الدرس(12) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
ثم قال -رحمه الله-:
(وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته له، وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. فكذلك طمع العبد في ربه، ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه وإما على أهله وأصدقائه، وإمّا على أمواله وذخائره، وإمّا على ساداته وكبرائه، كمالكه ومَلِكِهِ وشيخه ومخدومه، وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت. قال ـ تعالى ـ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)﴾ [سورة: الفرقان (58)]
وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم، مدبراً لهم، متصرفاً بهم. فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة، ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيراً لها، تحكم فيه، وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، و لكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، و لاسيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها؛ فإنها حينئذ، تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم، في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأُسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئنّاً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم، رقيقاً، مستعبداً، متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره، هي التي يترتّب عليها الثواب والعقاب. فإنّالمسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغير حق، لم يضره ذلك، إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق، إذا أدى حق الله، وحق مواليه، فله أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر، فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك. وأما من استُعبد قلبه، فصار عبداً لغير الله؛ فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس. قال النبي -صلى الله عليه وسلم:«ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس».[صحيح البخاري(6446)، ومسلم(1051)] وهذا لعمر الله، إذا كان قد استعبد قلبه، صورة مباحة. فأما من استعبد قلبه، صورة محرمة، امرأة أوصبي؛ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة، إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبداً لها؛ اجتمع له من أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة، أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب منه، ويزول أثره من قلبه).
ولذلك يجب على المؤمن أن يعلق قلبه بالله-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- القلب يا إخواني وعاء، إذا ملئ بمحبة الله -جل وعلا- لم يكن فيه مكان لغيره، وإذا خلّط فيه الإنسان، اضطربت حاله، وأصبح نَهْبًا لكل ما يتعلق به، من صورة، أو مال، أو غير ذلك مما يتعلق به الناس.
فالواجب على المؤمن أن يملأ قلبه بمحبة الله، ومن ملأ قلبه بمحبة الله فرّغ الله قلبه من كل شيء؛ لأن محبة الله تملأ القلب، وتمنع تعلقه بغيره، قال الله -جل وعلا- :﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍلَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌنُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾.[سورة: النور (35)] هذا المثل الذي ضربه الله -جل وعلا- هو مثل نوره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في قلب عبده المؤمن، فإذا ملأ العبد قلبه بالرب، نظراً في صفاته، وتأملاً في أفعاله، ونظراً في أسمائه، وتدبراً في كتابه ؛لم يبق فيه تعلق لغيره، وهذا هو السعادة التامة.
أسعد الناس أعظمهم تعلقاً بالله، أسعد الناس أقلهم تعلقاً بالمخلوقين، على اختلاف ما يتعلق به الناس. من الناس من يتعلق بالمال، منهم من يتعلق بالولد، منهم من يتعلق بالزوجة، ومنهم من يتعلق بالصور المحرمة، من النساء المحرمات أو المردان، أو غير ذلك، كل هذا مما يشغل القلب، ويشتته، ويضعف قوته، ويكون له أثر على عمل الإنسان، وتقواه، وصلاحه.
فينبغي للمؤمن أن يخلي قلبه من هذا. المسألة تحتاج إلى مقاومة، إلى مجاهدة، إلى دوام نظر، إلى ما يملأ القلب، إذا حصل للعبد ذلك؛ فإنه سيوفق، ويصرف عنه هذه الأمور، أما إذا أطلق في نفسه الهوى، وتعلق بكل آت وذاهب؛ فإنه سيشتت قلبه في أودية كثيرة، ثم لا يجتمع على حق، ولا يقوم بخير، بل هو موتور، فاتر القوى؛ لتشتت همومه وتعلُّقاته.
والعبودية الحقيقية في عبادة الله -عز وجل-، كل من ظن أنه يتحرر بالتخفف من شريعة الله -عز وجل- فهو واهم، فإنّه من تخفف من شريعة الله؛ وقع في عبادة الشيطان، كما قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:[فروا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان]
(فروا من الرق الذي خلقوا له). ما هو الرق الذي خلقوا له؟ الرق لرب العالمين (وبلوا) أي وامتحنوا (برقّ النفس والشيطان). نعوذ بالله من الخذلان.
(وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين،كما قيل:
ومتى إفــاقة من به سُكرانِ |
|
سُكْرَان سكر هوى وسكر مدامة |
وقيل:
العشق أعظم مـما بالمجـانينِ |
|
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم |
وإنما يصرع المجـنون في الحينِ |
|
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه |
ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيءقط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر، يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف:﴿كَذَلِكَلِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾[سورة: يوسف (24)]فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتّباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه؛ انقهر له هواه بلا علاج. قال ـ تعالى ـ:﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾[سورة: العنكبوت (45)] فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر الله،وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه. فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التَّبع.
والقلب خُلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر، طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب، كما يَفسد الزرع بما ينبت فيه من الدَّغَل، ولهذا قال ـ تعالى ـ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10)﴾.[سورة: الشمس (9-10)]وقال ـ تعالى ـ: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15)﴾[سورة: الأعلى (14-15)] وقال: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾[سورة: النور (30)]وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾.[سورة : النور (21)] فجعل -سبحانه- غض البصر، وحفظ الفرج، هو أقوى في تزكية النفس، وبيّن أنّ ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور: من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك.وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مُقَدَّمَهُم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم؛ فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عمّا يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم.والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرضبغير الحق؛ كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين- لهواه الذي استعبده واسترقه- مستعبَد للآخر.
وهكذا أيضاً طالب المال؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان:
منها ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك. فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه،وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضيفيه حاجته، من غير أن يستعبده، فيكون هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.
ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغيله أن يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها؛ صار مستعبداً لها، وربما صار معتمداً على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه،بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله،وهذا من أحق الناس بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة»[رواه الطبراني في الأوسط(2595)، وقال الهيثمي في المجمع(17921):رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ] وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط. وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله،ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله تعالى.
وهذا هو الذي استكمل الإيمان، كما في الحديث: »من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان«[أخرجه أبو داود في سننه(4681)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(5965)] وقال:»أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ «[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه(30443)]وفي الصحيح عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:»ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان«. [صحيح البخاري(16)، ومسلم(43)]
حديث: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان))؛ لأنه استكمل عمل الظاهر والباطن. فعمل الباطن في قوله: ((من أحب لله وأبغض لله)). فإن الحب والبغض محله القلب، وقوله:((وأعطى لله ومنع لله)). هذا عمل الظاهر، فإذا كمَّل العبد عمل الظاهر والباطن فقد استكمل الإيمان. ثم انظر حيث ذكر أخص ما يكون، وهو عمل القلب، ثم ذكر أدنى ما يكون من التعلق، وهو المال، فقال: ((وأعطى لله ومنع لله)). ومن كان عبداً لله في أخص الأشياء وأدناها، فيما يتعلق بعمل القلب، وفيما يتعلق بالمال الذي هو مما يبذله الإنسان، لحفظ نفسه أو ولده، أو من يحب؛ فإنه دال على صدقه في إيمانه؛ لاستكمال خصال الإيمان، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها.
قسم الشيخ الأمور التي يحصل بها التعلق إلى قسمين:
القسم الأول: ما يحتاج العبد إليه، قال: (من طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك). وهذا يكون النظر إليه يقول: (فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه. فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه). وهل يكون الحمار في قلب العاقل البصير في القلب؟ أو يكون وسيلة لتحقيق المطلوب؟ لاشك أنه وسيلة لتحقيق المطلوب، لا يكون في قلبه، يهتم به، وينظر إليه، ويراقبه ليل نهار. إنما ينظر إليه فقط، لحصول حاجته وتحصيل مقصوده. يقول رحمه الله:(بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته) هذا أعلى الدرجات (من غير أن يستعبده، فيكون هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً).
القسم الثاني: مما تتعلق به النفوس، ما لا يحتاج العبد إليه، يقول: (فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به). بل ينبغي له أن يتخفف ويتقلل منه، وإذا كان في يده، فليصرفه في طاعة الله -عز وجل-، يقول: (فإذا علق قلبه به؛ صار مستعبداً له، وربما صار معتمداً على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة [لله]، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله). ومثل لذلك بقوله: ((تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة)). هذا لكونه تعلق بهذه الأشياء مع استغنائه عنها، وعدم حاجته لها؛ فصار تعلقه بها، ونظره إليها، كالعبودية لها، ولذلك أضاف العبودية لها في قوله: ((عبد الدرهم، عبد الدينار، عبد القطيفة، عبد الخميصة)). نعم.
(وفي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار». فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه، فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله، لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله، فإنمحبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب. فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله؛لأجل قيامهم بمحبوبات الحق،لا لشيء آخر،فقد أحبهم لله لا لغيره، وقد قال ـ تعالىـ:﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.[سورة: المائدة (54)]
ولهذا قال ـ تعالى ـ:﴿قُل إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾.[سورة: آل عمران (31)] فإن الرسول يأمر بما يحب الله، وينهى عما يبغضه الله، ويفعل ما يحبه الله، ويخبر بما يحبّالله التصديق به،فمن كان محبّاً لله، لزم أن يتّبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل. ومن فعل هذا، فقد فعل ما يحبه الله؛ فيحبه الله،فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتّباع الرسول، والجهاد في سبيله.
وذلك لأن ّالجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله، من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفْع ما يبغضه الله من الكفر، والفسوق، والعصيان، وقد قال ـ تعالىـ:﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾.[سورة: التوبة (24)]فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد.بل قد ثبت عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في الصحيح أنه قال:«والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».[صحيح البخاري(14)، ومسلم(44)]
وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال له:يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي. فقال:«لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك».فقال:والله لأنت أحب إلي من نفسي.فقال:»الآن يا عمر«[صحيح البخاري(6632)].
فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان، ومعلوم أنّالحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة، استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات. فإذا كان العبد قادراً عليها حصّلها، وإن كان عاجزاً عنها، ففعل ما يقدر عليه من ذلك؛ كان له كأجر الفاعل، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن دعا إلى ضلالة؛ كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء«.[صحيح مسلم(2674).]
الأجر فيمن دعا إلى الهدى، هو أجر الدلالة، لا أجر العمل، وكذلك فيمن دعا إلى ضلالة، الوزر وزر الدعوة إلى الضلالة، لا وزر العمل ؛ لأن العمل لم يعمله، إنما دعا إليه، فالوزر والأجر في الحديث، هو وزر الدعوة إلى الضلالة وأجر الدعوة إلى الهدى فيمن دعا إلى الهدى. نعم.
(وقال:«إن بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم)). قالوا:وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر»[أخرجه البخاري في صحيحه(4423)، ومسلم(1911)]
وهذا شاهد لما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- من أن العبد إذا كان ناوياً لعمل الخير، لكنه عجز عنه، ففعل ما يقدر عليه من ذلك؛ كان له أجر كأجر الفاعل، فهؤلاء قوم لم يتمكّنوا من الخروج لعذر، حبسهم المرض، أو حبسهم العذر كما في هذه الرواية؛ كتب الله لهم الأجر كاملاً وافياً ؛ لأنهم عملوا ما يستطيعون، وهو عمل النية، والقصد، والرغبة الصادقة في موافقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والخروج معه، والجهاد في سبيل الله، فلما وافقوه بقلوبهم، وتخلفت أجسامهم؛ كتب الله لهم الأجر؛ لما كان لهم من العذر المانع من الخروج.