الدرس (4) من شرح رسالة الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
يقول ابن القيم -رحمه الله-:"وكل من زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين".[انظر "مدارج السالكين"(2/307).]
وهذا قيد مطرد واضح مستفاد من قول النبيr:«أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا».[تقدم تخريجه.]
كلما زاد عليك خلقاً، زاد عليك في الدين، أي كان دينه أمتن وأقوى من دينك.
يقول -رحمه الله- :"فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ فِي كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ"، ثم بيَّن المؤلف -رحمه الله- معنى حسن الخلق، قال:"وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ تَقْوَى اللَّهِ.
وَتَفْصِيلُ أُصُولِ التَّقْوَى وَفُرُوعِهَا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ، فَإِنَّهَا الدِّينُ كُلُّهُ"، يعني كل ما أمر الله إيجاباً أو استحباباً.
ثم قال -رحمه الله- في الإشارة إلى ما ينبغي ضبطه فيما يتعلق بتحقيق التقوى وهو ضبط أصولها بأن يضبط كلمة التقوى تحقيقاً وعملاً، كلمة التقوى هي "لا إله إلا الله"، فإذا ضبطها تحقيقاً وعقدًا وعملاً فقد طاب عمله، وتحقق له من حسن الخلق ما لم يتحقق لغيره.
يقول -رحمه الله-:"لَكِنَّ يَنْبُوعَ الْخَيْرِ وَأَصْلَهُ"، ينبوع الخير الذي يصدر عنه كل خير، وأصله، أي المعدن الذي يبنى عليه، ويأتي منه "إخْلَاصُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ"، ولا شك أن الإخلاص مصدر كل خير، فلا خير في سلوك الإنسان، ولا خير في آخرته إلا في إخلاص العمل للهU، وإخلاص العبادة له، ولذلك ينبغي للإنسان أن يحقق توحيد الله بقلبه قولاً وعقداً.
يقول -رحمه الله- :"إخْلَاصُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِعِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً"، أما العبادة بأن لا يعبد غير الله -جل وعلا -كما قال الله تعالى]إيَّاكَ نَعْبُدُ[.[سورة الفاتحة :5.]، فلا يجوز صرف العبادة لغير الله U.
وأما الاستعانة، فقوله تعالى: ]وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[[سورة الفاتحة :5.]، ولذلك قال :"عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ :]إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[".
وهذه الآية التي تضمنت هذين الإفرادين في سورة الفاتحة، يقرؤها كل مؤمن وكل مسلم حتى يحققها، لا ليتكلم بها لفظاً، ويغفل عنها معنى، فإن مناط الخيرية في الدنيا والآخرة في تحقيق هذه الآية ]إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[، فمن أفرد العبادة للهUوأفرد الاستعانة أي طلب العون من الله U، أفرد الله بذلك، فقد تحقق له سعادة الدنيا وفوز الآخرة.
قال -رحمه الله-:"وَفِي قَوْلِهِ:]فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ[[هود:123.] وَفِي قَوْلِهِ :]عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[، وَفِي قَوْلِهِ :]فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ[".
كل هذه الآيات فيها ما في الآية الأولى:]إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[.[سورة الفاتحة:5]
يقول:"وَفِي قَوْلِهِ :]عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[،"[سورة هود: 88]. أين الاستعانة في هذا، :]عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ[، وأين العبادة]وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[، فالإنابة هي الرجوع إلى اللهUبالقلب والعمل.
يقول بعد ذلك :"وَفِي قَوْلِهِ :]فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ["[سورة العنكبوت :17.]، أين الاستعانة في هذا أيضا؟ ]فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ[، وأين العبادة؟ في قوله تعالى :]وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ[.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله- في بيان تحقيق إفراد العبادة لله U، وتحقيق إفراد الاستعانة له سبحانه وبحمده يقول:"بِحَيْثُ يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ انْتِفَاعًا بِهِمْ أَوْ عَمَلًا لِأَجْلِهِمْ".
أي طلب النفع منهم، أو رجاء النفع منهم، قال :"يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ "، ولم يقل :" يقطع الأسباب وأخذها"، إنما المقصود هو الكلام في تحقيق الإخلاص والاستعانة بأن يقطع التعلق لا أن يعرض عن الأسباب ويهملها، فإن الإعراض عن الأسباب الحسية أو الشرعية نقص في العقل.
فالمقصود هو أن يأخذ الإنسان السبب مع تمام تعلق القلب باللهU.
ولذلك يقول:"بِحَيْثُ يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ انْتِفَاعًا بِهِمْ أَوْ عَمَلًا لِأَجْلِهِمْ "، فهو لا يرجو منهم نفعاً، كما أنه لا يقصدهم عملاً، فعمله لله U، وخشيته وخوفه، وطمعه ورغبته، كلها فيما عند اللهUولله جل وعلا.
ثم قال:"وَيَجْعَلُ هِمَّتَهُ رَبَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ وَمَخَافَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَالْعَمَلِ لَهُ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ، وَمَنْ أَحَكَمَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ مَا يُعْقِبُهُ ذَلِكَ".
يقول -رحمه الله- في بيان تتمة ما يحصل به تحقيق العبودية للهUوتحقيق الاستعانة به، يقول -رحمه الله-:"بِحَيْثُ يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ انْتِفَاعًا بِهِمْ أَوْ عَمَلًا لِأَجْلِهِمْ،وَيَجْعَلُ هِمَّتَهُ رَبَّهُ" أي يجعل همه وطلبه ورغبته وسائر تعلقه بالله U، لا يتعلق بغيره، ولا ينظر إلى غيره.
يقول :"وَذَلِكَ" في بيان كيف يجعل همته ربه، يقول :"وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ"، حتى في أيسر الأمور، سل الله جل وعلا، وأنزل حاجتك باللهUفهو الصمد الذي تنزل به الحوائج، وهو القادر على قضائها جل وعلا.
"وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ وَمَخَافَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ"، والفاقة هي الفقر، والحاجة لا يلزم أن تكون عن فقر، والمخافة ما يرهبه الإنسان ويخشاه من مخاوف أعدائه أو مخاوف ما تأتي به الأقدار.
قال:"وَغَيْرِ ذَلِكَ" ثم قال :"وَمَنْ أَحَكَمَ هَذَا " أي من ضبط هذا الأصل، وهو ما تقدم من إفراد الله بالعبادة، وإفراده بالاستعانة على ما وصف رحمه الله "فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ مَا يُعْقِبُهُ ذَلِكَ"، أي لا يمكن أن نصف ما يحصله صاحب هذا العمل من سعادة الدنيا وفوزها وانشراح الصدر وراحته وطمأنينته، وذلك إنما يحصله فوق ما يصفه الواصفون، ولذلك لا يمكن أن يوصف هذا إلا بأن يجرب،«ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً».[رواه مسلم في الإيمان (34).]
قال الله تعالى: ]الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[.[سورة الأنعام:82.]
فمن حقق هذا يدرك الانشراح والسعادة والطمأنينة ما لا يمكن أن يُحدّ ولا أن يوصف، وذلك لعظمه وكبر شأنه.
ثم يقول -رحمه الله-:"وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ".
هذا من فقهه رحمه الله، بعد أن فرغ من الجواب المجملtفيما يتعلق بالوصية التي طلبها هذا السائل، انتقل رحمه الله إلى جوابه عن سؤاله: أي الأعمال أفضل؟
قال :"وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ"، وهذا يفهم منه أن المفاضلة بين الأعمال إنما هو بعد أداء الفرائض، أما الفرائض فإنها ليست محلًّا لمفاضلة بل هي مما يجب الإتيان به، ولا يجوز الإخلال به، ولو كان الفضل فيها متفاوتاً.
فمثلاً صلاة الفجر وصلاة العشاء فيهما من الفضل ما ليس في صلاة الظهر، وصلاة العصر فيها من الفضل ما ليس في سائر الصلوات، ومع هذا الكل يشترك في الوجوب، والمفاضلة في الواجب لا تجعل وجوبه أخف أو أهون من غيره، بل المفاضلة فيه مدعاة للحرص عليه والإتقان له، لا أن يكون ذلك سبباً لتفويت ما هو أدنى من الواجبات.
إذاً المفاضلة في العمل هو بعد الفراغ من الواجبات، بعد الإتيان بما فرض اللهU، كما قال النبيrفي الحديث الإلهي:«وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ».[رواه البخاري في الرقاق(6502).]
فهذا أول المراتب في تحقيق محبة اللهU:«وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، ثم النوافل ليست على درجة واحدة.
يقول -رحمه الله-:"وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ -هذا واحد – وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ-هذا اثنان-فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ".
أيضاً يرجع المفاضلة في الشخص قدرةً وحالاً، وزماناً ومكاناً، فأجمل الشيخ -رحمه الله- أوجه المفاضلة في جانبين، يقول:"فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ" أيضاً فيما يؤثر في المفاضلة الوقت والمكان، ومما يؤثر في المفاضلة الحال، ثم يؤثر في المفاضلة نوع العمل ذاته.
يقول -رحمه الله-:"فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ"، وهذا يدل على أنه يختلف باختلاف أحوال الناس، وهذا هو الجواب عن اختلاف جواب النبيrعمن سأله أي العمل أفضل؟ فمرة يقول «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»[رواه البخاري في الإيمان (26)، ومسلم في الإيمان (83).]،ومرة يقول :«الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا».[رواه البخاري في مواقيت الصلاة(527)، ومسلم في الإيمان (85).]
فهذه المفاضلة وهذه المفاوتة بين الأعمال إنما هو ناشئ عن اختلاف أحوال السائلين، فمنهم من يناسبه الجهاد، ومنهم من يناسبه الحج، ومنهم من يناسبه بر الوالدين، فيكون الاختلاف مبناه على اختلاف أحوال السائلين.
ثم قال -رحمه الله-:"لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ: أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ :«سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْمُفَرِّدُون؟ قَالَ:«الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ tعَنْ النَّبِيِّ rأَنَّهُ قَالَ:«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ :« ذِكْرُ اللَّهِ»، وَالدَّلَائِلُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْإِيمَانِيَّةُ بَصَرًا وَخَبَرًا وَنَظَرًا عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
يقول -رحمه الله- بعد أن بيَّن اختلاف أحوال الناس في أفضل الأعمال، وأنه ليس فيها جواب جامع مفصَّل لكل أحد.
قال :"لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ"، ما الفرق بين العلماء بالله والعلماء بأمر الله؟ العلماء بالله الذي علموا من صفات الله تعالى وأفعاله وما يتعلق به مالم يعلمه غيرهم.
فالعلم بالله هو العلم بصفاته وما يجب لهI.
وأما العلماء بأمره فهم العلماء بالشرع، وقدَّم العلماء بالله لأن العلماء بالله أعظم درجة من العلماء بالشرع، أي العلماء بالأمر الحلال والحرام، فإن العالم بالله يحمله العلم به على تقواه،
قال الله تعالى:]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[[سورة فاطر:28.]أي: العلماء به والعلماء بشرعه.
فأفضل منازل العلماء، العلماء بالله وشرعه، ثم العلماء بالله، ثم العلماء بالشرع، وهي أمور متلازمة قد لا يتمكن الإنسان من فصلها، لكن على كل حال قدَّم العلم بالله؛ لأنه أصل عن العلم بشرعه، فمن علم بالله قد يهتدي لأحكامه دون أن يكون عنده نص، قد يوفق لموافقة شرع الله دون أن يسبق علمه بنص شرعي في مسألة معينة.
يقول -رحمه الله-:"لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ: أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ"، وهذا لا ريب فيه فإن النبيrسأله رجل كما في "الصحيح" قال رجل لِرَسُولِ اللهِ r: إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ, قَالَ:«لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهU».[رواه الترمذي في الدعوات (3375)، وابن ماجة في الأدب (3793) وإسناده صحيح.]
فوجهه النبيrإلى دوام ذكر الله Uباللسان، واعلم أن ذكر الله أنواع: ذكر الله باللسان، وذكر بالقلب، وذكر يتواطئ فيه ذكر اللسان والقلب، وهذا أعلى أنواع الذكر.
وذكر الله بالقلب هو شهود نعمه وفضله وإحسانه وعظيم صفاته وأفعاله جل وعلا، هذا هو الذكر بالقلب، بأن يكون العبد مُقبلاً على اللهUبقلبه متأملاً في نعمه، فإذا أضاف إلى ذلك ذكره باللسان كان نوراً على نور، فهذا أفضل ما شغل به العبد نفسه، واستدل لذلك بحديثين.
الحديث الأول حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم:«سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْمُفَرِّدُون؟ قَالَ:«الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ»،[رواه مسلم في الذكر والدعاء (2676).]وانظر لم يقل: الذاكرون الله والذاكرات، إنما قال:«الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا»، وقال تعالى :]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا[.[سورة الأحزاب :41.]، وهذا سيتبين لنا حده الأدنى من كلام الشيخ رحمه الله.
يقول :"وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ tعَنْ النَّبِيِّ rأَنَّهُ قَالَ:«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ" أي بأخير ، خير على وزن أخير لكن حذفت الهمزة تخفيفاً والمعنى أخير العمال وهو أعلاها فضلاً.
يقول:"«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ" الورق هو الفضة، يعني خير لكم من إنفاق الذهب والفضة،"وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ :«ذِكْرُ اللَّهِ»[أخرجه أحمد في مسنده(21702)، والحاكم في مستدركه(1825)، وقال: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاه.]، والسبب أن ذكر الله ممتد، وله من الآثار والفوائد والإعانة على الطاعة ما ليس لغيره من الأعمال.
فكل عمل فاضل يكون الذكر حاثًّا عليه، مشجعاً له، معيناً عليه، حاملاً على الاستزادة منه.
يقول -رحمه الله-:"وَالدَّلَائِلُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْإِيمَانِيَّةُ بَصَرًا وَخَبَرًا وَنَظَرًا عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ"أي دالة على ذلك كثيرة، أي من حيث العدد.
يكفي أن الله Iفي كتابه لم يذكر الذكر في موارد ذِكره إلا على وصف الكثرة، قال تعالى :]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[[سورة الأحزاب: 41- 42.]، أي: في أول النهار وفي آخر النهار.
وقال تعالى:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[.[سورة الأنفال :45.]
وقال تعالى:]وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ[.[سورة الأحزاب:35.]
فذكر اللهIمقيد بالكثرة في كلام اللهU، وذلك أنه إنما يؤتي ثماره ويحصل مقصوده بكثرته لا بأدنى شيء منه.
قال -رحمه الله-:"وَأَقَلُّ ذَلِكَ" أي: أقل ما يحافظ عليه من الذكر الذي يحصل به على الفضائل السابقة يقول:"أَنْ يُلَازِمَ الْعَبْدُ الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَrكَالْأَذْكَارِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ؛ وَعِنْدَ أَخْذِ الْمَضْجَعِ، وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ الْمَنَامِ، وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَالْأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ وَدُخُولِ الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ وَالْخَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ صُنِّفَتْ لَهُ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، ثُمَّ مُلَازَمَةُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا، وَأَفْضَلُهُ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ".
إذاً أقلُّ ما يكون من الذكر الذي يحصل به ما تقدم من الفضائل الملازمة للأذكار المؤقتة والأذكار المقيدة.
الأذكار المؤقتة: هي الأذكار التي حدد لها الشارع أوقاتاً معينة.
وأما الأذكار المقيدة: فهي الأذكار التي جعل لها الشارع أسبابًا، إذا وجدت أسبابها شرع قولها.
الأذكار المؤقتة:كأذكار الصباح والمساء، هذه من الأذكار المؤقتة بوقت،"وَعِنْدَ أَخْذِ الْمَضْجَعِ، وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ الْمَنَامِ، وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ" هذه كلها قد قيدت بأوقات، فالمطلوب المحافظة على الأذكار، أو على أقلها في هذه الأوقات التي وقتها الشارع للأذكار؛ لما لها من الأثر في قوة القلب وصلاحه، وقوة البدن واستقامته، فإن هذه مما يتحقق بها الوصية التي ذكر المؤلف -رحمه الله- الوصية العامة التي أمر الله بها وأوصى بها الأولين والآخرين بتقوى اللهI.
يقول :"وَالْأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ، وَدُخُولِ الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ وَالْخَلَاءِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ" أي: من الأذكار التي لها أسباب إذا وجدت أسبابها فإنها تشرع.
يقول:"وَقَدْ صُنِّفَتْ لَهُ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" ككتاب"عمل اليوم والليلة" لابن السني رحمه الله وغيره، المراد أن المصنفات في الأذكار كثيرة، ومنها مصنف لشيخ الإسلام -رحمه الله- بعنوان "الكَلِم الطيب"،وابن القيم له "الوابل الصيب".
قال:"ثُمَّ مُلَازَمَةُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَأَفْضَلُهُ "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، مطلقاً يعني بدون تقييد، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة، وكل تكبيرة صدقة، هذا مما ينبغي أن يعمل الإنسان نفسه.
الإنسان – يا إخواني – إما أن يسكت، وإما أن يتكلم بخير، وإما أن يتكلم بمباح، وإما أن يتكلم بباطل.
أفضل هذه المراتب أن يتكلم بخير، يليها السكوت، يليها التكلم بالمباح، أما التكلم بالمحرم فهذا خارج عن الفضل، وهو مُوقع للإنسان في الوزر والإثم.
فينبغي للمؤمن أن لا يتكلم إلا بالخير، كما قال النبيrفي "الصحيحين":«وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ».[رواه البخاري في الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47).]
والخير أنواع، من أعلى الخير: ذكر اللهU، قراءة القرآن والذكر، ومنه أيضاً العلم النافع وتعليمه، ومنه أيضاً دعوة الناس إلى البر والخير، ومنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ومنه أيضاً ما هو خير فيما يؤول إليه من إدخال السرور على الأخ المسلم، والتبسط له، والتقرب إليه بالكلام الذي هو في ذاته من جملة المباحات، لكن فيما يؤول إليه وينتهي إليه يكون من الخير، هذا أيضاً مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان لما له فيه من الأجر من إدخال السرور والتحبب إلى إخوانه المسلمين.
أما ما عدا هذا إما أن يكون مباحاً أو يكون محرماً.
قال -رحمه الله-:"وَقَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ يَكُونُ بَقِيَّةُ الذِّكْرِ مِثْلُ:"سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ".
"تَعْرِضُ أَحْوَالٌ يَكُونُ بَقِيَّةُ الذِّكْرِ" إذاً الأفضل على وجه الإطلاق دون تقييد قول:"لا إله إلا الله"، لكن هذا الفضل ليس في كل مقام وفي كل حال.
فمثلاً أدبار الصلوات، يقول: "لا إله إلا الله" ثم هل يستمر قائلاً :" لا إله إلا الله" أم يأتي بأذكار أخرى من التسبيح والتحميد والتكبير؟ التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلاة وقول: "لا إله إلا الله" من الكلام ما هو أفضل من "لا إله إلا الله"، والفضل هنا ليس في ذات الكلام، إنما قد يكون الفضل لمعنى آخر.
مثلاً القرآن، أفضل الذكر لكن هل يجوز أن يقوله الإنسان راكعاً أو ساجداً؟ الجواب: لا.
سئل النبيrعن ذلك فقال :«نَهَيت عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ».[رواه مسلم في الصلاة (480).]
لا لكون القرآن ليس فاضلاً، لكنه في هذه الحال غيره أفضل منه، والله حكيم في شرعه وحكيم في أمره ونهيه، فينبغي للمؤمن أن يراعي هذه الفضائل، ويلاحظ الأحوال التي يكون فيها صاحب الفضل العام المطلق نازلاً عن هذا الفضل.