الدرس(5) من شرح رسالة الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
يقول-رحمه الله-:"ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَتَصَوَّرَهُ الْقَلْبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلِهَذَا مَنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِض،ِ أَوْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَتَفَقَّهُ أَوْ يُفَقِّهُ فِيهِ الْفِقْهَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِقْهًا، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَفْضَلِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَلَى ذَلِكَ إذَا تَدَبَّرْت لَمْ تَجِدْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ فِي كَلِمَاتِهِمْ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَبِيرَ اخْتِلَافٍ".
فهذا صلة ما تقدم من الجواب على سؤال أي الأعمال أفضل؟ وقد تقدم أن الشيخ -رحمه الله- تقدم في جوابه :"وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ، فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ".
ثم بعد هذا رجع الشيخ -رحمه الله- لبيان فضائل الأعمال على وجه العموم الذي يناسب كل أحد على اختلاف أحوال الناس وطاقاتهم وقدراتهم وإمكاناتهم، واشتغالاتهم.
فقال -رحمه الله-:"لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ: أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ" ثم بعد هذا التفضيل للذكر، بيَّن المؤلف -رحمه الله- أن الذكر ينقسم إلى قسمين، ذكر مطلق، وذكر مقيد.
وأن أقل ما ينبغي أن يشتغل به الإنسان من الذكر، الذكر المقيد، وهو ما يكون في أوقات محددة، أو له أسباب محددة.
ثم قال -رحمه الله- بعد هذا القسم من الذكر:"ثُمَّ مُلَازَمَةُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَأَفْضَلُهُ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "
وبعد ذلك قال -رحمه الله- بعد بيان أن الأذكار تتفاضل، وأن أفضلها "لا إله إلا الله"، وأنه قد يعرض من الذكر لغير هذا الذكر من الفضل في زمان مقيد ما يجعله أفضل من قول: "لا إله إلا الله"، لا باعتبار الكلمة نفسها، لكن باعتبار أمور أخرى خارجة عن ذات العبادة نفسها، أو ذات المتكلم بها نفسه.
يقول -رحمه الله- :"ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَتَصَوَّرَهُ الْقَلْبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ"، وهذا يبين لنا سعة ذكر الله، وأنه لا ينحصر فقط بقول: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله وما أشبه ذلك"، بل ذكر الله أوسع من ذلك، فكل ما تصوره القلب أو تكلم به اللسان من ذكر اللهUمما يقرب إلى الله من تعلم علم، أو تعليمه، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر فهو من ذكر الله، وهذا يبين لنا أن الذكر لا ينحصر فقط في الأوراد المحددة والأذكار المقيدة، بل هو أوسع من ذلك.
فالذكر يكون بالقلب لما يجري فيه من ذكر نعمة الله والتفكر في آلاء الله Uوالتفكر في صفاته I، وما إلى ذلك من الأمور القلبية.
ويكون أيضاً بما يجري على اللسان من تعليم العلم وتعلمه، وترداد العلم لحفظه واستذكاره، وأيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل هذا من ذكر الله.
ولذلك كان النبيrأعظم الناس ذكراً؛ لأنه لا ينفك ذاكراً للهU، فهو إما في تسبيح، وإما في قراءة قرآن، وإما في دعوة الخلق وهدايتهم، وإما في أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وإما في إدارة شؤون أهله بما يحقق: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»[صحيح البخاري(1409).]، وكل هذا من ذكر اللهU.
فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذا المعنى العام لذكر الله حتى يستكثر من الأعمال الصالحة، وحتى يثاب؛ لأن العمل الصالح إذا فقد النية نقص ميزانه، وقلَّ أجره عند الله U.
يقول -رحمه الله- :"وَلِهَذَا مَنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَتَفَقَّهُ أَوْ يُفَقِّهُ فِيهِ الْفِقْهَ" كمجلسنا هذا مثلاً الذي سماه الله ورسوله فقهاً، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله.
قال :"وَعَلَى ذَلِكَ إذَا تَدَبَّرْت لَمْ تَجِدْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ فِي كَلِمَاتِهِمْ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَبِيرَ اخْتِلَافٍ" لكونها ترجع كلها إلى اعتبار حال السائل، فقد يكون الأفضل له في هذا المقام كذا، والأفضل له في هذا المقام كذا.
ومن قال إن أفضل الأعمال الذكر فإنه لا يحصل فقط بذكر اللسان، الذي يتلفظ بذكر الله من تسبيح أو تحميد أو تقديس أو تمجيد، بل هو أكثر من ذلك فيشمل التعليم ويشمل التعلم، ويشمل الأمر بالمعروف، ويشمل النهي عن المنكر، ويشمل دعوة الناس إلى الهدى، ويشمل أيضاً الذب عن الشريعة، ويشمل الرد على شبهات المشبِّهين، وكله يدخل في ذكر اللهU.
فيكون ما بين العلماء المتقدمين من اختلاف في أي الأعمال أفضل إنما هو من باب اختلاف التنوع.
فالاختلاف نوعان:
اختلاف تنوع: وهو أن يتفقوا على المعنى ، وإن اختلفوا في اللفظ.
والثاني: اختلاف تضاد وهو أن تتقابل الأقوال من كل وجه، فيكون ما قاله فلان مقابل ما قاله فلان، لا يتفق معه لا في الصورة، ولا في اللفظ، ولا في المعنى ولا في الحقيقة.
ثم قال -رحمه الله-:"وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ بِالِاسْتِخَارَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَا يُعَجِّلُ فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، وَلْيَتَحَرَّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ: كَآخِرِ اللَّيْلِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَوَقْتَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
يقول -رحمه الله- :"وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَبْدِ " اشتبه أمره، يعني اختلط ولم يتضح، ولم يبن فيه وجه الخير، سواء كان من الأمور الخاصة أو من الأمور العامة.
من الأمور العبادية إذا كان الإنسان مخيراً بين أنواع من العبادات، هل يطلب العلم، هل يشتغل بالدعوة، هل يشتغل بالجهاد، هل يشتغل بالإغاثة، هل يشتغل بحفظ القرآن، أم بحفظ السنَّة، أم بهما جميعاً، إذا اشتبه الأمر على الإنسان، ولم يتبن له أمور الخير فليستخر، أي فليطلب خير الأمرين.
ومن هذا نفهم أن الاستخارة تكون في المفاضلة بين الأعمال الصالحة.
ومن قال من العلماء: إنه لا استخارة في الخير، مراده أنه لا استخارة فيما تبين خيره، سواء كان في أمر الدنيا أو أمر الآخرة، ولذلك لا يستخير الإنسان بين أن يحج أو لا.
لكن يستخير بين أن يحج أو يدرس التعليم، بين أن يحج أو يخرج للجهاد، بين أن يحج أو يشتغل بإغاثة المنكوبين من المسلمين، أو ما إلى ذلك من الأعمال التي تكون كلها خير لكن لا يتبين له وجه الخير، هل هو في هذا أو في هذا، ففي هذه الحال ماذا يفعل؟ يستخير بعد أن يستشير لأن الاستشارة مرحلة مقدمة على الاستخارة، إذ الاستخارة لا تكون إلا في نهاية المطاف، عندما يقلب الإنسان الرأي من كل وجه، فلا يتبين له نوع ترجيح، فعند ذلك يطلب الخير من رب العالمين بالاستخارة، أي بطلب الخير منه بأن يوفقه إلى خير هذه الأمور التي هو مقبل عليها.
يقول:"وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ بِالِاسْتِخَارَةِ الْمَشْرُوعَةِ، فَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ ".
"فَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَخَارَ" هذا بعضهم يجعله حديثاً عن النبيr، لكنه ليس بحديث ولا يثبت عن النبيrمثل هذا القول، إنما هو من أقوال بعض سلف الأمة.
يقول :"وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ" أي من الاستخارة، وفيه أنه يشرع تكرار الاستخارة، فله أن يكرر الاستخارة مرة أو مرتين أو ثلاث، فلا بأس بذلك، لأن النبيrقال:«إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ...»،[ رواه البخاري في الجمعة (1166) من حديث جابر.] لم يبين أن هذا في مرة أو مرتين، أو في ثلاث.
فمادام أنه لم تركن نفسه ولم يطمئن إلى شيء من الأمور فلا بأس أن يكرر الاستخارة؛ لأنه من قبيل تكرار الدعاء، لأن الاستخارة نوع من الدعاء.
فقوله:"وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ" أي: من الاستخارة المشروعة بتكرارها إذا دعت حاجة.
يقول:"وَمِنْ الدُّعَاءِ"، أي: ومن سؤال الله مطلقاً من غير استخارة، لأن الاستخارة هي دعاء خاص، بأن يصلي ركعتين، ثم يدعو اللهUفيقول:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ، أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي».[تقدم تخريجه.]
هذا يقوله إما قبل أن يسلِّم، وإما بعد أن يسلم، والحديث يحتمل هذا وهذا، وإن كان بعض العلماء يقول :"إن الحديث يظهر منه أنه يقول ذلك بعد الفراغ من الصلاة، لقوله: «فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ» مع أنه ليس بظاهر في الحقيقة.
ولذلك قال شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:"له أن يدعو بهذا الدعاء قبل السلام، وله أن يدعو به بعد السلام".
وهما قولان لأهل العلم، والمسألة فيها سعة، فإن دعا قبل السلام، فإنه محل للدعاء، وإن دعا بعد السلام يحتمله قوله r:«فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ...» الحديث.
وأما قوله :"وَمِنْ الدُّعَاءِ" فهذا يكون في الركوع، ويكون في السجود، ويكون في أدبار الصلوات، ويكون في الأسحار، ويكون بين الأذان والإقامة، يقول:" اللهم يسر لي الخير حيث كان، اللهم اهدني لخير الأمرين"، دون أن يكون في صلاة خاصة أو دعاء خاص كالمتقدم في حديث جابر.
يقول :"فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ " الدعاء مفتاح كل خير، يعني به يستفتح كل خير، ولا شك أن الدعاء مفتاح كل خير، لأن الإنسان لا يعلم إما أن يحصِّل مقصوده بدعائه، فإن فاته المقصود فإنه لا يعدم من فضيلته، أن يدفع الله عنه من الشر نظير ما دعا، فإذا لم يكن ذلك، فإن اللهUيدَّخره له في الآخرة أجراً وثواباً.
ثم قال :"وَلَا يُعَجِّلُ" أي: يستعجل في الدعاء وبيان العجلة، أن يقول:"قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"[جزء حديث رواه البخاري في باب يستجاب للعبد ما لم يعجل(6340)، ومسلم في باب يستجاب للعبد ما لم يعجل(2735).]، وهذا فيه احتجاج على القدر، وسوء ظن باللهU، - يا أخي- أنت لا تسأل فقيراً معدماً، أنت تسأل من بيده مقاليد الأمور، وله ما في السموات وما في الأرض، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاءI.
فإذا منعك فإنما يمنعك لحكمة، ما يمنعك بخلاً، وهذا إذا استحضره الإنسان طابت نفسه لقضاء اللهU، ورضي بما يقسمه الله له، فلا تجد عنده غضاضة على القدر، ولا كراهية لما يجريه الله من الأقدار، بل تجده مستسلماً، يدعو الله ويتضرع لكنه مع دعائه وتضرعه هو راضٍ بما يقضيه الله -جل وعلا- من إجابة الدعاء، أو من ادخاره في الآخرة أو من دفع نظير ما دعا اللهUبه.
فينبغي للمؤمن أن يكون على هذه الحال من ربه، وإذا فكَّر في عظيم قدرة الله وسعة غناه، وواسع كرمه وعظيم رحمته، تلاشت في نفسه هذه الظنون السيئة التي ينتج عنها مثل هذا القول الردئ"قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".
يقول:"وَلْيَتَحَرَّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ: كَآخِرِ اللَّيْلِ، وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ، وَوَقْتَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ" أي من الأوقات التي جاء في السنة أنها من أوقات الإجابة والتي يرجى فيها جواب اللهU، وحصول مقصود العبد بدعائه.
ثم قال -رحمه الله-:"وَأَمَّا أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ: فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ أَنْ يَلْجَأَ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَيَدْعُوَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْثُرُ عَنْهُ نَبِيُّهُ:«كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ» ، وَفِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ tقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ»، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ :]وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ[[النساء:32.] وَقَالَ سُبْحَانَهُ ]فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْعَةِ فَمَعْنَاهُ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم ، أَمَرَ النَّبِيُّrالَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ:« اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك» وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ r:]فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ[.
يقول -رحمه الله- في بيان أفضل المكاسب لأن السائل سأله عن أفضل المكاسب حيث قال في سؤاله للشيخ -رحمه الله-:"وَيُبَيِّنُ لِي أَرْجَحَ الْمَكَاسِبِ"، يحتمل قوله: "وَيُبَيِّنُ لِي أَرْجَحَ الْمَكَاسِبِ"، يعني من الأعمال الصالحة، لأنه قال:"وَيُنَبِّهُنِي عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ الْوَاجِبَاتِ، وَيُبَيِّنُ لِي أَرْجَحَ الْمَكَاسِبِ"، فيحتمل أن مراده بأرجح المكاسب يعني أفضل ما يكسبه الإنسان من الأعمال الصالحة.
ويحتمل أن أرجح المكاسب هنا المكاسب الدنيوية المالية التي يكتسب بها ويغتني عن الناس.
قال -رحمه الله-:"وَأَمَّا أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ: فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ"، ولا شك أن التوكل على اللهU، أعظم ما يكتسبه العبد في الدنيا، وهو خير ما يقدم به على ربه في الآخرة.
فهو كسب دنيوي في غاية النفاسة، وهو كسب أخروي في غاية العلو والارتفاع.
وذلك أن التوكل هو صدق الاعتماد على الله -جل وعلا- في جلب المنافع أي في كل ما ينفع من أمر الدنيا وأمر الآخرة، وفي دفع المضار في كل ما يضر من أمر الدنيا وأمر الآخرة.
فإذا ركن العبد بقلبه إلى ربه فإنه قد أوى إلى ركن شديد، منه يأتي كل خير، وبه يندفع كل شر.
فإذا كان قلب العبد على هذا الوزن من الاعتماد على اللهU، وعلى هذا المقدار من الثقة به، فإنه في غاية الاستسلام للهU، وفي منتهى السعادة بهIوله منه غاية الكفاية، أي منتهى الكفاية.
ولذلك قال اللهI:]وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[[سورة الطلاق:3 .] أي كافيه،والكفاية هنا كفاية همّ الدنيا وهم الآخرة.
ولذلك كان أرجح المكاسب التوكل على اللهU.
يقول -رحمه الله-:"وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ"، وهذا فرع التوكل، فرع التوكل أن تثق بكفاية الله، والثقة هي زوال كل توهم تخلف الميعاد، لأن من توكل على الله، فما هي نتيجة هذا التوكل؟ في القرآن ما هي نتيجة التوكل؟ ]فَهُوَ حَسْبُهُ[، يعني فهو كافيه.
ولذلك إذا صدق في التوكل فإنه ينبغي له أن يثق في الكفاية، ومن ثمرات صدق التوكل الثقة بالكفاية، وهو حصول ما يرغبه الإنسان والأمن مما يرهبه.
لأن الكفاية تكون في تحصيل المطالب والأمن من المخاوف.
هذا مدار الكفاية، فمدار الكفاية على أمرين، أن تدرك ما تطلب وترغب، وأن تأمن مما تخاف وترهب.
يقول -رحمه الله- :"وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ"، ولا شك أنه لا يمكن أن يتوكل الإنسان على اللهUحق التوكل إلا إذا أحسن الظن به، وكل من نقص توكله على الله إنما هو لسوء ظنه باللهU، أو لعدم معرفته به، وإذا لم يعرفه فإنه محل لكل سوء ظن.
أما من أحسن ظنه باللهUفإنه يركن إليه جل وعلا، ويفزع إليه في كل مطلوب ومن كل مرهوب.
ثم قال -رحمه الله-:"وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ"، ويشمل الرزق الدنيوي والرزق الأخروي، كلاهما يسمى رزقاً.
"أَنْ يَلْجَأَ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَيَدْعُوَهُ"، يلجأ فيه إلى الله؛ لأنه منه -جل وعلا- يأتي كل مطلوب، "وَيَدْعُوَهُ" أي: ويسأله -جل وعلا- ذلك، فاللجوء بالقلب والفؤاد والدعاء باللسان، وإنزال الحاجة بالمقال بهI.
"كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْثُرُ عَنْهُ نَبِيُّهُ" – أي يرويه عنه- وهذا ما يعرف بالحديث الإلهي الذي يسميه كثير من أهل الاصطلاح بالحديث القدسي، وهو ما يرويه النبيrعن ربه، جمهور المحدثين على أنه يرويه عن ربه لفظه من النبيtومعناه من الله، والصحيح أن لفظه ومعناه من اللهI، ولكنه يختلف عن القرآن أنه يجوز قراءته بالمعنى.
"«كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ»"،[رواه مسلم في البر والصلة (2577).] وهذا فيه أنه لا يحصل للعبد كفاية إلا من قِبَل الله U، لا فيما يقوم به بدنه ولا فيما يُحفظ به بدنه.
الحديث أشار إلى أمرين: ما يقوم به بدنه، وهو الطعام، وما يُحفظ به بدنه، وهو الكساء واللباس، فليس الإنسان كفاية بما يقوم به البدن، ولا يحفظ به البدن إلا من قِبَل اللهI.
"فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته " والعري هنا هو العري من اللباسين، لباس التقوى، ولباس البدن، فإذا لم يكسك اللهUبلباس البدن فأنت عارٍ، وإذا لم يكس الله -جل وعلا- قلبك بلباس التقوى فأنت عارٍ.
ولذلك نستكسي الله جل وعلا، ونسأله أن يكسو قلوبنا إيماناً وتقوى، وأبداننا بما يحصل به الستر والجمال.
ثم قال :"وَفِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ tقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا" يعني كل ما يحتاجه، ويكفي في العموم أن يقول حاجة، لأن حاجة مفرد مضاف لكنه لو أتى بقوله:" كلها"، تأكيد للعموم حتى يسأل الإنسان كل حاجة خاصة أو عامة، صغيرة أو كبيرة، لا يترك من حوائجه شيئا إلا وينزلها بالذي له الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله.
قال :"حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ" وهو رباطه السير الذي يربط به النعل،"إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ"،[رواه الترمذي في الدعوات (3973)وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح(2251).] وهذا صحيح، والله إن لم ييسره الله لنا هذا ما تيسر، ولو لم ييسر الله لنا شربة الماء على سهولتها ويسرها لم تتيسر، بل لو لم ييسر الله لنا الهواء الذي به تقوم أبداننا لم تيسر.
فيسير الأمر الذي قد يراه الإنسان لا شيء، ولا يشعر بمنة الله فيه إذا لم ييسره الله لم ييسر، ]وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ[[سورة الذاريات:21.]الذي يجري الدماء في عروقنا الله U، ولو لم يجعل ذلك منة منه وفضلاً ما تيسر، ما عندنا مواتير تمشي الدماء في عروقنا، وتحفظ كياننا إنما هو الله -جل وعلا- الذي به كل حركة وسكون سبحانه وبحمده.
استشعار هذه المعاني مما ينمو به الإيمان في القلب، ويربو به اليقين في القلب، ويصلح به العمل، فيكون الإنسان دائم الذكر لفضل الله عليه، لكننا نغفل – يا إخواني- نغفل، نأكل ونشرب ونقوم ونقعد ولا نذكر نعمة الله علينا في كله.
"وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ :]وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ["وفضله هنا يشمل فضله الدنيوي وفضله الأخروي، وقلنا: إن الفضل يعبر به في كتاب اللهU، أو يراد به في كتاب الله Uالتجارة.
"وَقَالَ سُبْحَانَهُ ]فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[[سورة الجمعة10.]، هذا في صلاة الجمعة.
يقول الشيخ -رحمه الله- :"وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْعَةِ " فالآية جاءت في صلاة الجمعة، "فَمَعْنَاهُ" أي: معنى ما تضمنته من ابتغاء فضل الله والانتشار في الأرض لتحصيله"قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ"يعني لا يختص بصلاة الجمعة، إنما هو في كل الصلوات، فالإنسان يسأل الله من فضله في كل الصلوات.
ولذلك ذكر الشيخ -رحمه الله- المناسبة لهذا العموم من حديث أبي أسيد وأبي حميد في"صحيح الإمام مسلم" وفيه أن النبيrقال:«اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك»،[رواه مسلم في صلاة المسافرين (713).]
قال -رحمه الله-:"وَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأُ إلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ".
يشير بذلك إلى قول الله تعالى:]فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ[.[سورة العنكبوت: 17.]
يقول:"وَهَذَا أَمْرٌ " أي من اللهU، "وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ" هذا على وجه الأصل، أنه يقتضي الإيجاب.
يقول :"فَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأُ إلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ ".