الدرس (13) من شرح رسالة الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
قال -رحمه الله-:"وَلَوْ كَانَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ قَدْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَخْطَأَ يَكُونُ كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا بَلْ «قَدْ عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي دُعَاءِ الرَّسُولِ rوَالْمُؤْمِنِينَ :]رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ :« قَدْ فَعَلْت» [صحيح مسلم(126).]. لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ مَنْ يُوَافِقُكُمْ فِي أَخَصَّ مِنْ الْإِسْلَامِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَكُمْعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ " أَوْ مُنْتَسِبًا إلَى الشَّيْخِ عَدِيٍّ " ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَدْ يُخَالِفُ فِي شَيْءٍ، وَرُبَّمَا كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ فَكَيْفَ يُسْتَحَلُّ عِرْضُهُ وَدَمُهُ أَوْ مَالُهُ؟ مَعَ مَا قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ وَالْمُؤْمِنِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِأَسْمَاءِ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ r؟ وَهَذَا التَّفْرِيقُ الَّذِي حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ عُلَمَائِهَا وَمَشَايِخِهَا؛ وَأُمَرَائِهَا وَكُبَرَائِهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ تَسَلُّطَ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ]وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[. فَمَتَى تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَإِذَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَسَدُوا وَهَلَكُوا، وَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَحُوا وَمَلَكُوا ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ.
هذا الكلام في غاية النفاسة والأهمية في تشخيص الداء الذي بليت به الأمة منذ قرون.
يقول -رحمه الله- في كتابه لهؤلاء الذين لاحظ عليهم ما لاحظ، وبيَّن لهم بأسلوب حسن رقيق يحقق المقصود من النصيحة، وهم جماعة الشيخ عدي بن مسافر، يقول:"لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ مَنْ يُوَافِقُكُمْ فِي أَخَصَّ مِنْ الْإِسْلَامِ " فالشيخ -رحمه الله- ينبههم إلى خطأ ونوع تفرق حصل في داخل هذه الفئة، فيقول: إذا كانت هذه الحقوق المتقدمة لكل المسلمين، وهو الواجب على أهل الإيمان، فكيف إذا كان مع ما تقدم من الأوصاف، هناك وصف يستوجب القرب والألفة وهو الاتفاق في أمر خاص، يقول -رحمه الله-:"لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ مَنْ يُوَافِقُكُمْ فِي أَخَصَّ مِنْ الْإِسْلَامِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَكُمْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ مُنْتَسِبًا إلَى الشَّيْخِ عَدِيٍّ " ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَدْ يُخَالِفُ فِي شَيْءٍ" يعني عنده النسبة العامة لكن يخالف في شيء"وَرُبَّمَا كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ " فيما يخالفكم فيه، "فَكَيْفَ يُسْتَحَلُّ عِرْضُهُ وَدَمُهُ أَوْ مَالُهُ؟ مَعَ مَا قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ وَالْمُؤْمِنِ"، لا شك أن ذلك تورط في نوع من السوء والشر، وهناك قاعدة إذا حاول المؤمن أن يطبقها في حياته وجد لها ثماراً عظيمة في كف كثير من الشر عنه.
هذه القاعدة:" إذا اشتبه عليك الأمر هل يجوز أن تتكلم في أخيك أو تنال من عرضه"، فما هو الأصل؟ الأصل التحريم «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»[رواه مسلم في البر والصلة (2564)].هذا هو الأصل الذي يجب الانطلاق منه.
فإذا أردت أن تتكلم في شخص بنصيحة أو لأي نوع من أنواع الموجزات وهي ضيقة محدودة العلماء حدوها بستة أسباب، ذكر العلماء فيها جواز التكلم في المؤمن واستباحة عرضه في حصول المقاصد التي في تلك الأمور الستة.[قالوا:
والقدح ليس بغيبة في ستةٍ * متظلم ومعرف ومحذرٍ
ومجاهر فسقاً ومستفتي ومن * طلب الإعانة في إزالة منكرٍ]
لكن إذا اشتبه عليك الأمر هل يجوز أو لا يجوز، وهذا هو الكثير، بعض الأحيان قد يتكلم الإنسان بحق ثم يتطرق إلى غير حق.
وقد يتكلم في أمر مشتبه عليه، لا يدري هل يجوز له أن يتكلم فيه أو لا يجوز، ثم يتكلم فيه ذهب يبحث لنفسه عن مبررات ومسوغات وأعذار تبيح له ما وقع فيه من كلام.
يقول :"إذا لم يتبين لك كالشمس حِلّ الكلام فالواجب عليك أن تمسك لسانك عن عرض أخيك المسلم، وأن تعلم أن الأمر خطير".
الأمر في أعراض الناس من أخطر ما يكون، لأن التحلل من حقوق الخلق فيها من العُسر والمشقة ما ليس في غيرها.
لا يمكن أن يعفى عنك من حق أخيك إلا أن يحللك، وكون بعض الناس يتكأ على أن الله تعالى سيتحمل عنه، ما الذي ضمَّنك بأن الله قد يتحمل عنك، فحقوق العباد تطلب المفاصلة، وما يمكن أن تقول في هذا اليوم يمكن أن يرحمني ويعفو عني، لأنه بحاجة إلى الحسنة، والنبيrقال كما في "الصحيح" من حديث أبي هريرة « أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ،فَقَالَ:«إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».[رواه مسلم في البر والصلة (2581).]
ولا يمكن لأحد أن يفرط في ذرة من الحسنات في ذلك اليوم، ولا يستخف مثقال ذرة من السيئات في ذلك اليوم، فهو يحب التخفف من السيئات ويأمل في كل حسنة.
ولذلك يجب على المؤمن أن يجتهد في صيانة لسانه، المسألة تحتاج إلى مجاهدة، وتحتاج إلى مراقبة دائمة، تحتاج أن تكون لا مع الناس فيما يتكلمون، بل يجب عليك أن تكف نفسك، وأن تحسن تحويل الحديث ونقله إلى ما فيه الخير، والبعد عن أعراض المسلمين.
المراد أنه ينبغي للمؤمن أن لا يستحل عرض أخيه فضلاً عن دمه وماله إلا بما هو كالشمس وضوحاً وبياناً.
قال -رحمه الله- :"وَكَيْفَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِأَسْمَاءِ مُبْتَدَعَةٍ"، وهي تنتشر وتختلف في كل زمان يحدث من الأسماء التي يرتضيها الناس، فيتفرق بها من يتفرق، والمؤلف -رحمه الله- ذكر أمثلة من ذلك في أول كلامه، كالشكيري، والفرقندي، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يتفرق بها الناس، وأنت إذا نظرت إلى أسماء الناس اليوم وجدت أسماء كثيرة يتعصب لها الناس، سواء كانت أسماء تمثل اختيارات فقهية، أو مناهج عملية، أو مناهج دعوية.
حتى في بعض الأحيان تجد أسماء جهات ومناطق وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعصب لها الناس ويتحيزون إليها.
فالواجب على المؤمن أن ينبذ كل ذلك، وأن يرضى بالوصف الذي رضيه الله تعالى لأهل الإيمان، ]هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ[[سورة الحج :78.]، فيجب على المؤمن أن يرضى بهذا ولا يرضى بغيره عوضاً.
يقول:"وَكَيْفَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِأَسْمَاءِ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ r؟ "، بل لو كان لها أصل في كلام الله وكلام رسوله، ودعت إلى الفرقة والتعصب هل تكون مذمومة أو غير مذمومة؟ مذمومة، ومن ذلك ما قاله النبيrفي الرجل الذي قال يا للأنصار والآخر قال يا للمهاجرين، قال:«أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة».[تقدم تخريجه.]
وهي أسماء شرعية يحبها الله ورسوله، رتب عليها أجوراً وفضائل، لكن لما سيقت في مقام التعصب والتفرق وترك ما يجب على المؤمنين من التآلف كان ذلك مذموماً، ومن الجاهلية التي نهى عنها النبيr.
يقول :"وَهَذَا التَّفْرِيقُ الَّذِي حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ عُلَمَائِهَا وَمَشَايِخِهَا؛ وَأُمَرَائِهَا وَكُبَرَائِهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ- أي سبب - تَسَلُّطَ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهَا" سواء كان الأعداء من أصحاب البدع المنحرفين أو من أهل الكفر والمخالفين.
"وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " فترك الطاعة سبب للشر.
يقول الله تعالى:]وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[[سورة المائدة: 14.]، وهذه مسألة مهمة أن كل من ترك شيئاً من دين الله تعالى لابد أن يعود هذا الشيء على حياة الناس ودنياهم، بنوع من الفساد.
الله Uيقول:]فَنَسُوا حَظًّا[،أي: نصيباً وقدراً ]مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ[، أي مما أمروا ونهوا عنه،]فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[، إذاً من أسباب الفرقة والاختلاف وتشعث الأمر هو ترك جزء مما أمر الله تعالى به.
ولذلك يجب في إصلاح الأمور وجمع الكلمة بين المسلمين، يجب أن يسعى كل واحد منا بجهده في أن يقوم بما أمر الله تعالى به، فإذا قمت أنا بما أمرني الله تعالى به وترك ما نهاني عنه، وكذلك أنت والثاني والثالث، وتواصينا بهذا ضاقت أسباب الخلاف، وكان ذلك مما يتخلف فيه قوله تعالى:]فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ[.
فلا يقع ما ترتب على هذا النسيان، ]فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[.
يقول المؤلف -رحمه الله- :"فَمَتَى تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَإِذَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَسَدُوا وَهَلَكُوا وَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَحُوا وَمَلَكُوا"، فلا يكون صلاح وملك وألفة إلا بالاجتماع،"فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ"، ولذلك يجب على المؤمن أن يسعى إلى الائتلاف، ولو كان ذلك سبباً لترك شيء من السنن أو ترك شيء من الواجبات في سبيل تحقيق الألفة والمصلحة الكبرى التي جاءت الشريعة بالدعوة إليها وتقريرها، وهي جمع الكلمة ونبذ الفرقة.
بعد هذا انتقل المؤلف -رحمه الله- إلى بيان بعض ما تحصل به الألفة ويحصل به اجتماع الكلمة.
يقول -رحمه الله- :"وَجِمَاعُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [إلَى قَوْلِهِ : ]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [، فَمِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ : الْأَمْرُ بالائتلاف وَالِاجْتِمَاعِ ؛ وَالنَّهْيُعَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ وَمِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ ؛ أَوْ دَعَا مَيِّتًا؛ أَوْ طَلَبَ مِنْهُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ وَالْهِدَايَةَ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَوْ سَجَدَ لَهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
المؤلف -رحمه الله- بعد أن ذكر وجوب الألفة والاجتماع ونهى عن الفرقة والاختلاف وبيَّن ما جاءت به الشريعة من وجوب الاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرق، ذكر -رحمه الله- الطريق الموصل إلى ذلك.
فقال:"وَجِمَاعُ ذَلِكَ" أي: الأمر الذي يتحقق به ما تقدم من الائتلاف والاجتماع وعدم الفرقة، "وَجِمَاعُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ".
ولذلك قال النبي rفيما رواه مسلم من حديث أبي رقية تميم الداري tقال: قال رسول اللهr:«الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ:«لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».[رواه البخاري معلقاً في كتاب الإيمان، ومسلم في الإيمان (55).]
فجعل النبيrالدين النصيحة الذي يتحقق به كل خير ويندفع به كل شر عن الأمة.
قال -رحمه الله- :"وَجِمَاعُ ذَلِكَ" أي: ما يجتمع به الخير للأمة وينتفي به الشر عنها، أن تحقق "الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ".
وذكر لذلك آيات:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [[سورة آل عمران :102- 103]، ثم قال في الآية التالية التي يتحقق بها ما أمر به من الاعتصام: ]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [[سورة آل عمران: 104.].
أي: الذين حققوا الأمن من المرهوب ونيل المطلوب.
فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة، وهذا قربة للعبد إذا اشتغل به.
فكل من اشتغل بالتأليف بين الناس وجمع كلمتهم على الحق، حتى فيما يتعلق بالعلاقات الخاصة بين شخصين بينهما منازعة، إذا ألفت بينهما فقد اشتغلت بأمر كبير لك فيه أجر كبير قال الله تعالى: ]لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ[.[سورة النساء:114.]
]أَمَرَ بِصَدَقَةٍ[، هذا أمر بالطاعة،]أَوْ مَعْرُوفٍ[، وهذا يشمل كل ما جاءت به الشريعة، ]أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ[،فالإصلاح بين الناس من أعظم ما يتحقق به الخير للأمة.
ولذلك يجب على طلبة العلم أن يشتغلوا بذلك، الغريب أن فئام من طلاب العلم الان يسعون للتفريق بين الناس، بالتصنيف والتمييز، وهذا فيه وهذا ما فيه وهذا مبتدع، وهذا فاسق، بل بعضهم يقول هذا كافر، وتصل الأمور إلى مواصيل رديئة، بزعم الانتصار لمنهج السلف والقيام على منهج السنة والجماعة، وهذا غلط كبير، فأهل السنة أهل رحمه يعظمون الحق ويرحمون الخلق.
هذا شعارهم "تعظيم الحق والرحمة بالخلق"، وإمامهم في ذلك النبي الكريمr.
فيجب الحذر والتحذير، ويجب الاحتساب على من يفرق بين الناس بمناصحته والتحذير من مسلكه، وبيان خطورة مسلكه، وأن ذلك مما تنهى عنه الشريعة، فليس من القربة في شيء، وليس من الدعوة والحق والهدى في شيء.
النبيrتحمل أذى المنافقين مع عظيم كيدهم وكبير شرهم جمعاً للكلمة، قال :«لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[ رواه البخاري في التفسير (4905)، ومسلم في البر والصلة (2584).]، مع كونهم كفاراً في الباطن.
فينبغي لأهل الإسلام أن يسعوا في جمع الصف، وتوحيد الكلمة والاجتماع على المتفق عليه وما كان فيه خلاف، فينبغي أن يعذر المسلمون بعضهم بعضاً، لاسيما في الأمور التي يسوغ فيها الخلاف، فإن دائرة الخلاف واسعة.
ما من مسألة من مسائل العلم -لاسيما من مسائل الفروع- إلا فيها من الخلاف.
فكون الإنسان يريد أن يحمل الناس على قوله أو يحملهم على رأيه هذا من أبعد الناس عن الفقه.
وبعض الناس يتحمس لرأيه حتى يخطِّأ غيره كما مرَّ معنا في كلام الشيخ المتقدم، وهذا مما يسعى في التفريق.
فالواجب تعظيم الحق ورحمة الخلق، ومعرفة مراتب المسائل.
هناك كلام لشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول:"كل مسائل الفروع هي من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف" وهي أمر سهل، والشأن كله في مسائل الأصول".
فينبغي لنا أن نعرف أن من خالفنا في مسائل الفروع -مهما كانت هذه المسائل- ينبغي أن تتسع صدورنا وأن نقوم بواجب المناصحة، الخلاف فيه شاذ أو القول فيه ضعيف، فنناصح ونبين الحق.
لكن لا نبدِّع، ولا نخرج من دائرة الحق لكونه خالف في مسألة من المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف.
يقول -رحمه الله- :"فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ ؛ أَوْ دَعَا مَيِّتًا؛ أَوْ طَلَبَ مِنْهُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ وَالْهِدَايَةَ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، أَوْ سَجَدَ لَهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ"، لأنه أتى مكفِّراً "فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ"، هذا إن أمكن، والاستتابة تقتضي إقامة الحجة وبيان أن هذا غلط، فإذا تبين له الحق ثم أصرَّ فعند ذلك يجرى عليه ما ذكر المؤلف، ومن يجري ذلك من له الولاية والسلطة.
ثم قال:"وَمَنْ فَضَّلَ أَحَدًا مِنْ " الْمَشَايِخِ " عَلَى النَّبِيِّ r، أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا يَسْتَغْنِي عَنْ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ rاسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ يَكُونُ مَعَ مُحَمَّدٍ rكَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى uفَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ".
مقصوده -رحمه الله- بقوله:"مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ يَكُونُ مَعَ مُحَمَّدٍ rكَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى u"، يعني ليس ملزم بشريعة النبيr، من ظن أن هناك من الأولية من ليس ملزمًا بالشريعة، وأن له ما يختار من الأحكام ما يخصه وما يناسبه، ويخرج عن شرع النبيrفإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
قال -رحمه الله-:"لِأَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى u، وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ، بَلْ قَالَ لَهُ:"إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ ؛ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ"، وَكَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا r:«وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً ».[صحيح البخاري:( 335).] وَمُحَمَّدٌ rمَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ : إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَسُوغُ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ وَعُقُوبَتُهُ بِمَا يَزْجُرُهُ وَلَوْ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقِتَالِ.
انظر إلى عدل الشيخ -رحمه الله- ودقة كلام أهل السنة والجماعة:"وَكَذَلِكَ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ"، أي من حكم عليهم بالكفر إما عموماً أو أفراداً "أَوْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ"، لكن هذا التكفير لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد على بيِّنة وحجة من كتاب الله وكلام رسوله، إنما "بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ"، يقول -رحمه الله-:"فَإِنَّهُ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ"، هذا الواجب، أن ينهى عن ذلك "وَعُقُوبَتُهُ بِمَا يَزْجُرُهُ"، ما قال يكفره، فأهل السنة والجماعة لا يقابلون التكفير بالتكفير، فلا يعالجون الخطأ بالخطأ، لأن التكفير ليس انتقاماً لشخص أو ردة فعل، إنما التكفير حكم يجب أن يلزم العبد نفسه فيه بكلام الله وكلام رسوله، ولذلك يقول :"وَلَوْ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقِتَالِ" على حسب حاله، والقتال لا يلزم القتل، فالقتل أن يقتل، أما القتال فيقاتل، فقد يؤثر وقد يصاب ويجرح، لكن لا يلزم من القتال القتل، ولا يلزم من القتال والقتل التكفير، قال الله تعالى: ]فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ[[سورة البقرة :178.]بعد أن ذكر القصاص، وكذلك في الاقتتال لا يوجب الكفر، لقول الله تعالى :]وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[[سورة الحجرات: 9- 10.] فحكم على المقتَتلين جميعاً أنهم إخوة، فهذا يدل على أن القتل والقتال لا يلزم منه الكفر.
ثم قال -رحمه الله-:"فَإِنَّهُ إذَا عُوقِبَ الْمُعْتَدُونَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، وَأُكْرِمَ الْمُتَّقُونَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ ؛ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ rوَتُصْلِحُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجِبُ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ عُلَمَاءُ كُلِّ طَائِفَةٍ وَأُمَرَاؤُهَا وَمَشَايِخُهَا أَنْ يَقُومُوا عَلَى عَامَّتِهِمْ وَيَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَيَأْمُرُونَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ r. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ : وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي مَوَاقِيتِهَا وَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَاتِ؛ كَالْأَعْيَادِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ وَصَلَاةِ الْجَنَائِزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ الْمَشْرُوعَةُ وَالصَّوْمُ الْمَشْرُوعُ وَحَجُّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَمِثْلُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ وَمِثْلُ الْإِحْسَانِ وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ، وَمِثْلُ سَائِرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَمِثْلُ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّاسِوَاهُمَا، وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ عَذَابِهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمِثْلُ: صِدْقِ الْحَدِيثِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالصَّاحِبِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْعَدْلِ فِي الْمَقَالِ وَالْفِعَالِ؛ ثُمَّ النَّدْبِ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ مِثْلَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ]وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[.[الشورى:40-43.] وَأَمَّا " الْمُنْكَرُ " الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ؛ إمَّا الشَّمْسَ وَإِمَّا الْقَمَرَ أَوْ الْكَوَاكِبَ؛ أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ أَوْ رَجُلًا مِنْ الصَّالِحِينَ، أَوْ أَحَدًا مِنْ الْجِنِّ أَوْ تَمَاثِيلَ هَؤُلَاءِ أَوْ قُبُورَهُمْ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُسْتَغَاثُ بِهِ، أَوْ يُسْجَدُ لَهُ، فَكُلُّ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَأَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، إمَّا بِالْغَصْبِ وَإِمَّا بِالرِّبَا أَوْ الْمَيْسِرِ كَالْبُيُوعِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ r،وَكَذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَتَطْفِيفُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْإِثْمُ وَالْبَغْيُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ، مِثْلَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَادِيثَ يَجْزِمُ بِهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهَا أَوْ يَصِفَ اللَّهَ بِصِفَاتِ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ وَلَا أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ rسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ مِثْلَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة : إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ ؛ وَإِنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ ؛ وَإِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُحِبُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا كَذَّبُوا بِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ وَالتَّمْثِيلِ مِثْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَمْشِي فِي الْأَرْضِ أَوْ يُجَالِسُ الْخَلْقَ، أَوْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِأَعْيُنِهِمْ، أَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَحْوِيهِ وَتُحِيطُ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ سَارَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمُبْتَدَعَةُ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُr، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ]أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[[ الشورى:21.]، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَاتٍ؛ فَأَحْدَثَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ عِبَادَاتٍ ضَاهَاهَا بِهَا مِثْلَ أَنَّهُ شَرَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَشَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاءَ؛ وَهِيَ عِبَادَةُ مَا سِوَاهُ وَالْإِشْرَاكُ بِهِ، وَشَرَعَ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِيهَا وَالِاسْتِمَاعَلَهُ؛ وَالِاجْتِمَاعَ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَأَوَّلُ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى نَبِيِّهِ r ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [[سورة العلق:1.] أَمَرَ فِي أَوَّلِهَا بِالْقِرَاءَةِ ؛ وَفِي آخِرِهَا بِالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:]وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [".[سورة العلق:19.]
المناسبة بين الأمر في أول السورة بالقراءة وفي آخرها بالسجود، هي بيان ثمرة العلم، وأن العلم يؤدي إلى كمال العبودية لله تعالى، وتعظيمه جل وعلا، فالسجود هو أخص صور التعبد لله تعالى.
ولذلك قال النبيr:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ...».[رواه مسلم في الصلاة (482).]
إنما يدرك ذلك بالعلم، كما قال الله -جل وعلا- في بيان ثمرة العلم وأثره، قال:]أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ[، ثم قال:]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[[سورة الزمر :9 .]، إذاً الذين هذه حالهم من التعبد هم العلماء بالله تعالى، والآيات التي فيها بيان ثمرة العلم، وأنها تثمر العبودية الصادقة كثيرة في كتاب الله تعالى، بعضها واضح وبيِّن وبعضها يحتاج إلى لمح، منه هذه الآية حيث افتتحها الله تعالى السورة بالقراءة واختتمها بالسجود، فدل ذلك على أن ثمرة القراءة يجب أن تكون تحقيق العبودية لله تعالى.
وهذه الجملة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- وهي:"وَيَجِبُ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ عُلَمَاءُ كُلِّ طَائِفَةٍ وَأُمَرَاؤُهَا وَمَشَايِخُهَا أَنْ يَقُومُوا عَلَى عَامَّتِهِمْ وَيَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ"، بيَّن المعروف في كلامه -رحمه الله- في الأصول والفروع وبيَّن المنكر في الأصول والفروع، ولكن هنا فائدة أن ولاة الأمر هم العلماء والأمراء، وهم الذين يرجع إليهم الأمر، فالعلماء لهم ولاية، والأمراء لهم ولاية، وكلاهما يدخل في من تجب طاعته، وهذا عليه جماهير العلماء، وليس قولاً خاصًّا بفئة من أهل العلم أن ولاة الأمر هم العلماء والأمراء، بل هو قول جماهير أهل العلم.
والولاية هنا مجزَّأة ليست على درجة واحدة، فولاية الأمراء ليست في بيان الحلال والحرام، كما أن ولاية العلماء ليست في تنفيذ الأحكام.
فينبغي أن يعرف أن الولاية مجزأة، فكل له ما يخصه مما يرجع إليه فيه.
قال -رحمه الله-:"وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ الْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ؛ وَأَعْظَمُ الْأَفْعَالِ السُّجُودَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَالَ تَعَالَى : ]وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا[[سورة الإسراء:78.]، وَقَالَ تَعَالَى : ]وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[[الأعراف:204.]، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ rإذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- ذَكِّرْنَا رَبَّنَا، فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ ، وَمَرَّ النَّبِيُّ rبِأَبِي مُوسَى tوَهُوَ يَقْرَأُ ؛ فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ فَقَالَ : يَا أَبَا مُوسَى : «مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك» فَقَالَ: «لَوْ عَلِمْت لَحَبَّرْتُهُ لَك تَحْبِيرًا»[ أخرجه ابن حبان في صحيحه(7197)، وأصل الحديث متفق عليه دون الزيادة المذكورة هنا.]، وَقَالَ : «لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا، أَيْ: اسْتِمَاعًا إلَى الرَّجُلِ يُحْسِنُ الصَّوْتَ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ»[أخرجه أحمد في مسنده(23947)، وهو ضعيف بانقطاعه.]، وَهَذَا هُوَ سَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَكَابِرِ الْمَشَايِخِ؛ كَمَعْرُوفِ الْكَرْخِي، والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَنَحْوِهِمْ، وَهُوَ سَمَاعُ الْمَشَايِخِالْمُتَأَخِّرِينَ الْأَكَابِرِ كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَالشَّيْخِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَشَايِخِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَكَانَ سَمَاعُهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ]وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً[[الأنفال:35.]، قَالَ السَّلَفُ : الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُصَفِّقُونَ وَيُصَوِّتُونَ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَصَلَاةً فَذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ .
فَمَنْ اتَّخَذَ نَظِيرَ هَذَا السَّمَاعِ عِبَادَةً وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَمْ تَفْعَلْهُ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ rوَلَا فَعَلَهُ أَكَابِرُ الْمَشَايِخِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْغِنَاءِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، فَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الأَفْرَاحِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ وَاسِعٌ لَا حَرَجَ فِيهِ".
ذكر الشيخ -رحمه الله- نوعين من أنواع السماع الذي يقع، السماع المحدث الذي يتخذه أصحابه قربة وعبادة، وهذا موجود إلى الآن في كثير من الطرق البعيدة عن السنة يتعبدون الله تعالى بالضرب على الدف، ويرقصون ويكون منهم ذكر وهزّ، وبعضهم يغشى عليه، هذا هو السماع المحدث الذي ذكره الشيخ رحمه الله، الذي لم يكن عليه أحد من سلف الأمة ولا أئمتها.
والسماع الثاني هو سماع اللهو الذي جاءت إباحته في بعض المواضع كسماع الغناء في الأفراح وشبهها للنساء والصبيان، كما جاءت به الآثار.
قال -رحمه الله- :"وَعِمَادُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ هُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَكْتُوبَاتُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِهَا مَا لَا يَجِبُ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِغَيْرِهَا . كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ tيَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةً، وَهِيَ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ تَوَلَّى اللَّهُ إيجَابَهَا بِمُخَاطَبَةِ رَسُولِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَهِيَ آخِرُ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ rأُمَّتَهُ وَقْتَ فِرَاقِ الدُّنْيَا جَعَلَ يَقُولُ : «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»[أخرجه أحمد في مسنده(26483)، بسند صحيح.] وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ؛ وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ الدِّينُ كُلُّهُ؛ وَهِيَ عَمُودُ الدِّينِ فَمَتَى ذَهَبَتْ سَقَطَ الدِّينُ، قَالَ النَّبِيُّ r«رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[أخرجه الترمذي في سننه(2616)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.]، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : ]فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[[سورة مريم: 59.] . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ tوَغَيْرُهُ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا؛ وَلَوْ تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا. وَقَالَ تَعَالَى : ]حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [[البقرة:238.] وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا: فِعْلُهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَقَالَ تَعَالَى : ]فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُون[[سورة الماعون:5.]، وَهُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تَأْخِيرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ؛ لَا لِمُسَافِرِ وَلَا لِمَرِيضِ وَلَا غَيْرِهِمَا، لَكِنْ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُسْلِمُ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ -وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ- فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، وَيَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، وَذَلِكَ لِمِثْلِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ .
وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلُّوا بِحَسَبِ طَاقَتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :]فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[[التغابن:16.] فَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَةِ كَامِلَةٍ، وَقِرَاءَةٍ كَامِلَةٍ، وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ كَامِلٍ، فَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ؛ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ يَتَيَمَّمُ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ؛ وَهُوَ التُّرَابُ، يَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيُصَلِّي؛ وَلَا يُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مُقَيَّدًا أَوْ زَمِنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ وَإِذَا كَانَ بِإِزَاءِ عَدُوِّهِ صَلَّى أَيْضًا صَلَاةَ الْخَوْفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ]وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [إلَى قَوْلِهِ : ]وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [إلَى قَوْلِهِ : ]فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [[سورة النساء:101-103.] ، وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُدْرَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْمُرُوا بِالصَّلَاةِ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ حَتَّى الصِّبْيَانَ، قَالَ النَّبِيُّ r: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ ؛ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ ؛ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»[سنن أبي داود(495)، وصححه الألباني في صحيح الجامع.] وَالرَّجُلُ الْبَالِغُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ تَرَكَ بَعْضَ فَرَائِضِهَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ".
امتنع يعني قال: لن أصلي الفجر، الفجر ليست واجبة عليَّ،"أَوْ تَرَكَ بَعْضَ فَرَائِضِهَا"، كالطهارة مثلاً أو استقبال القبلة، أو ستر العورة، "فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ" أي: يبين له خطأ ويطلب منه الرجوع عن عقده وعن فعله، فإن تاب وإلا قتل.
قال -رحمه الله-:"فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : يَكُونُ مُرْتَدًّا كَافِرًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَقَاتِلِ النَّفْسِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَأَمْرُ الصَّلَاةِ عَظِيمٌ شَأْنُهَا أَنْ تُذْكَرَ هَهُنَا -كأنه يعتذر في ذكر هذه المسائل في آخر هذه الوصية، فالصلاة تحتاج ما يخصها ويبينها على وجه الاستقلال- فَإِنَّهَا قِوَامُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ وَتَعْظِيمُهُ تَعَالَى لَهَا فِي كِتَابِهِ فَوْقَ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخُصُّهَا بِالذِّكْرِ تَارَةً وَيَقْرِنُهَا بِالزَّكَاةِ تَارَةً وَبِالصَّبْرِ تَارَةً وَبِالنُّسُكِ تَارَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ]وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [[البقرة:43.] وَقَوْلِهِ : ]وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [[البقرة:45.] وَقَوْلِهِ : ]فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [[الكوثر:2.] وَقَوْلِهِ : ]إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [[الأنعام:162.] وَتَارَةً يَفْتَتِحُ بِهَا أَعْمَالَ الْبِرِّ وَيَخْتِمُهَا بِهَا ؛ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ ]سَأَلَ سَائِلٌ[[ المعارج:1.] وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ " . قَالَ تَعَالَى : ]قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[[المؤمنون:1-11.] فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنْ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا".
ختم الشيخ -رحمه الله- هذه الرسالة بهذه الوصية الجامعة النافعة، وذكر فيها الصلاة على وجه الخصوص، وأنا أدعو نفسي وإخواني أن ننظر إلى هذه الوصية بجميع ما تقدم فيها لاسيما مما ذكره في آخرها مما يتعلق بالصلاة، فإن أقواماً عندهم من العمل بالخير ما يشهد لهم فيه، لكنهم يقصرون في الصلاة تقصيراً بيناً، إما في وقتها وإما في أدائها على وجهها المطلوب، ولا شك أن التقصير في الصلاة أمر يجب تداركه والعمل على إصلاحه فإن إصلاح الصلاة به صلاح العمل، ومنزلة الصلاة من الإيمان والإسلام لا تضاهيها عبادة من عبادات الجوارح.
ولذلك جاء في رسالة منسوبة إلى الإمام أحمد -رحمه الله- قال فيها :" إذا أردت أن تعرف قدر الإسلام في قلبك فانظر إلى قدر الصلاة في قلبك".
أسأل الله العظيم أن يجعلني وإياكم ممن يرثون الفردوس هم فيها خالدون، وأن يجعلنا وإياكم ممن علم فعمل، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن ينفعنا بما علمنا.
وبهذا تنتهي هذه الرسالة المباركة "الوصية الكبرى" وأسأل الله تعالى أن يغفر للشيخ أحمد بن تيمية، مغفرة تكفَّر بها خطاياه، وترتفع بها درجته، وأن يرزقنا وإياكم الانتفاع بما تضمنته هذه الرسالة المباركة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.