الدرس(14) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
قال ـ رحمه الله ـ:(وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال: «أصدق الأسماء: حارث وهمام» أخرجه أبو داود (4950)، وأحمد (19054).فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعّال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائمة، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب، هو منتهى حبه وإرادته. فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك؛ فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عبد من دون الله).
قوله -رحمه الله-: (وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أصدق الأسماء: حارث وهمام» أخرجه أبو داود (4950)، وأحمد (19054).
المعلقون على هذه الرسالة ممن حققها، استدركوا على الشيخ -رحمه الله- أن الحديث ليس في الصحيحين، لا في البخاري ولا في مسلم. ولكن استعمال هذه العبارة يظهر من استعمال الشيخ لها أنها أوسع من كون الحديث في الصحيحين، أو في أحدهما: في البخاري أو في مسلم. فهو يقول: وفي الصحيح، أو ثبت في الصحيح. والمراد به الحديث الصحيح، سواء كان عند البخاري ومسلم، أو عند غيرهما، فلا يلزم من هذا الاستدراك، لاسيما والإمام شيخ الإسلام –رحمه الله- ابن تيمية من الحفاظ المتقنين؛ فيبعد أن يهم في هذا، على أن الوهم لا يسلم منه أحد، لكن في عدة مواضع يقول الشيخ -رحمه الله-: "وفي الصحيح"، أو "وثبت في الصحيح"، وليس مراده بذلك البخاري ومسلم، وإنما مراده ثبت في الحديث الصحيح. نعم.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصدق الأسماء: حارث وهمام». ثم فسر الحارث بالكاسب للفعل، والهمام: فعّال من الهم، أي كثير الهم، وهمومه كثيرة. ولكن ينبغي أن يجمع هذه الهموم فيما يعود عليه بالخير من نفع دنيوي تستقيم به حياته ومعاشه، ونفع أخروي تصلح به آخرته.نعم.
المراد بـ(المال) واضح، و(الجاه) واضح، و(الصور) يعني: الصور التي تتعلق بها النفوس من الصور المباحة كالنساء من الزوجات، والجواري اللواتي يملكهن الإنسان، أو من الصور المحرمات كالنساء الأجنبيات، وغيرها من الصور التي يحصل بها الفتنة، ولو كان ذلك من صور المرد والصبيان، ممن ابتلوا بذلك. نسأل الله السلامة والعافية. نعم.
(وإذا كان عبداً لغير الله؛ يكون مشركاً، وكل مستكبر فهو مشرك. ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباراً عن عبادة الله، وكان مشركاً. قال ـ تعالى ـ:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)﴾[سورة: غافر (23-24)] إلى قوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(27)﴾[سورة: غافر (27)] إلى قوله:﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)﴾[سورة : غافر (35)]. وقال ـ تعالىٰ ـ: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)﴾.[سورة: العنكبوت (39)] وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾[سورة: القصص (4)] إلى قوله:﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)﴾[سورة: القصص (40)].وقال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَكَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)﴾[سورة: النمل (14)].
ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾.[سورة: الأعراف (127)] بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله؛ كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله؛ ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب، الذي هو المقصود، مقصود القلب، بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك).
هذه فائدة مهمة. يقول -رحمه الله-: (بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله؛ كان أعظم إشراكاً بالله). أولاً الاستقراء هو التتبع والنظر في الأدلة. فالاستقراء في ذاته ليس دليلاً، إنما هو ثمرة النظر في الأدلة، هذا معنى الاستقراء.
(الاستقراء يدل على أنه كلما) -يعني التتبع للأدلة من الكتاب والسنة- (يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم شركاً بالله) لماذا؟ يقول: (لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود). تقدم لنا قبل قليل أن النفس وأن القلب فقير، فقر ذاتي لا بد أن يشتغل بمحبوب. فإذا استغنى عن محبة الله، استغنى عن التعلق بخالقه، بُلِيَ بالتعلق بغير الله -جل وعلا-، واشتدت فاقته وحاجته إلى ما يتعلق به؛ ولذلك كان أعظم تعلقاً بغير الله، ومنه قول الله -جل وعلا- في أحد المعنيين: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾[سورة: البقرة(165)].فهؤلاء لما عطلوا قلوبهم عن محبة الله؛ ملئت قلوبهم بمحبة غيره، فتعلقت قلوبهم بغير الله -جل وعلا- وأحبوا غيره دونه -سبحانه وتعالى- أما أهل الإيمان فإنهم على كل حال أشد حبًّا لله من هؤلاء الذين يحبون غيره؛ لأنهم أحبوا من يستحق المحبة سبحانه وتعالى.
(ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات، إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله.فكلما قوي إخلاص دينه لله...).
بهذا تتحقق محبة الله -عز وجل- بهذا نحقق محبة الله، بما ذكر -رحمه الله- من أنه يعبد الله ولا يعبد سواه، يستعين بالله ولا يستعين بغيره، لا يتوكل إلا عليه، لا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، إلى آخر ما ذكر -رحمه الله- بهذا تتحقق للعبد المحبة التامة الكاملة. نعم.
(فكلما قوي إخلاص دينه لله؛ كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته للهتكمل تبرئتهمن الكبر والشرك. والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال ـ تعالى ـ في النصارى:﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[سورة: التوبة(31)] وقال في اليهود:﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾[سورة : البقرة(87)] وقال ـ تعالى ـ:﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾[سورة: الأعراف(146)] ولما كان الكبر مستلزماً للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره الله. قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾[سورة: النساء(48)]، وقال: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ﴾[سورة : النساء(116)] كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، لا من الأولين، ولا من الآخرين. قال نوح-عليه السلام-:﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.[سورة: يونس(72)]وقال في حق إبراهيم-عَلَيْهِ السَّلاَمُ-:﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)-إلى قوله:-فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[سورة: البقرة(130- 132)]. وقال يوسف-عليه السلام-:﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾.[سورة : يوسف(101). ] وقال موسى-عليه السلام-:﴿يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا﴾[سورة: يونس (84- 85).] وقال ـ تعالى ـ:﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾[سورة: المائدة (44)] وقالت بلقيس:﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة: النمل (44). ] وقال:﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾[سورة: المائدة (111)] وقال:﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾.[سورة: آل عمران (19)] وقال:﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾[سورة: آل عمران (85)] وقال ـ تعالى ـ:﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[سورة: آل عمران (83)]).
كل الآيات السابقة قبل هذه الآية فيها ذكر الإسلام الاختياري الذي أمر الله -سبحانه وتعالى- به عباده، وأرسل به الرسل، وهو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة. فإن الرسل جميعاً دعوا إلى الإسلام: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾،﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾. فالإسلام الذي ذكره الله -جل وعلا- في هذه الآيات، هو الاستسلام لله -جل وعلا- بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك. وهذا المعنى قد دعت إليه جميع الرسل، لا تختص به رسالة دون غيرها، بل جميع المرسلين من لدن نوح - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلى آخرهم خاتمهم، وأشرفهم، وسيدهم محمد بن عبد الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم دعوا إلى إفراد الله بالعبادة -سبحانه وتعالى- وأن لا يُعبد غيره سبحانه وتعالى- وأن لا يعبد إلا بما شرع. الشرائع اختلفت لكنهم جميعاً أمروا بأن لا يعبد إلا بما شرع -سبحانه وتعالى- فهم متفقون من حيث الأصول.
وأما الآية الأخيرة فهي قوله ـ تعالى ـ: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾. يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ-:
(فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره. وهم مدينون له مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه، وقدره، وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم، وبارئهم، ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبَّد، مقهور، وهو –سبحانه- الواحد، القهار، الخالق البارئ، المصور).
فمعنى قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[سورة: آل عمران(83)] يقول الشيخ -رحمه الله-: (فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرها) الكائنات تشمل كل شيء في السماء والأرض سوى الله -جل وعلا-؛ (لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام)، أو مُتَعَبَّدَة، مُتَعَبَّدَةٌ له التعبد العام، أي إنها تعبده التعبد العام الذي لا يخرج عنه شيء، وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾.[سورة: الإسراء(44)] يسبح له من في السماوات ومن في الأرض، فالله -جل وعلا- يسبح له ما في السماوات وما في الأرض. فكل شيء يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذه هي العبودية العامة التي انتظمته.
هناك معنى آخر من العبودية، وهو أن الجميع تحت قهره وتدبيره، لا خروج لهم عن قدره-سبحانه و تعالى- عن علمه، كتابته، خلقه، مشيئته- سبحانه وتعالى- فالجميع مخلوقون له مربوبون، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾[سورة: مريم(93)] فمعنى العبودية القهرية هي العبودية التي تكون بعدم الخروج عن القضاء والقدر، وتكون أيضاً بالمعنى الذي يعبد الله -جل وعلا- في ساعة الاضطرار قهراً، فإنه ليس عابداً له اختياراً، كما قال سبحانه وتعالى:﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[سورة: الإسراء(67)] فإنهم يدعون الله -جل وعلا- في حال الضرورة. نعم.
(وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب والمقدِّر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا).
المشار إليه ماذا؟ (وهو مفتقر إليه)يعني: السبب، السبب مفتقر إلى الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، الله -جل وعلا- قدر الأسباب والمسببات، أي المقدورات –ما ينتج عنها- لكن السبب لا يمكن أن يحصل به المطلوب، إلا بتقدير الله –جل وعلا- فالله قدر السبب، والسبب مفتقر إلى الله -جل وعلا- إذا لم يقض الله-جل وعلا- بكون الشيء عند السبب بالسبب؛ فإنه لا يكون.
ولذلك قال: (وهو مفتقر إليهكافتقار هذا) يعني: كافتقار المسبب للسبب. فالولد لا بد فيه من وطء، أليس كذلك؟ طيب، الوطء سبب مفتقر إلى الله –جل وعلا-، فإذا لم يقدر الله -جل وعلا- بهذا السبب المسبب المقدور لم يحصل. نعم.
(وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضرر،بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضدّالذي يعارضه ويمانعه.
وهو ـ سبحانه ـ وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه، ولا ضد يناوئه ويعارضه، قال ـ تعالىـ:﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.[سورة: الزمر(38)] وقال ـ تعالىـ:﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ﴾.[سورة: الأنعام(17)] وقال ـ تعالى ـ عن الخليل–عليه السلام-:﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا﴾- إلى قوله ـ تعالىـ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾[سورة: الأنعام (78-82)]
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-أن هذه الآية لما نزلت؛ شق ذلك على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وقالوا:يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فقال:«إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح :إن الشرك لظلم عظيم»[صحيح البخاري(3360)]---
وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين، حيث بعث وقد طَبَّقَ الأرضَ دينُ المشركين. قال الله ـ تعالى ـ:﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾[سورة: البقرة (124)] فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم،فلم يأمر الله –سبحانه- أن يكون الظالم إماماً، وأعظم الظلم الشرك. وقال ـ تعالىـ:﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)﴾[سورة: النحل (120)] والأمّة هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أنّ القدوة الذي يُقتدى به).
قوله ـ تعالىٰ ـ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾. معنى﴿أُمَّةً﴾أنه معلم للخير يؤتم به. وإنما سمي من كان كذلك أمة؛ لأن الأمة أصلها الكثرة والاجتماع، ومن كان إماماً في الخير كإبراهيم -عليه السلام- في قوله ـ تعالى ـ:﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾.فقد اجتمع فيه من خلال الخير، والبر والصلاح، والاستقامة ما يجعله أمّة، يعني: ما تفرق في الأمة من خلال الخير والبر، اجتمعت فيه، وهذا يدل على تقدمه وكثرة خصال الخير فيه، حيث إنه وصف بهذا الوصف الجامع الذي لا يطلق إلا على العدد الكثير المتعدد، ﴿قَانِتًا﴾أي دائم العبادة. القنوت هو دوام العبادة، فهو دائم العبادة. ﴿حَنِيفًا﴾أي مائلاً عن الشرك، مستقيماً على التوحيد، وأصل الحنيف: حَنَف وهو الميل، لكنه ميل عن الضلالة إلى الهدى، يقابله الجنف وهو ميل من الهدى إلى الضلالة. نعم.
(والله ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب،وإنما بعث الأنبياء بعده بملته. قال ـ تعالى ـ:﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَمِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[سورة: النحل(123)] وقال ـ تعالى ـ:﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين﴾[سورة: آل عمران(68)] وقال ـ تعالىـ:﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[سورة: آل عمران(67)] وقال ـ تعالى ـ:﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ –إلى قوله:-وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[سورة : البقرة(135- 136)]).
قوله -رَحِمَهُ اللهُ-: (والله ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب) أي ذرية إبراهيم -عليه السلام-، فما من نبي بعث، ولا كتاب أنزل إلا في ذريته بعده –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- قال: (وإنما بعث الأنبياء بعده بملته). الملة هي الدين، ولكن تختص بأنها في الغالب لا تضاف إلا إلى الفرد، لا تضاف إلى الله -عز وجل- فلا يقال: ملة الله، إنما يقال: ملة إبراهيم، ملة محمد، وما أشبه ذلك؛ فهي تضاف إلى العابد، لا إلى المعبود، والمقصود بالملة: الدين والطريقة ؛ يقول ـ تعالى ـ في بيان أنه ما من نبي إلا جاء على ملة إبراهيم بعده: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[سورة: النحل(123)] وذكر أيضاً الآيات الدالة على هذا.