الدرس(17) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح
(وقد أخبر الله سبحانه أنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب،كما في الحديث الإلهي الصحيح: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به»... الحديث.
وكثير من المخطئين الذين ابتدعوا أشياء[في نسخة أخرى: اتبعوا أشياخاً]في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون بالدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يُعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصوماً، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم ديناً،كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم ديناً.
ثم إنهم ينتقصون العبودية، ويدعون أن الخاصة يتعدونها،كما يدعي النصارى في المسيح والقساوسة، ويثبتون لخاصتهم من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه.إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع).
نعم، على كل حال الصوفية فيهم شبه كبير من النصارى؛ لأنهم عبدوا الله بالجهل.
(وإنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه،وتكمل محبة الرب لعبده،وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك.
وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك،وكل محبة لاتكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع).
قول المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ-: (فالدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان لله،ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله). هذا مأخوذ من حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة بسند حسن: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه». (ما والاه) أي ما قاربه، ويدخل في قوله: ((الدنيا ملعونة)) كل ما خالف أمر الله ورسوله، وكل ما أقعد عن أمر الله ورسوله وزهّد في الآخرة فإنه يدخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه)).
وهذا يبين لنا أنه ينبغي للمؤمن أن يشتغل في هذه الدنيا بكل ما يعينه على الطاعة،وأنّ اشتغاله بغير ذلك خسار ووبال عليه. نعم.
(فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله،بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين:أن يكون لله، وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب كما قالـ تعالى ـ:﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحداً(110)﴾[سورة: الكهف (110)]
فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب، ولابد أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، كما قال تعالى:﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)﴾[سورة: البقرة (112)]
وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[صحيح مسلم(1718)] وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئما نوى،فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»[صحيح البخاري(1)، ومسلم(1907)]
وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغّب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه).
ما هو هذا الأصل؟ إخلاص العمل لله عز وجل، هو الموصوف بما ذكر المؤلف -رحمه الله- من أنه(به أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغّب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه). الإخلاص لله ـ عز وجل ـ وهذا يبين منزلة الإخلاص وأنه لا تستقيم عبادة الإنسان إلا به، فكل عمل لا إخلاص فيه فإنه مردود على صاحبه ،كما تقدم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا». وأمر النبي في أول حاله الدعوة إلى الإخلاص، وليس فقط «ليس عليه أمرنا» أي:لم يوافق طريقنا، بل من ذلك الإخلاص؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا إلى الإخلاص في العمل والمتابعة فيه، فمن لم يخلص فعمله ليس على أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
(والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث:«هو في هذه الأمة أخ فى من دبيب النمل». وفي حديث آخر – قال أبو بكر رضي الله عنه-:يارسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر-رضي الله عنه-: «ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل:اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم»[أخرجه أحمد في مسنده(19606)، وقال العراقي في تخريج احاديث الإحياء(5/1981):ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وضعفه هو والدارقطني]وكان عمر-رضي الله عنه-يقول في دعائه:"اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً".
يقول -رحمه الله-: (والشرك غالب على النفوس). الشرك أصله تسوية الله -عز وجل- بالمخلوقات، أصله التسوية، وذلك بأن تعدل بالله -عز وجل- مخلوقاته فيما لا يستحقه إلا هو سبحانه وتعالى.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الشرك يدور على قطبين:
- تشبيه الخالق بالمخلوق.
- أو المخلوق بالخالق.
وهذا ينتظم أنواع الشرك.
يقول -رحمه الله-:(والشرك غالب على النفوس) أي إنه يَدِب إليها ويغلبها مهما احتاطت، ومهما حرصت أن تسلم منه. ثم ذكر الحديث:( هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل). وهذا يوجب شدة الحذر وعظيم الاحتياط من الوقوع فيه؛ لأنه مثل الشرك بشيء خفي فقال: «هو أخفى من دبيب النمل». دبيب النمل أثر سيره، لو أردت أن تنظر في الأرض في أثر سير نملة لشق عليك ذلك تمييزاً لسيرها، هذا من جهة الإدراك البصري.
ومن جهة الإدراك الصوتي أيضاً لو تسمعت لدبيب نملة هل تدرك دبيبها؟
فإذا كان خافياً صوتاً ونظراً فكيف الاحتراز منه؟ لا يكون إلا بدوام المراقبة وسؤال السلامة من الرب جل وعلا.
والشرك المراد هنا ليس فقط أن تعبد غير الله بالرياء، بل يدخل في ذلك من عمل عملاً يريد به أمراً من الدنيا، فإنه قد وقع في الشرك؛ لأنه لم يُخلص عمله. من أراد بعمله المدح والثناء ولو لم يرد الرياء ؛ فإنه أيضاً ممن دبّ الشرك إليه ودخل إلى قلبه.
فالشرك تارة يكون بالرياء.
تارة يكون بطلب الدنيا والجاه والمنصب.
تارة يكون بتحصيل أمر دنيوي لا يحصل له إلا من طريق العبادة.
كل هذا مما يدخل في عموم قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وصف الشرك: «هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل».
ثم ذكر طريق الاحتياط فيما علّمه أبا بكر (قال: «ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟» يعني يسيره وكثيره «قل:اللهم إنيأعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم». وهذا فيه إحاطة التوبة بجميع صور الشرك وأنواعه؛ لأنه استغفر ربه مما علم من الشرك ومما خفي عليه ولم يعلمه، والإنسان محتاج إلى هذه التوبة التي تشمل وتعمّ كلما يكون منه في مقاصده وإراداته.
ثم قال:(وكان عمر يقول في دعائه:اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً). إصلاح العمل بمتابعة السنة قد يكون يسيراً على بعض الناس؛ لكن الذي يشق هو إخلاصه.
ولذلك انظر إلى دعاء عمر –رضي الله عنه- قال:(اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً). وهذا فيه تأكيد المعنى الأخير وهو الإخلاص، حيث خصّ الإخلاص بدعوتين، والصلاح الذي هو المتابعة بدعوة واحدة، مع قوله:(واجعله لوجهك خالصاً) مع أن هذا يشمل المعنى الأخير؛ يعني كونه خالصاً لله أي:لا شائبة فيه،الخالص هو الذي لا شائبة فيه،لكن أعاد وكرر فقال:(ولا تجعل لأحد فيه شيئاً) نعم.
(وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس -رحمه الله تعالى-: يا نعايا العرب، يا نعايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية.
وقيل لأبي داود السجستاني -رحمه الله تعالى-:وما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة.
وعن كعب بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». قال الترمذي:حديث حسن صحيح.أخرجه الترمذي (2376)، وأحمد (15794)
فبين -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أن الحرص على المال والشرف في إفساد الدين لا ينقص عن إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بيّن).
طيب، تأمله يتضح لك، الزريبة الحظيرة من الغنم، لو أطلقت عليها ذئبين كيف يفعلان؟ ما يخلو إما من أكل أو إفساد، لا يخلو حال هذه الغنم من أن تؤكل، وإن لم تؤكل فالذئب يفسد حتى ما لا يأكله يفسده ببقر بطنه ويتركه، ولذلك قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». فالحرص على المال والحرص على الشرف في فساد الدين كالذئبين الجائعين المرسلين في زريبة غنم، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحتاط، وأن يحرص على السلامة من هذين الذئبين، والذئب لا تسلم منه إلا بغاية الاحتراز والاحتياط والتحفظ والمراقبة، وتمكين الأسوار المانعة من دخوله. نعم.
(فإن ّالدِّين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب َّإليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾[سورة: يوسف (24)]
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب السليم لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه راغباً راهباً، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾[سورة: ق (33)]إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه،فلا يكون عبد الله ومحبهإلا بين خوف ورجاء، كماقال ـ تعالى ـ: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)﴾[سورة: الإسراء (57)]
وإذا كان العبد مخلصاً لله، اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يُخلص لله، فإن فيه طلباً وإرادة وحبًّا مطلقاً، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أيّ نسيم مر به عطفه وأماله، فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة).
(الصور المحرمة)كصور النساء الأجانب والمرد (وغير المحرمة)كصور الزوجات وملك اليمين، فإنها غير محرمة، لكن الانجذاب إليها الذي يحمل الإنسان على ترك الطاعة والقعود عنها والوقوع في المعصية مما يذم عليه الإنسان: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾[سورة: التوبة (24)] وكما قال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾[سورة: التغابن(14)]وقال:﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾[سورة: التغابن (15)] فهذا يدل على أن التعلق بالمباح تعلقاً يمنع الإنسان عن الطاعة ويحمله على المعصية، مما يذم عليه ومما يلحقه بالمذمومين.
(فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له لكان ذلك عيباً ونقصاً وذمًّا.وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق. وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب والقلوب تهواها، فيتّخذ إلهه هواه، ويتبع هواه بغير هدًى من الله).
هنا يبين لك أن الشرك ليس محصوراً فقط في صورة واحدة وهي السجود للأصنام أو التعلق بالأوثان، بل الانجذاب إلى الصور المحرمة وغير المحرمة على وجه يعطّل العبادة من ذلك، الانجذاب إلى الشرف والرئاسة من ذلك، الانجذاب إلى الدرهم والدينار من ذلك: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة».كل هذا مما يدل على وجوب الاحتراز وعدم النظر إلى أن الشرك فقط في صورة محددة، بل كل ما يصرف القلب عن الرب -جل وعلا- ويكون سبباً لتسوية المخلوق بالخالق فإنه من الشرك.
(ومن لم يكن خالصاً لله عبداً له قد صار قلبه معبَّداً لربه وحده لا شريك له،بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه كان مشركاً، قال ـ تعالى ـ:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾[سورة: الروم (30-32)]).
كل الأمر دائر على هذا القلب: إذا أقامه الإنسان على الجادة صلحت أموره، وإذا أهمله وغفل عنه فسد أمره في الدنيا والآخرة. وهذا يوجب تمام العناية بالقلب تطهيراً وتزكيةً وإصلاحاً وتهذيباً، فإنه من أصلح قلبه صلحت حاله في الدنيا والآخرة.
(وقد جعل الله ـ سبحانه ـ إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة الله وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم، قال ـ تعالى ـ في إبراهيم–عليه السلام-: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ(72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾[سورة: الأنبياء (72-73)] وقال في فرعون وقومه: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾[سورة: القصص (41-42)]) ـ
شتان بين الفريقين، بين من حقق العبودية ومن حقق الشرك، فلما افترقت أعمالهم افترق جزاؤهم قال الله -جل وعلا-:﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾.وأما أولئك﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ-بشركهم وكفرهم-وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ(42)﴾.فأحاط بهم السخط والمقت في الدنيا والآخرة:
شتان بين مشرق ومغرب |
|
سارت مشرقة وسار مغرباً |
(ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى أن لا يميزوا بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما قدر الله وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا. ويقول محققوهم: الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية. وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق، وأنكروا تكليمه لعبده موسى، وما أرسله به من الأمر والنهي).
الشيخ -رحمه الله- في هذا المقطع الأخير يشير إلى فرق الصوفية الذين غلوا في إثبات القدر، وكانت هذه الدرجة الأولى من درجات زيغهم وضلالهم، يقول -رحمه الله-: (ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى أن لا يميزوا بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما قدّرهالله وقضاه). وهو إلغاء التفريق بين الإرادة الشرعية الدينية وبين الإرادة الكونية الخلقية، فإذا ظفر الشيطان منهم بذلك نظروا إلى الخلق بنظرة واحدة وهي نظرة المشيئة، فكل ما شاءه الله فهو يحبه.
ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، وهذا منتهى ما يصل بهم الحال ،كما وصل بابن عربي وابن سبعين والتلمساني وغيرهم، حيث لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا أي وجود الخالق هو وجود المخلوق، ويقول محققوهم: الشريعة فيها طاعة ومعصية ؛ لأن الله أمر ونهى. والحقيقة فيها معصية بلا طاعة ؛ لأن الحقيقة أن تنطلق مع مراد الله، دون نظر إلى أن هذا طاعة أوليس بطاعة.والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية.
وهذا منتهى ما يصل إليه هؤلاء،يقول: (وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق، وأنكروا تكليمه لعبده موسى، وما أرسله به من الأمر والنهي). أعاذنا الله وإياكم من نزغات الشيطان.