الدرس(11) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
(قال الخليل ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}[سورة: العنكبوت (17)]فالعبد لا بدله من رزق، وهو محتاج إلى ذلك. فإذا طلب رزقه من الله؛ صار عبداً لله فقيراً إليه، وإن طلبه من مخلوق؛ صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه). (ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهى عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد، كقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم»[صحيح مسلم(1040)]،وقوله: «من سأل الناس وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً، أو خموشاً، أو كدوشاً في وجهه»[أخرجه أحمد في مسنده(3675)، والترمذي في سننه (651)، وحسنه]،وقوله: «لا تحل المسألة إلا لذي غُرْمٍ مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع»[أخرجه الترمذي في سننه(653)، وإسناده ضعيف]،وهذا المعنى في الصحيح، وفيه أيضاً: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه».[صحيح البخاري(1471)]
وقال: «ما أتاك من هذا المال، وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، ومالا، فلا تتبعه نفسك».[صحيح البخاري(1473)، ومسلم(1045)]فكره أخذه مع سؤال اللسان، واستشراف القلب.
وقال في الحديث الصحيح: «من يستغن؛ يغنه الله، ومن يستعفف ؛ يعفُّه الله، ومن يتصبّر؛ يصبره الله، وما أعطيأحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر».[صحيح البخاري(1469)، ومسلم(1053)]
كل هذه الأحاديث تدور على معنى واحد، ذكره المؤلف -رحمه الله- في أول الكلام، وهو قوله: (ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل) يعني: الأصل فيها التحريم، فإذا شككت، هل تسأل أو لا تسأل، فارجع إلى الأصل، والأصل التحريم.
يقول:(وإنما أبيحت للضرورة). ثم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وكلها تحذر وتنهى عن المسألة: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مُزْعة من لحم». وذلك أن السائل يَكُدُّ وجهه، ويريق ماء وجهه للمسؤول؛ فلذلك كان محل العقوبة في السؤال المحرم الوجه الذي تحصل به مواجهة الناس، وطلبهم والإلحاح عليهم. ثم قال:«من سأل الناس وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً، أو خموشاً أو كدوشاً في وجهه». كل هذا يبين ما مر في الحديث السابق، حيث إنه في الحديث السابق، بين لنا منتهى ما تبلغ به المسألة من صاحبها، إذا كانت غير جائزة، وفي هذا بيّن لنا أن الأمر يبدأ خدوشاً، وهي أشياء يسيرة، وخموشاً وكدوشاً في الوجه. ثم بعد ذلك، ينتهي الحال ويؤول الأمر بصاحب المسألة المحرمة، إلى أن يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة من لحم.
والظاهر في التفاوت بين هذين، هو تفاوت الناس في المسألة: فمن أكثَرَ بلغ به الحال ما ذكره في الحديث الأول، ومن كانت مسألته قليلة لكنها محرمة فإن له نصيباً من المؤاخذة، في قوله: «خدوشاً، أو خموشاً، أو كدوشاً».
ثم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله؛ فيذهب فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه». وذلك أن المتطلع إلى ما في أيدي الناس، بين أن يُمْنَعَ، وبين أن يعطى، فهو دائر بين أمرين، حاله حال مظنون الحصول. بينما أخذه الحبل واحتطابه، ثم بيعه لهذا الاحتطاب، طريق مؤكد لتحصيل الرزق. فأمره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالطريق المتأكد في حصول النتيجة، أو المتيقن نتيجته، ونهاه عن سلوك ما هو مظنون؛ لما فيه من المذلة، ولما فيه من احتمال حصول المطلوب، وعدم حصول المطلوب.
ثم قال: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل» يعني: لا تسأل بلسانك، لم تسأل المال بلسانك، «ولا مشرف فخذه»يعني: وما أتاك وأنت غير مشرف، يعني، متطلع بقلبك، ولو لم يتكلم لسانك فخذه. وفي غير هاتين الحالين، ينبغي لك الامتناع.
وهذا يا أخي، يدلك على قطع المسألة، وأن قطعها ابتداء بالقلب، وانتهاء باللسان. فينبغي للمؤمن أن يقطع المسألة، وأن لا يجعل لها سبيلاً، ولا طريقاً إلى لسانه، ولا إلى قلبه. ويؤكد هذا، ما في الحديث الآخر، حيث قال:«من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يُعِفُّهُ الله». وعلى هذين، يكمل الغنى: من يستغن بقلبه فلا ينظر إلى ما عند غيره، ومن يستعفف بلسانه فيحفظه عن السؤال والطلب. وهذان الوصفات هما القيدان في الحديث السابق: وأنت غير سائل، ولا مشرف، فغير سائل يقابله قوله: «من يستعفف يعفه الله»؛ لأن العفاف في اللسان، يستعفف بلسانه أن يسأل ويطلب، ومن «يستغن» والغنى في القلب، «فمن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله». وانظر كيف بدأ بالغنى؛ لأن الأصل فيه، وهو غنى القلب، فإنه إذا اغتنى القلب، امتنع اللسان من السؤال. لكن إذا افتقر القلب فلا بد أن تظهر فلتات المسائل على الألسنة. ولذلك ينبغي للإنسان، أن يعتني بقلبه، فيغلق عليه التشوف، والتطلع إلى ما في يد غيره. وقد أمر الله -جل وعلا- أطهر الناس قلباً بذلك فقال: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ ثم قال: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[سورة: طه (131)] فنهاه عن النظر إلى ما في أيدي الناس، وأمره بالنظر إلى ما في يده -جل وعلا- قال: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. خير في الحال والمآل، وهو أبقى في المآل؛ لأن الله -جل وعلا- يُنعم على من لم يمد عينه إلى ما في أيدي الناس بالقناعة، ويمن عليه بعظيم الأجر في الآخرة.
ولذلك يا إخواني، لابد أن نربي أنفسنا على هذا، وأن نأخذها بالحزم في هذا الأمر، فإن النفس كالطفل تماماً، إذا لم تهذبه، وتشذبه، وتمنعه مما يضره؛ شب على العوائد القبيحة، ونشأ على الاستجابة لدواعي النفس، من الميل إلى لشهوات والملذات. لكن إذا حزمت نفسك وربيتها، وحملتها على أطايب الأقوال والأعمال؛ أعانك الله -جل وعلا- فإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف طلباً لرضا الله يعفه الله-جل وعلا- ويحفظ لسانه من المسألة.
ثم قال: «ومن يتصبر يصبره الله». بعد أن ذكر غنى القلب، وعفاف اللسان، ذكر الحامل عليهما، وهو الصبر، ثم بين عظيم منزلة الصبر، فقال: «وما أعطي أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر». الصبر رأس الدين؛ لأن به يحصل للإنسان كمالات الدنيا وفوز الآخرة: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.[سورة: الزمر (10)] فقد جاز أجرهم قانون التقدير والحساب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، سبحانه وبحمده، فينبغي للمؤمن أن يعود نفسه على الصبر. «من يتصبر» معنى هذا: أنه يتحمل ويأتي على نفسه. ليس أمر الصبر سهلاً يدركه كل أحد، إنما فيه معاناة، وفيه ما تكرهه النفس وتأنف منه، لكن عواقبه أحلى من العسل، كما قال الشاعر:
لكن عواقبه أحلى من العسل |
|
الصبر مثل اسمه مر مذاقته |
|
|
|
فإذا نظر الإنسان إلى العاقبة والمآل؛ استعان الله -جل وعلا- وأعانه على تحصيل أسباب الصبر فإنه خير عطاء؛ لأن الإنسان مهما فتح عليه في الدنيا، لن يدرك ما يريد وما يشتهي. خذ مثلاً مطالب الإنسان في المال، كلما أعطيت كلما طلبت الزيادة، مطالب الإنسان في النكاح، كلما تمكن من ملاذ المناكح، تشوفت نفسه للزيادة، وهلم جرًّا، لا تنتهي الرغبات والشهوات، إلا في الدار التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. عند ذلك يدرك الإنسان مشتهاه ومنيته ومبتغاه.
فينبغي للمؤمن أن ينفذ بصره هذه الدنيا، وأن يخلفها وراءه، وهذا الكلام نحسن أن نتكلم به، لكن نسأل الله أن يعيننا عليه؛ لأنه في الحقيقة عنوان سعادة العبد إذا تحقق له الصبر، كما قال الله -جل وعلا- في سورة العصر في بيان منزلة الصبر، قال: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[سورة: العصر (2-3)]. فينبغي لنا أن نستعين الله في ذلك، وليبشر من استعان الله؛ فإنه موعود بالإعانة، كما في هذا الحديث.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- وجهاً ثانياً، استدل به على أن الأصل في المسألة النهي، فقال -رَحِمَهُ اللهُ-:
(وأوصى خواص أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً، وفي المسند أن أبا بكر-رضي الله عنه- كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول:(إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً).[أخرجه أحمد في مسنده(65) بسند حسن بشواهده، كما عند مسلم(1043) من حديث عوف بن مالك]
رضي الله عنهم، ما أعظم امتثالهم لأمر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا أبو بكر –رضي الله عنه- ولعل هذا في وقت خلافته، ما ندري، الرواية لم تبيّن متى كان ذلك، والظاهر فيما يبدو أنه بعد وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (كان يسقط السوط من يده) ولعلّه راكب، أو ماشٍ (فلا يقول لأحد: ناولني إياه) أي أعطني إياه، مع أنه لو قال ذلك، وهو خليفة، لفرح الناس وتسابقوا لامتثال أمره، مع ذلك كان يأنف عن المسألة، ويستغني عنها، (ويقول: إن خليلي) يعني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- (أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً). و(شيئاً) نكرة، في سياق النهي، فتعم كل شيء، وهذا مما يؤكد أن النكرة في سياق النهي، تفيد العموم، حيث فهمها أفصح الناس بعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صحابته، فهموا منها العموم.
(وفي صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بايعه في طائفة، وأسرَّ إليهم كلمة خفية: أن لا تسألوا الناس شيئاً، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من أحدهم، ولا يقول لأحد:ناولني إياه).[صحيح مسلم(1043)]
وإذا عوّد الإنسان نفسه على هذا، استغنى عن الناس؛ لأنه في الحقيقة إذا قام الإنسان بشؤون نفسه، ولم يطلب من أحد شيئاً، لا في الدقيق، ولا في الجليل؛ كف الله قلبه عن النظر إلى الناس، وكف لسانه عن مسألتهم.
وشهادة نثني بها على شيخنا الشيخ محمد العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- هو من أشد الناس امتثالاً لهذا الأمر، لا في دروسه، ولا في حياته التي عاشرناه فيها -رحمه الله- من أقل الناس سؤالاً، يقوم بالأشياء بنفسه، ويذهب ويأتي، مع أن الناس قد يتسابقون إلى خدمته، من طلابه ومحبيه، ومع ذلك كان -رحمه الله- يعمل بهذا التوجيه النبوي، وهو أن لا يسأل الناس شيئاً. إذا جاء أحد وقدم إليه أو أخذ منه، فهذا فضل وإحسان ؛ لكنه ليس من المسألة، يعني: لم يكن هذا من سؤاله وطلبه. ومن عاشر الشيخ واقترب منه، أدرك هذا من شأنه -رَحِمَهُ اللهُ- نسأل الله عز وجل- أن يقدس روحه في جنات النعيم، وأن يتبِّعنا وإياكم أثر الصالحين.
(وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع، كقوله ـ تعالى ـ: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)﴾.[سورة: الشرح (7-8)]وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لابن عباس رضي الله عنهما:«إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله».[أخرجه الترمذي في سننه(2516)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.]ومنه قول الخليل-عليه السلام-: (فابتغوا عند الله الرزق).ولم يقل:فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف، يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال:لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال ـ تعالى ـ:﴿وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾[سورة: النساء (32)]).
لما ذكر الله -جل وعلا- ما فضل به الرجال على النساء، قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-:﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾[سورة: النساء (32)] ثم قال -جل وعلا- في التوجيه إلى تحصيل الفضائل، قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾يعني: لا ينبغي لكم أن تمتلئ قلوبكم رغبة فيما عند الناس من الفضائل التي منَّ الله بها عليهم، بل توجهوا إلى الله الذي بيده الخير، وإليه الخير،وإليه يرجع الأمر كله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الخير كله في يديه -جل وعلا-، فمن رغب في خير من خير الدنيا والآخرة؛ فليلجأ إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وليتوجه إليه، فإنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قريب مجيب، وهذا سرّ التوجيه في آخر الآية، بعد ذكر التفاضل، قال: ﴿وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ فإن الفضل بيد الله، ولا تمتلئ قلوبكم تشوفاً وتطلعاً إلى ما منَّ الله به على بعضكم دون بعض. وهذا يشمل تفضيل الرجال على النساء، ويشمل أيضاً مما يشمل تفضيل بعضنا على بعض في علم، أو مال، أو جاه، أو منصب، أو غير ذلك مما يحصل به التفاضل والتسابق في الدنيا.
فإنه ينبغي لك، إذا رأيت ما يعجبك في أخيك، من علم، أو مال، أو حفظ، أو فهم، أو بيان، أو غير ذلك مما تتطلع إليه نفسك، أن تلجأ إلى الله الذي وهبه، فإنه قادر على أن يهبك -جل وعلا-. وإذا عوّدت نفسك على ذلك؛ لن تجد في نفسك غلّاً، أو حسداً، أو ضغينة على أخيك المسلم؛ بل على العكس، ستجد أنك تفرح بمنة الله على غيرك؛ لأنّ منة الله على غيرك، تظهر عظمة الرب الذي منَّ على هذا، ووهب هذا. فإن الله -جل وعلا- من أسباب الاستدلال عليه، عطاياه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي لا ينفك عنها الخلق.
والإنسان إذا ربّى نفسه على التعلق بالله -جل وعلا- والنظر إلى ما عنده، كُفي شرًّا عظيماً، وهُدي إلى راحة، وطمأنينة، وسكون بال، وأصبحت علاقاته، أخذه وعطاؤه، منعه وهبته، كلها منظوراً فيها إلى الله -عز وجل- ،كلها وفق أمر الله جل وعلا.
وقد قال شيخنا، مرة من المرات، في مسألة الحسد، قال: أنا أعجب ممن يحسد أخاه على العلم، كيف يتحاسدون، وهم كلهم خدام للشريعة؟
يعني:هذه كلمة في الحقيقة تقضي على ما في نفس الإنسان من تطلّع، يعني: إذا نظرت إلى ما عند أخيك من علم، ما عنده من فضل، ما عنده من نفع للناس، فلا تجد في صدرك عليه، بل افرح بذلك. هو يا أخي يخدم الشريعة، كما أنك تؤمل وتسعى إلى خدمة الشريعة. فكلنا خُدّام للشريعة، والواجب على من كان صادقاً في خدمة الشرع، أن يفرح بأن يخدم غيره الشريعة، وأن ينصر غيره دين رب العالمين، وأن لا يكون ذلك وقفاً على نفسه، حكراً عليه؛ بل يفرح بكل من يدعو الناس إلى بر، إلى خير، إلى هدى، إلى طاعة، ويكون ذلك مما يُسر به، ويدعو به لصاحبه، لا يكون على العكس من هذا، يوغر صدره عليه، ويجد في نفسه من الضغينة والحقد عليه ما الله به عليم.
(والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله، و لا يشتكي إلا إليه، كما قال يعقوب -عليه السلام-:﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ﴾[سورة: يوسف (86)]
والله ـ تعالى ـ ذكر في القرآن، الهجر الجميل، و الصفح الجميل، و الصبر الجميل.
وقد قيل: إن الهجر الجميل هو هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق. ولهذا قرئعلى أحمد بن حنبل في مرضه: إنّ طاووساً كان يكره أنين المريض، ويقول:إنّه شكوى، فما أَنَّ أحمد حتى مات.
وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافي الصبر الجميل. فإن يعقوب قال:﴿َفَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾[سورة: يوسف (18)]،وقال:﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ﴾)[سورة: يوسف (86)]
قيل: إن البث هو الحزن العميق، أشد من الحزن، فيكون من باب عطف الخاص على العام. يعني: البث حزن مع تألم، وأما الحزن فهو حزن مجرد. هكذا فرّق بعضهم بين البث والحزن، وبعضهم قال: هو واحد، ويكون من أمثلة وشواهد عطف المتماثلات.
(وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقرأ في الفجر بسورة يونس ويوسف والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته، فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف.
ومن دعاء موسى-عليه السلام-:اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وفي الدعاء الذي دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم- لماّ فعل به أهل الطائف ما فعلوا:«اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله».وفي بعض الروايات: «ولا حول ولا قوة إلا بك».[أخرجه الطبراني في الكبير(181)، وقال الهيثمي في المجمع(9851):رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات، وضعفه الألباني في الضعيفة(2933)]
هذا الدعاء فيه أعظم التضرع لله -عز وجل- من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد جمع هذا التضرع أنواعاً من التوسل:
جمع أولاً، وصف حال السائل، فإن التضرع إلى الله -عز وجل- يكون بوصف حال السائل، ومنه قوله: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس)). هذا تضرع وتوسل إلى الرب -جل وعلا- بأي شيء؟ بوصف حال السائل.
ويكون التضرع أيضاً بوصف حالالمسؤول، وذلك في قوله:((يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي)).
ثم عاد في السؤال والطلب إلى وصف حاله، وشدة افتقاره: ((اللهم إلى من تكلني؟)) يعني: إلى من تكل أمري؟ ((إلى بعيد يتجهمني)) وهم أهل الطائف((أم إلى عدو ملكته أمري)) وهم أهل مكة، فكلهم آذاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ.
ثم رجع وأظهر التجلد والصبر لقضاء الله وقدره، فقال:((إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي)). يعني: إن لم يكن هذا الذي نزل بي، وهذا البلاء الذي حلّ بي، سببه غضبك عليّ؛ فلا أبالي، فهو من جملة ما ترتفع به الدرجات، وتعلو به، وتكفر به الخطايا. وهذا فيه غاية التسليم لقضاء الله وقدره، وأن العبد لا ينظر إلى المصيبة على أنها مصيبة نالته، وأصابت منه، إنما ينظر: هل هذه مصيبة سببها غضب وسخط، فعند ذلك تكون النقمة، عند ذلك تكون البلية. أما إذا كان هذا الذي نزل به تكفيراً، أو لم يقترن بغضب وسخط، فالأمر سهل؛ لأنه لا يخرج عن أن يكون تكفيراً للذنب، أو رفعاً للدرجات.
ثم قال: ((غير أن عافيتك أوسع لي)). وهذا استدراك، حتى يتبرأ من حوله وقوته، ولا يتعرض للبلاء، بعد أن بين أنه يصبر على قضاء الله، خشي أن يكون هذا من الاعتداد بقوة النفس، والاعتداد بما عند الإنسان من قدرة، فقال: ((غير أن عافيتك أوسع لي)) يعني: أوسع وأرحب من أن ينزل بي غضبك، أو أن ينالني سخطك، أو أن تشدد علي في البلاء.
((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة)). ولاشك أن كل نور فهو من نور الله -جل وعلا-، كل نور يضيء السبيل، ويهدي الطريق، فهو من نور الله -جل وعلا- ولذلك وصف الله نفسه بالنور، ووصف كتابه بالنور، ووصف أولياءه بأنه آتاهم نوراً، وأنهم على نور: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾[سورة:الأنعام (122)] والناس يتفاوتون في هذا النور تفاوتاً عظيماً، بقدر ما يكون معهم من التصديق، والإيمان، والقبول لما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما قال الله -جل وعلا-:﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا﴾[سورة: الشورى (52)]{ولكنجعلناه}أي هذا الروح، وهو ما أنزله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلى نبيه، من الهدى، ودين الحق ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا﴾. يقول: ((أن ينزل بي سخطك)). هذا المستعاذ له، يعني المطلوب من هذه الاستغاثة، وهذه الاستعاذة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك. ثم قال:((لك العتبى حتى ترضى)). لك العتبى، أي: لك الاعتذار، وطلب الرضا حتى يحصل رضاك((لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)) أي: لا تحول من هذه الحال الشديدة، التي أنا فيها، إلا بتحويلك وقوتك، فيه التبرؤ التام من كل حول وقوة، وكلة الأمر إلى الله جل وعلا.
وهذا يا إخواني، يحتاجه الإنسان، يحتاج الإنسان إلى أن يبث شكواه إلى رب العالمين، ومن بث شكواه إلى رب العالمين، فقد بثها إلى من بيده الأمر، الذي أمره إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.[سورة: يس (82)] فسرعان ما يحصل له الفرج، وتنكشف عنه [سدف] الظلام التي أحاطت به، وتنكشف عنه الكروب، لكن الناس يغفلون عن هذا، وتجد أنهم يشكون إلى غير الله -جل وعلا- ما نزل بهم، يشكون الله إلى خلقه، ولو أنهم شكوا إلى ربهم، لوجدوا ربًّا برًّا، رؤوفاً، رحيماً، قريباً، مجيباً، سبحانه وبحمده.