاشَرُوا جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ الْمَسِيحُ: ]وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[[آل عمران:50]، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:]قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[[التوبة:29.]
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَكَمَا نَعَتَهُمْ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ:]وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[.[ الأعراف(156-157)]وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ .
ثم انتقل وقال:" وَهَكَذَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْفَرْقِ "، أي أنهم وسط؛ وذلك لأنهم مستمسكون بالإسلام المحض والدين القويم والصراط المستقيم، الذي جاء به خير الأنام محمد بن عبد اللهr.
فوسطية أهل السنة والجماعة هي ترجمة وانعكاس لوسطية المسلمين التي قال الله تعالى فيها:]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[[سورة البقرة :143.].
فلما كان أهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام المحض كان نصيبهم من الوسطية أعظم من غيرهم.
ولذلك يقول المؤلف:"وَهَكَذَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْفَرْقِ "، ليس عندهم شطط، ولا عندهم تفريط، فليس فيهم غلو ولا جفاء ، بل دينهم كما قال الله تعالى في وصف ما جاء به النبيr: ]وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[[سورة الشورى: 52.].
وقال تعالى فيما ذكرته الجن في وصف القرآن:]يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ[[ سورة الأحقاف: 30.].
فهذا الطريق، وهذا المسلك الذي عليه أهل السنة والجماعة – نسأل الله أن يسلكنا في نظامهم، وأن يحشرنا في زمرتهم – هو الدين المحض والإسلام المحض الذي جاء به النبيr.
ولذلك سلم من الانحراف ومن الزيغ، لا فيه غلو ولا فيه جفاء، لا إفراط ولا تفريط، بل هو الحنيفية السمحة، الدين الوسط القويم الذي جاء به خير الأنامr.
يقول المؤلف -رحمه الله- في بيان وسطية أهل السنة والجماعة في الفرق:" فَهُمْ فِي " بَابِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ".
وهذه نماذج ذكرها المؤلف -رحمه الله- وليست الوسطية محصورة في هذا الذي ذكره، ولكن هذه نماذج لبيان أبرز الفرق التي ضلت في زمن المؤلف -رحمه الله- وما قبله، وكيف أن أهل السنة والجماعة وسط في تلك الضلالات، وتلك الانحرافات.
ففي" بَابِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ" أي:ما أخبر الله تعالى به عن نفسه، أو أخبر به رسولهr.
وَسَطٌ بَيْنَ " أَهْلِ التَّعْطِيلِ" الذين يلغون ما وصف الله به نفسه، يعطِّلون، يخلُّون الله تعالى مما وصف به نفسه، إما كليًّا وإما جزئيٍّا كالجهمية، أو كبعض مثبتة الصفات.
قال:"الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَيُعَطِّلُونَ حَقَائِقَ مَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ "، إما تعطيل كلي، أو تعطيل جزئي.
"حَتَّى يُشَبِّهُوهُ بِالْعَدَمِ وَالْمَوَاتِ"، هذا فيه منتهى ما وصلوا إليه من التعطيل، فألغوا ما وصف الله تعالى به نفسه، فلا يسمع ولا يبصر ، وليس بعليم ولا حليم ولا بكريم، ولا برحمن، ولا بإله، ولا بسائر ما ذكره الله تعالى عن نفسه من صفات.
قال:"وَبَيْنَ أَهْلِ التَّمْثِيلِ" الذين يثبتون الصفات لكنهم يغلون في الإثبات حتى يمثلون ما لله تعالى بما للمخلوق، فيقولون يده كأيدينا وسمعه كسمعنا، وبصره كبصرنا، فهؤلاء" يَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ وَيُشَبِّهُونَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ ".
أهل السنة والجماعة سلموا من هاتين الضلالتين، فكانوا على الصراط القويم.
يقول المؤلف- رحمه الله-:"فَيُؤْمِنُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ" إذاً يقرونبما وصف الله تعالى به نفسه، "وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ rمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَتَمْثِيلٍ ".
وهذا القيد الذي ذكره المؤلف " مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَتَمْثِيلٍ"، يسلم به المؤمن من الضلالتين في باب الأسماء والصفات، لأن الضلال في باب الأسماء والصفات يرجع إلى أحد هاتين الضلالتين، إما ضلالة التعطيل، وإما ضلالة التمثيل.
فضلالة التعطيل الوقاية منها بقوله :"مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ"؛ لأنه لا يمكن أن يصل المعطل إلى تعطيل الصفات إلا بتحريف، فيأتي على قول الرحمن I:]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[[سورة طه :5.].
ما يؤمن بهذه الآية، ما قال الله هذا الكلام، ما يستطيع، فالقرآن قد ثبت ثبوتاً لا يمكن إنكاره، ولذلك يتمنى بعض كبراء المبتدعة الذين مرجت قلوبهم ومردت على الضلال والزيغ ، قال : "وددت أن أحك من المصحف قول الله تعالى:]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[،لكونه ضاق بها نفسه، لا يمكن حتى لو حكها من مصحفه، فلا تزال مثبته في صدور المؤمنين ويقرؤها المسلمون الذين يثبتون والذين ينكرون كلهم يقرأ: ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[.
فلذلك يسلكون في التعطيل مسلك التحريف وهو: صرف الكلام عما دل عليه، هذا معنى التحريف.
ويزيغون به يَمنة ويسرة، فيحرفون الكلم عن مواضعه، ويقعون فيما وقع فيه الأمم الضالة المتقدمة.
قوله :"وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَتَمْثِيلٍ "، هذا للسلامة مما وقع فيه أهل التمثيل، الذين مثلوا صفات الله تعالى بصفات خلقه.
بدأ بذكر التكييف؛ لأنه لا يصل الإنسان إلى التمثيل إلا بالتكييف، فأول ما يقول: كيف صفاته؟ كيف استوى؟ كيف يسمع؟ كيف يبصر؟ فيبدأ يقول: استوى كاستوائنا، ويسمع كسمعنا، ثم يأتي بعد ذلك ذكر الكيفية جاء التمثيل.
ولذلك هؤلاء وقعوا في الضلال والانحراف، فمثَّلوا ما لله تعالى بما للمخلوق، والله تعالى قد نفى ذلك في آيات عديدة في كتابه، قال:]ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[[ سورة الشورى: 11]
وقال سبحانه وتعالى:]هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[[ سورة مريم :65.]
وقال تعالى:]وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[[ سورة الإخلاص: 4.]
كل هذه الآيات والنصوص وغيرها الكثير في نفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات، أو مماثلة المخلوقات لله تعالى، بل له Iالمثل الأعلى والصفة العليا، لا يشركه فيها أحد؛ لا في الأسماء ولا في الصفات، ولا في الأفعال، ولا في ما يجب له سبحانه وبحمده.
هذا الباب الأول، بيَّن المؤلف مسلك أهل السنة والجماعة فيه.
قال:"وَهُمْ فِي بَابِ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ"، يعني ما يتعلق بالقدر، يعني الجمع بين القدر والشرع، الخلق يتعلق بالقدر، والأمر يتعلق بالشرع، قال الله تعالى:]أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ[[سورة الأعراف: 54]
فهم فيما يتعلق بالجمع بين أمره القدري الكوني ،وبين أمره الديني الشرعي، وسط بين ضلالتين، بين الجبرية وبين القدرية المعتزلة الذين ينفون قدر الله تعالى، وينفون خلقه ومشيئتهI، وإن كان المتقدمون منهم أهل الغلو ينفون أيضاً علمه وكتابته.
يقول المؤلف -رحمه الله-:"وَهُمْ فِي "بَابِ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ" وَسَطٌ بَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ؛ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ، وَخَلْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ"،وهؤلاء هم القدرية الذين صار إليهم المعتزلة والرافضة، كلهم قدرية.
قال:"وَبَيْنَ الْمُفْسِدِينَ لِدِينِ اللَّهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَشِيئَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا عَمَلٌ"، وهؤلاء هم الجبرية، وسماهم المفسدين لدين الله؛ لأن عقدهم يقتضي إلغاء الشرائع، ما في فائدة إذا كان الله تعالى لا يغلب قدره على شرعه ويتعبد له بالشرع، إذاً ما فائدة بعث الرسل؟ ما فائدة إنزال الكتب؟ ما فائدة الحدود والشرائع التي شرعها؟ لا فائدة منها؛ لأن الجميع طائع، الذي يعصي والذي يطيع كلهم في ميزان سواء.
يقول:" فَيُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ "، يعني يعطلون الدين والشرائع،" وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ"، هذا ما يترتب في الآخرة، فيقولون: يدخل الله تعالى أهل الجنة إلى الجنة لا لكونهم أطاعوا، ويدخل أهل النار النار لا لكونهم عصوا، بل شاء أن يكون هذا في النار، وشاء أن يكون هذا في الجنة، ولذلك لا غرابة أن يكون الشيطان في الفردوس الأعلى، ومحمد في أسفل سافلين عند هؤلاء، لماذا؟ لأن دخول الجنة ودخول النار ليس له علاقة بالعمل، ولا بالأمر والنهي إنما هو محض المشيئة، المجردة عن الحكمة، وهؤلاء لا شك أنهم قدحوا في الله تعالى أعظم القدح.
ولذلك قال الشيخ -رحمه الله- :"الْمُفْسِدِينَ لِدِينِ اللَّهِ"، لأنهم أفسدوا الدين فساداً عظيماً، ولذلك بدعة الجبرية أعظم من بدعة القدرية، فالقدرية عندهم من تعظيم الله تعالى ما ليس عند الجبرية، ولذلك بدعتهم في موازنة البدع بدعتهم أخف، وهذا القول يقول به غلاة الصوفية الذي يقول قائلهم :" أدين بدين الحب أنَّا توجهت ركائبهم فالحب ديني وإيماني".
ويقول قائلهم أيضاً: ما الكلب والخنزير إلا إلهنا هنا وما ربنا إلا عابد في صومعة".
فهؤلاء أصبح عندهم كل ما في الكون عندهم سواء، ولذلك لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، ولا يسعون لإقامة الشرائع لأنعم اعتقدوا أن الجميع سواء عند الله.
فلا يكون في ملك الله إلا ما يحب، وهذا كذب، فإن الله -جل وعلا- في الكفرقال:]وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ[[سورة الزمر: 7.]
فنفى رضاه عن الكفر مع أنه بمقدره ومشيئته، فانظر كيف الضلالتان، ضلالة من ألغى القدر، ومن غلا في إثباته حتى ألغى الشرع.
فأهل السنة والجماعة سلكوا طريقاً قويماً بين هاتين الضلالتين، فأثبتوا الشرائع، وآمنوا بقضاء الله وقدره.
يقول المؤلف:"فَيُؤْمِنُ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ".
ما من شيء إلا بقضاء الله وقدره، ]إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[[ سورة القمر : 49.]
" فَيَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ الْعِبَادَ وَيُقَلِّبَ قُلُوبَهُمْ"، فالله تعالى يحول بين المرء وقلبه، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يصرفها كيف يشاء سبحانه وبحمده.
ثم قال :"وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ"، وهذا في الرد على بدعة القدرية.
قال:"فَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْ إنْقَاذِ مُرَادِهِ"، كما تقول القدرية،"وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ" هذا كله رد على القدرية.
ورده على الجبرية يقول:" وَيُؤْمِنُونَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ "، وهذا فيه رد على الجبرية؛ لأن الجبرية يلغون أن يكون لك إرادة أو مشيئة أنت إنما أمرك كالريشة في مهب الريح، يصرفها الريح كيفما يشاء ليس لك أي اختيار، ولا لك أي إرادة، فكيف تعاقب وتثاب.
قال:"وَيُؤْمِنُونَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَعَمَلٌ وَأَنَّهُ مُخْتَارٌ"، وهذا فيه جواب على سؤال يتكرر من بعض الناس: هل الإنسان مُسيَّر أم مخير.
يقول:"وَأَنَّهُ مُخْتَارٌ وَلَا يُسَمُّونَهُ مَجْبُورًا"، يعني أهل السنة لا يسمونه مجبوراً، كرهها الإمام أحمد، وابن المبارك، وجماعة من السلف أن يوصف الإنسان أنه مجبور؛ لأن وصفه بأنه مجبور يعني إلغاء اختياره، والله تعالى قد جعل للعبد اختيارا وإرادة، ولذلك يضيف الفعل إليه، ولذلك يمدح أصحاب الأفعال الحميدة، ويذم أصحاب الأفعال الذميمة، ولو لم يكن لهم اختيار لأفعالهم لما كان لمدحهم وجه، ولما كان لمدحهم معنى، ولا كان لذم المسيئين أيضاً وجه ولا معنى.
فمن فعل الأفعال الحميدة باختياره فقد استوجب المدح، ومن فعل المذموم فقد فعله باختياره، فاستوجب الذم.
يقول -رحمه الله-:"وَلَا يُسَمُّونَهُ مَجْبُورًا؛ إذْ الْمَجْبُورُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى خِلَافِ اخْتِيَارِهِ"، والإنسان ليس مكره على خلاف خياره، بل الله تعالى قال:]وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[[سورة التكوير :29.] ، فأثبت للعبد اختيار، وأخبر أن مشيئة العباد لا تخرج عن مشيئته سبحانه وبحمده.
"وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعَبْدَ مُخْتَارًا لِمَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ مُخْتَارٌ مُرِيدٌ، وَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَخَالِقُ اخْتِيَارِهِ "
ثم قال:"وَهَذَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ"، هذا يحل إشكالًا كبيرًا في مسألة القدر، وأن القدر ليس له نظير، يعني يقول: كيف يختار واختياره لا يخرج عن مشيئة اللهI؟ نقول هذا لا تسأل عنهبالكيفية لأن أمر القدر سر الله في خلقه، لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبيًّا مرسلاً، النظر فيه والتأمل هو ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، وسبب لوقوع الإنسان في أنواع من الضلال.
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يسلم لله تعالى قدره، وأن لا يلج في ذلك نوع من التوهم، أو نوع من الخرص، أو نوع من الظن، فإنه سيصل إلى نوع من الحيرة والضلال ثم ينحرف إما إلى القدرية وإما إلى الجبرية، فيقع في الضلال.
لكنه إذا سلك هذا المسلك القويم فأثبت أمر الله تعالى ونهيه – وهو الشرع- وأثبت قدره وقدرته، فإنه يجتمع له كل ذلك، ويعلم أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئاً]وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[[سورة فصلت: 46]
وهذا يريح العبد، ويشعره بالطمأنينة، ويحل عنه إشكالات كثيرة فيما يتعلق بالقدر.
إذا عجزت عن إدراك أن يكون العبد مختاراً، واختياره لا يخرج عن اختيار الله، فاعلم أنذلك ليس له نظير، ولذلك يقول المؤلف:"وَهَذَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ،فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ "، وقدره Iمن أفعاله، فينبغي أن يؤمن العبد ويسلم بما قضاه الله تعالى وقدَّره، بما أمر به وبما نهى عنه.
قال:"وَهُمْ فِي " بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ الْوَعِيدِ " وَسَطٌ بَيْنَ الوعيدية".
هذا أيضاً مما توسط فيه أهل السنة والجماعة بين ضلالتين من الضلالات.
فَصْلٌ :
وَأَنْتُمْ أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْإِسْلَامِ، الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ، وَعَافَاكُمْ اللَّهُ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ .
وَالْإِسْلَامُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّهَا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[[آل عمران:85.]، وَعَافَاكُمْ اللَّهُ بِانْتِسَابِكُمْ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَكْثَرِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ بِدَعِ الرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ، بِحَيْثُ جَعَلَ عِنْدَكُمْ مِنْ الْبُغْضِ لِمَنْ يُكَذِّبُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ يَسُبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ rمَا هُوَ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الدِّينِ، وَلِهَذَا كَثُرَ فِيكُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ الْمُجَاهِدِينَ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَمَا زَالَ فِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمَنْصُورَةِ، وَجُنُودِ اللَّهِ الْمُؤَيَّدَةِ مِنْكُمْ مَنْ يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ وَيُعِزُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ مِنْكُمْ مَنْ لَهُ الأَحْوَالُ الزَّكِيَّةُ، وَالطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ، وَلَهُ الْمُكَاشَفَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ .
وَفِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مَنْ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْعَالَمِينَ، فَإِنَّ قُدَمَاءَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ مِثْلَ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ " أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَد بْنِ يُوسُفَ الْقُرَشِيِّ الهكاري"، وَبَعْدَهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الْقُدْوَةُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيُّ "، وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمَا فِيهِمْ مِنْ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ، وَرَفَعَ بِهِ مَنَارَهُمْ، وَالشَّيْخُ عَدِيٌّ " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَكَابِرِ الْمَشَايِخِ الْمُتَّبَعِينَ، وَلَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ الْعَلِيَّةِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، وَلَهُ فِي الْأُمَّةِ صيت مَشْهُورٌ ، وَلِسَانُ صِدْقٍ مَذْكُورٌ، وَعَقِيدَتُهُ الْمَحْفُوظَةُ عَنْهُ لَمْ يَخْرُجْ فِيهَا عَنْ عَقِيدَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، كَالشَّيْخِ الْإِمَامِ الصَّالِحِ "أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ الشِّيرَازِيِّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيِّ" وَكَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الهكاري" وَنَحْوِهِمَا، وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ أُصُولِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ "، بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ وَأَعْلَى مَنَارَهُمْ ، وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ جَيِّدٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَرْجُوحَةِ وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ .