الدرس (5) من شرح رسالة الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
وبعد ذلك قال -رحمه الله- :"وَقَدْ يَرْوِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ : فِي الصِّفَاتِ وَسَائِرِ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِوَعَامَّةِ أَبْوَابِ الدِّينِ، أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَكُونُ مَكْذُوبَةً مَوْضُوعَةً "أي: ليست بثابتة عن رسول الله rبل هي موضوعة عليه، وليست من قوله، وهي على قسمين منها:وَقَدْ يَرْوِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: فِي الصِّفَاتِ وَسَائِرِ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِوَعَامَّةِ أَبْوَابِ الدِّينِ: أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَكُونُ مَكْذُوبَةً مَوْضُوعَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ rوَهِيَ قِسْمَانِ :
مِنْهَا مَا يَكُونُ كَلَامًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ r.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكَلَامِ: مَا يَكُونُ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ، أَوْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضُ النَّاسِ وَيَكُونُ حَقًّا، أَوْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، أَوْ مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ، فَيُعْزَى إلَى النَّبِيِّ rوَهَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ مِثْلَ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّيْخُ " أَبُو الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ " وَجَعَلَهَا مِحْنَةً يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ، وَهِيَ " مَسَائِلُ مَعْرُوفَةٌ " عَمِلَهَا بَعْضُ الْكَذَّابِينَ وَجَعَلَ لَهَا إسْنَادًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ r، وَجَعَلَهَا مِنْ كَلَامِهِ، وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا مُوَافِقًا لِأُصُولِ السُّنَّةِ فَفِيهَا مَا إذَا خَالَفَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ، مِثْلَ أَوَّلِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالنِّزَاعُ فِيهَا لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي يَعْقُبُهَا أَلَمٌ؛ هَلْ تُسَمَّى نِعْمَةً أَمْ لَا؟ وَفِيهَا أَيْضًا أَشْيَاءُ مَرْجُوحَةٌ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْحَدِيثِ الْكَذِبِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ؛ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دُونَ الْمَوْضُوعَةِ، فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا، وَلِمَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ خُصُوصًا.
المؤلف -رحمه الله- في ختام هذا الفصل بعد أن بيَّن كيف تُعرف سنة رسول الله rنبه إلى أمر مهم، وهو وجوب العناية بتمييز الصحيح من غيره، مما ينسب إلى النبي r.
فَصْلٌ :
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ ، وَالْجَافِي عَنْهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ، لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفِرَ: إمَّا إفْرَاطٌ فِيهِ وَإِمَّا تَفْرِيطٌ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ قَدْ اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ؛ حَتَّى أَخْرَجَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ؛ بَلْ أَخْرَجَ طَوَائِفَ مِنْ أَعْبَد هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَوْرَعِهَا عَنْهُ، حَتَّى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ rبِقِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْهُ ؛ فَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري، وَسَهْلِ بْن حنيف، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ " yوَغَيْرِ هَؤُلَاءِ ، أَنَّ النَّبِيَّ rذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ:« يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أَوْ فَقَاتِلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ »[صحيح البخاري(3610)، ومسلم(1047).] وَفِي رِوَايَةٍ « شَرُّ قَتِيلٍ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ »[أخرجه الترمذي في سننه(3000)، وحسنه.]وَفِي رِوَايَةٍ «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَا زُوِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ rلَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ».[صحيح مسلم(1066)] ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا خَرَجُوا فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ tقَاتَلَهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ r" بِأَمْرِ النَّبِيِّ rوَتَحْضِيضِهِ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ rوَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ، وَلِهَذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا "الرَّافِضَةَ" الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ سِوَاهُمْ كَافِرٌ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يُؤْمِنُ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ يَمْسَحُونَ الْقَدَمَيْنِ وَلَا يَمْسَحُونَ عَلَى الْخُفِّ، وَيُؤَخِّرُونَ الْفُطُورَ وَالصَّلَاةَ إلَى طُلُوعِ النَّجْمِ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَيَقْنُتُونَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَيُحَرِّمُونَ الْفُقَّاعَ وَذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَبَائِحَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى الصَّحَابَةِ yأَقْوَالًا عَظِيمَةً لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا هُنَا إلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ، فَقَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ rوَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَدْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَنْ مَرَقَ مِنْهُ مَعَ عِبَادَتِهِ الْعَظِيمَةِ؛ حَتَّى أَمَرَ النَّبِيُّ rبِقِتَالِهِمْ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُنْتَسِبَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَدْ يَمْرُقُ أَيْضًا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَدَّعِيَ السُّنَّةَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بَلْ قَدْ مَرَقَ مِنْهَا.
المؤلف -رحمه الله- في هذا الفصل وجه النصيحة لجماعة الشيخ عدي بن مسافر ببيان وسطية أهل السنة والجماعة، وقد تقدم ذكر ذلك تفصيلاً، في ما تقدم في هذه الرسالة المباركة، إلا أن الشيخ رحمه الله في هذا الفصل بيَّن ما عليه حال الناس عموماً من حيث سلوكهم فيما أمر الله تعالى ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: الصراط المستقيم، وهو قصد السبيل الذي يصدق عليه قول الحق -جل وعلا-:]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[.[سورة البقرة:143]
فهو مسلك الوسط الذين قال عنهم علي بن أبي طالب t:" النمط الأوسط" أي الطريق المستقيم، هم الخيار الذين لم يسلكوا إفراطاً ولا تفريطاً.
والقسم الثاني هم: الذين أفرطوا فزادوا وغلوا واشتدوا واشتطوا.
والقسم الثالث هم: الذين فرَّطوا وقصَّروا بالقصور عن الحق في القول أو العمل.
يقول المؤلف -رحمه الله- :"وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ ، وَالْجَافِي عَنْهُ" الغالي الذي يزيد فيه بغلو، والجافي عنه الذي ينقص عنه بقصور وتفريط.
قال:" وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ "، هذا من كلام بعض السلف، أنه ما من أمرٍ أمر الله به إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما بإفراط وإما بتفريط، إما بغلو وإما بجفاء.
يقول -رحمه الله-:"وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفِرَ"، أي: لا يهمه أيهما أصاب"إمَّا إفْرَاطٌ فِيهِ"، وهو الزيادة والمجاوزة والخروج عن الاعتدال بالتنطع والتعمق، "وَإِمَّا تَفْرِيطٌ فِيهِ"، وهو القصور وعدم القيام بما أوجب فيما أمر، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه عن عمل الشيطان في مثل قوله تعالى:]فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[.[سورة الأعراف : 16 – 17.]
فقد ذكر الشيطان محاصرته للإنسان من كل سبيل، ومن كل طريق، من أمامهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، والعاقبة لهذا الكيد خروجهم عن التعبد، ولذلك قال: ]وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[، أي: عابدين، فالشكر هنا بمعنى العبادة، فهو يخرجهم عن الطريق المستقيم، ومجيئه من الأمام ومن الخلف، ومن اليمين ومن الشمال، هذه طرقه التي يدخل بها على الإنسان، وقد ذكر بعض أهل التفسير أنه يأتيهم من الأمام فيصدهم عن الطاعة، ويأتيهم من الخلف فيدفعهم إلى المعصية، ويأتيهم عن اليمين فيقعد بهم عن سلوك الصراط المستقيم، وعن اليسار ينشطهم على المعصية.
هكذا ذكر بعض أهل التفسير من السلف ومن بعدهم والأمر كذلك وأشد، فالشيطان ما ترك سبيلاً من السبل الموصلة إلى الله تعالى إلا وصد عنها، بأنواع من الصد الظاهر والباطن، ولا هناك طريق يوصل إلى الله تعالى إلا وهو قاعد عليه، يصرف الناس عنه، ويصد عن سبيل الله.
ولا هناك طريق من طرق الشر والفساد إلا وقد رفع رايته عنده، يدعو إليه، ويزينه، ويحث الناس على سلوكه.
والشيطان لا يهمه ما نوع الضلالة التي يقع فيها الإنسان، هل هي زيادة أو قصور، المهم أن يخرج عن هذه الجادَّة كيفما كانت هذه المخارج، وكيفما كان هذا الانحراف، بزيادة أو بنقص.
ولذلك قال:"لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفِرَ" أي: حصَّل، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه.
قال :"وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ قَدْ اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ؛ حَتَّى أَخْرَجَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ".
المؤلف الآن يبين تطبيق هذه القاعدة على الدين كله، الإسلام بعقائده وأعماله بأصوله وفروعه، الشيطان جاء الناس بكل ما يصدهم عن هذا الدين الذي لا يقبل الله سواه، والذي هو مفتاح الجنة ونجاة الخلق في الدنيا والآخرة ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [[سورة آل عمران :85.]،]إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ[.[سورة آل عمران :19]
يقول :"قَدْ اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ" أي: إلى الإسلام "حَتَّى أَخْرَجَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِهِ"أي: أحكامه وما جاء به.
يقول :"بَلْ أَخْرَجَ طَوَائِفَ مِنْ أَعْبَدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَوْرَعِهَا عَنْهُ" أي: جماعات من أعبد هذه الأمة قياماً بأحكامه وعملاً بشرائعه،ومن أشدهم ورعاً، وهو ترك ما تخشى وتخاف عاقبته في الآخرة.
فالورع : هو ترك ما تخشى عاقبته في الآخرة.
ثم قال:"حَتَّى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ"، وهذا بيان عظيم انحرافهم، وشدة خروجهم عن هذا الدين، حتى آل بهم الأمر أن مرقوا، والمروق سرعة المرور والخروج من الشيء،"كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ" أي: كما ينفذ السهم المنطلق الشديد الدفع في الصيد الذي رميته إليه.
يقول:"وَأَمَرَ النَّبِيُّ rبِقِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْهُ ؛ فَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري، وَسَهْلِ بْن حُنيف وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَسَعْدِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ " yوَغَيْرِ هَؤُلَاءِ ، أَنَّ النَّبِيَّ rذَكَرَ الْخَوَارِجَ ".
هنا المؤلف يذكر شيئاً من تلاعب الشيطان ببعض من انتسب إلى هذا الدين، كيف كان تسلطه عليهم وسطوته في إضلالهم، أن بلغ بهم هذا الحد في سرعة الخروج عن الدين، وما هو الموقف من هؤلاء، وهذا فيه التحذير إلى هؤلاء الذين كتب إليهم الشيخ -رحمه الله- أن يتلاعب بهم الشيطان، أو أن يخرجهم، وذكره للعبادة والورع أن هذه الطائفة امتازت بكثرة التعبد، وعظيم الورع، فبيَّن أن التعبد والورع ليس كافياً في الشهادة للإنسان أنه على صراط مستقيم، وأنه على طريق قويم، بل لابد أن ينظر فيما هو فيه من عمل سنة النبيr، وينظر هديه ويلتزم شرعه، فإنه بذلك يكمل له السلوك في هذا الطريق القويم.
يقول فيما ذكره النبيrفي انحراف هؤلاء، وما الموقف منهم.
قال النبيr:« يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ»، هذا وصف وتزكية من النبيrلحسن عمل هؤلاء.
وقوله:«يُحَقِّرُ» أي: يقلُّ في عينه وينزل في نظره عمله في مقابل عمل هؤلاء، صلاته في مقابل صلاتهم، ينزل في نظره صيامه في مقابل صيامهم، وقراءته في مقابل قراءتهم.
ولذلك يقول:« يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ».
ومن المخاطب بهذا الكلام، أنا وأنت؟ لا، المخاطب بهذا صحابة رسول اللهrالذين هم خير القرون كما قال النبيrفيما رواه في "الصحيح" من حديث عمران بن حصين وكذلك من حديث ابن مسعود، عن النبيrقال:«خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ...»[رواه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533).]
يقول :"يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ "، أي: يتلونه ولا يجاوز حناجرهم نزولاً، لأنه يقرأ القرآن بلسانه فلا يجاوز حناجرهم، يعني لا ينفُذ أثره إلى قلوبهم، فهم ليس لهم من القرآن إلا قراءة ألفاظه، كما قال الله تعالى:]وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ[.[ سورة البقرة :78.]
فهؤلاء يكثرون قراءته، لكنهم لا يقفون عند معانيه، ولا يتدبرون أسراره وحكمه، ومقاصده وغاياته، بل غاية همهم في كثرة قراءته دون النظر إلى معانيه، ولذلك قال«لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ » فغاية ما هنالك من تأثير القرآن على هؤلاء هو تأثير لفظي بمخارج الحروف.
أما تأثيره بإصلاح القلب وإقامته وتزكيته فليس له أثر.
قال :«يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ» أي: يمرون منه«كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ »، وهذا فيه أن قراءة القرآن إذا لم يكن فيها تدبر، وإذا لم يكن لها إحكام بموافقة هدي خير الأنام rفي القراءة فإنه لا ينتفع بها صاحبها، ولذلك قال النبيr«...وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ...».[ رواه مسلم في الطهارة (223).]
وهؤلاء القرآن حجة عليهم، يقرؤونه ولا يتدبرون معانيه.
يقول:«أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أَوْ فَقَاتِلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا » هكذا يقول النبيrالذي هو رحمة: «أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ » لعظيم ضررهم ، وشدة خطرهم، وتحريفهم لهذا الدين الذي جاء به النبيr.
ثم قال:«فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا »؛ لأن فيه حفظاً للسنة، وحفظاً للشريعة من الزيادة والغلو الذي يفضي بأهله إلى الهلاك كما في حديث ابن مسعود في "الصحيح"« هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ » قَالَهَا ثَلاَثًا.[رواه مسلم في العلم (2670).]
بعد أن ندب إلى قتلهم ، بيَّن موقفه من هؤلاء، فقال :«لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»، أي: قتلا لا يبقي منهم أحداً، وهذا معنى قتل عاد، لأن عاد لما قتلوا لم يبق منهم أحد، لما نزل بهم الهلاك لم يبق منهم أحد.
قال :وَفِي رِوَايَةٍ« شَرُّ قَتِيلٍ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ »[سبق.] وذلك في بيان عظيم أجر من قاتلهم.
وَفِي رِوَايَةٍ «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَا زُوِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ r- أي من المثوبة والأجر -لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ»أي لتركوا العمل واقتصروا على قتالهم لما في قتالهم من عظيم الأجر وكبير النوال من رب العالمين.
يقول:"وَهَؤُلَاءِ" الذين وصف النبيr"خَرَجُوا فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ tقَاتَلَهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ r" بِأَمْرِ النَّبِيِّ rوَتَحْرِيضِهِ" في قوله: "لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَا زُوِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ rلَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ»" وأيضاً لقوله:«لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»،وغير ذلك من الأحاديث النادبة إلى قتلهم.
يقول : "وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ "، بل إن قتالهم من مناقب علي t، ومن مفاخره، وعظيم أعماله t.
يقول :"وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ rوَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ"، يعني هذا الحكم لا يختص هذه الفئة، إنما كل فئة امتنعت عن شرائع الإسلام، واجتمعت على بدعة، وأبت القبول بالكتاب والسنة، فإن شأنهم شأن هؤلاء في مشروعية مقاتلتهم.
هل قتالهم يدل على كفرهم؟ هكذا قال طائفة من أهل العلم.
قالوا:" إن النبيrلما أمر بقتالهم وندب، وبيَّن فضيلة قتلهم دل ذلك على كفرهم".
ولكن هذا ليس بصحيح، فإنه لا تلازم بين القتال والكفر، فإنه قد يقتل من يكون مسلماً، قال الله تعالى في القاتل:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ[.[ سورة البقرة :178.]،فأثبت عقد الأخوة بين القاتل والمقتول، فدل ذلك على أنه لا تلازم ولا ارتباط بين استباحة الدم وبين الكفر، فقد يستباح دم من لا يكون كافراً.
المقصود أن هذا ما استدل به بعض أهل العلم على كفر الخوارج، وقد سئل عنهم علي بن أبي طالب tفقال :" من الكفر فرُّوا"[روى هذا الأثر عبد الرزاق في "مصنفه" (10/150) ح(18656) من طريق الحسن قال لما قتل علي الحرورية قالوا من هؤلاء يا أمير المؤمنين أكفار هم قال من الكفر فروا قيل فمنافقين قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا قيل فما هم قال قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا.]، لم يكفِّرهم مع أنه قاتلهم t.
قال -رحمه الله-:"وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ rوَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ"، فحكمه حكم أولئك.
يقول :"وَلِهَذَا" أي لأجل ما تقدم، من أن هذا لا يختص الخوارج، وإنما ذكر النبي rطائفة من الطوائف التي تخرج على الأمة وتباين طريق أهل السنة.
قال :"وَلِهَذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا "الرَّافِضَةَ"، الرافضة هم طائفة ممن تحزب لآل البيت، ويدَّعون أنهم يوالون آل النبيrويناصرونه.
وسموا بهذا لأنهم رفضوا زيد بن عليt، لما أبى التبري من أبي بكر وعمر، فقال : "رفضتموني"، ثم سموا رافضة.
هكذا كان منشأ تسمية هؤلاء بهذا الوصف الذي التصق بهم في كلام أهل العلم من أهل السنة على مر العصور وكر الدهور.
وهؤلاء يقول عنهم الشيخ -رحمه الله-:"الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ"، شر من هؤلاء لأن شرهم أعظم من أولئك، لأن هؤلاء ليس عندهم من العبادة ما عند أولئك، وليس عندهم من الصدق ما عند الخوارج، وليس عندهم من الديانة والعبادة والإقبال على القرآن ما عند أولئك.
بل هؤلاء كثير منهم يقول إن القرآن محرَّف، ويشتركون مع أولئك في التكفير، فإن الخوارج يكفرون صحابة رسول الله، يكفرون عليًّا وعثمان وسائر الصحابة، وأما هؤلاء يكفرون خيار الأمة، يكفرون أبا بكر وعمر، كما جاء ذلك في كلام بعضهم.
ويكفرون جمهور صحابة النبيr.
ولذلك يقول الشيخ -رحمه الله-:"الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ " ثم يبين وجه كونهم شرًّا من أولئك، "وَهُمْ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ"، وهذا يبين أن أعظم الطوائف تكفيراً هم الرافضة، ولا غرر ولا عجب فإنهم يكفرون جمهور المسلمين، فنبذهم ووصفهم بأهل السنة بأنهم يكفرون هذا خطأ.
ولذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- يبين ما عليه أهل السنة والجماعة من كمال العدل والرحمة، فيقول:"وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ".[ انظر "مجموع الفتاوى" ( 3/279) ]
وهذه سمة لا تنفكُّ عن أهل السنة، أنهم أهل تعظيم للحق، وأهل التزام به وتعظيم له ، لكنهم مع هذا يرحمون الخلق.
ولذلك الشيخ -رحمه الله- يقول :"فالذي يتكلم في البدع من الرافضة وغيرهم ويرد عليهم يجب حتى يكون عمله صالحاً أن يكون ذلك نصرة لله، وأن يستصحب تعظيم الحق ورحمة الخلق، وأن يكون ذلك على وجه الإحسان إليهم لإنقاذهم مما هم فيه من الظلمات، ومن البدع التي هم فيها.
فأهل السنة والجماعة منَّ الله عليهم بالتوسط، ومنَّ الله عليهم بالسلامة في اعتقادهم، وهم أبعد الناس عن التكفير، بخلاف الطوائف الأخرى.
الخوارج يكفرون كل من لا يوافقهم، والرافضة يكفرون كل من لا يوافقهم، أهل السنة والجماعة ليسوا كذلك، ليسوا على هذا المنوال، فلا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله بحجة واضحة وبرهان بيِّن.
ثم إنهم يحبون العذر ويلتمسون الأعذار، وكما يتبين من حال الشيخ في اعتذاره لحال الناس في زمانه .
يقول -رحمه الله - في بيان شر الرافضة، وأنهم أعظم شرًّا من الخوارج، يقول:"وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَنْ سِوَاهُمْ كَافِرٌ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يُؤْمِنُ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ يَمْسَحُونَ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا يَمْسَحُونَ عَلَى الْخُفِّ، وَيُؤَخِّرُونَ الْفُطُورَ وَالصَّلَاةَ إلَى طُلُوعِ النَّجْمِ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَيَقْنُتُونَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَيُحَرِّمُونَ الْفُقَّاعَ - نوع من شراب الشعير - وَذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَبَائِحَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى الصَّحَابَةِ yأَقْوَالًا عَظِيمَةً لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا هُنَا " أي: ليس هنا حاجة إلى ذكرها هنا؛ لأن المقام مقام إجمال وبيان حال هؤلاء على وجه العموم لا على وجه التخصيص.
يقول :"فَقَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ rوَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَدْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَنْ مَرَقَ مِنْهُ- أي خرج منه -مَعَ عِبَادَتِهِ الْعَظِيمَةِ؛ حَتَّى أَمَرَ النَّبِيُّ rبِقِتَالِهِمْ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُنْتَسِبَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَدْ يَمْرُقُ أَيْضًا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَدَّعِيَ السُّنَّةَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، بَلْ قَدْ مَرَقَ مِنْهَا".
مقصود الشيخ -رحمه الله- أنه إذا كان في زمن الرسالة، وفي زمن خير القرون، هناك من مرق، مع توافر أسباب الهداية، ومع قيام أسباب الصحة في الطريق وقيام الحق وظهوره، ومع ذلك هناك من خرج عن الصراط المستقيم، فكيف بالعصور التي بعده، لا شك أن البعد فيها عن الحق أكبر، والتزام السنة والعمل بها أقل، ولذلك ذكر الشيخ فيما تقدم الاعتذار عن المتأخرين فيما يعقون فيه من أخطاء، وأنه ينبغي التريس في الحكم عليهم والرحمة في معاملتهم.
يقول :"لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُحَكِّمُوا مَعْرِفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِمَا، وَيُمَيِّزُوا بَيْنَ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ وَسَقِيمِهَا، وَنَاتِجِ الْمَقَايِيسِ وَعَقِيمِهَا، مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَهْوَاءِ، وَكَثْرَةِ الْآرَاءِ، وتغلظ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ "، وقد تقدم التعليق على هذا وقلنا: إن هذا جامع لأسباب الانحراف في الأزمنة المتأخرة.
وأيضاً بيان للأعذار التي يستحضرها الإنسان في النظر إلى أقوال المتأخرين من الأمة.
يقول -رحمه الله-:"وَذَلِكَ "بِأَسْبَابِ "، مِنْهَا الْغُلُوُّ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ:]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ[إلَى قَوْلِهِ:]وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا[[النساء:171.] ،وَقَالَ تَعَالَى: ]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ[[المائدة:77.] ، وَقَالَ النَّبِيُّ r:«إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ»[سبق.]، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
هذا هو السبب الأول الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- في أسباب الخروج عن الصراط المستقيم، وهو الغلو.
وبدأ به لأن أخطر الأسباب في الخروج عن الدين الغلو، لأن ظاهره الاستقامة، ظاهره عمل بشرع الله، فالنفوس تميل إليه وتسكن إليه من حيث إن صاحبه ليس صاحب خروج وتحلل، بل هو صاحب قوة وصلابة فيما يظهر في دين الله تعالى.
ولذلك النبيrلما ذكر الخوارج بدأ بوصفهم، فقال :« يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءتهم»[سبق.] ، فهذا التنبيه إلى كل من نظر إلى أقوال الناس وأعمالهم أن لا يقتصر على الظاهر، ولا يقتصر في الحكم على ما بدا مما قد يكون موافقاً للسنة حتى ينظر إليه على وجه الإجمال.
مقصوده بالظاهر، أي لا تعميه المظاهر عن النظر إلى حقائق الأقوال وما يدعو إليه أصحاب هذه الأقوال، فقد يدعو صاحب عبادة إلى قول مبتدع، فعبادته لا تشفع له في بدعته، ولا تروج قوله، بل يجب الحذر من ذلك، فإن النبيrذكر اجتهادهم في طاعتهم، وفي عبادتهم، ثم بيَّن أن هذا الاجتهاد في الطاعة والعبادة خالٍ من الفقه، ولذلك لما ذكر الصلاة والصيام والقراءة نبه إلى عدم الفهم، وهو المتعلق بالقراءة، قال :« يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم»، فهؤلاء عندهم عبادات ولكن ليس عندهم فهم، ليس عندهم علم ، ليس عندهم قواعد وأصول في فهم كلام الله تعالى وإدراك غاياته، وأسراره، وكمه، وأحكامه، بل مجرد ظواهر اكتفوا بها واستغنوا بها عن فهم كلام الله وكلام رسوله، مع ما انضم إليهم من شجاعة وقوة في الإقدام على ما هم، وعلى ما يعتقدونه، لكن هذا كله لا يسوِّغ قبول أقوالهم، بل لابد من عرض هذه الأقوال وهذه الأعمال التي يَدْعون إليها، لابد من عرضها على كتاب الله تعالى وعلى سنة رسولهr.
الغلو هو تجاوز الحد، وتجاوز الحد معناه الخروج عن الشريعة بزيادة فيها، سواء كان ذلك في الأعمال، أو كان ذلك في العقائد.
فلا فرق بين الغلو في القول والغلو في العمل، من حيث النهي، وإن كان الغلو في الاعتقاد أخطر عاقبة وأشأم مآلاً.
والنبيrحذَّر من الغلو حتى في صغير الأمر من العمل، ففي "مسند الإمام أحمد" في الحديث الصحيح من حديث ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِr: غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقُطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ، وَيَقُولُ أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ فَارْمُوا، ثُمَّ قَالَ : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ».[رواه أحمد (1/215) وإسناده صحيح على شرط مسلم.]
دل هذا على أن الغلو سواء كان في الأصول، أو في الفروع،في العقائد أو في الأحكام من أسباب الهلاك، وهذا بنص النبيr«فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ».
وقد جاء الخبر أو الدعاء في ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن مسعود:«هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ » قَالَهَا ثَلَاثًا.[تقدم تخريجه.]
وهذا إما أن يكون خبراً، وإما أن يكون دعاءاً، ويحتمل أنه خبر دعاء من النبيr.
فالغلو أمره خطير، ولذلك قدمه الشيخ -رحمه الله- قبل سائر الأسباب، وأنتم تشاهدون أن الإنسان ينفر من المبتدع الذي يرقص، ويلعب ويلهو وعنده تحلل من الشرع، لكن قد يجد في نفسه قبولاً، أو يجد كثير من الناس ميلاً إلى أولئك الذين يُحْدِثون أقوالاً وأعمالاً خارجة عن الشريعة بلباس الدين، وهم في ظاهرهم أهل استقامة وأهل سنة، وأهل عمل وتعظيم لقول الله ولقول رسوله.
فلذلك ينبغي للمؤمن أن يتقي الله تعالى، وأن يسأل الله السلامة من مضلات الفتن.
هذه الأمور لا يثبت عليها الإنسان إلا بالتزام الكتاب والسنة وعظيم الفقه فيهما، فإن عظيم الفقه في كلام الله وكلام رسوله من أعظم أسباب السلامة من الانحرافات، وهذه الشذوذات وهذه البدع.
يقول -رحمه الله-:"الْغُلُوُّ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ" وذكر النصوص الدالة على ذم الغلو.
وقال -رحمه الله-:"وَمِنْهَا التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَمِنْهَا أَحَادِيثُ تُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ r، وَهِيَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، يَسْمَعُهَا الْجَاهِلُ بِالْحَدِيثِ، فَيُصَدِّقُ بِهَا لِمُوَافَقَةِ ظَنِّهِ وَهَوَاهُ؛ " وَأَضَلُّ الضَّلَالِ " اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْهَوَى، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ ذَمَّهُمْ:]إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى[[ النجم:23.]وَقَالَ فِي حَقِّ نَبِيِّهِ r]:وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى[[النجم:1-4] ، فَنَزَّهَهُ عَنْ الضَّلَالِ وَالْغَوَايَةِ اللَّذَيْنِ هَمَّا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ، فَالضَّالُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْحَقَّ، وَالْغَاوِي الَّذِي يَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَا يَنْطِقُ عَنْ هَوَى النَّفْسِ ؛ بَلْ هُوَ وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ فَوَصَفَهُ بِالْعِلْمِ وَنَزَّهَهُ عَنْ الْهَوَى . وَأَنَا أَذْكُرُ جَوَامِعَ مِنْ أُصُولِ الْبَاطِلِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا طَوَائِفُ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ، وَقَدْ مَرَقَ مِنْهَا وَصَارَ مِنْ أَكَابِرِ الظَّالِمِينَ .
يقول المؤلف -رحمه الله- في بيان أسباب الانحراف، والضلال والمروق عن دين الإسلام،قال رحمه الله:" بَلْ قَدْ مَرَقَ مِنْهَا وَذَلِكَ " بِأَسْبَابِ "؛ مِنْهَا "
هذا في بيان أسباب الانحراف الذي طرأ على طوائف من هذه الأمة، حيث إن النبيrبلَّغ البلاغ المبين، وترك الأمة على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
بيَّن بياناً شافياً واضحاً، ثم إن شياطين الإنس والجن زين بعضهم لبعض سبل الانحراف، وكان لهذا الانحراف أسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه، وتكلمنا على هذا في الدرس السابق.
ثم قال -رحمه الله- " وَمِنْهَا"، أي: من أسباب الانحراف والضلال "التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ "