×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / رسالة العبودية / الدرس(10) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:2933

الدرس(10) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح

(ومن توهّم أنّالمخلوق يخرج عنالعبودية بوجه من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق بل من أضلهم. قال ـ تعالى ـ:‏﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏﴾‏[سورة: الأنبياء (26-28)]. وقال ـ تعالى ـ:‏﴿‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)إِنكُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ  وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[سورة: مريم (88-95)]وقال ـ تعالى ـ في المسيح: ‏﴿‏إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ(59)[سورة: الزخرف (59)]وقال ـ تعالىـ:﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19)   يُسَبِّحُونَ اللّيْل وَالنَّهَار لَا يَفْتُرُونَ.‏[سورة: الأنبياء (19-20)]وقال ـ تعالى ـ:‏﴿لَّن يَسْتَنكِفَ  الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ  وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا(172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّاوَلاَنَصِيرًا(173)[سورة: النساء (172-173)]وقال ـ تعالى ـ:﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ  إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ  دَاخِرِينَ(60).[سورة: غافر (60)]وقال ـ تعالىـ:‏﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَر وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ(38)[سورة : فصلت (37-38)] وقال ـ تعالى ـ:‏﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)[سورة: الأعراف (205-206)]. وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر الخلق بالعبادة، وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن).

                         بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فهذه الآيات كلها مضمونها واحد، وهو ما أشار إليه الشيخ -رحمه الله- في ختم سياق هذه الآيات، حيث قال: (وهذا ونحوه) أي من أمثاله في القرآن (مما فيه وصف أكابر الخلق بالعبادة، وذم من خرج عن ذلك، متعدد في القرآن) فمن قال: إن الخروج عن العبودية أكمل من البقاء فيها. مردود عليه بهذا الوجه؛ وهو أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وصف أكابر الخلق قوة، وجاهًا، ومكانة وقرباً من الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وصفهم بالعبودية، فدلّ ذلك، على أنه لا يمكن أن يكون الخروج عن التعبد أكمل من البقاء فيه، بل كل الكمال في تحقيق العبودية، كما قال المؤلف -رحمه الله- في أول الكلام: (وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية؛ ازداد كماله، وعلت درجته) وهذا قانون مطّرد، كما ذكرنا سابقاً، وهو سارٍ طرداً وعكساً، فكلما قلّت عبادة العبد؛ قلّت درجته.

الوجه الثاني من أوجه أن الخروج عن العبودية ليس كمالاً:

(وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك).

ولا يمكن أن يرسل الله -جل وعلا- جميع الرسل، إلا بما فيه الكمال، كون الرسل جميعاً يتّفقون على الدعوة إلى عبادة الله وحده، مما يدل على أي شيء؟ مما يدل على أهمية هذه العبودية، وأنه لا فلاح ولا نجاح ولا سعادة، إلا بتحقيقها. نعم.

(فقال ـ تعالىـ:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[سورة: الأنبياء (25)]، وقال:﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[سورة: النحل (36)]، وقال ـ تعالى ـ لبني إسرائيل:‏﴿‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)‏﴾[سورة : العنكبوت (56)].وقال:‏﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)[ سورة: البقرة (21).]،‏وقال:﴿وَمَا خَلَقْتُالْجِنَّوَالْإِنسَإِلَّالِيَعْبُدُونِ[سورة: الذاريات (56)]،‏ وقال ـ تعالى ـ:‏﴿‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ‏﴾‏[سورة: الزمر (11-15)].

وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله، كقول نوح ومن بعده ـ عليهم السلام ـ: ﴿اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ[سورة: الأعراف (59، 65، 73، 85) وهود (50، 61، 84) والمؤمنون (23، 32).].

وفي المسند عن ابن عمر-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «بعثت بالسيف بين يديالساعة؛ حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي،وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري».[أخرجه أحمد في مسنده(5114)، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/98).]

هذا الوجه الثالث من أوجه تفضيل العبودية على الخروج عنها، قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (وكل رسول من الرّسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله). ومعلوم أن الرسل إنما يبتدئون ويشتغلون بأهم مطلوب، وأشرف ما يدعى إليه الناس، وهم إنما اشتغلوا في دعوتهم، بالدعوة إلى تحقيق العبودية لله -عز وجل- هذا الوجه الثالث، مما يستدل به على ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- آنفاً، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((بعثت بالسيف بين يدي الساعة)). المراد بالسيف يعني بالجهاد لقتال من كفر بالله -عز وجل- بين يدي الساعة، يعني بين يدي القيامة، لأجل ماذا؟ هل لأجل أخذ أموال الناس وسلبها؟ الجواب: لا، حتى يعبد الله وحده، لا شريك له، فإذا تحقق هذا؛ انتهى المطلوب من السيف والمقصود منه.

ثم قال:«وجعل رزقي تحت ظل رمحي». ورزقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي جعله الله تحت ظل رمحه، هو ما منّ الله به على هذه الأمة، من الغنائم، وما فرضه الله-جل و علا- لرسوله من الخمس: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ[سورة: الأنفال (41)] الآية.

ثم قال:«وجعل الذلة والصغَار على من خالف أمري». ما فيه إشكال أن الذل العظيم، والصغار الكبير، هو في حق من خالف أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومفهوم المخالفة من هذا الخبر، أن العزة والرفعة والعلو، لمن وافق أمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمن ظن أن العزة في مخالفة أمر الله ورسوله فقد ضل، فإن العزة في موافقة أمر الله وأمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- فبقدر أخذ الإنسان بهذا الأمر؛ بقدر ما يتحقق له من العز والارتفاع والعلو.

(وقد بيّن أن عباده هم الذين ينجون من السيئات).

هذا الوجه الرابع، هذا الوجه الرابع من أوجه تفضيل العبودية، وإبطال أن الخروج عنها أكمل.

(قال الشيطان:‏﴿‏رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[سورة: الحجر (39-40)]، قال ـ تعالىـ: ‏﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ[سورة: الحجر (42)]، وقال:‏﴿‏فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[سورة: ص (83-82)]،‏ وقال في حق يوسف-عليه السلام-:‏﴿‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏﴾[سورة: يوسف (24)]).

وُصِفُوا بأنهم مخلصون؛ لأنهم أخلصوا العبادة لله -جل وعلا- ولذلك القراءة الثانية: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ. فبالإخلاص يحصل للإنسان الاصطفاء. فبقدر ما يحقق الإخلاص لله -جل وعلا- في عبادته، بقدر ما يسلم من كيد الشيطان وتسلّطه، ويحصل له الاصطفاء والاجتباء، والرضا من رب العالمين.

(وقال:‏﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ[سورة:الصافات (159-160)]).

لأنهم أعلم بالله -عز وجل- ممن وقع في الشرك، ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾. نزه الله -جل وعلا- نفسه عما يصفه به الجاهلون، واستثنى عباد الله المخلصين، قال: ﴿إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَلعظيم علمهم بالرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فلما حققوا الإخلاص؛ عرفوا كمال الرب -جل وعلا- فأعطوه ما يستحق -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من الأوصاف التي جاءت في الكتاب والسنة، آمنوا بها وقبلوها، وتعبدوا له بها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بخلاف الذين ضعُف التوحيد في قلوبهم؛ فإنهم لم يقدروا الله -جل وعلا- ما يستحقه من القدْر.

(وقال:‏﴿‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ[سورة: النحل (99-100)]. وبالعبودية نعت كل من اصطفى من خلقه).

هذا الوجه الخامس.

(في قوله: ‏﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)[سورة: ص (46-47)]).

ذكر العمل، والثمرة في الدنيا، والثمرة في الآخرة، لهؤلاء المصطفَين: (﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَذكر وصفين، هما عمل من هؤلاء: ﴿أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ. يعني لهم أيدٍ وأعين. هل هذا المقصود؟ لا، المقصود إثبات القوة الظاهرة والقوة الباطنة.

﴿أُولِي الْأَيْدِيأي أصحاب القوة في البدن، في عبادة الله وطاعته والقيام بأمره، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الشريعة.

﴿وَالْأَبْصَارِأي أولو القوة الباطنة، فالأبصار هنا ليست جمع بصر، الذي تدركه الأنظار، إنما هو جمع البصيرة، التي يدرك بها حقائق الأمور، ويفرق بها بين الباطل والحق.

فقوله ـ تعالى ـ: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾.أثبت لهم جماع القوة، قوة الظاهر، وقوة الباطن.

ثم قال: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وهذا مما يعين على تحقيق الوصف السابق، وهو أن ينظر الإنسان إلى الآخرة ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍأي خصصناهم بميزة، حصّلوا بها ما سبق من الفضل، وهو ذكرى الدار، الدار الآخرة، ومن جعل الدار الآخرة نصْب عينيه؛ سهلت عليه الأمور، سهُل عليه ترك المعاصي، وسهُل عليه فعل الطاعات وتلذذ بما يلقاه في سبيل الله -عز وجل- من العوائق؛ لأن من نظر إلى الآخرة، هانت عليه الدنيا، من علق قلبه بما عند الله -عز وجل- نظر إلى هذه الدنيا بنظر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي قال: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل».[صحيح البخاري(6416).]والذي قال: «مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب، استظل بظل شجرة، ثم راح وتركها».[أخرجه الترمذي في سننه(438)، وقال: " حديث حسن صحيح ".] فعمله، وهمه، وسعيه، واشتغال قلبه، وظاهره، وباطنه، كله معلق بالآخرة: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.ثم قال -جل وعلا-: ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ.وهذا جزاؤهم؛ لما كانوا عليه من القوة الظاهرة والباطنة، ولما كانوا عليه من التعلق بالآخرة،كانوا أن اصطفاهم الله -عز وجل- ووصفهم بهذين الوصفين العظيمين: ﴿الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ.

(وقوله:﴿‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)‏﴾[سورة: ص (17)]،‏ وقال عن سليمان:‏﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ سورة: ص (30)]،‏ وعن أيوب:‏﴿‏نِعْمَ الْعَبْدُ‏﴾‏[سورة: ص (44).]، وقال:‏﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾‏[سورة: ص (41)]،وقال عن نوح -عليه السلام-:‏﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏﴾[سورة: الإسراء (3)]، وقال ‏عن خاتم رسله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏﴾‏[سورة: الإسراء (1).]، وهو أولى القبلتين، وقد خصه الله بأن جعل العبادة).

الشاهد فيما مضى، هو ما ذكره في أول الفقرة بقوله: (وبالعبوديةنعت كل من اصطفى من خلقه).فوصف إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالعبودية فقال:﴿‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾. ووصف بذلك داود، ووصف بذلك سليمان، وأيوب وغيرهم من الرسل.

ثم ذكر المؤلف، استطراداً، بعد ذكر وصف العبودية للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏﴾) فقال:(وهو أولى القبلتين). وهذا التعبير، لم أجده للشيخ في غير هذا الموضع، وفي ظاهره نَظَر؛ لأنه قد يوحي-وإن كان ليس بظاهر- بأنه ما زال قبلة، ومعلوم أن المسجد الأقصى قبلة منسوخة.

وقد كان شيخنا -رحمه الله- شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- يكره هذا الوصف، ويقول: إنه لا يسمى بهذا ؛ لأنه يوهم بأنه مازال قبلة، ومعلوم أنه نسخ، حيث أمره الله -عز وجل- أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام. أنا أظن أن كل هذا المقطع من النسّاخ، وليس من الشيخ، الموضوع بين قوسين، الظاهر أنه كله من النساخ، ويشهد بهذا كلام سيأتي الآن.

(وهو أولى القبلتين، وقد خصّه الله بأن جعل العبادة فيه، بخمسمائة ضعف).[لعل هذا من كلام بعض النساخ، وليس من كلام الشيخ؛ لملاحظات على الكلام ستأتي]

أنا ما أدري عن هذا، العبادة ما وردت، الذي ورد الصلاة، بخمسمائة ضعف، أما العبادات، فإنها لم ترد، وهذا مما يجعل الإنسان يشك في نسبة هذا الكلام للشيخ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لأن الشيخ صاحب عبارة محررة، وليس هناك في السنّة ما يدل على أن العبادة تضاعف خمسمائة ضعف. الذي ورد الصلاة، مضاعفتها في مكة، وفي مسجد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي المسجد الأقصى.

(والمقصود بمضاعفة الحسنات، هو المسجد الذي حرقه اليهود، عليهم لعنة الله).

متى تسلّط اليهود على المسجد؟ في الحقيقة، طلبت في كتب التاريخ تسلط اليهود، في حكم الإسلام، على المسجد فلم أجده، وهذا مما يجعل وصف الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- بأنه (المسجد الذي حرقه اليهود). متى كان؟ النصارى تسلطوا على المسجد الأقصى واستباحوه، وبقوا فيه ما يقارب المائة عام ؛ لكن اليهود، لم يكن لهم تسلط على المسجد الأقصى إلا في القرن القريب، القرن الماضي، وهذا مما يجعل ما ذكرته، من أن هذا الكلام، ليس للشيخ، يعني ظاهر جدا. فلو تعلّقون على ما بين القوسين، أن هذا الكلام، لعله من بعض النساخ، والمحققين أدرجوه على أنه من الشيخ، وهو ليس منه للملاحظات التي فيه، نحن الآن لاحظنا في قوله: (أولى القبلتين) وفي قوله: (جعل العبادة فيه بخمسمائة ضعف) ثم قوله: (حرقه اليهود عليهم لعنة الله). كل هذا يشير إلى تسمية بعضهم إلى أن المسجد الأقصى حرم، ثالث الحرمين الشريفين، هو ليس ثالث الحرمين، إلا باعتبار جواز شد الرّحل إليه، فيكون ثالث المساجد، ليس ثالث الحرمين، ولكن هذه التسمية، أيضاً فيها لبس، والأحسن في مثل هذا، الاقتصار على ما جاءت به السنة، من إثبات الفضائل، حتى لا يتوهم المتوهم، فيثبت أحكاماً لم تثبت. لا خلاف بين أهل العلم، أن المسجد الأقصى، ليس حرماً، ما فيه خلاف. الذي اختلفوا فيه، وادي وُج، في الطائف، هو الذي اختلفوا فيه، أما مكة، فلا إشكال في أنها حرم، والمدينة حرم وهي دون حرم مكة، والثالث ما ذكرناه، وأما المسجد الأقصى، فلا خلاف في أنه ليس حرماً .

(ويظن البعض أن المسجد الأقصى هو الصخرة والقبة المحيطة بها، وليس كذلك).

هذا الكلام صحيح. المسجد الأقصى، هو الذي بناه عمر، وهو ما في مقدم المسجد فإن عمر –رضي الله عنه – لما أتى بيت المقدس، شاور كعب الأحبار، أين يضع المسجد فقال: ضعه وراء الصخرة. فقال: أدركتك يهوديتك -وكان يهوديًّا من قبل وأسلم- لنا صدور المساجد، فتقدم -رضي الله عنه- فبنى المسجد في صدر ما يعرف بالمسجد الأقصى. فكان هو في المقدمة.

 وأما الصخرة، فإنه لا فضل فيها.وبعض العلماء يقول: إنها كانت القبلة سابقاً، قبلة الأنبياء، وهذا ليس بصحيح، قبلة الأنبياء كلهم المسجد الحرام، واليهود والنصارى بدلوا وحرفوا، فالقبلة التي استقبلها الأنبياء هي الكعبة التي يستقبلها المسلمون، ثم جرى التبديل والتحريف، واستقبلت كل طائفة من اليهود والنصارى قبلة، حتى إنهم اختلفوا، هم أنفسهم يختلفون: فمنهم من يستقبل المشرق، ومنهم من يستقبل المغرب.

المهم أن الصخرة لا فضل لها، ومن قال: إنها من الجنة، ليس معه علم، فهي كسائر الصخرات، لا يطاف بها، ولا يتمسح بها، وليس لها فضل.

(وقال:‏﴿‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏[سورة: الجن (19)]، وقال:‏﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا[سورة: البقرة (23)]، وقال:‏﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَاأَوْحَى[سورة: النجم (10)]،‏ وقال:‏﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏[سورة: الإنسان (6)]،‏ وقال:‏﴿‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرضِ هَوْناً[سورة: الفرقان (63)]. ومثل هذا كثير متعدد في القرآن).

ومما يدلُّك على أن هذه الزيادة ليست من كلام الشيخ -قرينة- أن الشيخ ما علّق على شيء من الآيات، مع أن بعضها يحتاج إلى تعليق، كبيان وصف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعبودية، في هذه المقامات؛ فإنها مقامات عظيمة، هي أشرف مقامات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ- وتجد أن الشيخ سردها سرداً، فهذا يغلب على الظن، أنه من النساخ، وليس من كلام الشيخ، من قوله: (وهو أولى القبلتين) إلى قوله:(وليس كذلك).

فصـل

في التفاضل بالإيمان

إذا تبين ذلك، فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً).

طيب (إذا تبين ذلك) يعني تبين ما تقدم تقريره في أول الرسالة. يقول -رَحِمَهُ اللهُ-: (فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب) المشار إليه ماذا؟ العبودية، تحقيق العبودية لله -عز وجل- الناس يتفاضلون في تحقيق هذا الباب، تفاضلاً عظيماً، أي بينهم فروق كبيرة، ليسوا على درجة واحدة في تحقيق العبودية، بل هم درجات. يقول -رَحِمَهُ اللهُ-:

(وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان).

يعني: هذا التفاضل في العبودية، هو في الحقيقة تفاضل في حقيقة الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل. فتفاضلهم في تحقيق العمل القلبي، والعمل الجوارحي، والقول اللساني، هو تفاضل في حقيقة الإيمان،نعم.

(وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص).

يعني: في العبودية ينقسمون إلى عام وخاص، هذا تقسيم الناس في العبودية.

 (ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها عموم وخصوص).

الظاهر الأنسب، النسخة التي عندك، لأن الإلهية التي في الفتاوى، إلهية أو ربوبية؟ ربوبية، الظاهر أن الربوبية أقرب إلى السياق، وإلى ما سيذكره من الأدلة؛ لكن النسخة التي عندي (ولهذا كانت إلهيةالرب، لهم فيها عموم وخصوص). إلهية الرب بالنسبة لهم واحدة، من حيث الطلب، فالجميع مطالبون بتحقيق العبودية لله -عز وجل-، وهم متفاوتون فيها من حيث تحقيق هذا الطلب: فمنهم من يحقّق الإخلاص، ومنهم من يكون دون ذلك. لكن الأنسب، فيما يبدو من كلام المؤلف، الذي سيأتي، أن مراده الربوبية.

 (وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص. ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص. ولهذا، كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.

وفي الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال:«تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطيرضي، وإن منع سخط».[صحيح البخاري(2887)] فسماه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعـبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر ما فيه دعاءً وخبراً، وهو قوله: «تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».والنقش إخراج الشوكة من الرَّجْلِ، والمنقاش ما يخرج به الشوكة. وهذه حال من إذا أصابه شر، لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه.وهذه حال من عبد المال. وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطيرضي، وإذا منع سخط، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)[سورة: التوبة (58).].فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله،وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه: إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط. فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له.إذِالرقّ والعبودية في الحقيقة، هو رقّ القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فهو عبده. ولهذا يقال:

 والحـر عبـد ما طمع

 

العبـد حـر مـا قـنع

 

وقال القائل:

 ولو أني قنعت لكنت حرا

 

أطعت مطامعي فاستعبدتني

 

 

ويقال: الطمع غُل في العنق، قيد في الرَّجل،فإذا زال الغل من العنق؛ زال القيد من الرَّجل.

ويروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال:الطمع فقر، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه. و هذا أمر يجده الإنسان من نفسه).

المقصود باليأس ، اليأس من الناس، وقطع النظر إلى ما في أيديهم. فإن من قطع النظر عمّا في أيدي الناس؛ استغنى عنهم. وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ومن يستغن يغنه الله».[صحيح البخاري(1427)] وهذا إذا عوّد الإنسان نفسه عليه، وُفّق إليه، وسَهُل عليه، لكن إذا علق نفسه بما في أيدي الناس، سواء كان ما في أيديهم من المال، أو من المناصب، أو من التمكن في الدنيا، أو حتى ما في أيديهم مما لا يمكن إدراكه من الخير؛ فإنه إذا علق نفسه بذلك، تحسّر وأصابه الهم والحزن، هذا إن لم يصبه الاعتراض عـلى الله -عز وجل- والحسد للخلق . والمقصود أن الشيخ -رحمه الله-  بعد أن ذكر تفاوت الناس في تحقيق العبودية لله -عز وجل- ذكر أسباب تفاوت الناس في العبودية: فمنهم من يُبلى بالشرك الخفي، ومنهم من يبلى بشرك أعلى من ذلك،كالذين وصفهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة»أخرجه البخاري (2887). وعَبَّدَ هؤلاء، لهذه الأموال؛ لشدة تعلقهم بها، ولكونهم علّقوا قلوبهم بها، فبها يرضون، وبها يسخطون، بها يحبون، وبها يبغضون. فولاؤهم وعداؤهم، محبتهم وبغضهم، على هذه الأمور. فلما كانوا كذلك؛ كانوا في حقيقة الأمر كالعبيد؛ بل هم عبيد لها، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن أعطي رضي وإن منع»أي من هذه الأشياء «سخط». وهذا لا يُحَصَّلُ خيراً، ولا ينجو من شر ولذلك قال: «تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش». فحَكَمَ عليه بفوات الخيرات، بقوله: «وانتكس». وحَكَمَ عليه بإصابة الشر وعدم السلامة منه، وعدم التخلص منه، بقوله: «وإذا شيك فلا انتقش»، يعني لا يتمكن من الانتقاش، والسلامة من الشر الذي أصابه .

(وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه،فإن الأمر الذي ييأس منه، لا يطلبه، ولا يبقى قلبه فقيراً إليه، ولا إلى من يفعله،وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه،فإن قلبه يتعلق به، فيصير فقيراً إلى حصوله، والى من يظن أنه سبب في حصوله. وهذا في المال والجاه والصور، وغير ذلك.

قال الخليل –عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}[سورة: العنكبوت (17)].فالعبد لا بدله من رزق، وهو محتاج إلى ذلك. فإذا طلب رزقه من الله؛ صار عبداً لله فقيراً إليه، وإن طلبه من مخلوق؛ صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه).

المقصود إذا (طلبه من مخلوق). ليس المقصود المطالبة بالحقوق، إنما مطالبة القلب بأن يتعلق به، وينظر أن رزقه لا يكون إلا من طريق فلان، أو من الطريق الفلاني، الرزق بيد الله -جل وعلا ـ: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[سورة: الذاريات (22)]. وقد قال الخليل: ({فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ})أي، اطلبوا عند الله الرزق، لا تطلبوه عند غيره. ثم انظر كيف قدم ما حقه التأخير، حيث قال: ({فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ})ولم يقل: ابتغوا الرزق عند الله. وتقديم ما حقه التأخير، يفيد القصر والحصر، في أنه لا ينبغي أن يشتغل الإنسان بطلب الرزق، إلا من طريق الله ـ جل وعلاـ: ({فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}). نعم.

(ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة).

(مسألة المخلوق) يعني سؤال المخلوق، الطلب من الناس. الأصل فيه المنع، إلا في حال الضرورة، عند ذلك يجوز أن يسأل. أما إذا لم تكن ضرورة، فإنه لا يجوز له أن يسأل. وهذا يشمل كل مسألة، ومن ذلك مسألة الدعاء، فإنه ينبغي على الإنسان أن لا يشتغل بسؤال الناس الدعاء، بل يدعو الله -جل وعلا- لنفسه، ولا يشتغل بسؤال غيره أن يدعو له، وإذا عود نفسه، إذا ربى الإنسان نفسه على هذا ؛ سعد سعادة عظيمة ؛ لأنه هو سبب السعادات في الدنيا والآخرة. قال رجل للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-: يا رسول الله، دلّني على عمل إذا فعلته؛ أحبني الله وأحبني الناس. قال: «ازهد في الدنيا؛ يحبك الله، وازهد فيما عند الناس  - أو فيما في أيدي الناس- يحبك الناس».[أخرجه ابن ماجه في سننه(4102)، وقال الحاكم في مستدركه(7873): هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "]

وانظر إلى سبب الحب في الأمرين تجد أنه دائر على الزهد:

الزهد في الدنيا، بالإعراض عنها، وعدم الاشتغال بها، والأخذ بما تيسر، وعدم جعلها في القلب.

والزهد فيما في أيدي الناس، الذي في أيدي الناس هو الدنيا، ازهد فيما في أيدي الناس، لا تنظر إليه، ولا تعلّق قلبك به، بل انظر إلى ما عند الله -جل وعلا- من الخير والفضل، وإذا ربيت نفسك على هذا؛ أحبك الله -جل وعلا- وحصّلت محبة الناس؛ لأن الناس، لماذا يكرهون فلاناً ويبغضون فلاناً؟ لأنهم يشعرون أنه ينازعهم. فإذا أمنوا من منازعته أحبوه؛ لأنه ما فيه سبب للبغضاء.

فينبغي للمؤمن أن يحرص على هذه الخلال، التي هي من ثمار العبودية، وتحقيق كمال الاعتماد، والركون إلى الرب جل وعلا.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94001 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف