الدرس(8) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
(وأما أهل الكفر والبدع والشهوات، فكل بحسبه. قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيت قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾[سورة: البقرة (93)]أو نحو هذا من الكلام.
فعُبَّاد الأصنام يحبون آلهتهم كما قال ـ تعالى ـ:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾[سورة: البقرة (165)] وقال: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾[سورة: القصص (50)]. وقال:﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى(23)﴾[سورة: النجم (23)]. ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان.
وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة).
طيب،المؤلف -رحمه الله- ذكر أمراً مهمًّا يشكو منه كثير ممن يوفّقون إلى اتباع السنة، وهو أنهم قد لا يجدون في أوائل سلوكهم لطريق أهل السنة وتمسكهم بها لذة في عباداتهم، بل يزين لهم الشيطان بعض البدع وإن كانت يسيرة؛ ليحصّلوا الخشوع وحضور القلب، كتزيينه لبعض من يصلي بأن يغمض عينيه ليحصل له حضور القلب والخشوع، وهذا لا شك أنه من تزيين الشيطان.
والشيطان لا يبالي ما أصاب من الإنسان، سواء كان في إفراط أو تفريط، فإنه ساعٍجهدَه في إضلال الناس واجتيالهم وصرفهم عن الصراط المستقيم.
وذلك من خلال طريقين: إما الغلو، وإما التقصير.
الغلو يجانب الصراط المستقيم.
والتقصير يجانب أيضاً الصراط المستقيم.
فالواجب على المؤمن أن يتمسك بالكتاب والسنة، ولو لم يجد من اللذة، والطمأنينة، والسكون، والخشوع ما يجده صاحب البدعة. فإن وجود هذه الآثار ليس دليلاً على صحة الطريق؛بل الدليل على صحة السبيل واستقامة المنهج موافقة الكتاب والسنة.
ليس الدليل هو ما يحصل في قلب الإنسان من الرِّقَّة أو من الخشوع. لا شك أن الاستقامة على الصراط المستقيم تفيد الإنسان صلاحاً في قلبه، ورقة فيه، ودفقًا للدموع من عينيه، لا شك. لكن هذا قد يحول دونه حوائل قبل أن يكون، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال-كما مرّمعنا في الحديث-:«ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان».[صحيح مسلم(43)] فلا بد من تحقيق الإيمان وتحقيق الاستقامة على الصراط المستقيم؛ حتى يُحَصّلَ الإنسان اللذة الموعودة، ولا يغريه ما يسكبه أهل البدع وأهل الانحراف من الدموع في صلواتهم، ومجالسهم، ومبتدعاتهم، بل يجب عليه أن يصبر نفسه على الصراط المستقيم، والعاقبة للمتقين، وليست العبرة في كثرة البكاء والأحوال الظاهرة، بل العبرة كل العبرة في الاستقامة على الكتاب والسنة، هذا هو المنهج القويم الذي ينبغي للمؤمن أن يسلكه.
الشيخ -رحمه الله- أجاب عن ما يرد من إشكال: كيف يكونون على مجانبة للحق ومواقعة للباطل، ومع ذلك يكون لهم من الأحوال ما لا تكون لبعض أهل الاستقامة، ممن سلكوا ووفقوا إلى الطريق المستقيم؟
الجواب: أن الشيطان خلَّى بينهم وبين بدعهم، خلَّىبينهم وبين قلوبهم، بل يؤزهم، ويشجعهم، ويعينهم على ماهم فيه؛ ليستقروا على ما هم عليه من باطل، ويمضوا في هذا الطريق المنحرف المخالف لطريق أهل السنة والجماعة.
ولذلك قال الله –جل وعلا- في وصف عبدة العجل، مع أنه عجل له خوار، له صوت وصفير، ليس مما يبين الكلام ولا مما يجلِّي البيان، وليس عنده معنىً، ولا حجة، ولا برهان على صدق عبادته، مع ذلك قال الله -جل وعلا- فيما جرى لبني إسرائيل من التعلق به، قال: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾[سورة: البقرة (93)] ﴿وَأُشْرِبُوا﴾، أي خالط حب العجل وعبادة العجل قلوبهم حتى اختلط بها، وكان منها في مكان عظيم، إلى درجة الإشراب وهو الاختلاط والامتزاج، فخالط حب العجل قلوبهم وامتزج بها لماّ زين لهم الشيطان ذلك، مع أنهم أهل توحيد في الأصل، فهم من أبناء الرسل والأنبياء، وجاءهم موسى بالحق المبين، وقامت لهم من الشواهد والآيات الدالة على صدق نبوة موسى ما شاهدوه وعاينوه. مع ذلك أشربوا في قلوبهم العجل، نعوذ بالله من الخذلان.
يقول -رحمه الله-: (فعبّاد الأصنام يحبون آلهتهم).وذكر شواهد ذلك،ثم قال: (ولهذا يميل هؤلاء ويغرمون بسماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة) يعني ليست محبة الله ورسوله، إنما المحبة المطلقة: الوجد، والتعلق، والبكاء. لكن على أي شيء يبكي؟ على أي شيء وبأي شيء يتعلق؟ لا يتعلق بحق ولا يبكي بكاءً صحيحاً على الكتاب والسنة، إنما يبكي بكاءً مطلقاً يشترك كما قال الشيخ -رحمه الله-: (محب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان). ولا شك أن هذا ضلال مبين، نعوذ بالله من الخسران.
يقول -رحمه الله-:(وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم) (هؤلاء)مبتدأ، و(الذين يتبعون أذواقهم)هذا الخبر. يعني:(وهؤلاء)هُم (الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة). والواجب على المؤمن في كل طريق يسلكه، وفي كل منهج يسير فيه، أن ينظر حال السلف المتقدمين، وما كان عليه الأئمة، وأن ينظر مع ذلك وقبل ذلك إلى ما دلّعلى هذا الصراط من الكتاب والسنة، هذا الطريق من الكتاب والسنة.
فإن كان له شاهد من كتاب الله، أو من سنة رسوله، أو من هدي السلف الصالح؛ فإنه على خير، وإلا فليتركه، فإنه بدعة وضلالة.
والبدع -ياإخواني-لا تزيد أصحابها من الله إلا بعداً، أبداً لا يمكن أن تقرّبه إلى حق ولا إلى خير. فكل من ابتدع بدعة يقصد بها التقرب إلى الله، عوقب بنقيض مقصوده، وكانت البدعة سبباً لبعده عن الصراط المستقيم.
يقول -رحمه الله-: (فالمخالف لما بعث الله به رسوله من عبادته وحده، وطاعته وطاعة رسوله، لا يكون متبعاً لدينٍ شرعه الله أبداً، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ(19)﴾.[سورة: الجاثية (18- 19)] بل يكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله. قال ـ تعالى ـ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾.[ سورة: الشورى (21)]وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله، وتارة يحتجون بالقدر الكونيعلى الشريعة، كما أخبر الله به عن المشركين كما تقدم).
وهاتان ضلالتان عظيمتان. الشيخ -رحمه الله- تكلم عن الصوفية الذين سلكوا طريق الجبرية فيما يتعلق بالطاعات والمعاصي، فهم يحتجون بالقدر على مخالفة الشرع، ثم إنهم لا يقتصرون على هذه البدعة العظيمة الكبيرة التي هي شر من قول اليهود والنصارى، بل يزيدون على ذلك ويضيفون إلى ذلك بدعة أخرى، وهي ماذا؟ وهي الابتداع في الدين، فهم جمعوا سوءتين:
- تعطيل ما أمر الله به ورسوله.
- والإحداث في الدين.
فهم بين بدعة وشرك، وهاتان ضلالتان عظيمتان، هما من أعظم ما يصاب به الإنسان في الدنيا، وأعظم ما يفسد به دين العبد وقلبه. نعم.
(ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم عندهم قدراً، وهم مستمسكون بما اختاروا بهواهم من الدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يضلون بترك ما أمروا به من الأسباب التيهي عبادة، ظانّين أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك. مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أنّ ما قُدِّر سيكون فلا حاجة إلى ذلك،وهذا ضلال مبين وغلط عظيم، فإن الله قدر الأشياء بأسبابها، كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:«إنّ الله خلق للجنة أهلاً ،خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون.وخلق للنار أهلاً، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل النار يعملون».[صحيح مسلم(2662)] وكما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير، فقالوا:يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتّكل على الكتاب؟ فقال: «لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له: أمّا من كان من أهل السعادة فسيُيَسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة».[صحيح البخاري(4949)، ومسلم(2647)]
فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة، والتوكل مقرون بالعبادة، كما في قوله ـ تعالى ـ:﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه﴾.[سورة: هود (123)]وفيقوله: ﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ(30)﴾[سورة: الرعد (30)] وقول شعيب -عليه السلام-:﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾[سورة: هود (88)]).
هذه طائفة من طوائف المبتدعة الصوفية الغلاة، وهم من تخيَّر من الأوامر الشرعية شيئاً فالتزمه، وتخير من المناهي الشرعية المشهورة شيئاً فامتنع منه، لكنه ضل بترك ما أمر به من الأسباب التي هي عبادة حيث إنه زعم شهود القدر، وأنه يتعبد لله -عز وجل- بقدره؛ فترك ما جعله الله سبباً لتحصيل المقاصد.
اعلم -بارك الله فيك-أنه ما من شيء في الدنيا، ولا في الآخرة، إلا وقد جعل الله له سبباً به يُحصّل وبه يدرك. فمن فرط في السبب؛ لم يدرك الغاية والمقصد والمطلب. وهذا مطَّرد في أمور الدين، وأمور الدنيا، أمور الأولى، وأمور الأخرى، ولذلك لابد من الأخذ بالأسباب.
الشيخ -رحمه الله- يرد على هؤلاء الذين قالوا: إن التوكل، والدعاء، ونحو ذلك من العبادات التي هي وسائل لمقاصد ويحصل بها تحصيل المطالب. يرد عليهم في قولهم: إن هذه من مقامات العامة، أما الخاصة فلا ينظرون إلى هذه الوسائل؛لأنهم قد أيقنوا بأن ما قدِّر سيكون، فلا حاجة للاشتغال بالأسباب.
نقول لهؤلاء ماقاله الشيخ -رحمه الله- في قوله: (فإن الله قدر الأشياء بأسبابها) الأسباب ليست خارجة عن قدر الله، بل هي من قدر الله. ولذلك لما سئل النبي -صلى الله عليهوعلى آلهوسلم- عن الأدوية والرقى،قال: هل هي ترد من قدر الله شيئاً؟ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- في جواب محكم، وتفصيل بيِّن، وتوضيح ظاهر، قال -صلى الله عليه وسلم-: «هي من قدر الله».[أخرجه الترمذي في سننه(2065)، وحسنه] فجعل الأسباب من قدر الله، ولهذا يجب على المؤمن أن يأخذ بالسبب ؛ لأنه لا تحصل النتائج، ولا تدرك المطالب؛ إلا من طريق الأسباب التي جعلها الله -عز وجل- موصلة للغايات، مفضية إلى المقاصد والمطالب.
فإن لم يشتغل الإنسان بتحصيل الأسباب؛ ما حصلت له النتائج، فالذي يريد الولد ولا يتزوجولا يطأ، هل يمكن أن يكون ولد؟ لا يمكن.
والذي يريد الرزق والكسب ثم يطيل نوم النهار، ولعب الليل، هل يحصّل؟ لا.
الذي يريد العلم وتحصيله، هل يمكن أن يحصل العلم بالكسل والتواني، والتفريط وتضييع الأوقات؟ الجواب: لا، لابد من الأسباب.
فالذي يريد الجنة، هل يحصلها بالمعاصي، والسيئات، والتفريط في الطاعات والحسنات؟ الجواب: لا، فلا بد من تحصيل الأسباب لتحصيل الغايات،والمطالب، والمقاصد. فإن الله -جل وعلا- قدّر الأشياء بأسبابها، يبينان تقدير السبب والغاية. يقول -رحمه الله-: (كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقها لهم- وفي روايات: خلقهم لها-وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون»[ صحيح مسلم(2662)].
إذاً جعل الجنة لهم قدراً، وجعل العمل لهم أيضا قدراً. فلم يجعل الغاية مقدّرة دون السبب الموصل إلى الغاية، ولذلك قال: «وبعمل أهل الجنة يعملون» وهذا الشاهد لقول المؤلف -رحمه الله-:(فإن الله قدر الأشياء بأسبابها) فالغايات هنا دخول الجنة، وسببها العمل لها، العمل بعمل أهلها. يقول: «وبعمل أهل الجنة يعملون،وخلق للنار أهلاً»-نعوذ بالله منها- ((خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) يعني: أن الله سبق تقديره بذلك، والله -جل وعلا- عالم بكل شيء. إن الله بكل شيء محيط، وهو -جل وعلا- بكل شيء عليم، علم الأشياء قبل وقوعها.«وبعمل أهل النار يعملون». فهم قُدِّر عليهم الغاية والسبب، فالله قد قدر الغاية والسبب.
فالواجب على المؤمن أن يسعى في تحصيل الأسباب المفضية إلى النتائج المرغوبة المحبوبة، وأن لا يتوانى في ذلك.
يقول في ذلك أيضاً: (وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير، فقالوا:يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟قال: ((لا)). لا، نهي عن أن يتركوا العمل وأن يتكلوا على مامضى من الكتاب الذي فيه أهل الشقاء وأهل السعادة. قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)).الواجب على المؤمن أن يسعى لتحصيل ما قُدِّر له، فإن الله قَدَّر الأشياء وقدّر أسبابها الموصلة إليها، فكل ميسر لما خلق له: ((أما من كان من أهل السعادة فسييسرلعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة))نعوذ بالله من الخذلان.
ثم قال -رحمه الله-: (فكل ما أمر الله به عباده من أسباب فهو عبادة) أي يؤجر عليه. فجعل الله -عز وجل- تحصيل المطالب الأخروية والدنيوية من طريق الدعاء، فهل يؤجر الإنسان على الدعاء؟ نعم يؤجر على الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة وإن كان وسيلة لتحصيل المطلوب، لكنه عبادة يؤجر عليها الإنسان، ومَثَّلَ لذلكبقوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه﴾[سورة:هود(123)] يقول:(والتوكل مقرون بالعبادة).والتوكل هو المشار إليه في قوله ـ تعالىـ:﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. وقد قرن الله بين هذين في مواضع عديدة، منها هذا، ومنها قوله ـ تعالى ـ:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[سورة: الفاتحة (5)] وماذكره المؤلف -رحمه الله- هنا: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه﴾ وفي قوله:﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾[سورة: الرعد (30)]وقول شعيب:﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[سورة: هود (88)] الإنابة، ماهي؟
الإنابة لا تكون إلا بالخضوع مع المحبة، والتزام الأمر، وترك النهي.
هذه أركانها، فلا يسمى الإنسان منيباً إلا إذا كان خاضعاً لله، محبًّا له، مقبلاً على الطاعة، تاركاً للمعصية. نعم.
(ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات).
(منهم)أي: ممن ضل في هذا الباب من الصوفية ومن شاكلهم. نعم.
(فتنقص بقدر ذلك. ومنهم طائفة يغترّون بما يحصل لهم من خرق عادة، مثل مكاشفة أو استجابة دعوة مخالفة للعادة العامة، ونحو ذلك، فيشتغل أحدهم بهذه الأمور عما أمر به من العبادة والشكر ونحو ذلك.فهذه الأمور ونحوها كثيراً ما تعرض لأهل السلوك والتوجه، وإنّما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت).
الله أكبر، ماشاء الله. يقول -رحمه الله-: (ومنهم طائفة يغترّون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة)أي: يكشف له في علم شيء خفي عن غيره. المكاشفة تكون في العلوم غالباً، فيكشف له علم خفي عن غيره، إمّا من علوم الدنيا، وإمّا من علوم الدِّين. لكن في الغالب أن تكون أسباب الفتن فيما يتعلق بعلوم الدنيا، وقد يكون في علوم الدين. فيُكشف له ما خفي على غيره؛ فيظن نفسه بذلك سابقاً حاصلاً على ما لم يحصل عليه غيره من الفضل والمكانة عند رب العالمين، وهو في الحقيقة جاهل غالط في هذا الظن. فإن المكاشفات لا تدلّ على صلاح أصحابها، يعني ليس من لوازم الاستقامة والطاعة والصلاح، أن يكون الإنسان صاحب مكاشفات، وصاحب كرامات. فالكرامات نؤمن بها، ويكرِم الله بها من يشاء من عباده، لكنها تسر ولا تَغُرّ، تبشر ولا تورط في الاغترار بالنفس والإعجاب بها. بل من حصل له اغترار بسبب هذه المكاشفات وهذه الكرامات ؛ فإنه ضال عن الصراط المستقيم.
ولذلك قال السلف -رحمهم الله- كلمة جامعة لامعة نافعة: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تقبلوا منه حتى تزنوه -أو تعرضوه-على الكتاب والسنة. وهذا ميزان قسط، ومعيارعدل لا جور فيه، لا وكس ولا شطط.
فالواجب أن لا يغتر الإنسان بما يجريه الله على أيدي بعض الصالحين من الكرامات، فيظن أنه هو العالم، وهو الإمام، وهو القدوة، وهو وهو... لا، قد تجري المكاشفات لعوام أهل السنة، وقد تجري الكرامات لعوام أهل السنة. بل قد تجري امتحاناً لبعض المبتدعة، وهي في الحقيقة في هذه الحالة لا تكون كرامة، لكن المقصود خرق العادة. قد تخرق العادة للمخالف لأهل السنة والجماعة وطريق النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن هذا لا يدل على صلاحه، ولا على صحة سبيله.
تركنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ياإخواني، تركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. هذه المحجة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على المؤمن أن يعرض كل قول، وكل رأي، وكل أحد على هذين المعيارين الدقيقين: الكتاب والسنة. وإذا طبق الناس هذا في أنفسهم، وفي مجتمعاتهم؛ فازوا فوزاً عظيماً ومازوابه بين الحق والباطل، فإنه فرقان ونور يهدي به الله سبل السلام، ويخرج به الإنسان من الظلمات إلى النور.
كثير من الناس إذا جرى له كرامة أو خروج عن العادة، اغتر بنفسه، واغتر به من حوله. والغالب أن من حوله يؤزونه إلى أن يعجب بنفسه، ويخرج عن الصراط المستقيم.
ولذلك في الحقيقة تكون عليهم في بعض الأحيان، تكون هذه المخالفات للعادة والخوارق للعادات، تكون عليهم شؤماً، حيث إنها تخرجهم عن سبيل المتقين، وتوقعهم في طريق المنحرفين.
يقول -رحمه الله-: (فهذه الأمور)أي المكاشفات والكرامات وخوارق العادات(كثيراً ما تعرض لأهل السلوك والتوجه) يعني: أهل العبادة (وإنما ينجو العبد منها) أي: من شرِّها وما تعقبه من فتنة في النفس، وما تعقبه من افتتان به، إنما ينجو منها (بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل وقت) وهذا فيه أن العبادة لا حدّلها، ولا ظرف لها، ولا زمن لها، بل هي في كل حين ووقت، كما قال الله -جل وعلا-﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾[سورة: الحجر (99).]. نعم.
(كما قال الزهري: كان من مضى من سلفنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة.وذلك أن السنة كما قال مالك -رحمه الله-: مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.والعبادة والطاعة والاستقامة...).
فالنجاة في ركوب هذه السفينة، والأخذ بالسنة هو النجاة من طرق الضلالة على اختلافها وتنوعها، والغرق هو الغرق في الظلمات، فإن من أعرض عن الكتاب والسنة؛ أظلم قلبه، وفسد رأيه، وبُلي بأنواع من المخالفات والانحرافات.