الدرس (7) من شرح رسالة الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
ثم قال -رحمه الله-:لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي "صَحِيحٍ مُسْلِمٍ"، عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ النَّبِيِّ rأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الدَّجَّالَ قَالَ : «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ»، وَكَذَلِكَ رُوِيَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ rمِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ: يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ "أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ"، فَلَا يَظُنَّن أَحَدٌ أَنَّ هَذَا الدَّجَّالَ الَّذِي رَآهُ هُوَ رَبُّهُ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَقَعُ لِأَهْلِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَيَقِينِ الْقُلُوبِ وَمُشَاهَدَتِهَا وَتَجَلِّيَاتِهَا هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ ؛ قَالَ النَّبِيُّ r: لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ uعَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ :« الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك».[الحديث رواه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (8).]
يقول -رحمه الله-:"لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ حَتَّى يَمُوتَ"، واستدل لذلك بما في "الصحيح" من خبر النبيrعن الدجال، في حديث النواس ابن سمعان قال النبيrفي بيان كذب الدجال وبطلان دعواه «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ»[رواه مسلم في الفتن (2931).]،وهذا خبر يقيني بأنه لن يُرى -جل وعلا- قبل الموت، فكل من ادعى الربوبية فإنه كاذب في دعواه، لأنه لا يرى -جل وعلا- قبل الموت.
ثم قال -رحمه الله- بعد أن قرر أنه لا يمكن أن يراه أحد بعيني رأسه قبل الموت، قرر قضية وهي ما جاء في حديث ابن عمر عن عمرtفي جواب النبيrلجبريل لما سأله عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ :«الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ»، أي: مثل كونك تراه، أي تشبه حالك في عبادة ربك حال الذي يعاين معبوده بعينه، هل هذا يدل على إنكارية الرؤيا.
يقول المؤلف رحمه الله :"وَلَكِنَّ الَّذِي يَقَعُ لِأَهْلِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ"، أي: العلم به جل وعلا، "وَيَقِينِ الْقُلُوبِ"، بالخبر الذي جاء عن النبيrعن ربه في صفاته وأفعاله "وَمُشَاهَدَتِهَا وَتَجَلِّيَاتِهَا هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ"، يعني على مراتب يقين الناس فيما يتعلق بخبر النبيrعن ربه مراتب، أعلاها مرتبة الإحسان التي هي أن تعبد الله كأنك تراه.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الرسل وأن نبينا rقد جاء في وصف ربه حتى أنه أصبح بالنسبة لمن علم تلك الصفات كما لو كان يشاهد رب العالمين على عرشه، يدبر أمر مملكته، يرفع القسط ويخفضه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، كل يوم هو في شأن.
فهذا الخبر المفصل عن الله في كتابه يبلغ العلم به في قلوب بعض الخلق مبلغ رؤية العين، وهذا علم اليقين، وهو أعلى درجات العلم ، الذي لا يتطرق إليه شك.
لكن هل هذا هو الرؤية؟ لا.
الله -جل وعلا- ذكر في النار في سورة التكاثر ]كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ[[سورة التكاثر : 5- 6.]، فعلم اليقين هو العلم الذي لا يتطرق إليه شك ولا شبهة ولا ريب، ويكون الإنسان موقناً بالخبر إيقاناً تامًّا كالمعايِن.
لكن هناك درجة أعلى من علم اليقين وهي حق اليقين، وهو أن يعاين الإنسان ما استقر في قلبه من الخبر.
لو جاءنا شخص صادق أو عشرون شخص فقالوا :" هناك حادث خارج المسجد"، هذا علم اليقين، من حيث التوافر ومن حيث الوصف.
لكن متى يكون بالنسبة لنا حق اليقين؟ يكون بالنسبة لنا حق اليقين إذا خرجنا وأبصرناه بأعيننا.
الخبر عن أن الوادي قد سال، جاء أناس وأخبرونا أن الوادي قد سال، وجانا الخبر من عدد كبير حتى بلغ عندنا درجة اليقين في العلم، ثم لما كثر الخبر خرجنا ورأينا الوادي الذي أُخبرنا بجريانه وسيلانه بأعيننا، فالمرتبة الأولى هي علم اليقين، وإبصارنا ذلك هو حق اليقين.
فالآن خبر الرسولrعن ربه هو من علم اليقين الذي يصل عند بعض الناس إلى هذه الدرجة العليا –، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم إياها- في عبودية الرب تعالى وفي تحقيق الطاعة له، وهي أن تعبد الله كأنك تراه، كأنك تشاهده سبحانه وبحمده.
وهذه مرتبة كبيرة وعظيمة تحمل العبد على خير لا منتهى له، ولذلك كان الإحسان هو أعلى مقامات الدين في الأعمال الظاهرة، وأعلى مقامات الدين في الأعمال الباطنة.
يقول -رحمه الله-:"وَلَكِنَّ الَّذِي يَقَعُ لِأَهْلِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَيَقِينِ الْقُلُوبِ وَمُشَاهَدَتِهَا وَتَجَلِّيَاتِهَا هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ ؛ قَالَ النَّبِيُّ r: لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ u" في بيان أعلى المراتب "عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ :«الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ»[سبق.]، هل هناك مراتب دون ذلك؟ نعم، وذلك لما قال:«فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك»، إذا قصر علمك به إلى منزلة ما تمكنت أن تعبده كأنك تراه، فاعلم أنه يراك.
قال بعد ذلك، هذا فيما يتعلق بالرؤية في اليقظة، أما الرؤية في المنام، هل يرى المؤمن ربه في المنام؟
نحن تقدم لنا أن النبيrلم ير ربه في اليقظة، هل رآه في المنام أو لا؟ رآه مناماً.
الآن غير النبيrلا يراه في اليقظة، هل يراه في المنام؟
هذا ما سنبحثه الآن في قوله :"وَقَدْ يَرَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُوَرٍ مُتَنَوِّعَةٍ عَلَى قَدْرِ إيمَانِهِ وَيَقِينِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ إيمَانُهُ صَحِيحًا لَمْ يَرَهُ إلَّا فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ، وَإِذَا كَانَ فِي إيمَانِهِ نَقْصٌ رَأَى مَا يُشْبِهُ إيمَانَهُ وَرُؤْيَا الْمَنَامِ لَهَا حُكْمٌ غَيْرُ رُؤْيَا الْحَقِيقَةِ فِي الْيَقَظَةِ وَلَهَا " تَعْبِيرٌ وَتَأْوِيلٌ " لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْحَقَائِقِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا مِنْ الرُّؤْيَا نَظِيرُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّائِمِ فِي الْمَنَامِ، فَيَرَى بِقَلْبِهِ مِثْلَ مَا يَرَى النَّائِمُ .
وَقَدْ يَتَجَلَّى لَهُ مِنْ الْحَقَائِقِ مَا يَشْهَدُهُ بِقَلْبِهِ فَهَذَا كُلُّهُ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا، وَرُبَّمَا غَلَبَ أَحَدُهُمْ مَا يَشْهَدُهُ قَلْبُهُ وَتَجْمَعُهُ حَوَاسُّهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ مَنَامٌ، وَرُبَّمَا عَلِمَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ مَنَامٌ، فَهَكَذَا مِنْ الْعِبَادِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ مُشَاهَدَةٌ قَلْبِيَّةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى تُفْنِيَهُ عَنْ الشُّعُورِ بِحَوَاسِّهِ فَيَظُنَّهَا رُؤْيَةً بِعَيْنِهِ وَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنْ الْعِبَادِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ".
هذه مسألة يبحثها أهل العلم، هل يرى المؤمن ربه في المنام أو لا؟
لأهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال:
قول بنفي ذلك وأنه لا يُرى في المنام، وهذا فيما يظهر قول الأكثر من أهل العلم.
القول الثاني: أنه يراه في المنام.
القول الثالث: هو في الحقيقة لا يخرج عن القول الثاني، لكن هو تفصيل له، وهو أن ما يراه في المنام يرجع إلى إيمانه.
وهو ما أشار إليه الشيخ -رحمه الله- واختاره في هذا المقام، حيث قال :"وَقَدْ يَرَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُوَرٍ مُتَنَوِّعَةٍ"، ليس على صورة واحده.
ما الفارق بين هذه الصور؟على قدر إيمانه.
الصور متنوعة، المقصود على أشكال مختلفة؟ لا، لكن على درجات مختلفة في الرؤية، كما أن أهل الجنة يتفاوتون في رؤياهم ليسوا على درجة واحدة، أهل المقام الأعلى في الفردوس رؤياهم ليست كرؤيا من دونهم فيمن يرونه، ويتجلى لهم في صفات رب العالمين برؤيته.
وإن كان الجميع يشترك في أنهم لا يدركونه – سيأتينا هذا في رؤيا أهل الجنة- لكن كذلك في رؤيا المنام تتفاوت على قدر تفاوت إيمان العبد.
لكن هل هذا أن الله تعالى يكون على أشكال مختلفة؟
الجواب: لا، إنما المقصود بهذا التفاوت باعتبار حال الرائي،س لا باعتبار حال المرئي.
أنت ترى الشمس، وهي الشمس وتراها ساطعة في أول النهار، ويكون دونها سحاب فتخفى، ويكون دونها غبار أو قطر، لكن هي هي، لكن الذي اختلف لا حالها، إنما اختلف ما قد يكون بواسطة الرؤية إليها، بل حتى حال الإنسان نفسه قد تختلف.
فرؤية حديد البصر ليست كرؤية حسير البصر، ليست كرؤية المتوسط.
في رؤيته يخبرني بعض الناس يقول أرفع رأسي إلى الشمس وأرى النجوم في رابعة النهار، يرى نجوم السماء في رابعة النهار، ويقول وأريها الناس في فترة من عمري، معنى هذا أن أكثر الناس يرون هذا، ومعنى هذا أن عنده من القوة والنفوذ في البصر ما يختلف.
ثم إن المؤمنين يوم القيامة تتفاوت درجاتهم في النظر والتنعم به، فمنهم من يكون نصيبه أوفى من غيره في التنعم والتلذذ بالنظر إلى الله جل وعلا، وإن كان الجميع يشتركون في رؤيته.
فقول الشيخ -رحمه الله- :"وَقَدْ يَرَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُوَرٍ مُتَنَوِّعَةٍ عَلَى قَدْرِ إيمَانِهِ"، هذا لا يرد عليه إشكال، كيف يعني، يتشكل؟ لا، هذا الاختلاف باختلاف حال الرائي ، فمن كمل إيمانه كملت رؤيته، ومن نقص إيمانه نقصت رؤيته.
ولكن في هذا إشكال، وهو أنه لا يتمكن أحد من الجزم بأن ما رآه في المنام هو رب العالمين.لماذا؟
لأنه ليس كمثله شيء سبحانه وبحمده.
فلا تدركه العقول، ولا يدري الإنسان هل هذا وصف رب العالمين أو وصف غيره.
ولذلك القول بأنه لا يجزم بأنه رؤي في المنام حق، الصواب مما ذكره المؤلف رحمه الله ومما ذكره غيره أنه يرى في المنام، لأننا لا نجزم ولا ندري هل هذا هو رب العالمين، أم أنه اشتبه عليه.
حتى لو جاء في الصفات التي جاء الخبر عنها، قد يكون ذلك تلبيساً من الشيطان.
أيضاً الذي يراه هل هو الله؟ الجواب: لا، إنما الذي يراه مثال.
ولذلك قول النبيr:«وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي».
فقوله: «فَقَدْ رَآنِي»أي رأى مثاله حقًّا، أما جسده وهو الذي في قبره فإنه لم يره، ولذلك قالr:«فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي»[رواه البخاري في العلم (110)، ومسلم في الرؤيا (2266).]، فالمرئي هو مثال علمي وليس هو عين الحقيقة، إنما هو مثال الحقيقة، وليس عينها.
وبعد هذا ذكر الشيخ -رحمه الله-:"وَقَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا مِنْ الرُّؤْيَا نَظِيرُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّائِمِ فِي الْمَنَامِ: فَيَرَى بِقَلْبِهِ مِثْلَ مَا يَرَى النَّائِمُ"، ولكن ليس هو في الحقيقة لأن الذي يراه في المنام ليس هو حقيقة، "وَقَدْ يَتَجَلَّى لَهُ مِنْ الْحَقَائِقِ مَا يَشْهَدُهُ بِقَلْبِهِ فَهَذَا كُلُّهُ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا"، فهذا كله يقع في الدنيا، لكن الرؤيا البصرية –المعاينة- هذه لا تكون إلا في الآخرة.
يقول:"وَرُبَّمَا غَلَبَ أَحَدُهُمْ مَا يَشْهَدُهُ قَلْبُهُ وَتَجْمَعُهُ حَوَاسُّهُ فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ"، يعني من شدة تصديقه ويقينه وشعوره بما يقوم في قلبه كأنه يراه حقيقة، وإن كان لا يبصره، وهذه هي المرتبة التي يشير إليها النبيrفي حديث جبريل في جواب الإحسان«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[ سبق.]
فقوله: «كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، أي: مثلما لو أنك تراه، وليس أنه يراه بعينه التي في رأسه.
يقول :"فَهَكَذَا مِنْ الْعِبَادِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ مُشَاهَدَةٌ قَلْبِيَّةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى تُفْنِيَهُ عَنْ الشُّعُورِ بِحَوَاسِّهِ، فَيَظُنَّهَا رُؤْيَةً بِعَيْنِهِ، وَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنْ الْعِبَادِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فَهُوَ غالط".
وهذا لاشك أنه غالط، وإن كان يعذر بغلطه لشدة ما غلب عليه، لكنه غالط يجب أن ينبه، وأن يعلَّم ، وهذا في حال العبَّاد؛ لأنه لو كان عالماً لعلم أنه لا يمكن أن يرى الله تعالى في اليقظة.
وقد حصل هذا في القصة المشهورة لعبد القادر الجيلاني التي يذكرها أهل العلم، أنه حصل له في بعض التجليات التي حصلت له في تعبداته أنه رأى نوراً عظيماً وعرشاً وعليه نور ساطع عظيم، ورأى أنوارًا تصعد وتنزل، ثم سمع من هذا النور من يقول له:"يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك ما حرمت على غيرك"، فقال له "اخسأ فإنك شيطان"، قال فتمزق هذا النور وانقلب إلى ظلمة[انظر كتاب " كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس" لعبد الرحمن آل الشيخ، ص(269). ].
وهذه قصة مشهورة عن الشيخ عبد القادر الجيلاني، ذكرها شيخ الإسلام، وذكرها غيره.
فقيل له: كيف عرفت أنه ليس بربك، فقال:" إنه قال قد أحللت لك ما حرَّمت على غيرك، والشريعة قد تمَّت، ولا نسخ فيها".
وهذا من فقه وعلمه، فلو كان من العباد الزهاد كان بلغ ما يبلغه بعضهم، ويصل إلى ما وصل إليه بعض من يزين لهم الشيطان أعمالهم، فيقول: سقطت عني التكاليف بكلام رب العالمين، قال لي، حدثني ربي، ليس هناك واسطة بينه وبين الله، يقول :"حدثني ربي فقال: إني قد أحللت لك ما حرمت على غيرك"، وهو شيطان، لكنه ظن وتوهَّم هذا الوهم الذي لبَّس عليه ولو كان عنده من العلم لرد هذا القول.
وأنه أيضاً قال:إنه لم يستطع أن يقول:"إني أنا الله الذي لا إله إلا أنا"، إنما قال "أنا ربك" وهو كاذب في دعواه.
على كلٍّ يحصل لبعض العباد من هذه الأحوال ما يزول إشكاله بالعلم، فالعلم علاج كل جهل، وهو نور كل ضلال، وبه يبصر الإنسان مواقع الهدى ويسلم من مواقع الغي والانحراف.
قال -رحمه الله- :"نَعَمْ؛ رُؤْيَةُ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا لِلنَّاسِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ ؛ كَمَا تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ rحَيْثُ قَالَ:«إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ وَكَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ».[رواه البخاري في مواقيت الصلاة (554)، ومسلم في المساجد (633).]
وَقَالَ r:«جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ : جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى رَبِّهِمْ إلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»[ أخرجه البخاري(4878)، ومسلم(180).]، وَقَالَ r:«إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ؟ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ»[أخرجه الترمذي في سننه(3105)، وأحمد في مسنده(23925)، بسند صحيح على شرط مسلم.] ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا فِي الصِّحَاحِ؛ وَقَدْ تَلَقَّاهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ بِالْقَبُولِ؛ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُ بِهَا أَوْ يُحَرِّفُهَا " الْجَهْمِيَّة " وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرُؤْيَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ شِرَارُ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ rفِي الْآخِرَةِ؛ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ الْغَالِيَةِ؛ بِأَنَّهُ يُرَى بِالْعُيُونِ فِي الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ".
انتقل -رحمه الله- إلى ذكر ما يتعلق بالرؤية في الآخرة، ورؤية الله تعالى في الآخرة هي أعظم نعيم ينعم الله تعالى به المؤمنين، قال الله -جل وعلا-: ]وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[[سورة القيامة : 22- 23. ].
وهذه الآية أقوى وأصرح آية في إثبات نعيم النظر إلى وجهه سبحانه وبحمده –، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الناظرين إليه، والتنعم بالنظر إلى وجهه سبحانه وتعالى -.
يقول المؤلف -رحمه الله-:"نَعَمْ رُؤْيَةُ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ"، لا تكون إلا لهم، خالصة، وقوله "لِلْمُؤْمِنِينَ" أي: ليست لسواهم، فهي خالصة لهم دون غيرهم، "وَهِيَ أَيْضًا لِلنَّاسِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ"، وهذا يشعر بأنه تكون الرؤيا في موقف القيامة للمؤمن وغيره، وليست خاصة للمؤمنين، بل تكون للمؤمنين وتكون للمنافقين، وتكون للكافرين، لكنها بالنسبة للمؤمنين رؤية تعريف، وبالنسبة للمنافقين والكافرين رؤية تحسير، وتبكيت وتعذيب، ]كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[[سورة المطففين: 15].
فما يكون من الحجاب من أشد ما يكون من العقاب عليهم والعقوبة على عملهم.
يقول -رحمه الله- :"كَمَا تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ rحَيْثُ قَالَ:«إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ "[سبق.]، وهنا التشبيه للرؤية وليس للمرئي، أي: ترونه من الوضوح والبيان وعدم الخفاء كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر في كماله، صحوا ليس دونه سحاب.
وقال :"جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ "[أصل الحديث عند البخاري، ومسلم كما سبق، وهذه الزيادة أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/316).] ذكر الأحاديث الدالة على ثبوت هذا النعيم – نسأل الله أن نكون من أهله- .
يقول في الشاهد من الحديث :"وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى رَبِّهِمْ إلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ"، ثم ذكر "؛ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ"، في قوله تعالى :]لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ[[سورة يونس: 26.].
يقول: "وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا فِي الصِّحَاحِ؛ وَقَدْ تَلَقَّاهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ بِالْقَبُولِ؛ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ"، ثم بعد أن قرر ما ثبت في عقد أهل الفرقة الناجية المنصورة مما دل عليه الكتاب والسنة، انتقل إلى بيان من ضلَّ في هذه الصفة.
قال :"وَإِنَّمَا يُكَذِّبُ بِهَا أَوْ يُحَرِّفُهَا"، يعني المسالك، ففي نفي الرؤية مسلكان؛ تكذيب وتحريف، والتحريف نوع تكذيب، ولكنه تكذيب بحيلة.
"وَإِنَّمَا يُكَذِّبُ بِهَا"، أي: ينكرها بالكلية، "أَوْ يُحَرِّفُهَا"، أي: يحملها على غير محملها المراد"الْجَهْمِيَّة" وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرُؤْيَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ شِرَارُ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ"، المعطلة الذي أخلوا الله تعالى عن صفات كماله I، فكانوا شرار الخلق والخليقة؛ لأنهم قد افتروا على الله تعالى كذباً فكذَّبوه في خبره سبحان الله عما يصفون .
وإذا كان الضلال في صفة من صفات الله تعالى يوجب التشديد العظيم الذي ذكره الله تعالى في قوله :]تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا[[سورة مريم :90- 91.].
كل هذا لأنهم نسبوا إلى الله Iالولد، وهذا بيان عظيم خطر الضلال فيما يتعلق بالرب جل وعلا.
ولذلك قال المؤلف عن المعطلة:"شِرَارُ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ".
قال :"وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ"، الذين كذَّبوا بمطلق الرؤية في الدنيا والآخرة، وبين تصديق الغالية الذين أثبتوا الرؤية في الدنيا والآخرة.
وأهل السنة يثبتون الرؤيا في الآخرة للمؤمنين، وللناس في العرصات وينفونها عن كل أحد في الدنيا، وإنما وقع الخلاف في النبيrهل رأى ربه أو لا في الدنيا بعينه، أما الرؤية في المنام فتقدم الكلام فيها بالتفصيل السابق.
قال -رحمه الله- :"وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فِي الدُّنْيَا هُمْ ضُلَّالٌ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ: إمَّا بَعْضُ الصَّالِحِينَ أَوْ بَعْضُ المردان، أَوْ بَعْضُ الْمُلُوكِ، أَوْ غَيْرِهِمْ عَظُمَ ضَلَالُهُمْوَكُفْرُهُمْ وَكَانُوا حِينَئِذٍ أَضَلَّ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ فِي صُورَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: أَنَا رَبُّكُمْ وَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ وَيَقُولُ لِلْخَرِبَةِ: أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ r أُمَّتَهُ . وَقَالَ : «مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٌ أَعْظَمَ مِنْ الدَّجَّالِ»[أخرجه أحمد في مسنده(16255)، وصححه الحاكم على شرط البخاري، وسكت عنه الذهبي.] وَقَالَ:«إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»[أخرجه البخاري في صحيحه(2823).] . فَهَذَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَأَتَى بِشُبُهَاتِ فَتَنَ بِهَا الْخَلْقَ حَتَّى قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ r« إنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ» [صحيح البخاري(7131)، ومسلم(2933)، دون مسألة الرؤية، وهي عند الترمذي(2235)، وصححه.]،فَذَكَرَ لَهُمْ عَلامَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ يَعْرِفُهُمَا جَمِيعُ النَّاسِ ؛ لِعِلْمِهِ rبِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَضِلُّ، فَيُجَوِّزُ أَنْ يَرَى رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ كَهَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمَّوْنَ " الْحُلُولِيَّةَ" وَ" الِاتِّحَادِيَّةَ ".
يقول -رحمه الله-: "وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فِي الدُّنْيَا هُمْ ضُلَّالٌ"، أي: بعيدون عن الصواب والحق، قد جمعوا جهلاً وظلماً، كما تقدم،"فَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْخَاص"، فهؤلاء يقول المؤلف أنهم شرٌّ من النصارى، لأن النصارى لم يقولوا إن الله تعالى حلَّ في كل أحد، إنما يقولون :"إن الله حلَّ في عيسى بن مريم"، وهؤلاء يقولون يحل في"بَعْضُ الصَّالِحِينَ، أَوْ بَعْضُ المردان، أَوْ بَعْضُ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِمْ"، فهذا كذب وهو من أعظم الضلال، وهم أضل من النصارى الذين قال الله فيهم ما قال.
بل هم أضل من أتباع الدجال..لماذا هم أضل من أتباع الدجال؟
لأن الدجال عنده من الفتن والشبه ما يشتبه به الحق بالباطل، وذلك لأن الله يمكنه من خوارق يضل بها خلق كبير.
لذلك كانت هذه الفتنة أعظم فتنة كما ذكر المؤلف في الحديث الصحيح:«مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٌ أَعْظَمَ مِنْ الدَّجَّالِ»[سبق.].
ولذلك جاء في "الصحيين" من حديث أبي هريرة، ومن حديث أنس، وجاء في "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبيrقال:«وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ».[رواه البخاري في الجهاد (3057)، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة(2931).]
كل نبي أنذر قومه المسيح الدجال، وذلك لعظيم فتنته وكبير خطره، من نوح أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض، إلى آخرهم كلهم يتفقون على التحذير من هذه الفتنة.
وهذا ما يكون إلا لأمر جليل وخطير وكبير، وتزيغ به الألباب، وتضل به العقول، وتعمى به البصائر، ولذلك ليس للإنسان من هذه الفتنة ملجأ إلا أن يلجأ إلى الله تعالى صادقاً أن يحفظه منها، وأن يقيه شرها.
ولذلك كل صلاة أنت مندوب أن تقول:"وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ".
تصور لو لم يكن الأمر من الخطورة والكبر أن يكون على درجة كبيرة من الخطر لما كان النبيrأن يوجه إلى أن يقول المؤمن في كل صلاة مفروضة أو نافلة في آخرها إلى أن يقول: " وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ".[سبق.]
وكثير منا قد يقول هذا ولكنه يغفل أو ينسى أن هذه الفتنة قربت وكثرت علامات دنوها والإذن بخروجها – نسأل الله أن يكفينا وإياكم شرها- .
يقول :"فَهَذَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَتَى بِشُبُهَاتِ فَتَنَ بِهَا الْخَلْقَ حَتَّى قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ r:«إنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ»"[ سبق.]، حتى ما يشتبه الأمر، قد يأتي من يشبه، لكن القاعدة التي تقر عليها القلوب المتبعة والصادقة، أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت، فإذا مت فسترى الله تعالى، أما قبل ذلك فلن تراه جل وعلا.