الدرس(16) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
(وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين: إما من تعدي حدود الله، أومن تضييع حقوق الله،وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها ،كقول بعضهم:أي مريد ليترك في النار أحداً فأنا بريء منه.فقال الآخر:أي مريد ليترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا بريء منه.
فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.
والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.
ويقول بعضهم:إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتيعلى جهنم حتى لا يدخلها أحد.
وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين،وهي إما كذب عليهم وإما غلط منهم).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالمؤلف -رحمه الله- في هذا المقطع يبين خطأ من ضل في محبة الله -جل وعلا- وأسرف على نفسه وزين له شيطانه ما هو عليه من ضلال مبين، يقول -رحمه الله-: (وكثير من السالكين) أي:طريق الزهد والتعبد (سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين). ثم ذكر من ذلك ثلاث طرق جامعة:
الطريق الأولى: (إما من تعديحدود الله) أي: وقع في المحرمات وأسرف على نفسه بانتهاك الحرمات.
(وإما تضييع حقوق الله). وهو بترك الواجبات.
(وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها). وهذا ثالث ما وقع لهؤلاء من الضلال والشر في مسألة المحبة.
الشيخ -رحمه الله- مثّل للنوع الأخير لوضوح الأول والثاني، الأول والثاني واضح وتقدم الكلام عليهما في ثنايا هذه الرسالة.
وأما النوع الثالث وهو الدعاوى الباطلة، فإنه لم يشر إليه من قبل إشارة بالتمثيل، فذكر لذلك أمثلة من هذه الأقوال التي تنبئ عن جهل صاحبها بالله -عز وجل- وجهله بقدر نفسه، وتنبئ عن إعجاب بالنفس عظيم؛ إذْ لا يمكن أن يصدر مثل هذه الأقوال إلا ممن رأى لنفسه على الله حقًّا، وإذا رأى الإنسان لنفسه على الله حقًّا فقد أصيبت مقاتله؛ لأن الحق كله لله والفضل كله لله، فهو الذي وفق للطاعة، وهو الذي هدى السبيل، وهو الذي أنار البصيرة، وهو الذي سهّل للعبد سلوك الصراط المستقيم، فله الفضل والمنة والإحسان سابقاً ولاحقاً.
فمن رأى لنفسه على الله فضلاً يُدل به عليه، ورأى لنفسه حقّاً على الرب -جل وعلا- فقد ضل سواء السبيل، وقد أتي من حيث لا يشعر، وإن استرسل به الأمر فإن هذا سيحيط بعمله ويلحقه بالحابطة أعمالهم.
يقول -رحمه الله- في التمثيل- آخرها-: (ويقول بعضهم:إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد). وكأن له من المكانة والمنزلة ما يستخرج به الناس؛ بل ما يمنع به الناس من دخول النار ممن استحقها.
ثم يقول الشيخ -رحمه الله- في ذلك معلقاً على هذه الأقوال: (وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثَر) أي تنقل(عن بعض المشايخ المشهورين) في العبادة والزهد، وليس هؤلاء من مشايخ العلم، وإنما هم مشايخ العبادة والزهد، يقول:(وهي إما كذب عليهم). وهذا ممن عرف عنه الاستقامة، (وإما غلط منهم). وهذا ممن قلت بضاعته في العلم. ثم يقول-رحمه الله-:
(ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة وفناء، يسقط فيها تمييز الإنسان أو يضعف حتى لا يدري ما قال، والسكر هو لذة مع عدم تمييز، ولهذا كان من هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام).
وهذا السكر ليس سكر خمر بل هو سكر هوى، وسُمِّي السكر بهذا الاسم لأنه يُسَكِّر على العاقل التفكير، ويغلق على النظر التأمل والاعتبار، فهؤلاء سكارى، لكنهم ليسوا سكارى شراب وخمر،إنما هم سكارى هوى وضلالة.
ولذلك يقول الشيخ-رحمه الله-: (إن ّبعض هؤلاء إذا صحا من هذا السكر استغفر من ذلك الكلام).
أما هل يؤاخذون أو لا يؤاخذون فهذا أمره وبحثه له شأن آخر، إنما الكلام أن هذه الأقوال إن صح نسبتها لمن هو مشهور بالعبادة والزهد فهي محمولة على هذا الوجه. يقول -رحمه الله-: (والذين توسّعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، فإن هذا الجنس يحرك ما في القلب من الحب كائناً ما كان، ولهذا أنزل الله محنة يمتحن بها المحب فقال:﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾[سورة: آل عمران (31)] فلا يكون محبًّا لله إلا من يتبع رسوله،وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية.
وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له،وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته؛بل قد جعل [محبة][في نسخة]الله أساسمحبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بُغْض ما نهى الله عنه، ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾[سورة: المائدة (54)]
ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها،وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم).
يقول -رحمه الله-: (بل قد جعل محبة اللهأساس محبته ومحبة رسولهالجهاد في سبيله). والجهاد في سبيل الله -عز وجل- هو ما سبق تعريفه وبيانه، وهو بذل الوسع في تحصيل محاب الحق ودفع مكروهاته، ولاشك أن الجهاد بهذا المعنى الواسع يشمل جهاد النفس، وجهاد العصاة، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، كل هذا مما يدخل في قول المؤلف -رحمه الله-: بل قد جعل الله تعالى أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، فالجهاد ليس فقط هو مقاتلة الكفار، وإنما هذا اصطلاح، وإن كان الغالب في استعمال القرآن للجهاد بهذا المعنى، لكن يرد الجهاد بمعناه العام ومنه قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «المجاهد من جاهد نفسه أو هواه»[تجد في الشريط السابع بحثاً لأحد طلبة الشيخ حول هذا الحديث] أو كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ورسوله».
فهذا يوجب للعبد الاشتغال بمجاهدة الهوى والشيطان والنفس، وهذا هو أساس كل جهاد، إذا جاهد الإنسان نفسه وحملها على الصالحات، وجاهد هواه، وجاهد الشيطان، أعانه الله -جل وعلا- على القيام بمراتب الجهاد الأخرى، فالجهاد مراتب وليس مرتبة واحدة.
يقول: (والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بُغْض ما نهى الله عنه). ولا شك أن هذا غاية الجهاد، وهو الحامل على الجهاد؛ لأنه من أحبّ الله -جل وعلا- تمام المحبة رخُصت نفسه فخالفها فيما تحب، وأتى على محاب الله -عز وجل- وسابق إليها في دقيق الأمر وفي جليله، يقول: (ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾). ولاشك أن أعلى المراتب في الجهاد هو جهاد الكفار إن تيسر، فإنه يُظهر صدق المحبة من العبد؛ لأن العبد يقدّم نفسه رخيصة في سبيل الله -عز وجل-يرجو ثواب الله -عز وجل-ويرجو ما أعده -سبحانه وتعالى- لعباده المجاهدين في سبيله.
ولهذا كانت محبة هذه الأمة أكمل من محبة من قبلها؛ لأن هذه الأمة فيها من الجهاد في سبيل الله والحث عليه ما ليس في الأمم السابقة.
(وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل).
ومعلوم أن الصحابة –رضي الله عنهم- لم يكونوا كلهم مجاهدين بالقتال في سبيل الله، بل منهم من جاهد بالقتال، ومنهم من جاهد بالعلم، ومنهم من جاهد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولاشك أن أفضل المجاهدين من جاهد في نشر دين الله عز وجل، فإن نشر دين الله عز وجل بالتعليم والتبصير والدعوة من خير ما يكون، وهو الذي اشتغل به أفاضل الصحابة رضي الله عنهم.
وهو الذي يتيسر لكل أحد، بخلاف الجهاد بالقتال فقد لا يتيسر؛ لعدم وضوح الراية أو غير ذلك من الأسباب، لكن جهاد العلم متيسر، وذلك بأن يبذل الإنسان جهده في التعلم، ويبذل جهده في نشر العلم، فإن نشر العلم مما تحفظ به الشريعة، بل كلما قوي نور النبوة في مكان ضعف الجهل والشر في ذلك المكان، وكلما خفت نور النبوة في مكان- بقلة العلماء، أو بقلة العاملين بالعلم والداعين إليه- كلما كثر الشر في ذلك المكان.
وهذا أينما تتبعت في أي مكان من الأماكن وجدت هذا مطّرداً: إذا وجد أهل العلم كثر الخير وقلّ الشر، وإذا قلّ أهل العلم قلّ الخير وكثر الشر. نعم.
(فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟ وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب. وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان، ولا يمكن أحداً أن يحب كل موجود، بل يحب ما يلائمه وينفعه، ويُبغض ما ينافيه ويضرُّه؛ ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، ثم زادهم انغماساً في أهوائهم وشهواتهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال.
وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال:إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب.قصد بمراد الله تعالى الإرادة الكونية في كل الموجودات، أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله هذه المقالة فإنه يقصد الإرادةالدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال: تُحرق من القلب ما سوى المحبوب لله، وهذا معنى صحيح.
فإن من تمام الحب لله أن لا تحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة.وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه، فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبًّا له، بل محبًّا لما يبغضه).
طيب،هذا كله تعليق على قوله -رحمه الله-: (وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تُحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب). هذه المقالة إنما يقولها في الغالب الجبرية الذين يجعلون كل شيء سائغ فهو محبوب لله -عز وجل-، فكل ما اقتضته الإرادة الكونية من الموجودات فإنما هو محبوب له -سبحانه وتعالى-، هكذا قالوا، وقد ناقش الشيخ -رحمه الله- بعض من قال هذه المقولة كما نقل ابن القيم في شفاء العليل وفي غيره، ناقشهم وقال لهم قريباً مما ذكر هنا في الجواب، وهو: كيف يستقيم هذا مع أن الله –جل وعلا- أخبر في كتابه أنه يبغض بعض خلقه، ويسخط على بعض خلقه، ويمقت بعض خلقه؟ فكيف يستقيم هذا الخبر من الله -جل وعلا- مع قولكم:(المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب)؟ معنى هذا أنك تحب كل ما في الكون: تحب الزنى، تحب الكفر، تحب السرقة، تحب الكبر، تحب الحسد؛لأن هذا مراد للمحبوب، مراد لله -عز وجل- .
وأصل ضلال هؤلاء ناشئ عن أي شيء ؟ عدم التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فلما التبس عليهم الأمر لم يميزوا بين مرادات الله -عز وجل- المحبوبة له وبين المرادات التي اقتضتها حكمته، وأرادها -جل وعلا- لغاية تظهر أو تخفى على الخلق.
ثم وجّه الشيخ -رحمه الله- هذا القول توجيهاً يمكن أن يقبل فقال: (أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله هذه المقالة فإنه يقصد الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه). فيكون المعنى فكأنه قال: تُحرق من القلب ما سوى المحبوب لله. وهذا معنى صحيح، أي:لا يبقى في القلب تعلُّق بغير الله -عز وجل- محبة لغير ما يحبه الله -سبحانه وتعالى- وهذا المعنى صحيح.
لكن هذه الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلاً الواجب فيها التبيين، لا سيما إذا كانت مستعملة ممن فسدت عقائدهم ويلبّسون بها على الخلق.
(فاتباع هذه الشريعة والقيام بالجهاد بها من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه، وبين من يدعي محبة الله ناظراً إلى عموم ربوبيته، أو متبعاً لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله،بل قد تكون دعوى هؤلاء شرًّا من دعوى اليهود والنصارى؛ لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرًّا من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم.
وفي التوراة والإنجيل من الترغيب في محبة الله ماهم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس.
ففي الإنجيل أن المسيح–عليه السلام-قال:أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك.
والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وأن ماهم فيه منالزهد والعبادة هو من ذلك،وهم برءاء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه،بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم).
وهذا حكم عليهم بالكفر؛ لأن حبوط العمل في الغالب لا يكون إلا لوجود مكفر في الغالب، ولاشك من اتبع ما أسخط الله وكره رضوان الله -جل وعلا- فإنه كافر، وهذا يوجب حبوط عمله.نعم.
(والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم، وهو –سبحانه-يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محبّاً لله والله تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له،وإن كان جزاء الله لعبده أعظم ،كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله ـ تعالى ـ أنه قال:«من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»[صحيح البخاري(7405)، ومسلم(2675)]
الله أكبر، ما أوسع فضل الله! هذا الحديث الإلهي الذي ينقله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ربه، وهو ما يقابل في كلام بعض العلماء الحديث القدْسي: «من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة». فذكر في هذا الحديث مسارعة الله -جل وعلا- لعبده إذا أسرع إليه، وذكر في ذلك المسافة وصفة السير، فالمسافة بقوله:«من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً،ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً».
وفي صفة السير: ((ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)). واقتصر الحديث على ذكر ذلك، ولم يزد، والباب مفتوح للزيادة: فمن أتى هرولة أتاه الله -جل وعلا- بما يناسب هذا المجيء، وإنما اقتصر على الذكر؛ لأنه تبين أن القياس في هذا ماضٍ، فكلما أسرع العبد في إقباله على ربه أسرع الرب إليه -جل وعلا- كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في منتهى ما يكون من التقرب: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي به»[صحيح البخاري(6502)]المهم أن الله -جل وعلا- بين عظيم إحسانه لعبده، وأنه يدنو منه ويقترب.وهذا القرب ليس قرباً مجازيًّا، إنما هو قرب حقيقي، أما كيفية هذا القرب فكيفيته الله أعلم بها. وليس من لازم هذا القرب قرب المسافة كما يقول؛ لأن العبد قد يتقرب إلى الله دون أن يتحرك بمسافة، وإنما الذي يقترب منه -سبحانه وتعالى- روحه، روح العبد تتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- ولذلك ينبغي للمؤمن أن يمضي هذا الحديث كغيره من الأحاديث التي فيها الخبر عن الله -عز وجل- ولا يدخل في ذلك برأي فاسد أو بخيال باطل أو بظن كاذب، بل يجب أن يسلِّم لله ولرسوله، فإذا ضاق عقله عن تصور هذا وفهمه فليتجاوزه، كما قال القائل:
وجــاوزه إلى ما تستطيـــعُ |
|
إذا لــم تستطع شيئاً فدعـه |
وإنما هذا الحديث يبين عظيم فضل الرب وعظيم قدر المسارعة إليه -جل وعلا- وأنه بالخير إلى العبد سابق، وأن العبد إذا صدق مع الله فإنه يجد من ربه ما لا يرد له على بال ولا خاطر، يكفي في الفضل أن الله -سبحانه وتعالى- مثّل لنا في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثلاً بيّن لنا عظيم فرحة الرب -جل وعلا- بتوبة العبد، وهذا التمثيل الذي ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله:«لله أفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه من أحدكم في صحراء معه ناقته عليها زاده ومتاعه، أضلّها فبحثها وطلبها، فلما أيس منها أوى إلى شجرة فوضع رأسه، فلما أفاق وجد دابته أو راحلته فوق رأسه عليها متاعه وزاده، ففرح بذلك فرحاً عظيماً، حتى قال العبد من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك»أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675)فالله -جل وعلا- فرحته بتوبة عبده أشد من فرحة هذا براحلته. يقول ابن القيم: وهذا ليس قولاً مجازيًّا ولا تصويراً، إنما هذا كلام من لا ينطق عن الهوى، الذي كل كلمة من كلماته مرادة ومقصودة ولها معنى، وهذا يبين عظيم فضل الرب على العبد، وأن الله -جل وعلا- بالخير إلى عباده سابق، لكن نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا.
من فوائد هذا الحديث إثبات القرب للرب -سبحانه وتعالى-، وهو قرب الله -جل وعلا- لعابده؛ لأن القرب ثبت للعابد والداعي ولم يرد إثباته مطلقاً، هذا من قربه -سبحانه وتعالى- لعابده.
قربه لداعيه: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»[صحيح مسلم(482)] نعم.