ولما قال الشيطان: ﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[ سورة: الحجر (39-40)]، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾[سورة: الحجر (42).]).
هذا تابع للوجه السابق في قوله: (ونعت صفوة خلقه بالعبودية)، فقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ عِبَادِي﴾وهم صفوة خلقه الذين حققوا له العبودية ﴿لَيْس َلَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾،والاستثناء هنا استثناء منقطع في قوله: ﴿إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾،ومعنى الاستثناء المنقطع: أن تقدر (لكن)، ويكون المعنى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان؛ لكن من اتبعك من الغاوين لك عليه سلطان؛ فإنه هو الذي سلطك على نفسه. نعم :
(وقال في وصف الملائكة بذلك:﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [سورة: الأنبياء (26-28)]).
على عظيم خلقهم وما منحهم الله-عز وجل- من القوة والقدرة. هذه حــالهم مع ربهم -جل وعلا-: ﴿مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾. فهُم جمع الله لهم عظيم القوة البدنية، فهُم من أقوى خلق الله أجساماً وأجساداً، وهُم من أقوى خلق الله إرادةً وتحصيلاً للمقصود، ومع ذلك حالهم مع ربهم -جل وعلا-: هم ﴿مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾. ولذلك إذا تكلم الجبار، تكلم الرب-سبحانه وتعالى-ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، وإذا أدرك العبد عظيم خلق الملائكة، وعظيم قدرهم عند الله -عز وجل- حيث اصطفاهم وقربهم منه، وجعلهم الوسائط بينه وبين خلقه، إذا أدرك هذا ورأى ما هم عليه من تمام العبودية لله -عز وجل- علم عظيم حق الرب -جل وعلا- وصدَّق بقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[سورة: الأنعام (91) والزمر (67)]إذ لو قدره العباد حق قدره لما وقع منهم مخالفة، ولما انقطعوا عن ذكره وتسبيحه وتمجيده -سبحانه وتعالى- نعم.
(وقال ـ تعالى ـ:﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَايَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾.[سورة: مريم (88-95).]
وقال ـ تعالى ـ عن المسيح الذي ادعيت فيه الإلهية والبنوة:﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾[ سورة: الزخرف (59).] ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في الحديث الصحيح:((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا:عبد الله ورسوله))البخاري (3445).
هاتان الآيتان يقول المؤلف -رحمه الله- :(وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴾)والآية التي بعدها (وقال ـ تعالى ـ عن المسيح الذي ادعيت فيه الإلهية والبنوة:﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾) لا تتصل بقوله -رحمه الله-: (وقال في وصف الملائكة) فإنه ليس فيها وصف للملائكة، لكن يظهر لي -والعلم عند الله- أن في الكلام سقطاً، ومراد الشيخ -رحمه الله- أن العبودية لا يستحقها إلا الله -جل وعلا- وأنّ نسبتها وإضافتها إلى غيره، أمر عظيم؛ ولذلك قال ـ تعالى ـ :﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴾ وعبدوه من دون الله وعبدوه مع الله ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴾أي عظيماً ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴾ لماذا كل هذا؟﴿أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا *وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنكُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾. والعبودية المذكورة هنا هي عبودية القهر، لا يخرج عنها أحد من الخلق، لا مسلم ولا كافر، لا مؤمن ولا كافر. بل الجميع يدخلون في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)﴾.
ثم قال: (﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95)﴾).
فبين أن العبودية لا تصلح إلا له فهي حقه -جل وعلا-، ثم قال: إن من ادعيت فيه العبودية تبرأ منها، قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْد﴾أي عيسى ابن مريم -عليه السلام- ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ(59)﴾[سورة:الزخرف (59)]أي جعلناه آية لبني إسرائيل، ووجه كونه مثلاً وآية لبني إسرائيل: أن الله -جل وعلا- جعله من غير أب، بل من أم فقط. وهذا وجه كونه مثلاً لبني إسرائيل، (ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيح) يعني: في تحقيق العبودية، وأنها لا تصلح إلا لله -سبحانه وتعالى-:((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله))البخاري (3445).وأيضاً هذا يرجع إلى ما تقدم من أن العبودية وصف أتقياء الله من الأنبياء؛ فهذا عيسى ابن مريم -عليه السلام- وصفه الله -جل وعلا- في مقام الثناء عليه، وفي مقام بيان ما اختص به، قال:﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾.فلم يجاوز به هذا الحد، ورسول الله-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-قال:((لا تطروني))أي: لا تتجاوزوا في مدحي. فالإطراء هو المجاوزة في المدح ((لا تطرونيكما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)) وهذا يبين لنا أن العبودية من أخص أوصاف الأنبياء؛ لأن بها حصّلوا الفضل والسبق.
لا، البنوة،أنا عندي البنوة. عدلوها ؛ لأن النبوة وصفه، وإنما الذي ادعي فيه البنوة، ولذلك نفاها الله -عز وجل- بقوله :﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾[سورة: الزخرف (59)]
(وقد نعته الله بالعبودية في أكمل أحواله؛ فقال في الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾[سورة : الإسراء (1)]).
أكمل أحوال من؟ أحوال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبينا محمد، نعته الله بالعبودية في أكمل أحواله، ولا شك أنه في أكمل الأحوال، يُخلع على الموصوف أعظم الأوصاف. فلما وصفه بالعبودية في أكمل الأحوال، دل على أن أكمل أحوال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كونه عبداً لله -جل وعلا- انظر إلى الأحوال التي وصفه الله -سبحانه وتعالى- فيها بالعبودية، قال-رحمه الله-: (فقال في الإسراء:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾).
والإسراء كان وسيلة إلى المعراج، والمعراج أعظم مواقف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أعظم أيامه ولياليه هو ما كان في ليلة المعراج. فإذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أعظم المواقف، وأعظم ما أجراه الله له من الآيات الكبرى العظيمة الدالة على احتفاء الله -سبحانه وتعالى- به، وتخصيصه إياه،لم يجاوز به وصف العبودية، دل ذلك على أي شيء؟ على أنّ أعظم أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم- العبودية وأنه عبد لله -سبحانه وتعالى-نعم، هذه آية.
الثانية:
(و قال في الإيحاء:﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)﴾[سورة : النجم (10)].
وقال في الدعوة:﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)﴾[سورة:الجن (19).] وقال في التحدي:﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾[سورة: البقرة (23)]).
انظر إلى هذه المقامات والأحوال العظيمة، وكيف لم يجاوز الله -جل وعلا- في وصف رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف العبودية. (قال في الإيحاء)، وهو المدد من رب العالمين بالهدى والنور الذي أضاءت به الظلمات، وأشرقت له الأرض والسماوات، هذا القرآن العظيم الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من رب العالمين. وصف الله -جل وعلا- رسوله حال الإيحاء إليه في قوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾[سورة: النجم (10)] وهي مقام عظيم، ومنزلة كبرى وحال كبيرة، ومع ذلك اقتصر على هذا الوصف؛ فدل على أنه أشرف أوصافه. وقال في الدعوة وهو مقام التبليغ عن رب العالمين وامتثال أمره -جل وعلا-في قوله:﴿قُمْ فَأَنذِرْ ﴾[سورة: المدثر (2)]. لم يُجاوز وصف العبودية حيث قال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُاللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾[سورة: الجن (19)] والمقام والحال الأخيرة مقام التحدي، والتحدي من رب العالمين لخصوم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففيه الانتصار للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومقام الانتصار مقام إظهار فضل المنصور، وبيان منزلته وعظيم مكانته عند من ينصره ويعبده، ومع ذلك لم يجاوز رب العالمين في وصفه: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾[سورة : البقرة (23)].فدل ذلك على أن أخص أوصاف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماذا؟ العبودية.
ومن هذا نعلم وندرك خطأ كثير من الذين يسرفون في وصفه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأوصاف متنوعة، يظنون أنها تفي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقه، وتطابق قدره وتحقق ما جعله الله -عز وجل- له من المنزلة فيصفونه بأوصاف واسعة،لم ترد في كلام السلف. ثم هم في المقابل يعرضون عن هذاالوصف الذي رضيه الله لرسوله، ورضيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنفسه، بل أمر به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله:((فقولوا: عبد الله ورسوله)).
فينبغي لطلبة العلم أن ينبهوا إلىٰ هذا الأمر، وأن يقتصروا على ما جاءت به السنة في هذا، وليس في هذا حطّ من منزلة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا نزول في قدره، بل هو اتباع له، وقد قال الله -جل وعلا-: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾[سورة: النور (54)].فطاعته سبب لهداية الدنيا وفوز الآخرة، نعم.
الآن فرغ الشيخ -رحمه الله- من ذكر فضائل العبادة، وقد ذكر لذلك أوجهاً عديدة، تقدمت الإشارة إليها.
آخر هذه الأوجه أن العبودية وصف خاصَّة أولياء الله -عز وجل-؛ بل هو وصف خاصة أصفيائه: محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أشرف وأعظم أحواله ومقاماته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ.
(فالدين كله داخل في العبادة، وقد ثبت في الصحيح أن جبريل لما جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام، قال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاةوتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)).قال: فما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر، خيره وشره)). قال: فما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). ثم قال في آخر الحديث: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)) فجعل هذا كله من الدِّين).[صحيح البخاري(50)، ومسلم(1).]
جواب سؤال السائل في قوله:(وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟) هو سأل عن العبادة قال:(فما العبادة وما فروعها؟وهل مجموع الدين داخل فيها) أي في العبادة(أم لا؟)أجاب الشيخ -رحمه الله- على هذه الأجزاء، فبين العبادة وبين ما فروعها، وبيّن أن الدين كله داخل في العبادة. فالدين كله داخل في العبادة، واستدل لذلك بحديث جبريل الطويل الذي فيه سؤاله عن الإسلام، سؤال جبريل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإسلام والإيمان والإحسان، وعن أشراط الساعة وعلاماتها، عن الساعة وعن أماراتها، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر الأمر: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)). فجميع ما تقدم من الإسلام، ومن الإيمان، ومن الإحسان، ومما يتعلق باليوم الآخر، كله من الدين، وبهذا نعرف أن الدين يشمل جميع ما أمر الله -سبحانه وتعالى-به، وما يجب اعتقاده في الله، وفي ملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء خيره وشره؛ فلا يخرج شيء مما أمر الله به عن الدين، ولذلك قال الشيخ -رحمه الله-: (فالدين كله داخل في العبادة). فالإنسان في عقيدته يتعبد لله -عز وجل- أنت تتعبد لله -عز وجل- بما تعتقده في الجنة والنار، وبما تعتقده في اليوم الآخر، وبما تعتقده في الملائكة، وبما تعتقده في الرسل والنبيين، وبما تعتقده في الكتب، فضلاً عما يتعلّق به -سبحانه وتعالى- كل هذا مما يتعبد به أهل الإيمان وأهل الإسلام.
قال -رحمه الله- في بيان الدين، قال:
(والدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال: دنته فدان، أي: ذللته فذل، ويقال: يدين الله ويدين لله. أي: يعبد الله ويطيعه ويَخضع له. فدين الله عبادته، وطاعته، والخضوع له.
والعبادة أصل معناها الذل أيضاً، يقال:طريق معبد؛ إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام.
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل، ومعنى الحب. فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له؛ فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة؛ لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة؛ لانصباب القلب إليه، ثم الغرام، وهو الحب اللازم للقلب، ثم العشق، وآخرها التتيم. يقال:تيم الله، أي عبد الله؛ فالمتيم المعبد لمحبوبه.
ومن خضع لإنسان مع بُغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن له عابداً، كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله).
بين الشيخ -رحمه الله-في هذا المقطع معنى الدين، وأنه يتضمن معنى الخضوع والذل لرب العالمين، وبين وجه ذلك من حيث الاشتقاق، ومن حيث اللغة.
ثم قال -رحمه الله-: (والعبادة أصل معناها الذل أيضاً). فالعبادة دائرة على معنى الذل ؛ ولذلك كان الكبر من أعظم أسباب المنع من دخول الجنة، ومن أعظم أسباب دخول النار، فإن النار دار المتكبرين، والجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فأدنى ما يكون من المثاقيل والموازين من الكبر يمنع الإنسان من دخول الجنة، لماذا؟ لأن الكبر يقابل العبودية، يقابل العبادة، فإنه لا يجتمع كبر وعبادة، ولذلك الكبر يمنع الإنسان من الانقياد إلى الحق، ويمنعه من العمل به.
فلذلك كان أهل الإيمان إذا قام في قلب أحدهم شيء من الكبر- ولو كان يسيراً- لا يدخل الجنة، حتى يتخلص منه ويمحص ويطهر. فيكون قلبه خالياً من هذه الآفة المانعة.
ولذلك قال الشيخ -رحمه الله-: (والعبادة أصل معناها الذل أيضاً. يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام). فالطريق المعبد هو الذي سارت عليه الأقدام فذللته فكان معبداً.
لكن أشار الشيخ -رحمه الله- إلى فارق بين المعنى اللغوي للعبادة، وبين معنى الدين الذي هو الذل. قال: (لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب). فليس كافياً في تحقيق العبودية أن يكون الإنسان ذليلاً؛ بل لابد أن يكون منجذب القلب لرب العالمين، وهذان قطبا العبادة وركناها، لا تقوم عبادة أحد إلا بهما، غاية الذل.
معنى غاية الذل منتهى الذل، الغاية هي منتهى الشيء، غاية الذل مع غاية الحب، وبهما يتحقق للإنسان كمال العبودية.
قال ابن القيم -رحمه الله-:
..................................... |
|
وعــبادة الـرحـمن غـايـة حبه |
يعني منتهى حبه.
مـع ذل عـابـده هـما قـطبـان
|
|
..................................... |
أي هما قطبان للعبادة، ولا تتحقق العبودية ولا العبادة لشخص إلا بهذين الوصفين: غاية الذل مع غاية المحبة لله عز وجل.
قال المؤلف -رحمه الله-:(فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له).ثم قال: (فإن آخر مراتب الحب هو التتيم).ذكر الشيخ -رحمه الله- استطرادًا مراتبَ الحب، قال: (العلاقة)، هذا أول وأدنى مراتب الحب، ووجه التسمية قال: (لتعلق القلب بالمحبوب)، و(الصبابة) قال: (لانصباب القلب إليه)، يعني إلى المحبوب، (ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب) فإن الغرام المقصود به يدور معناه على الملازمة، ومنه قول الله تعالى :﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾[سورة: الفرقان (65). ] أي ملازماً لأهلها نعوذ بالله.
ومنه أيضاً يطلق على طالب الدَّين: غريم، فالغريم لما كان صاحب الدَّين –الدائن- مطالباً للمدين متابعاً له؛ سمي غريماً؛ لأنه يلازمه حيث ماذهب ليأخذ حقه ويستوفي ماله. ثم قال: (ثم العشق) وطوى الحديث -رحمه الله- وقال منتقلاً إلى آخر المراتب، قال: (وآخرها التتيم، يقال: تيم الله أي عبد الله) والمتيم المعبود المحبوب، وهذا لا يصلح إلا لله -عز وجل-.
واللفظ الذي جاء في الكتاب والسنة في بيان المحبة هو المحبة. لم يأت في الكتاب والسنة ذكر الصبابة، ولا ذكر العلاقة، ولا ذكر الغرام، ولا ذكر العشق، مع أن العشق عند جماعات من الصوفية هو الغاية، وهو لفظ لا يجوز إطلاقه في حق الله -عز وجل- لأن العشق غالباً ما يقترن بشيء من اللذة، وهذا لا يليق بالله -سبحانه وتعالى-.
طيب، الشوق من المراتب التي طوى الشيخ -رحمه الله- الحديث عنها، فهل يصح إطلاق الشوق على الله؟ الجواب: نعم. وقد جاءت بذلك السنة في الدعاء المشهور: ((وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)).[مسند أحمد (21666)، وابن حبان(1971)] والحديث جمع أدعية عظيمة في السنن بسند جيد، ومن جملة ما ذكر فيه الشوق إلى الله، وهو من مراتب المحبة، أما ما عدا ذلك، فإنه لم يثبت.
لكن المقصود أن التتيم وتيم الله، والمتيّم، هذا لا يكون إلا لمن اقترنت محبته بعبادته، ولا تعجب؛ فإن بعض من بُلي بالمحبة يصل به الحال إلى أن يعبد محبوبه دون الله -عز وجل- كما قال الشاعر:
فإنه أشرف أسمائي |
|
لا تَدْعُنِي إلا بيا عبدها |
جعل أشرف أوصافه وأسمائه، بأن ينسب إلى محبوبته: يا عبدها. فجعل ذلك أحب ما ينادى به هذا المفتون، نعوذ بالله من الخذلان.
طيب، قال المؤلف -رحمه الله-: (فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة) وذكر-رحمه الله- الصبابة والغرام والعشق، وطوى ذكر بقية المراتب والمنازل.
واستشكل بعض الإخوان الخلّة. المؤلف-رحمه الله- هنا يقول: (فإن آخر مراتب الحب هو التتيم) مع أن ظاهر النصوص أن الخلة هي أعلى درجات المحبة.
الشيخ -رحمه الله- ذكر في هذا الموضع وفي غيره أن آخر درجات المحبة هو التتيم، وكذلك ذكر ابن القيم هذا في عدة مؤلفات: في (الجواب الكافي)، وفي (إغاثة اللهفان)،وفي (روضة المحبين)ذكر هذا.
والحقيقة أنه مشكل مع ما جاء من أن الخلة هي غاية المحبة؛ لأن الخلة هي المحبة الكاملة التامة.
هكذا عرّفها شيخ الإسلام -رحمه الله- قال: [الخُلَّة] [الشيخ –حفظه الله- قال: المحبة. والظاهر ما أثبته.] هي غاية الحب وكماله ونهايته. عرفها في عدة مواضع من كلامه. وقد وقفت على كلام ابن القيم-رحمه الله- في (مدارج السالكين)،جعل التتيم مرتبة من مراتب المحبة، لكنه ليس آخرها، بل آخر المراتب هو الخلة، حيث عد عشر منازل أو مراتب من مراتب المحبة، آخرها الخلة، وهي غاية الحب وكماله، وعلى هذا يزول الإشكال؛ فيكون كلام الشيخ -رحمه الله- في هذا الموضع وفي غيره، ذكر التتيم على أنه آخر مراتب المحبة، فيمايصلح أن يكون بين الخلق.
وأما ما يكون لله -عز وجل- فإن غايته ونهايته الخلة، والخلة تتميز عن غيرها من مراتب المحبة بخصائص وميزات:
منها أن الخلة هي الغاية والكمال والمنتهى الذي ليس فوقه شيء.
ومنها أن الخلة أخص من المحبة. وجه تخصيص الخلة عن المحبة: أن الخلة لا يمكن أن يكون فيها شركة؛ بل هي خالصة حيث يملأ المحبّ قلبه من محبوبه، فلا يكون في قلبه مكان لغيره، وعلى هذا أنشد الشاعر قوله:
ولذا سُمَّيَ الخليل خليلا |
|
قد تخلل تمسلك الروح مني |
أي إن محبة محبوبه تخللت مسلك الروح، ومسلك الروح، الروح يسلك في جميع البدن، فامتلأ قلبه وبدنه بمحبة محبوبه؛ ولذا سمي الخليل خليلاً.
أيضاً مما تمتاز به الخلة أنها تستلزم العبودية، فيما يتعلق بالله -عز وجل- فإنها من مستلزمات الخلة.
على أن الخلة تكون أيضاً بين الخلق، وليست لازمة فيما يتعلق بما يكون بين الخلق: العبادة، ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً))[صحيح البخاري(467)، ومسلم(532)]، فدل ذلك على جواز أن تكون الخلة بين أهل الدنيا، أي بين الخلق، ولا يلزم فقط أن تكون من المخلوق للخالق، أي من العبد لربه سبحانه وتعالى.
على كلٍّ هذا بعض ما وقفت عليه في كلام الشيخين -رحمهما الله- في ما يتعلق بالخلة، وبهذا ينحل إشكال مسألة أن الخلة هل هي آخر المراتب أو لا؟
الجواب:لا شك أنها آخر المراتب، ولكن يبقى إشكال ذكره في بعض كتبه أنها آخر المراتب، الظاهر تكون باعتبار ما يكون بين الناس من الخلة؛ لأن المرتبة التاسعة مرتبة التعبد، وهي لا تصلح إلا لله، والمرتبة العاشرة وهي الأخيرة مرتبة الخلة، وما قبلهما من المراتب يمكن أن تكون بين الخلق.
ومن وقف على شيء زائد على هذا الذي ذكرناه من كلام الشيخين أو من غيرهما، يفيدنا.
ثم قال: (ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له). هذا بيان لما تقدم من أنه لا بد من اجتماع الأمرين، من اجتماع غاية الحب مع غاية الذل لرب العالمين. ثم قال -رحمه الله-:
(وكل ما أُحِبَّ لغير الله؛ فمحبته فاسدة، وما عُظِّمَ بغير أمر الله؛ كان تعظيمه باطلاً. قال الله ـ تعالى ـ:﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾[سورة: التوبة (24)]).
والمذموم في هذه المحبة أنها قدمت على محبة الله ورسوله، وإلا فإن المحبة الطبيعية التي تقتضيها الجِبِلَّة لا حرج فيها على الإنسان، في محبة الأموال، وفي محبة الأولاد، وفي محبة الأزواج، وفي محبة ما يُحب مما يلائم الطبع ويوافقه؛ فإنه لا يلام على هذا، وتسمى المحبة الطبيعية. لكن إذا تجاوز بها الحد فكانت أحب إليه من محبة الله ورسوله؛ هنا يقع المحذور، كما أنه إذا أشرك في محبة شيء ولم تكن محبته لله -إنما محبته للدنيا-؛ فإنه يقع في المحذور والتهديد المذكور في قوله ـ تعالى ـ:(﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾).ثم قال -رحمه الله-:
(فجنس المحبة تكون لله ورسوله كالطاعة؛ فإن الطاعة لله ورسوله، والإرضاء لله ولرسوله: ﴿وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾[سورة: التوبة (62)] ،والإيتاء لله ورسوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُه﴾.[سورة: التوبة (59)]
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل، والخوف، ونحو ذلك؛ فلا تكون إلا لله وحده كما قال ـ تعالى ـ:﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[سورة: آل عمران(64)] وقال ـ تعالى ـ:﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ(59)﴾[سورة: التوبة (59)] فالإيتاء لله والرسول، كقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.[سورة : الحشر (7)] وأما الحسب وهو الكافي فهو الله وحده، كما قال ـ تعالى ـ:﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)﴾ .[سورة : آل عمران (173)] وقال ـ تعالى ـ:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(64)﴾ .[سورة : الأنفال (64)] أي: حسبك وحسب من اتبعكمن المؤمنين: الله.
ومن ظن أن المعنى حسبك الله والمؤمنون معه؛ فقد غلط غلطاً فاحشاً، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع).
هذا في الحقيقة نوع استطراد من الشيخ -رحمه الله- بعد ذكر المحبة، لَمّا ذكر المحبة وأنها من أركان العبادة التي لا تقوم إلا بها، بَيَّنَ -رحمه الله- أن:
منها ما لا يصلح إلا لله جل وعلا.
ومنها ما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أيضاً مايكون لغير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكنه لله –جل وعلا- من حيث إن الله أمر به؛ فهو ليس محبة لله لذاته، إنما هو محبةٌ لما يحبه سبحانه وتعالى.
واعلم أن المحبة في الأصل لله -جل وعلا- له ولمحبوباته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثم إنه قد وسَّع الله على عباده، فأجاز لهم من المحابّ ما يوافق طبائعهم، وما يلائم جبلتهم، وهذا لا تَثْرِيبَ عليهم، لكنهم لا يؤجرون عليه إنما الأجر في محبته- سبحانه وتعالى- وفي محبة رسوله وفيما أمر بمحبته، وفيما هو من محابّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم اعلم أن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر بعد ذلك ما يكون لله وللرسول؛ يعني ما يصلح أن يكون من أعمال القلوب لله ويشركه معه غيره، لكن لا على وجه التسوية، كمحبة الله ورسوله، فالمحبة لله وللرسول، فالرسول يشارك الله في المحبة؛ لكن ليست محبة على وجه التسوية بل هي محبة تابعة لمحبة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كذلك محبة أولياء الله الصالحين، محبة الأعمال الصالحة،هذه كلها تابعة لمحبة الله - عز وجل- فلا تعارض ولا تنافي محبة الله -جل وعلا- وليست من المحبة المذمومة، بل هي من المحبة المأمورة التي يؤجر عليها الإنسان.
ثم من العبادات ما لا يكون إلا لله -سبحانه وتعالى- أو من أعمال القلوب ما لا يكون إلا له؛ فلا يجوز أن يشرك معه غيره، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
ومن ذلك ما ذكر في قوله: (وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك، فلا تكون إلا لله وحده، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[سورة: آل عمران(64)]).وكذلك في قوله: (﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ- أي كافينا الله-سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ﴾)[سورة : التوبة (59).] فالرغبة والرهبة له وحده دون غيره ،ولذلك قال: ﴿سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾وهذا الإيتاء يشرك به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الله - سبحانه وتعالى- لكنه في الرغبة لا يكون إلا لله -سبحانه وتعالى- ولذلك قال: ﴿إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ﴾فقدم ما حقه التأخير، قدّم الجار والمجرور؛ للدلالة على اختصاص الله - عز وجل- وانفراده -سبحانه وتعالى- بذلك: ﴿إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ﴾.فتقديم ما حقه التأخير يفيد التخصيص. قال: (فالإيتاء لله والرسول كقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[سورة : الحشر (7).]).
ثم قال: (وأما الحسب) والحسب(قال: وهو الكافي)، يعني الكفاية، الحسب هو الكفاية من الله -سبحانه وتعالى- (فهو لله وحده). (فالحسب وهو الكافي فهو الله وحده، كما قال تعالى:﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْفَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ-ما هو المعنى؟ كافينا الله-وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾[سورة: آل عمران (173)])، (وقال ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ﴾[سورة : الأنفال (64).])أي كافيك الله ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَالْمُؤْمِنِينَ(64)﴾[ سورة: الأنفال (64)]، ثم أشار الشيخ -رحمه الله- إلى معنى الآية قال: أي(حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين: الله)، يعني أن الله -جل وعلا- كافيك وكافي من اتبعك.
ثم أشار إلى معنى مغلوط، يفهمه بعض الناس أو يحمل الآية عليه، يقول: (ومن ظن أن المعنى حسبك الله والمؤمنون معه) فجعل الكفاية بالله وبالمؤمنين(فقد غلط غلطاً فاحشاً)، وفي موضع آخر قال: غلطاً كبيراً أو عظيماً (كما بسطناه في غير هذا الموضع). وذلك أن الكفاية لا تكون إلا من الله -جل وعلا- فالله يكفي رسوله، ويكفي أهل الإيمان، ويكفي من اتبع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وسلم- وعلى هذا المعنى الصحيح يكون قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾الاسم الموصول (مَنْ)، معطوف على أي شيء ؟ هل هو معطوف على لفظ الجلالة، الله ؟ أو على الضمير؟ على الضمير ﴿حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ والتقدير: حسبك ومن اتبعك من المؤمنين: الله.
وهذا بعض أهل النحو يأباه، ويقول: لا يصح عطف الظاهر على المضمر.
ولكن هذا ليس بصحيح، بل قد جاءت الدلائل والشواهد في كلام العرب على صحة هذا التقدير، وجواز عطف الظاهر على المضمر. الخلاصة: فيكون المعنى ﴿حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ يعني كافيك ومن اتبعك من المؤمنين، كافيك من؟ الله -جل وعلا- يكفيك ويكفي أتباعك.
ومن هذه فائدة مهمة تحثنا على متابعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّم - أن كفاية الله -عز وجل- موعود بها من اتبع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّم- فبقدر ما يتحقق لك من المتابعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّم- بقدر ما يحصل لك من الكفاية من رب العالمين الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله.
والعبد إذا صحح الاتباع وحققه، وأخلصه في الظاهر والباطن للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّم- فاز بهذا الفوز العظيم والغنيمة الكبيرة: أن الله ربّ السماوات والأرض يكفيه، ومن كفاه الله فلا خوف عليه ولا شرّ يصل إليه؛ لأنه -جل وعلا- الخير كله في يديه، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
فينبغي للمؤمن أن يتنشط بمثل هذه الوعود، وهذه الآيات التي تحثّ على متابعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّم- والمتابعة ليست فقط في ظاهر الأمر، المتابعة في الظاهر والباطن، المتابعة في الدقيق والجليل، المتابعة في الصغير والكبير، المتابعة في الغيب والشهادة. إذا عوّد الإنسان نفسه على هذا؛ فاز بهذه الوعود العظيمة من رب العالمين، والله لا يخلف الميعاد.
ثم قال -رحمه الله-: (وقال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾[سورة : الزمر(36)]). وهذا كالدليل لهذا التفسير، وأن الكفاية من الله لعبده، ليست من أحد سوى الله جل وعلا.