الدرس(18) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية
فصل
في الفرق بين الخالق والمخلوق
وأما إبراهيم وآل إبراهيم الحنفاء من الأنبياء والمؤمنين بهم فهم يعلمون أنه لا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولابد من الفرق بين الطاعة والمعصية، وأن العبد كلما ازداد تحقيقاً لهذا الفرق ازدادت محبته لله وعبوديته له وطاعته له، وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره، وهؤلاء المشركون الضالون يسوّون بين الله وبين خلقه والخليل-عليه السلام-يقول:﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)﴾[سورة: الشعراء (75-77)]).
قوله -رحمه الله-:(وأما إبراهيم وآل إبراهيم الحنفاء من الأنبياء) إبراهيم -عليه السلام- أبو الأنبياء فإنه ما جاء بعده نبي إلا من ذريته –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فهو إمامهم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[سورة : النحل (120)] وآل إبراهيم المقصود بهم الأنبياء من ذريته، وأيضاً من سار على هديه من ذريته، قال:(من الأنبياء والمؤمنين بهم). (من الأنبياء) واضح ؛ لأن الأنبياء كلهم من ذرية إبراهيم بعده(والمؤمنين بهم) سواء كان من ذرية إبراهيم أو من غير ذريته، ويمكن أن يقال: وأما إبراهيم وآل إبراهيم أي أتباع إبراهيم؛ لأن الآل تطلق على الأتباع، وهم أخص من مجرد الذرية ؛ لأن الذرية قد يكون فيها الصالح وقد يكون فيها غير الصالح، قال الله -جل وعلا- لما قال إبراهيم:﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾،قال الله -جل وعلا-:﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.[سورة: البقرة (124)] فدل ذلك على أن النافع هو الاتباع، ولاشك أنه إذا كان من الذرية ومتبعاً زاد فضلاً إلى فضل.
والمقصود من هذا الفصل تقرير ما تقدمت الإشارة إليه من معنى العبودية التي جاءت بها الرسل، والرد على من ضلّ في هذا من الصوفية، فإنهمضلوا في هذا ضلالاً كبيراً وأخطؤوا خطأً عظيماً يبينه الشيخ -رحمه الله- يقول -رحمه الله-: (هؤلاء كلهم يعلمون أنه لابد من الفرق بين الخالق والمخلوق). وبهذا جاءت الرسل، ومن ضل في هذا فقد تخبط وأضاع نصيبه. يقول -رحمه الله-: (وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه ). وهؤلاء هم الذين يقابلون الحزب الأول حزب الله ،حزب إبراهيم عليه السلام في قوله:(وأما إبراهيم وآل إبراهيم): (هؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه، والخليل يقول: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)﴾). وجه الدلالة في هذه الآية قوله:﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)﴾. ففرّق بين معبودات المشركين وبين ما يعبده الموحدون الحنفاء، فإن ما يعبده الموحدون الحنفاء هو الله -جل وعلا- الذي لا إله غيره، وأما هؤلاء فإنهم يعبدون من لا يستحق العبادة، من لا ينفع ولا يضر، من لا يسمع ولا يبصر.
ثم قال -رحمه الله-:(ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشايخ كما فعلت النصارى). هذا فيه بيان أن من غاب عنه التفريق بين الخالق والمخلوق وهم غلاة الصوفية، حيث جعلوا الخالق هو المخلوق، فكل شيء في الوجود هو الرب، جعلوا الله والعبد، الرب والعبد شيئاً واحداً، هؤلاء هل لهم حجة؟ هل لهم مستند؟ ليس لهم مستند إلا التمسك بالمتشابه من كلام من؟ من كلام الله ورسوله؟ لا، يقول:(من كلام المشايخ)، والمقصود بالمشايخ مشايخ الصوفية الذين كما قال الشيخ ـ رحمه الله ـ:(قد لا يثبت عنهم ) هذا إما أن يكون كذباً عليهم، وإما أن يكون كلاماً قالوه ثم تابوا عنه في حالة غياب واندهاش، أو أنه خطأ وحملوا كلامهم ما لا يحتمل، وإلا فإنه لا يقوله أحد من أهل الإسلام العالمين بالكتاب والسنة، لكن ابن عربي وأشباهه فرحوا ببعض المنقول عن المتقدمين من أهل التعبد والتنسك فجعلوه حجة لهم فيما ذهبوا إليه من أي شيء؟ من التسوية بين الخالق والمخلوق، وهم الملاحدة أهل وحدة الوجود . نعم. يقول -رحمه الله-في مثال لما حصل به الضلال لهؤلاء :
(ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشايخ كما فعلت النصارى.
مثال ذلك اسم الفناء، فإن الفناء ثلاثة أنواع:
- نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء.
- ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين.
- ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين).
طيب، يقول -رحمه الله-:(مثال ذلك اسم الفناء). أولاً اسم الفناء لم يرتِّب الله -جل وعلا- عليه في الكتاب والسنة مدحاً ولا ذمًّا، فليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله بل ولا في كلام سلف الأمة تعليق المدح والذم على هذا الاسم، وهو اسم محدث لم يكن في سلف الأمة.
والفناء مصدر فني يفنى فناءً، ومعناه تلاشى واضمحل، فمعنى الفناء في اللغة التلاشي والاضمحلال، والتلاشي والاضمحلال الذي تفيده هذه الكلمة نوعان:
نوع تذهب معه العين ؛ يعني: لا يبقى شيء، وذلك بأن يستحيل الشيء الفاني.
والنوع الثاني يذهب نفعه وتذهب قواه مع بقاء عينه ويسمى فانياً، ومنه كلام الفقهاء في كتاب الجهاد: ولا يقتل في المعركة شيخ فانٍ. فالعين موجودة لكن لما كانت القوة ذاهبة والنفع غائباً صار حكمه حكم الفاني المعدوم.هذا من حيث معنى هذه الكلمة في اللغة.
أما من حيث معناها عند الصوفية، فمعناها الغياب، الاستغراق فيما يفنى به الإنسان، في محبوبه وفي مراده وفي مطلوبه.
الشيخ -رحمه الله- يقول: (فإن الفناء ثلاثة أنواع). هذا التقسيم تقسيم مستفاد من كلامهم، ولا بأس بالاصطلاح الحادث إذا كان لا يتضمن معنىً فاسداً، أما إذا كان المعنى المترتب أو المتضمن في الاصطلاح الحادث فاسداً فإنه يُرد، فهذا المصطلح لا يرد مطلقاً ولا يثبت مطلقاً؛ لأن منه ما هو معنى صحيح:
يقول الشيخ -رحمه الله-: (نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء. ونوع للقاصدين) يعني المتوسطين (من الأولياء والصالحين.ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين). والأخير هو المشهور عند غلاة الصوفية، وسيأتي بيانه في كلام الشيخ.
(فأما الأول فهو الفناء عن إرادة ما سوى الله، بحيث لا يحب إلا الله ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه ولا يطلب من غيره. وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال:أريد أن لا أريد إلا ما يريد.أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية.
وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين،وهذا معنى قولهم في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾[سورة: الشعراء (89)] قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله،أو مما سوى إرادة الله،أو مما سوى محبة الله.فالمعنى واحد،وهذا المعنى إن سمي فناء أو لم يسم هو أول الإسلام وآخره، وباطن الدين وظاهره).
وهو التوحيد الذي كان عليه صفوة الخلق، وهو أوثق عرى الإيمان: أن تحب في الله وأن تبغض في الله، وأن تعطي في الله وتمنع في الله، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-، هو ما أمر الله به الخلق: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[سورة: البينة (5)] ثمبعد أن ذكر الشيخ -رحمه الله- هـٰذا النوع قال: (وهذا المعنى إن سمي فناء أو لم يسم) يعني: بغض النظر على التسمية، وكأنه يقول: لا حاجة لنا بهذه التسمية، أو لا نناقش في هذه التسمية، إنما نناقش في المعنى الذي تضمنته، فإنه (هو أول الإسلام وآخره) لا إشكال، أول الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا يقتضي إفراد الله -جل وعلا- بالحب والخوف والرجاء والعبادة وسائر ما هو حقه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- (وآخره )؛ لأن من كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنة، يقول:(وباطن الدين وظاهره) أي إن هذا هو لب الدين، فالدين كله دائر على تحقيق هذا المعنى، وهو إخلاص العبادة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فسموه فناءً أو لم يسموه فناءً هذا هو المطلوب من كل أحد، وهو الدرجة العليا التي كان عليها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وكان عليها صفوة الأمة: الصحابة، وأهل القرون المفضلة.
فالواجب على المؤمن الاجتهاد في تحصيل هذه الحال، وهو أن يكون قلبه مخلصاً لله خالصاً له، ليس فيه شائبة لأحد، لا يخاف إلا الله، ولا يحب إلا الله، ولا يرغب ولا يرهب ولا يعبد إلا الله -جل وعلا- في كل شأن وفي كل حال وفي كل حين، وإذا حقق الإنسان هذا وفق إلى سبيل المتّقين الأولين، ووُفّق إلى الصراط المستقيم الذي من سلكه سهّل الله له جواز الصراط المضروب على متن جهنم.
(وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السِّوَى، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم -لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته، وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد- لا يخطر بقلوبهم غير الله،بل لا يشعرون إلا به،كما قيل في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾[سورة: القصص (10)] قالوا: فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى.وهذا كثيراً يعرض لمن دهمه[في نسخة: فقمه] أمر من الأمور إما حب وإما خوف وإما رجاء، يبقى قلبه منصرفاً عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره،فإذا قويعلى صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات -العبد فمن سواه-ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى. والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها).
هذا البيان المتقدم لهذا النوع الذي يعده الصوفية من المقامات العظيمة التي يسعون إلى إدراكها، وهو الفناء عن شهود ما سوى الله -جل وعلا-، هذا معنى قوله:(الفناء عن شهود السوى) بمعنى أنه يفنى فلا ينظر إلى غير الله، وهذه حال تستغرق القلب حتى لا يدرك ويغيب عنه الشعور، ويصدر عنهم في هذه الحال من المخالفات ما سيذكر الشيخ –رحمه الله- شيئاً منه، فإنه في هذه الحال يغيب عن الشعور، وهذا الغياب عن الشعور وفقده يرجع إلى أسباب ثلاثة:
السبب الأول: قوة الوارد، يعني: الوارد على قلوبهم.
الثاني: ضعف المورود إليه أو المورود عليه، وهو القلب.
الثالث: نقص العلم.
فإذا اجتمعت هذه الثلاثة كان الإنسان غائباً بما يشاهد، لا يدرك ما يقول، ويبلغ به الفناء والإغلاق أن لا يشعر بنفسه، فيصدر عنه من الأقوال والأعمال ما لا يَحسن ولا يجمل به؛ بل ما يستغفر الله منها إذا أفاق، وهذه الحال ليست حال كمال؛ بل هي حال ناقصة ولم ينقل عن أحد من سلف الأمة ولا من العلماء والأئمة أنه نزلت به هذه الحالة، أو نالته هذه المنزلة؛ لأنها إنما تنال من ضعف قلبه، وقلّ علمه، يقول الشيخ -رحمه الله-:
(وإذا قوي هذا ضعُف المحب حتى يضطرب في تمييزه).
يعني قد يفقد تمييزه، وهو إحدى درجات ومراتب السكر؛ لأن السكر له مرتبتان:
- تحصيل اللذة.
- وفقد التمييز.
قد يجتمعان، وقد يحصل أحدهما دون الآخر نعم.
(فقد يظن أنه هو محبوبه،كما يذكر أن رجلاً ألقى نفسه في اليمّ، فألقى محبه نفسه خلفه،فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال: غِبْتُ بِكَ عَنِّي فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِّي).
يعني: هذا رمى نفسه في البحر فلشدة غياب الذي يحبه به ألقى نفسه وراءه، (فقال له: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال:غبت بك عني فظننت أنك أني).
وهذا لا إشكال أنه ناشئ عن فقد الشعور، وهذا الذي يسميه هؤلاء فناء، ويجعلونه من مراتب الكمَّل من الخلق نعم.
(وهذا الموضع زلت فيه أقوام وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لايكون بينهما فرق في نفس وجودهما،وهذا غلط، فإن الخالق لا يتّحد به شيء أصلاً،بل لا يمكن أن يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدت حقيقة كل منهما، وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا،كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر ونحو ذلك.
ولكن يتحد المراد والمحبوب والمراد والمكروه، ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا ويبغض هذا ما يبغض هذا،ويرضى ما يرضى ويسخط ما يسخط ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي، وهذا الفناء كله فيه نقص).
لماذا؟ لأنه ينشأ إما عن نقص في الشخص أو نقص في علمه.
ومما يدل على أنه نقص ما يذكره الآن الشيخ. نعم:
(وأكابر الأولياء كأبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار–رضي الله عنهم-لم يقعوا في هذا الفناء، فضلاً عمن هو فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة).
ومنشؤه بعض عبّاد أهل البصرة: غلب عليهم ما كانوا فيه من التعبد، حتى إنه كان أحدهم إذا قُرئ عليه القرآن يغشى عليه، وبعضهم يصعق ويموت، وهذه ليست حالاً كاملة، هم لا يلامون بهذا، لا سيما إذا كان لضعف قلوبهم وليس بكسب منهم، لكنها حال ناقصة، فالحال الكاملة التأثر بالقرآن والعمل به لا الصعق والموت، فإنه لم ينقل هذا عن أحد من أئمة المسلمين ولا من الصحابة السابقين، فضلاً عمن فوقهم، كما قال الشيخ -رحمه الله- من الأنبياء.
(وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل وعدم التمييز لما يرد على القلب من أحوال الإيمان، فإن الصّحابة -رضي الله عنهم-كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم، أو يَحصل لهم غشي أو صعق أو سكر أو فناء أو وله أو جنون،وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عبَّاد البصرة، فإنه كان فيهم من يُغشى عليه إذا سمع القرآن، ومنهم من يموت، كأبي جهير الضرير وزُرارة بن أوفى قاضى البصرة.
وكذلك صار في شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسُّكر ما يضعف معه تمييزه،حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه،كما يحكى نحو ذلك عن مثل أبي يزيد، وأبي الحسين النوري وأبي بكر الشبلي وأمثالهم.
بخلاف أبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والفضيل بن عياض، بل وبخلاف الجنيد وأمثاله ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم، فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه،بل الكُمَّل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة الله وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون به الأمور على ما هي عليه،بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر الله مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيداً وممدًّا لما في قلوبهم من إخلاص الدين وتجريد التوحيد له والعبادة له وحده لاشريك له.
وهذه هي الحقيقة التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان والكمَّل من أهل العرفان،ونبينا -صلى الله عليه وسلم- إمام هؤلاء وأكملهم، ولهذا لما عرج به إلى السماوات وعاين ما هنالك من الآيات، وأُوحي إليه ما أوحي من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي صلى الله عليهم وسلم أجمعين).
وقد ذكر الله -جل وعلا- الثناء على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رباطة جأشه وثبات فؤاده ورسوخ قدمه، مع عظيم ما شاهده في تلك الليلة، حيث قال -جل وعلا-: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18)﴾.[سورة : النجم (17-18).] يعني: التي توجب ما تقدم، لكن حفظه الله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)﴾.[سورة : النجم (11).] كل هذا يدل على رباطة الجأش وثبات اليقين وثبات الفؤاد الذي منّ الله به على رسوله، لم يحصل له غشي ولا صعق، وهذا حال الكمّل من الناس.
وما ذكره الشيخ -رحمه الله-في قوله: (بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي صلى الله عليهم وسلم أجمعين). هذا نحتاج إلى إثباته فهو ثابت في موقف واحد، وهو لما طلب رؤية الله -جل وعلا- فقال الله-جل وعلا-:﴿لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾[سورة: الأعراف (143)] وهذه الحال التي نزلت بموسى -عليه السلام- لا لنقصه، لكن لعظم الأمر وشدته فهي ليست نقصاً في ثباته ويقينه وقوة قلبه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- لكن كان ذلك بسبب عظم الوارد، وذكرنا لكم أن هذا يحصل عند عظم الوارد.
فمن يحقق هذه المسألة -مسألة التغشي-(ما كان يظهر على موسى من التغشي)؟ لا، في غير هـذه الحالة؛ لأن الظاهر من كلام الشيخ أنها ليست في موضع واحد.
(وأما النوع الثالث مما قد يسمى فناءً: فهو أن يشهد أن لا موجود إلا الله).
هذا النوع الثالث نوع كامل أو ناقص؟ نوع ناقص، الثالث كفر صراح.
(وأما النوع الثالث مما قد يسمى فناءً فهو أن يشهد أن لا موجود إلا الله، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد.
وهذا يبرأ منه المشايخ المستقيمون، فإذا قال أحدهم: ما أرى غير الله، أو:لا أنظر إلى غير الله ونحو ذلك، فمرادهم بذلك: ما أرى ربًّا غيره ولا خالقاً غيره ولا مدبراً غيره ولا إلهاً غيره،ولا أنظر إلى غيره محبة له أو خوفاً منه أو رجاءً له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب).
هذا إشارة إلى ما سبق ذكره في قوله -رحمه الله-: (ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشايخ كما فعلت النصارى). فإن هذا من المتشابه الذي تمسك به ابن عربي وأشباهه في إثبات هذا النوع من الفناء: ما أرى غير الله، أي إن كل شيء هو الله، هكذا فسره، بينما مراد من قال ذلك من مشايخ الصوفية الذين هم من أهل السنة، وإن كان عندهم خطأ في بعض الأمور، لكنهم لا يخرجون عن طريق أهل السنة والجماعة، فمرادهم بذلك أني ما أرى ربًّا غيره ولا خالقاً، ولا مدبراً غيره ولا إلهاً لي غيره وما أشبه ذلك من المعاني الصحيحة.
فهذا الكلام متشابه يحتمل معنىً صحيحاً ويحتمل معنىً فاسداً، فلا نثبت المعنى الفاسد؛ إحساناً للظن بهم، وحملاً لكلامهم على ما فسرته بقية أقوالهم، وبينته سائر المنقولات عنهم.