بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنفْسِنَا، ومِنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ َأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد:
(وتحرير ذلك أن العبد يراد به المعبد الذيعبّده الله فذلّله ودبّره، وصرفه. وبهذا الاعتبار فالمخلوقون كلهم عباد الله، الأبرار منهم، والفجار، والمؤمنون، والكفار، وأهل الجنة، وأهل النار. إذ هو ربهم كلهمومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التيلا يجاوزهن برولا فاجر. فما شاء كان وإن لم يشاؤوه، وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن. كما قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾[سورة: آل عمران(83)].
فهو سبحانه رب العالمين، وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرّف أمورهم ، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق لهم إلّا هو سواءٌاعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه. لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك أو جاحداً له مستكبراً على ربه، و لا يقر ولا يخضع له مع علمه بأن الله ربه وخالقه).
قال المؤلف -رحمه الله-: (وتحرير ذلك)، أي تمييز العبادة التي أمر الله -جل وعلا- بها وتمييز العباد أو تمييز الناس من حيث هذه العبادة، يقول -رحمه الله-: (أن العبد يراد به المعبد الذي عبّده الله فذلّله ودبره وصرفه). وهذا شامل لجميع الخلق، لأنه ما من أحد إلا وهو مقهور مربوب للرب -جل وعلا- لا خروج له عن تقدير الله -جل وعلا- وتدبيره وتصريفه وملكه وإرادته.
فهذا يشمل جميع الخلق، ومنه قول الله ـ تعالىـ:﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)﴾. فقسم الله -جل وعلا- الإسلام له وهو الانقياد لأمره، قسمه إلى قسمين:
- إسلام طوعي.
- وإسلام بالكره.
أما الإسلام الطوعي فهو المحقق القائم من عباد الله الذين عبدوه عبادة اختيارية، فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي، فتعبدوا له بالشرع.
وأما الذين أسلموا كرهاً، فهم جميع من خلقه الله -عز وجل- لا خروج لهم ولا إمكان لهم أن ينفكوا عن تصريفه وتدبيره وملكه -جل وعلا- وهذا يستوي فيه المسلم والكافر. وهذا المعنى هو الذي ذكره كثير من العلماء -في معنى الإسلام كرهاً-أنه تصرف الرب -جل وعلا- بعباده في ملكه، ورزقه، وتدبيره، وخلقه ـ واضح هذا المعنى طيب ـ هذا لا يخرج عنه أحد.
قال بعض العلماء، وذكر ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: وعامة السلف على أن الإسلام كرهاً ليس فقط تصريف الله -عز وجل- لعباده بمقتضى الربوبية، بل هو أمر زائد على ذلك، وهو أن كل أحد لا بد أن يعبد الله شاء أم أبى؛ فإن العبادة والعبودية أمر ذاتي في المخلوق، ولكن الناس منهم من يستجيب لنداء الفطرة وداعي الجبلة التي فطر الله–سبحانه وتعالى-الناس عليها، ويمضي في عبادة الله ويتبع ماجاءت به الرسل.وهذا يمدح ويثنى عليه،ومنهم من يعرض؛ولكنه لا بد أن يكون منه عبادة لله -جل وعلا- عند الفاقة والحاجة، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[سورة: العنكبوت (65)]. وهذه عبادة كرهاً أوطوعاً؟ لا،كرهاً في الحقيقة،كرهاً؛ لأنه لو كانوا في حال الأمن لما عبدوه وإنما عبدوه لما احتاجوا إليه واضطروا إليه سبحانه وتعالى.
وهذا المعنى نقله شيخ الإسلام –رحمه الله- عن عامة السلف وهو معنى جيد في تفسير الآية.
فيكون العبادة كرهاً لها صورتان:
- عبادة وهي في جميع الخلق، عبادة بمعنى عدم الخروج عن حكم الله القدري، عن مقتضى ربوبية الله عز وجل.
- والثاني: عبادة عند الحاجة والافتقار والضرورة إلى رب الأرباب رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذان المعنيان تشملهما الآية.
المؤلف -رحمه الله- في هذا الموضع ذكر أَيَّ المعنيين للآية؟ عدم الخروج عن مقتضى الربوبية، وأن الناس جميعاً تحت قهره وإرادته، لا خروج عن إرادة الله وملكه وتصريفه وتدبيره-سبحانه وتعالى- ولذلك ذكر بعد الآية: (فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم). هل فيهأحد يتمكن من أن ينفك عن هذا؟ ما يمكن، لا يمكن أبداً.
فالله -جل وعلا- رب كل شيء، سبحانه وبحمده.
ثم قال -رحمه الله-: (لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك وآمنوا به). عرفوا ماذا؟ عرفوا ربوبية الله -سبحانه وتعالى- وآمنوا بذلك، ولم يقتصروا عليه؛بل امتثلوا الأمر والنهي (بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له مستكبراً على ربه، لا يُقر له ولا يخضع). وهؤلاء الذين اكتفوا من تحقيق الإسلام والعبودية بالمعنى العام الذي يشمل كل أحد، وهو التصريف والتدبير، فهؤلاء ماخضعوا لله حقيقة، فهم خارجون عن أمر الله الشرعي، وإن كانوا لا يتمكنون من الخروج عن أمره القدري.نعم.
(فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له؛ كان عذاباً على صاحبه، كما قال ـ تعالى ـ:﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾،[سورة : النمل (14).]وقال ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.[سورة: البقرة (146)]
وقال ـ تعالى ـ:﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾[سورة : الأنعام (33)]).
يقول –رحمه الله -:(فالمعرفة بالحق إذا كان مع الاستكبار عن قبوله والجحدله؛ كان عذاباً على صاحبه).لماذا كان ذلك عذاباً على صاحبه؟ لأنه مخالف لمقتضى الفطرة التي فطر الله -عز وجل- الخلق عليها، وكل ما خالف الفطرة كان سبباً للعذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ ولذلك هؤلاء المعارضون لما جبل الله -عز وجل- عليه الخلق وفطرهم عليه من عبادته، إما بإنكار الخالق -جل وعلا- أو بصرف العبادة لغيره لا تسكن أفئدتهم، بل هم في ضيق، وضنك، وشدة لا يعلم بها إلا الله -جل وعلا- كما قال-سبحانه وتعالى-:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[سورة: طه (124)] المعيشة الضنك هي في هذه الدنيا قبل الآخرة.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- الآيات الدالة على سوء حال الجاحدين المكذبين.
فما معنى الجحود؟
الجحود هو: إنكار المعلوم، وهذا خلاف ما عليه اصطلاح الفقهاء.
فالفقهاء عندهم الجحود بمعنى التكذيب، وهو خلاف الاستعمال القرآني.
فإن الاستعمال القرآني: الجحود غير التكذيب، يدل لذلك ما ذكره المؤلف-رحمه الله- في قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾[سورة: الأنعام (33).].
فنفى عنهم التكذيب وأثبت لهم ماذا؟ الجحود، فدل ذلك على أن التكذيب غير الجحود. فما الفرق بينهما؟
الفرق بينهما أن الجحود إنكار المعلوم، وأما التكذيب فقد لا يكون معلوماً للمكذب، فقد يكذب بما يجهل، أما الجحود فلا يكون إلا مع تمام العلم.
فقوله ـ تعالى ـ:﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾. هذا أيضاً يدل على أنهم لا يكذبون؛ لحصول اليقين: استيقنتها أنفسهم، يعني قرّ صدقك في قلوبهم وفي نفوسهم، فالاستيقان هو القرار مأخوذ من اليقين، إذا قرّالشيء ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾[سورة: النمل (14)]
ثم (قال ـ تعالى ـ:﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾)وكتمان الحق: إخفاؤه وتكذيبه (﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[سورة: البقرة (146)]. وقال ـ تعالى ـ: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾). نعم.
(فإن اعترف العبد أنّ الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه، عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله. وهذا العبد يسأل ربه، و يتضرع إليه، ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام.
ومثل هذه العبودية لاتفرق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً، كما قال ـ تعالى ـ:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾سورة: يوسف (106) ).
ماهي العبودية التي لا يحصل بها التفريق بين أهل الجنة وأهل النار؟ العبودية القهرية، العبودية الكونية،العبودية التي تتضمن الإقرار بأن الله رب كل شيء. هذه ما تفرق بين أهل الجنة وأهل النار،ولا يحصل بها الإسلام؛بل لابد أن ينضاف إلى هذا الإقرار بأنه لا إله إلا الله، فإن مجرد الإقرار بأن الله رب العالمين، الخالق، المالك، الرازق، المدبر، دون أن يتبع هذا إفراد له -جل وعلا- بالعبادة وتقرب إليه -سبحانه وتعالى- بالطاعة والامتناع من المعصية، وأعظم الطاعات التوحيد، وأعظم المعاصي الشرك؛ فإنّه لا ينفع، ولا يحصل بذلك الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
ثم استدل لذلك بأن الله -جل وعلا- قال في المشركين، في أهل مكة:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾فأثبت لهم إيماناً وأثبت لهم شركاً، فقال:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ﴾فهم مؤمنون،أي معهم إيمان بالله -عز وجل- لكنه إيمان مخلوط بالشرك المحبط للعمل المذهب لثمرة ذلك الإيمان.
ثم بيّن المؤلف -رحمه الله- ما الإيمان الذي كان معهم، وما الشّرك الذي أثبته الله لهم، فقال:
(فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم، وهم يعبدون غيره، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[سورة: لقمان(25)، والزمر(38)].وقال ـ تعالى ـ:﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89)﴾[سورة: المؤمنون (84-89)].
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها، يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر).
يقول: (وكثير ممن يتكلمون بالحقيقة). ويشير بهذا إلى كلام الصوفية، حيث إنهم يعتنون بتقرير الربوبية، ويشيرون إلى أنه هو الحقيقة والغاية، ويجعلون ذلك تفسيراً لـ: "لا إله إلا الله"، فيقولون: لا إله إلا الله، أي لا قادر على الخلق، لا صانع، لا مكوّن إلا الله -جل وعلا- لا رب إلا الله. وهذا لا إشكال أنه تفسير مخالف لما دل عليه الكتاب، وما دلت عليه السنة، وما كان عليه سلف الأمة، وما تقتضيه لغة العرب. فتفسير "لا إله إلا الله"، بأنه لا رب إلا الله، أو لا خالق إلا الله، أو لا رازق إلا الله، أو لا صانع إلا الله، تفسير باطل، خلاف ما جاءت به الرسل.
فإن "لا إله إلا الله" معناها لا معبود حق إلا الله، وكل من فسّر هذه الكلمة، أو شرحها بخلاف هذا، فقد ضلّ عن سواء السبيل، وخالف ما كان عليه السلف المتقدمون، فيجب أن يعلم أنّ معنى "لا إله إلا الله": لا معبود بحق إلا الله، فــ"لا إله إلا الله" فيها إثبات الإلهية لله وحده دون غيره، وهذا الذي وقعت الخصومة فيه بين الرّسل وأقوامهم، فإنهم لم يكونوا يجادلون في أن مع الله خالقاً، فإنّهم يقرون بأنه لا خالق إلا الله، كما دلت على ذلك الآيات الكثيرة، ومنها ما ذكره المؤلف -رحمه الله- في المقطع السابق في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه﴾[سورة :لقمان (25)، والزمر (38).].هذا إقرار بأي شيء؟ بتوحيد الربوبية. ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾[سورة : المؤمنون (84-89)]. فهذا إقرار لا إشكال فيه، إقرار بالربوبية لا إشكال فيه، لكن الذي وقعت فيه الخصومة هو الإلهية، هو إفراد الله بالعبادة، ولذلك عظُم عندهم أن يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فقالوا :﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)﴾[سورة : ص (5)]. ما أطَاقَتْهُ قلوبهم، ولا تصورته عقولهم، ولا قَبِلته نفوسهم؛ لِمَا شبّوا عليه ودرجوا عليه، وورثوه من الشرك من آبائهم، فجعلوا ذلك أمراً عظيماً، يدعو إلى التعجب، ويدعو إلى أن يتواصى بعضهم مع بعض في الصبر على ما هم عليه من الشرك والكفر.
فقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وكثير ممن يتكلم في الحقيقة) أي الحقيقة التي يجب العناية بها وإدراكها، والتي يحصل بها السبق، لا يشهد إلا هذه الحقيقة -أي الربوبية- لا يشهد إلا الربوبية.
قال: (وهي الحقيقة الكونية). وهي أن الله -جل وعلا- ربّ كل شيء؛ الخالق المالك الرازق المدبر، لا يشهد إلا هذا، فلا يشهد أنه يجب أن يُفرد بالعبادة، إنما يشهد أنه الخالق المالك الرازق المدبر.
ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ-:(وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها) يعني وفي إثباتها والإقرار بها (وفي معرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر). فهي لا تُميِّز أهل الإسلام عن غيرهم.
قال:(بل وإبليس معترفٌ بهذه الحقيقة) عندي (لا يشهد إلا هذه الحقيقة)، ما يخالف، المعنى واحد، لكنهذا أقوى؛ يعني أنهم لا يرون إلا هذا، وهو الواقع، النسخة التي عندي، هي المطابقة لحالهم، لا يشهدون إلا توحيد الربوبية، ويجعلونه الغاية والمقصد والمطلب، وهم في هذا، جَنَوْا على أنفسهم، وحرّفوا ما جاءت به الرسل؛ لأن من عنده أدنى إدراك ومعرفة بما جرى من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع قومه، وما جاءت به الآيات، يدرِك أنهم على ضلال مبين، وأنهم لم يزيدوا على ما كان يقرُّ به أهل الجاهلية من المشركين الذين حاربهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وقاتَلهم.
(بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة، وأهل النار؛ قال إبليس: ﴿رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)﴾[ سورة : الحجر(36)]).
فأثبت الربوبيّة حيث قال: ﴿رَبِّ﴾ فلم ينكر أنه ربّ العالمين.
(و﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)﴾[سورة : الحجر(39)]، وقال:[﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[سورة : ص (82).]]و﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62)﴾[سورة : الإسراء (62)]، وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأنّ الله ربه وخالقه وخالق غيره).
وأنه مدبِّره، وذلك في الآية الأخيرة: ﴿أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ﴾. فالتأخير ليس إليه، التأخير لرب العالمين، هو الذي يدبّره، وهو الذي يعطيه ويمنعه؛ ولذلك جعل طلب التأخير من رب العالمين، هذا وجه الدليل في هذه الآية على إقرار إبليس بالربوبية، حيث إنه جعل التأخير معلقاً بمشيئة الله -جل وعلا- وتقديره وإرادته، ليس له من الأمر شيء.
(وكذلك أهل النار، ﴿ قالوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾[سورة: المؤمنون (106)].
هل أنجاهم هذا الإقرار من النار؟ لا، هم قالوها وهم في النار، نعوذ بالله منها.
(وقال ـ تعالى ـ عنهم: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا﴾[سورة: الأنعام (30)].
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أُمر به من الحقيقة الدينية؛ التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره، وأمر رسوله، كان من جنس إبليس وأهل النار).
أشار الشيخ -رحمه الله-هنا بين الشيخ -رحمه الله-الحقيقة الثانية التي يحصل بها النجاة، وهي الحقيقة الدينية، وهي إفراد الله بالعبادة، وهي طاعة الله –عز و جل- هذا هو الذي يجب على المؤمن أن يتسابق فيه، وأن يسعى إليه، وأن يكون همّه في تحقيقه.
إذاً كم حقيقة ذكر المؤلف -رحمه الله-؟ حقيقتين:
الحقيقة الأولى: الكونية؛ وهي أن الله -جل وعلا- رب العالمين.
الحقيقة الثانية: الألوهية،ما معناها؟ هي إفراد الله بالعبادة.
(وإنْ ظنّ مع ذلك، أنه من خواص أولياء الله، وأهل المعرفة والتحقيق، الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان، كان من أشرّ أهل الكفر والإلحاد).
يعني إذا أضاف إلى هذا الاختلال في الاعتقاد، وهو أنه لا يشهد إلا بربوبية الله -عز وجل- ولا يسعى إلا إلى الإقرار بالربوبية، إن أضاف إلى ذلك إسقاط الأمر والنهي، وهو أن يقول: لستُ مخاطباً بالأمر والنهي؛ الأمر والنهي للعوام، أمّا أنا فلا أُومَر ولا أُنهى. فهذا أشرّ من أهل الكفر والإلحاد؛ بل هو شرّ أهل الكفر والإلحاد؛ لأنه ضمّ إلى الإخلال بالتوحيد، الإخلال بالأمر والنهي.
وهذا يقع فيه كثير من غلاة الصوفية، الذين يسلكون الطرق المنحرفة المبتدعة في التعبد لله -عز وجل- يبلغ أحدهم حدًّا يسقط عنه التكليف، فلا يؤمر ولا ينهى.
(ومن ظن أنّ الخَضِرَ وغيره سقط عنهم الأمر، لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك، كان قوله هذا من شرّ أقوال الكافرين بالله ورسوله، حتى يدخل في النوع الثاني من معنى العبد).
أشار المؤلف -رحمه الله- في آخر الكلام إلى الخضر، وهو حجة كثير من المتصوفة في إبطال الأمر والنهي.
حيث يقولون: إنّ الخضر لم يلتزم شريعة موسى، فإنه فعل ما يخالف الشريعة ظاهراً، حيث إنّه أعطل السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار من غير أجرة مع الحاجة، ومع أن القوم لم يضيّفوه؛ لم يعطوه حقه في الضيافة.
فلما خالف مقتضى الشرع، دلّ ذلك على أنه يبلغ الوليّ مبلغاً يسقط عنه التكليف، ويصبح كل ما يفعله طاعة لله، سواء كان موافقاً للشرع أو مخالفاً للشّرع.
فإذا قتل فهو طائع لله، إذا زنى فهو طائع لله، إذا سرق فهو طائع لله. لماذا؟ لأنه سقط عنه الأمر والنهي، وشهد الحقيقة الكونية، وهي أن الله ربّ كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. فلمّا شاءه الله، فقد أحبه.
وهذا ضلال وظلمات بعضها فوق بعض.
ولذلك قال الشيخ -رحمه الله-:(كان قوله هذا من شرّأقوال الكافرين)؛ لأنه يُفضي إلى إبطال الشرائع؛ هذا القول يفضي إلى إبطال الشرائع، يؤدي إلى أنه لا تقوم شريعة، وإلى إبطال ما جاءت به الرسل؛ لأن ما جاءت به الرسل تعبيد الخلق للرب-جل و علا- بامتثال الطاعة والانتهاء عن المعصية.
وأصل ذلك الإقرار بتوحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-وإفراده -سبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالتوحيد.
فالشيخ -رحمه الله- يقول: (ومن ظن أن الخضر وغيرَه سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك، كان قوله هذا من شرّ أقوال الكافرين). والخضر-رضي الله عنه- الصحيح أنه ولي من الأولياء، وليس نبيًّا. هذا أصح قولي العلماء فيه.
والعلماء لهم فيه قولان:
- جمهور العلماء على أنه وليّ.
- وقال بعض أهل العلم: إنه نبّي.
والصحيح أنه ولي؛ هذا الذي عليه جمهور العلماء من أصحاب الإمام أحمد ومن غيرهم.
الجواب على احتجاج الصوفية بمخالفة الخضر لشريعة موسى:
أوّلاً:أن الخضر ليس مكلفاً بشريعة موسى؛ لأن موسى -عليه السلام- كان مبعوثاً لبني إسرائيل، بل إنه لا يعرف موسى كما دل على ذلك سؤالُه؛ حيث قال:موسىٰ بني إسرائيل؟لما سلم عليهقال: وأنىبأرضك السلام؟ قال له: من أنت؟ قال: موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ فهو سمع به، لكنه لم يخاطب بشريعته، وإلا لكان يجب عليه أن يسير إليه.
مما يدل على أنه ليس مخاطباً بشريعة موسى، أنه قال: إني على علم علمني الله إياه، لم تعلمه، وأنت على علم علّمك الله إياه، لم أعلمه. فدّل ذلك على الاختلاف فيالأمر والتعبد، وأنه ليس متعبداً بشريعة موسى.
الثاني: ما ذكره الإخوان من أن الخضر في الحقيقة لم يفعل ما يخالف الشريعة، ولذلك لما بيّن الخضر السبب لموسى، هل أنكر عليه أو قَبِل منه؟ قبل منه ولم ينكر عليه، فما فعله الخضر موافق للشريعة. وإن كان في ظاهره مخالفاً؛ لأن موسى خَفِيَ عليه ما علمه الخضر من حقائق هذه الأمور.
فالخضر علم أن وراء هذه السفينة ملكاً يأخذ كل سفينة غصباً، فأراد أن يصلح الأمر لهؤلاء، ويخفف الضرر، ويدفع الضرر الأعلى بالضرر الأدنى، فنقَبَ نقباً في السفينة.
وكذلك علم من حال الولد أنه كافر، وأنه سيرهق والديه، وسيكون سبباً للفتنة، فقتله.
ولذلك لماّ سأل الخارجي ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- عن قتل الوِلْدَان، كما قتل الخضر الغلام، قال: إن كنت علمت منه ما علمه الخضر من الغلام فاقتله؛ لأنه من باب دفع الصائل.
خلاصة الجواب: ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً للشريعة؛ بل هو موافق للشريعة، وإنما أنكر عليه موسى الأمر لأنه خفي عليه موجب وسبب هذا الفعل. ولا إشكال أنّ الإنسان متعبد بالظاهر.
فأنت إذا رأيتمثلاًشخصاً يقفز إلى بيت، تنكر عليه أو لا تنكر عليه؟ تنكر عليه، يمكن أن يكون تسوُّرهلهذا البيت، لينقذ حريقاً مثلاً أو ينقذ مريضاً، أو ما أشبه ذلك. المهم قد يكون هناك سبب أباح لهذا الذي تسوّر الجدار، خفي على المنكر، وهذا لا إشكال فيه.
فملخص الجواب من جهتين:
الجهة الأولى: أن الخضر لم يكن متعبداً بشريعة موسى.
والثانية: أن الخضر لم يفعل ما يخالف الشريعة أصلاً.
بدأ الشيخ -رحمه الله- في الكلام على النوع الثاني من أنواع العبد، كل هذا الذي تقدّم، كلام في النوع الأول، وهو العبد بمعنى المعبَّد، وهو العبودية القدَرِية، العبودية التي يُشهَد بها حقيقة الربوبية، وذلك لا يخرج عنه أحد، فهي العبودية القهرية.