الدرس(9) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
(والعبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء، مقصودها واحد ولها أصلان:
أحدهما: ألاّ يعبد إلا الله.
الثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبده بغير ذلك من الأهواء، و الظنون، والبدع.
قال ـ تعالىـ:﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾.[سورة: الكهف (110)]وقال ـ تعالى ـ:﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)﴾ [سورة: البقرة (112)] وقال ـ تعالى ـ:﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)﴾[سورة: النساء (125)]).
هذان الأصلان عليهما تدور كلمة التوحيد، كلمة الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله،(الأولى أن لا يعبد إلا الله). وهذا معنى أشهد أن لا إله إلا الله (وأن لا يعبده -سبحانه وتعالى- إلا بما شرع).وهذا معنى أشهد أن محمداً رسول الله﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.[سورة: الحشر (7)]فهذان الأصلان اللذان عليهما قوام الدين، هما معنى الشهادتين اللتين بهما يدخل الإنسان في الإسلام، وهما أول ركن، وأول ما يُطالب به المكلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فالأولى تقرير للأصل الأول، والشهادة للنبي بالرسالة تقرير للأصل الثاني. وهذان الأصلان جماع الدين، يعني: يجمعان لك أطراف الدين، فيدخلان في كل عبادة وفي كل طاعة، ما من طاعة إلا ويدخل فيها هذان الأصلان، إذا اختل أحدهما؛ فالعبادة فاسدة، باطلة، مردودة عليه: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».[صحيح البخاري(2697)، ومسلم(1718)]
ذكر دليل هذين الأصلين من القرآن فقال -رحمه الله-:(قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾).[سورة : الكهف (110)]هذا دليل ماذا ؟ المتابعة. الأصل الأول أو الثاني؟ الثاني. أن لا يعبد إلا بما شرع، فإنه لا يوصف العمل بأنه صالح إلا إذا كان على السنة.
﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾هذا دليل الأصل الأول.
(وقال ـ تعالى ـ: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾):
﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ هذا دليل الأصل الأول.
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾هذا دليل الأصل الثاني. (﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)﴾،وقال ـ تعالى ـ:﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾)،﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾(من)هذه استفهامية، والاستفهام هنا ماذا؟ للنفي، أي لا أحد أحسن﴿مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ بالتوحيد ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي في اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾نعم. الشاهد أول الآية.
ثم قال -رحمه الله-: (فالعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات. والحسنات هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب. فما كان من البدع في الدين التي ليست في الكتاب ولا في صحيح السنة، فإنها -وإن قالها من قالها و عمل بها من عمل- ليست مشروعة. فإن الله لا يحبها...).
ما معنى (ليست مشروعة)؟ مامعنى قول العلماء: هذا ليس مشروعاً، أو هذه ليست مشروعة؟ يعني: ليست واجبة ولا مستحبة، يعني: لم تأت في الشريعة، لا على وجه الإيجاب ولا على وجه الاستحباب. نعم.
(فإنّ الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات، ولا من العمل الصالح. كما أنّ من يعمل ما لا يجوز كالفواحش والظلم، ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح، وأمّا قوله: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[سورة: الكهف (110)]، وقوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ﴾[سورة: البقرة (112)]فهو إخلاص الدين لله وحده، وكان عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً).
الله أكبر، ما أعظمه من دعاء: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً) ولا يكون كذلك إلا إذا وافق السنة،(واجعله لوجهك خالصاً)لا أبتغي به غيرك، فإنّالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه(ولا تجعل لأحد فيه شيئاً) أي نصيباً، لا قليلاً ولا كثيراً. الله أكبر، ما أعظم فقهه -رضي الله عنه-. نعم.
(وقال الفضيل بن عياض-رحمه الله تعالى- في قوله ـ تعالى ـ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سورة: الملك (2)، هود (7)]قال: أخلصه وأصوبه،قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إنّ العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً؛ لم يقبل. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً؛ لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. فإن قيل: فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلاً في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها؟ كقوله في فاتحة الكتاب).
هذا بحث مهم. هذا البحث الذي ابتدأه بهذا السؤال مهم في مسائل كثيرة من مسائل العلم، فانتبه له. السؤال يقول: (إذا كان جميع ما يحبه الله -سبحانه وتعالى- داخلاً في العبادة فلماذا عطف الله على العبادة غيرها؟) والعطف يقتضي ماذا؟ العطف يقتضي المغايرة. إذا قلت: جاء زيد وعمرو، فعمروغير زيد، هذه الواو تقتضي المغايرة. إذا قلت: أكلت أكلاً وبرتقالاً، فالأصل أن البرتقال غير الأكل، والبرتقال أكل أو ليس أكلاً؟ أكل، فلماذا عطفناه عليه؟ لماذا عطفنا البرتقال على الأكل؟
كذلك هنا الأمثلة التي سيذكرها المؤلف -رحمه الله- كلها عطف الله -جل وعلا- في كلامه على العبادة ما هو منها، فما وجه العطف؟ وما الجواب؟ واستطرد المؤلف -رحمه الله- بذكره أيضاً صوراً من العطف في غير العبادة نقرأ كلام المؤلف -رحمه الله-،المهم أن هذا بحث مهم، يفيدك في هذا الموضع وفي غيره. نعم يقول:
(كقوله في فاتحة الكتاب: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾[سورة: الفاتحة (5)]، وقوله لنبيه: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾[سورة: هود (123)]،وقول نوح: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾[سورة: نوح (3)]، وكذلك قول غيره من الرسل. قيل: هذا له نظائر).
الآن بدأ الجواب. بعد أن ذكر الأمثلة التي عطف الله -سبحانه وتعالى- فيها ما يحبه على العبادة، ذكر الجواب: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾. الاستعانة، أليست عبادة؟ الاستعانة عبادة. فلماذا عطفها على العبادة في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾؟ كذلك التوكل، أليس عبادة؟ بلى عبادة. فكيف يعطفه على الأمر بالعبادة في قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.كذلك ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ والتقوى والطاعة للرسل من العبادة، فكيف ساغ العطف، مع أن الأصل في العطف أنه يقتضي المغايرة؟ قال الشيخ -رحمه الله- في الجواب: (قيل: هذا له نظائر). يعني: هذا الأمر ليس مختصّاً بهذه المواضع، بل له أمثال وأشباه. فالنظائر المراد بها الأمثال والأشباه. مَثَّلَ لذلك، يقول -رحمه الله-:(كما في قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ [سورة: العنكبوت(45)]والفحشاء من المنكر. وكذلك قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأمر بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾[سورة: النحل (90)]).
(وكذلك قوله ﴿ِإنَّ اللّهَ يَأمر بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾. وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾[سورة: الأعراف (170)].وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله عن أنبيائه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾[سورة: الأنبياء (90)].ودعاؤهم رغباً ورهباً من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير ).
الآن ذكر الشيخ -رحمه الله- أن هذا لا يختص بالعبادة، وذكر له نظائر. يأتي الجواب الآن يقول:
(وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصاً له بالذكر؛ لكونه مطلوباً بالمعنى العام والمعنى الخاص).
هذا الوجه الأول، الوجه الأول في الجواب أنه في بعض هذه الموارد يكون المعطوف بعضاً من المعطوف عليه، مثل قوله ـ تعالى ـ:﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.[سورة: هود (123)]التوكل من العبادة،والعبادة أوسع، فعطف التوكل على العبادة تخصيص له بالذكر. يعني: المعطوف إذا ذكر ماهو من أفراد المعطوف عليه، فإنه يفيد تخصيصه بالذكر؛ لكونه مطلوباً بالمعنى العام والمعنى الخاص، وهذا لأهميته. فقول الله ـ تعالى ـ:﴿فَاعْبُدْهُ﴾ يدخل في عمومه ماذا؟ التوكل؛ لأن العبادة أمر واسع يدخل فيه التوكل، والاستعانة، والخشية، والخوف، والرهبة، والرغبة، والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والأعمال الظاهرة والباطنة. ومن ذلك التوكل، فهذا أمر عام يدخل فيه التوكّل. ثم قال:﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾. هذا تنصيص وتخصيص لهذه العبادة بعينها، فيكون الأمر بالتوكل من جهتين:
- من جهة العموم في قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾.
- ومن جهة الخصوص في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.
وهذا يبين أهمية هذه العبادة، ومحبة الله لها. واضح هذا؟
يقول بعد ذلك:
(وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران. فإذا أفرد عمّ، وإذا قرن بغيره خصَّكاسم الفقير والمسكين، لما أفرد أحدهما في مثل قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[سورة: البقرة (273)]، وقوله:﴿أَوإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾[سورة: المائدة (89)]دخل فيه الآخر، ولما قُرن بينهما في قوله:﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾[سورة: التوبة (60)]صارا نوعين).
هذا حال أخرى يُجاب بها عن هذا الإشكال: أنّ الاسم في حال الانفراد يدل على معنىيشمل المعطوفات، وفي حال ذكر المعطوفات يكون الاسم مختصًّا ببعض المعنى، وهذا مثاله الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- الفقير والمسكين.
(وتارة دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران. فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير والمسكين، لما أفرد أحدهما في مثل قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[سورة: البقرة (273)]، وقوله:﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾[سورة: المائدة (89)]دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله:﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾[سورة: التوبة (60)]صارا نوعين.
وقد قيل: إنّ الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب).
تكلمنا على هذا الوجه، وهو قوله: (وتارة تتنوع دلالة الاسم بحال الانفراد والاقتران).
المثال مَثَّلَ الشيخ -رحمه الله- بالفقير والمسكين.
الفقير إذا ورد في النص دون ذكر المسكين، فإنه يشمل المسكين. فإذا قرأت قول الله ـ تعالى ـ:﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ دخل في ذلك المساكين. وإذا قرأت ﴿أَو إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾دخل في ذلك الفقراء، فإنّالفقير والمسكين (إذا أفرد عم، وإذا اقترن به الاسم الآخر خص) يعني أصبح له معنى خاص. فإذا اقترن الفقير والمسكين، فالفقير له معنى والمسكين له معنى.
فقوله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾. الفقراء هنا غير المساكين؛ لأن الأصل في العطف يقتضي المغايرة، ولا تقل: هذا من باب عطف الخاص على العامأو العام على الخاص؛ لأن المعطوفات هنا مختلفة ومتغايرة، لا يمكن أن نقول: عطف عام على خاص ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾[سورة : التوبة (60)]إلى آخر الآية. فليس هنا عموم وخصوص. وأيهما أشد فقراً، الفقير أو المسكين؟ اختلف العلماء في ذلك. فذهب الحنابلة إلى أن الفقير أشد فقراً من المسكين، وذهب المالكية وجماعة إلى أن المسكين أشد فقراً من الفقير.
والظاهر ما عليه مذهب الأصحاب من أن الفقير أشد فقراً، ولذلك قُدَّم: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾. فتقديمه يدل على شدة حاجته. واختلفوا في ضابط الفرق بين الفقير والمسكين، تجدونه في كلام الفقهاء، ما نريد أن نطيل في ذكره. نعم.
المهم ما نريد تقريره من أن من المتعاطفات ما إذا اقترن افترق، وإذا انفرد جمع وشمل، مثل الفقير والمسكين، مثل الإيمان والإسلام والإحسان. هل الإحسان من الإيمان؟ هل الإسلام من الإيمان؟ الإيمان من الإسلام؟ نعم، الأصل أن اللفظ الإيمان يشمل البقية، كذلك الإسلام، كذلك الإحسان. فقوله ـ تعالى ـ:﴿وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [سورة: البقرة (195)].هنا يشمل كل ما هو من خلال الإسلام، وكل ماهو من خصال الإيمان، وكل ماهو من خصال الإحسان. لكن في حديث جبريل الإسلام، والإيمان، والإحسان وبيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا وهذا وهذا، الإسلام غير الإيمان، غير الإحسان.في قوله ـ تعالى ـ:﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾.[سورة: الحجرات (14)] الآن ذكر الإيمان والإسلام، أثبت لهم الإسلام ونفى عنهم الإيمان، ففهمنا أن الإسلام له معنى يختلف عن الإيمان، نعم، المراد أنّ هذا ثاني ما يجاب به على مسألة المتعاطفات التي تشترك معانيها،أو يدخل بعضها في بعض. نعم. الجواب الثالث:
(وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب).
نعم هذا في الحقيقة عَوْدٌ، ليس وجهاً ثالثاً. هذا عَوْدٌعلى الوجه الأول، الوجه الأول ما هو؟ أن يكون الخاص مأموراً به مرتين. ففي مثل قوله ـ تعالى ـ: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [سورة :هود (123)] الأمر بالتوكل مرتين: أمر عام، وأمر خاص. العام في قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ والخاص في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.
يقول الشيخ -رحمه الله- وهو يشير إلى قول ثان من أقوال الأصوليين: (إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران) فالتوكل غير داخل في العبادة في قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾، الاستعانة غير داخلة في العبادة في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾[سورة: الفاتحة (5)]، المنكر غير داخل في الفحشاء في قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾[سورة: العنكبوت (45)]حال الاقتران.
بل يكون من الباب الثاني، الجواب الثاني وهو أن هذا من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، وهذه من القواعد المفيدة لك في هذا الموضع، وفي غيره.
(والتحقيق أن هذا ليس لازماً).
أيّ القولين رجح الشيخ؟ رجح ما بدأ به أولاً من أنه لا يلزم ما ذكروه هنا، من أنه إذا اجتمعاافترقاوإذا افترقااجتمعا، بل قد يكون الشيء مأموراً به مرتين، في قوله:﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾، مأمور به عامًّا، و مأمور به على وجه الخصوص في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ فلا تلازم.طيب. قال:
(قال ـ تعالى ـ:﴿مَن كَانَ عَدُوًّا للّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾[سورة: البقرة (98)]).
(﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾)يدخلان في قوله: ﴿وَمَلائِكَتِهِ﴾ فيكون قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ﴾يشمل جبريل وميكائيل وغيرهما، وإعادة ذكر جبريل وميكال على وجه الخصوص، هذا فيه تخصيص هذين بالتحذير من عداوتهما، فيكونان ذُكِرَا على وجه العموم، وذكرا على وجه الخصوص؛ لشريف مقامهما. نعم.
(وقال ـ تعالى ـ:﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾[سورة: الأحزاب (7)].وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة: تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى).
ماخاصيتهم؟ أنهم أولو العزم من الرسل؛ فكان الميثاق الذي أخذ منهم أعظم مما أخذ من غيرهم. هذا واحد. هذا من أنفس الكلام،يعني المسائل التي يحتاجها طالب العلم في مواضع عديدة في غير ما موضع. الثاني:
(وتارة لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم ،كما في قوله:﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾[سورة: البقرة (2، 4)]فقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يتناول كل الغيب الذي يجب الإيمان به. لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب ما ﴿أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾).
ولذلك عطف على الإيمان بالغيب الإيمان بما أنزل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-والإيمان بما أنزل من قبله. سبب هذا العطف ماذا؟ إجمال قد يتوهم منه عدم دخول المعطوف في المعطوف عليه. فلما كان المتوهِّم قد يتوهم أن الإيمان بالغيب يتعلق مثلاً بالإيمان بأسماء الله، وصفاته، والإيمان باليوم الآخر، ولا يشمل الإيمان بما أُنزل على من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء التنصيص على ذلك في قوله: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ مع أنه داخل في قوله تعالى:﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾. نعم.
(وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو ﴿الْغَيْبِ﴾ وبالإخبار بالغيب وهو ﴿مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾. ومن هذا الباب قوله ـ تعالى ـ: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاة﴾[سورة:العنكبوت (45)]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾.[سورة: الأعراف (170)] و تلاوة الكتاب هي اتباعه والعمل به، كما قال ابن مسعود-رضي الله عنه- في قوله ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾[سورة: البقرة (121)]).
أي يتبعونه حق اتباعه. فالتلاوةمعناها الاتباع كما قال في أول الكلام. فهذا ثناء على الذين يتبعون القرآن ويعملون به، لا يحسنون تلاوته فقط، بل يحسنون قراءته، وتلاوته اللفظية، وتلاوته العملية ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾.نعم.
(قال:يحلّون حلاله، ويحرمون حرامه، ويؤمنون بمتشابهه، ويعملون بمحكمه. فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها، لكن خصها بالذكر لمزيتها، وكذلك قوله لموسى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14)﴾[سورة: طه (14)]. وإقامة الصلاة لذكره من أَجَلَّ عبادته، وكذلك قوله ـ تعالى ـ:﴿اتَّقُوااللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)﴾[سورة: الأحزاب (70)]،وقوله:﴿اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾[سورة: المائدة (35)]، وقوله: ﴿اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[سورة: التوبة (119)]. فإن هذه الأمور هي أيضاً من تمام تقوى الله. وكذلك قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.[سورة: هود (123)]فإنّ التوكل والاستعانة هي من عبادة الله، لكن خصت بالذكر؛ ليقصدها المتعبد بخصوصها. فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة. إذ هو سبحانه لا يُعْبَدُ إلّا بمعونته).
(إذ هو سبحانه لا يعبد إلا بمعونته)فإذا لم يكن عون من الله -عز وجل- للعبد في العبادة؛ فإنه لا يحصلها ولا يدركها، وهذا السر في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[سورة: الفاتحة (5)]؛ ليتبرأ الإنسان من حوله وقوته في إجابة ما طلب منه ربه، وفرض عليه من العبادة وشَاهِدُهُ في إجابة النداء، حيث يقول القائل عند نداء المنادي: (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله). هذا استعانة، استعانة بالله على إجابة المنادي، ولو لم يعنك الله -جل وعلا- ما تيسر لك الخير. فاحمد الله واشكره، ولا تغتر بعملك. اللهم لك الحمد، اللهم أعنا على طاعتك.
(إذا تبين هذا، فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله).
تم الكلام الآن على مسألة العطف.
والوجه الثاني هو الذي مثل له بالأمثلة الكثيرة في الحِكَمِ من العطف. قال: (وتارة لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم). فيه إطلاق وإجمال قد لا يفهم منه العموم. فَيُنَصّعلى أفراده، لِيُبَيَّنَ أن هذه الأفراد داخلة في المأمور به. نعم مثل قوله ـ تعالى ـ:﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾[سورة: طه (14)]. إقامة الصلاة داخلة في العبادة، لكن نص عليها لما في الأمر بالعبادة من العموم، الذي قد لا يُفهم منه دخول إقامة الصلاة فيها، فنص عليها لبيان دخولها، كذلك: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)﴾[سورة: الأحزاب (70)]. والأمثلة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- .(إذا تبين هذا) يعني: إذا تبين هذا الأصل، وهو أصل مفيد قل أن تجده في كتاب. مثل هذه الفوائد تقيد وتفرد؛ حتى ما تضيع على طالب العلم.
(إذا تبين هذا، فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية؛ ازداد كماله وعلت درجته).
وهذا يا إخواني قانون مُطَّرِد، لا ينخرم. كلما زادت عبودية الإنسان لربه؛ كلما كمل وعلت درجته. فقول:سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، الذهاب والمجيء، الركوع، الصيام، القيام،كل هذا ينبغي للمؤمن عند عمله لهذه العبادات -ينبغي له- أن يستحضر أنها ترفع درجته، وأنها تعلي عند الله منزلته، وأنه يكمل بها عبودية الله -سبحانه وتعالى-، وبهذا يشعر الإنسان -إذا استحضر هذا- يشعر بافتقاره إلى العبادة، وحاجته إليها؛ لأنه مادامت روحه في جسده، عرقه ينبض، وعينه تلحظ. ما دام على هذه الحال، فهو محتاج إلى الازدياد: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[سورة: البقرة (197)]. استشعار هذا، وأن العبادات لها أثر في رفع الدرجات مما يعين الإنسان على الاستكثار منها. لكن إذا كان يصلي يقول: الحمد لله غاية ما هنالك سقط عني الفرض.ماكان له نشاط للعبادات الأخرى، ولا كان له همة للازدياد والمسابقة في الخيرات. والله -جل وعلا- لم يأمرنا فقط بعبادته، بل أمرنا بالمسابقة، والمسارعة إلى الطاعة، وإلى العبادة.
فالواجب على المؤمن أن يستحضر هذه الأمور، حتى ينشط على العمل في الصالحات، كل تقدُّم في الخير فهو زيادة في إيمانك، رفعة في درجاتك، تقلل وتخفف من سيئاتك. ضع هذا في بالك، وستجد خيراً كثيراً، وعوناً كبيراً على الاستزادة من الخيرات، وإيّاك والرتابة في العبادات، الرتابة أنك تفعل العبادة، وأنت لا تنظر فقط إلا إلى أداء الواجب، لا تنظر إلى أن الله -جل وعلا- منّ عليك بهذه العبادة؛ حتى ترتفع درجتك، وتعلو منزلتك، وتحصّل في ذلك خيراً كثيراً.