الدرس(13) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
(والجهاد هو بذل الوسع، وهو كل ما يُملَك من القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق. فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد؛ كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه. ومعلوم أن المحبوبات لا تُنال غالباً إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة. فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم، إلا بضرر يلحقهم في الدنيا، مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة. فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله، مما يحتملون في سبيل حصول محبوبهم؛ دل ذلك على ضعف محبتهم لله، إذا كان ما يسلكه أولئك في نظرهم هو الطريق الذي يشير به العقل).
(هنا نقص كبير من كلام الشيخ حفظه الله)... بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره)). يعني: ما تكرهه النفوس. فلابد من الصبر، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾[سورة: الزمر(10)] ؛ لأن الصبر به يحصل الإنسان على ما يرغب من فضل الله ورحمته، نعم.
ثم قال:
(ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبًّا لله، كما قال تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾[سورة : البقرة(165)] .نعم، قد يسلك المحبُّ-لضعف عقله، وفساد تصوره- طريقاً لا يحصِّل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة،فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل،كما يفعله المتهورون في طلب المال، والرئاسة، والصور في حب أمور توجب لهم ضرراً، ولا تحصل لهم مطلوباً، وإنما المقصود الطرق التييسلكها العقل السليم لحصول مطلوبه، وإذا تبين هذا (فكلما ازداد القلب حبًّا لله؛ ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية؛ ازداد له حبًّا وفضّله[في نسخة (حرية عما سواه)] عما سواه).
الله أكبر! فمن ادعى محبة الله -جل وعلا- دون أن يقدم لذلك برهاناً من العمل الصالح، وترك ما نهى الله -جل وعلا- عنه فإنه كاذب في دعواه، ولذلك أنزل الله -جل وعلا - هذا المعيار الفاصل لما كثر المدعون للمحبة، كما يقول ابن القيم-رحمه الله- وغيره من أهل العلم: أنزل الله -جل وعلا- قوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾[سورة: آل عمران(31)] ؛ ليميز الله -جل وعلا- بين المحبة الكاذبة والمحبة الصادقة، محبة الأدعياء ومحبة الأولياء، فمحبة الأدعياء خالية من عمل صالح، أما محبة الأولياء فهي مقرونة بامتثال الأمر وترك النهي، والمسارعة في طاعة الله -عز وجل- وما يحب رغباً ورهباً.
والمؤلف -رحمه الله- إنما خص المحبة بالحديث في هذا المقطع؛ لأن المحبة ركن العبادة؛ لأن العبادة لا تقوم إلا على غاية الحب، وغاية الذل. الآن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- تكلم عن المحبة، وأنها لابد أن تكون خالصة لله، وأنه لا يمكن أن يكون الإنسان محبًّا إلا إذا بيّن ذلك بتحقيق العبودية لله -جل وعلا- ولا يمكن أن يكون عبداً إلا إذا أخلص المحبة، وصرفها لله جل وعلا.
يقول -رحمه الله-:
(والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية. ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة.فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلّا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن. إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة والنعمة، والسكون والطمأنينة).
هذا الكلام كلام نفيس، قرر فيه المؤلف -رحمه الله- افتقار العبد لمحبة الرب -جل وعلا- وأنه لا قوام له إلا بهذه المحبة، لا يمكن أن ينال سعادة، ولا لذة، ولا طمأنينة، ولا سكوناً، ولا ابتهاجاً، ولا فرحاً، ولا سروراً، ولا شيئاً من هذه المعاني إلا بتحقيق المحبة لله ـ عز وجل ـ ومهما كان الإنسان متمكناً من أسباب السرور، والابتهاج، والفرح في الدنيا، إلا أنه إن لم يأخذ بهذا الباب، وبهذا السبب وهو محبة الله -عز وجل- فإنه لا يجد طمأنينة، ولا سكوناً. ولذلك يقول المؤلف -رحمه الله: (ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن دون محبة الله -جل وعلا- إذ فيه فقر ذاتي) ، يعني فقر لا يمكن أن يتخلص منه، فقر موصوف به لا يمكن أن ينفك عنه. وهو فقره إلى الرب -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّالْحَمِيدُ ﴾[سورة: فاطر(15)].فينبغي للعبد أن يسد هذه الفاقة، وأن يغني هذا الفقر بالالتجاء إلى الرب - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وتحقيق المحبة له - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دون غيره، وبه يحصل له المسرات، به يحصل الفرح، به يحصل الانشراح، به يحصل كل سعادات الدنيا، وأما سعادات الآخرة فلا إشكال أن بابها الأقوم، وصراطها الذي لا عوج فيه هو تحقيق العبودية لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -.
هذا الأمر الأول، وهو ما أشار إليه في قوله: (فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية) يعني:التي من أجلها خلق الله الخلق، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[سورة: الذاريات (56).]. فاللام هنا للتعليل، والعلة هنا علة غائية. يعني: الغاية من الخلق تحقيق العبودية لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -وذلك أيضاً في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[سورة : الملك(2).].أما الوجه الثاني فهو ما يأتي في كلام المؤلف الآن:
(وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله؛ فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[سورة: الفاتحة (5)] .فإنّه لو أعين على حصول ما يحبه، ويطلبه، ويشتهيه، ويريده، ولم يحصل له عبادة لله؛ فلن يحصل إلا على الألم، والحسرة، والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها، إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله).
وهذا فيه تقرير المعنى الثاني الذي احتوت عليه هذه الآية الكريمة في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾. فإنه إذا لم يعن الله -جل وعلا- العبد على تحقيق المحبة؛ فإنه لا سبيل إلى تحصيلها. السكون والطمأنينة، والفرح، والابتهاج، والسرور، واللذة في محبة الله -جل وعلا-، ما الطريق إلى تحصيلها؟ الطريق الاستعانة بالله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾. الاستعانة بالله -عز وجل- والتبرؤ من الحول والقوة، وشهود الحاجة، والافتقار إلى عون الله -عز وجل- في تحقيق ذلك، فإنه من لم ييسر الله –جل وعلا- له الخير لم يتيسر، ومن لم يوفقه إلى البر لم يوفَّق، وكل خير تحصله، وكل بر تَطْرُقه، إنما هو بتيسير الله، وفضله، وإحسانه، وجوده.
فعلى هذا ينبغي للمؤمن أن يسعى في تحقيق محبة الله -عز وجل- وتحقيق ما أمر به، مستعيناً بالله -عز وجل- في ذلك. ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في وصيته لمن يحب، لمعاذ بن جبل: «يا معاذ! إني أحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك».[أخرجه أبو داود في سننه(1010)، وقال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»، ووافقه الذهبي.] دُبُرَ كل صلاة، يعني في خاتمة كل صلاة، ومعلوم أن الدعاء في خاتمة الصلاة من مواطن الإجابة. فأمره بملازمة هذا الدعاء ؛ لأنه لا يتحقق للإنسان الفلاح، والنجاح، وتحصيل المطلوب إلا به.
فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذين الأمرين:
- أنه لا سعادة له إلا بمحبة الله -عز وجل-.
- ولا يمكن أن يدرك محبة الله -عز وجل- إلا بطلب العون منه.
فالكل منه وإليه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. نعم.
(فمتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله).
هذا المقطع يشير إلى الجهة الثانية التي فيها فقر الإنسان، من جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة. يعني: أن العبد لا يمكن أن يحصِّل ما يريد؛ إلا إذا قدره الله له، وإذا أعانه عليه، ويسره له، فهو فقير إلى الله -جل وعلا- شرعاً، فقير إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قدراً، فلا غنى به عن عبادة الله، ولا غنى به عن إعانة الرب-جل وعلا- في تحقيق وتحصيل مطلوبه.
(فمتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعيناً بالله، متوكلاً عليه، مفتقراً إليه في حصوله؛ لم يحصل له. فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب، المراد، المعبود،ومن حيث هو المسؤول، المستعان به، المتوكل عليه؛ فهو إلهه، لا إله له غيره، وهو ربه، لا رب سواه ).
المؤلف -رحمه الله- في هذا المقطع، ذكر موجب تخلف هذين الأمرين؛ يعني: ذكر ما يقتضيه تخلف واختلال هذين الأمرين. فإذا أحب العبد غير الله -جل وعلا- مهما كان هذا المحبوب؛ فإنه لا يجني منه إلا الألم والحسرة والعذاب. وإذا قصد محبة الله ولم يستعن به على تحصيل محبوبه؛ فإنه لا يدرك المحبوب، ولا يحصل إلا على الألم والعذاب والحسرة. فكمال العبد وسلامته من هذه الأكدار أن يحقق هذين الأمرين المجموعين في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾[سورة: الفاتحة(5)]. تحقيق العبودية مع تحقيق الاستعانة به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في ذلك. يقول: (ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين) يريد الأمرين اللذين تقدم ذكرهما. نعم.
(ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبداً لما أحبه، وعبداً لما رجاه، بحسب حبه له ورجائه إياه. وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصّل ما حصّل منها، كان مشاهداً أنّ الله هو الذي خلقها، وقدرها،وسخرها له، وأنّ كل ما في السماوات والأرض فالله ربه، ومليكه، وخالقه،ومسخره،وهو مفتقر إليه؛ كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك).
الله أكبر! هذا فيه الإشارة إلى أن الاستعانة بالله -عز وجل- لا يلزم منها إلغاء الأسباب، لا يلزم من الاستعانة بالله -عز وجل- أن يلغي الأسباب، لكن الذي ينبغي أن يستحضره الإنسان في هذه الأسباب أنها من قدر الله -جل وعلا- فإن الله قدر المطلوب وقدر أسبابه، وما من سبب إلا بتيسير الله وتقديره، فإذا لم ييسر الله السبب، ويقدر حصول الشيء به؛ فإنه لا يتيسر، لا يحصل، فالاستعانة بالله لا تعني أن يتخلى الإنسان عن الأخذ بالأسباب، بل يجب عليه أن يأخذ بالأسباب ليحصِّل مطلوبه. نعم.
(والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصي طرقها[في نسخة طرفيها] إلا الله. فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى الله، وأقواهم، وأهداهم، أتمهم عبودية لله من هذا الوجه.
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر).
الآن الشيخ -رحمه الله- في هذا المقطع، يتحدّث عن الركن الثاني من أركان العبادة الذيلا يحصل الاستسلام، ولا تتحقق العبودية إلا به، وهو الذل لله -جل وعلا- والتعظيم له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. وكل من لم يذل للرب -جل وعلا- فإنه ليس عبداً له، وفي عبوديته قصور، ونقص. ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيان أن الكبر ينافي العبودية:«إن الجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»[صحيح مسلم(91)] مثقال يعني: ميزان، وزن، المثقال نوع من الوزن، وزن ذرة من كبر، والذرة قد لا تدركها العيون؛ لصغرها وخفة جرمها. مع ذلك إذا كان في قلب العبد هذا المثقال، هذا القدر من الكبر منعه من دخول الجنة، والمنع هنا ليس المنع المؤبد، أي أنه من أهل النار الكافرين، لكنه المنع الذي يمنع الدخول الابتدائي، حتى يطهَّر من هذا، وينقى ويمحص، ويزال ما في قلبه من كبر، حتى يصلح أن يكون من أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة هم الأذلاء لله رب العالمين، هم عبادالله الذين حققوا العبودية، ليس في قلوبهم نجس، وليس فيها كدر، وليس فيها وسخ، بل هي طاهرة منقاة.
فإن الله -جل وعلا- جعل الجنة دار الطيبين، والكبر ينافي الطيب. نعم، يقول رحمه الله: (والممتنع عن الاستسلام له مستكبر)، ثم قال:
(وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-«أنّ الجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر»، «كما أن النار لا يخلد فيهامن في قلبه مثقال ذرة من إيمان». [أخرج الإمام الترمذي في سننه(2598): أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الإِيمَانِ»]فجعل الكبر مقابلاً للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال: «يقول الله: العظمة إزاري،والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته».[أخرجه البيهقي في الشعب(7808)، وصححه الألباني في صحيح الجامع.]فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة، ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار).
والرداء أرفع وأعلى من الإزار، والكبرياء يشمل ويتضمن العظمة، دون العكس. ولذلك جعل الكبرياء له سبحانه، فله-جل وعلا- الكبرياء في السماوات وفي الأرض، والعظمة له -سبحانه وتعالى- لكن الكبرياء لا يكون إلا له -جل وعلا-، ولا يوصف إلا به. وهذا مما يختص به الرب بإجماع أهل العلم، فهو -سبحانه وتعالى- المتكبر، وكل من اتصف بهذه الصفة، فقد نازع الله -جل وعلا- ما اختص به، وكذلك العظمة ؛ لكن الكبرياء أشرف وأعلى، ويدل عليها ما ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جعل الكبرياء بمنزلة الرداء، ومن جعل العظمة بمنزلة الإزار، والرداء عند الناس أعلى وأرفع من الإزار، هذا وجه.
الوجه الثاني مما يدل على أن الكبرياء أعظم من العظمة، وأشمل، وأوسع. يقول:
(ولهذا كان شعار الصلوات، والأذان، والأعياد هو التكبير، وكان مستحبًّا في الأمكنة العالية كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفاً، أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم).
كما ورد في بعض الأحاديث أنه يطفأ به الحريق، فإذا اشتعل الحريق، شرع التكبير. إلا أن الحديث الوارد في هذا فيه ضعف[أخرجه الطبراني في الدعاء(1002)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع(504)] ، ولعل الشيخ -رحمه الله- ذكره على وجه الاستحباب، ومعلوم أن الحديث إذا كان ضعفه ليس بالقوي؛ يكون الحكم المضمّن، إن كان أمراً للاستحباب، وإن كان نهياً للكراهة، على القاعدة التي ذكرها ابن مفلح في النكت.
(وعند الأذان يهرب الشيطان. قال ـ تعالى ـ:﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[سورة: غافر(60)]).
ومما يدلك على أن الكبرياء أعظم من العظمة، وأوسع، وأرفع، أنه لا يجزئ بإجماع أهل العلم، أن يقول الإنسان في صلاته عوضاً عن "الله أكبر"، أن يقول: "الله أعظم"، أو "الله أجلّ". هذا بالإجماع لهذه العلة، وأيضاً لكون الأذكار في الصلاة توقيفية. نعم.
(وكل من استكبر عن عبادة الله، لابد أن يعبد غيره. فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة).
قوله: (حساس)، أي يدرك الأمور بحواسه، وقوله: (يتحرك بالإرادة)، أي إنه لا يخلو من إرادة. فهو مريد على كل حال، لا يمكن أن يخلو قلب الإنسان من إرادة، لكن الذي يختلف فيه الناس هو ما يقوم في قلوبهم من المرادات:
فمنهم من يريد الخير ويريد البر.
ومنهم من يقع في إرادة الشر والفساد.
وإلا فإن كل نفس مشغولة لا بد لها من إرادة، كما قال الله- جل وعلا-: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾[سورة: البلد(10)]. وكما قال -I-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[سورة: الشمس(9،10)] في النفس، فإنه لا بد إمّا من فلاح أو خيبة، لا بد من تزكية أو تدسية ما فيه، فالإنسان يتحرك بالإرادة، هذا معنى قول المؤلف -رحمه الله-: (فإنّ الإنسان حساس يتحرك بالإرادة). فمن امتنع واستكبر عن عبادة الله -جل وعلا- اشتغلت نفسه بعبادة غيره، إمّا من الأصنام، أو الأوثان، أو غير ذلك من المعبودات، أو الهوى، وعبادة النفس والشيطان.