الدرس (4) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فكان آخر ما تكلمنا عليه في هذه العقيدة قول المؤلف رحمه الله: (ومِنْ ذَلكَ قولُه تعالىٰ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.[سورة : طه (5).]وقولُه تعالىٰ: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾،[سورة : الملك (16).]وقولُ النبيِّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((رَبَّنَا الله الّذِي في السّماءِ تَقَدّسَ اسْمُكَ))[ سنن أبي داوود: كتاب الطب، باب كيف الرقى؟ حديث رقم (3892). وحسنه شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية.قال الشيخ الألباني: ضعيف]).
وذكرنا أن هذا المقطع الذي ابتدأه المؤلف رحمه الله بذكر هاتين الآيتين وما تلاهما من الأحاديث أتى به المؤلف رحمه الله لتقرير عقيدة السلف فيما يتعلق بعلو الله عزّ وجل، فإن هذه الآيات والأحاديث دالة على علوه واستوائه على عرشه.
أما الاستواء فقول الله تعالىٰ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ذكره الله -عز وجل- في مواضع عديدة من كتابه، وهو دال على استوائه على عرشه، وقلنا: إنّ الاستواء ماذا يفيد؟ يفيد إثبات العلو، ولذلك يذكر دائماً مع آيات العلو في كتب الاعتقاد.
وجه ذلك أن الاستواء علوٌّ خاص، وهذا الفرق بين آيات العلو وبين آيات الاستواء: أن الاستواء علو خاص، وهو علو على العرش، اختص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به العرش دون غيره من المخلوقات.
والعرش مخلوق عظيم خلقه الله جل وعلا، واختصه بهذه الخاصية وهي أنه استوى عليه جل وعلا بعد أن خلقه.
والعرش في لغة العرب سرير الملك، وهو خلق من خلق الله عظيم.
وأما قوله تعالىٰ: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾فهذا فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل. وقوله تعالىٰ: ﴿فِي السَّمَاء﴾السماء يحتمل أحد معنيين:
المعنى الأول: السقف المحفوظ.
والمعنى الثاني: أنه العلو.
لأنّ السماء في لغة العرب اسم جنس للعالي.
فعلى المعنى الأول -وهو أن السماء المقصود بها السقف المحفوظ- فيكون قوله تعالىٰ: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾أي من على السماء، فـ(فِي) بمعنى (على).
وعلى المعنى الثاني -وهو أن السماء جنس العالي؛ اسم لجنس ما علا- تكون (في) على بابها، ليست بمعنى (على).
على أننا نعتقد أن الله -جل وعلا- محيط بكل شيء ليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه جل وعلا.
بل هو العالي الذي لا شيء فوقه، فهو جل وعلا على كل شيء، مستوٍ على عرشه، بائن أي منفصل عن خلقه، فليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه، تعالىٰ الله عما يظن الجاهلون ويقولون علوًّا كبيراً.
وهذا الذي ذكرناه في قوله تعالىٰ: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾أَجْرِهِ في كل ما شابه هذا التركيب، ما شابه هذه الصيغة.
فقوله رحمه الله: (وقولُ النبيِّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((رَبَّنَا الله الّذِي في السّماءِ تَقَدّسَ اسْمُكَ))[ تم تخريجه في الصفحة (2).])؛ ((في السّماءِ)) هنا كم فيها من وجه؟ فيها وجهان:
الوجه الأول: أن المراد بالسماء هنا السقف المحفوظ.
والوجه الثاني: أن السماء المراد بها جنس ما علا.
تقول: نزل علينا المطر من السماء؛ يعني من السقف المحفوظ أو من جهة العلو؟ من جهة العلو؛ لأن المطر لا ينزل من السقف المحفوظ، إنما ينزل من السحاب.
وكقوله تعالىٰ: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء﴾[ سورة : الحج (15).]يعني يمدد حبل إلى السقف المحفوظ أو إلى السماء يعني إلى جهة العلو -سقف بيته أو ما أشبه ذلك-؟ ما المقصود بالآية: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء﴾العالي أو السماء التي هي السقف المحفوظ، ما المراد ؟ جهة العلو؛ هذا معنى قوله تعالىٰ: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء﴾.
فالسماء تطلق على جنس ما علا في لغة العرب.
وتطلق أيضاً على السقف المحفوظ الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طباقاً. واضح المعنى؟
طيب، في كل الموارد التي يرد فيها الخبر بأن الله جل وعلا في السماء:
إما أن تقول: السقف المحفوظ فتكون في هنا بمعنى علا.
وإما أن تقول: جهة العلو فتكون في هنا بمعنى الظرفية على بابها.
طيب قال رحمه الله: (وقال للجارية:((أيْنَ الله؟))،قالتْ: في السَّماءِ) نفس الكلام:
- إما في السماء أي على السماء التي هي السقف المحفوظ.
- أو في السماء يعني في العلو فيكون إثباتاً لعلوه جل وعلا على كل شيء.
(قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))).وهذا الحديث في صحيح الإمام مسلم من حديث معاوية بن الحكم، في قصة ضرب جاريته حيث سألها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من أنا))؟ فقالت: أنت رسول الله. ثم سألها: ((أين الله))؟ قالت: في السماء. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمعاوية بن الحكم: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).
يقول: (رواه مالكُ بنُ أنَسٍ ومسلمٌ وغيرُهما مِنَ الأئمة[مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، حديث رقم (537).]).
ثم قال -رحمه الله-: (وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصَيْنٍ) حصين بن المنذر الخزاعي والد عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكان في مكة وكان شيخاً كبيراً أتاه قومه فقالوا له: إن محمداً يسفه آلهتنا ويذم آلهتنا، ويسفه أحلامنا فأته لعله يسمع منك، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما أقبل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: ((أوسعوا للشيخ)) -لكبر سنه- فقال له ما قال: لماذا تسفه آلهتنا؟ وما إلى ذلك مما جاء من أجل الإنكار فيه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يا حصين كم إلـٰهاً تعبد؟)) قال: سبعة. قال: ستة في الأرض وواحداً في السماء. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟))يعني من لما تحب وترغب، ومن لما تخاف وترهب؟ يعني من الذي تدخره لمطالبك ومطامعك وآمالك فتسأله؟ ومن الذي تدخره لرهبتك، لمخاوفك، وما ترهب فترجو منه دفع ذلك أو رفعه؟ قال حصين: ((الّذي في السَّماء)).يعني الله عز وجل. حصين مسلم في هذه الحال أو كافر؟ في هذه الحال هل هو مسلم أو كافر؟ كافر لأنه أخبر بأنه يعبد سبعة ولا يكون هذا من مسلم مع ذلك يعتقد أن الله في السماء.
وهذا دليل من الأدلة التي تضاف إلى ما ذكره شيخ الإسلام وغيره من أن إثبات العلو لله عز وجل لا يختص أهل الإسلام؛ بل يُقر به كل إنسان مسلم أو كافر.
(قالَ: ((فَاتْرُكِ السِّتَّةَ وَاعْبُدِ الذِي في السَّماءِ)))قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اتْرُكِ السِّتَّةَ)) أي فلا تتوجه إليهم بعبادة ولا رغبة ((وَاعْبُدِ الذِي في السَّماءِ)) أي: أخلص عبادتك لله الذي في السماء -جل وعلا- ((وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْن)) وفي رواية ((كلمتين))،(فَأَسْلَمَ) ظاهر هذا السياق أنه أسلم في الحال، والذي يظهر من الروايات الأخرى أنه أسلم بعد حين. ثم أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أوفني ما وعدتني؛ علمني الكلمتين. فعلمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمتين جامعتين تجمعان للإنسان خير الدنيا والآخرة: ((اللَّهُمَّ ألْهِمْنيِ رُشْدِي وَقِنيِ شَرَّ نَفْسِي))، وفي رواية: ((وأعذني من شر نفسي)).[سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب (70)، حديث رقم (3483). وقال: حديث حسن غريب.قال الشيخ الألباني: ضعيف.]ومن وفق إلى هذين: إلى الرشد وإلى وقاية شر النفس فقد جمع الله له الخير؛ لأن إلهام الرشد تحصل به الهداية، فإن من أُلهم رشده أي أعطي الهداية ووفق إليها، ووقي أي: حفظ وجنب شر نفسه يكمل له العلم والعمل، العلم النافع والعمل الصالح. فسأل الله عز وجل ما يعين على الهداية واجتناب ما يمنع منها؛ لأن الذي يحصل به الضلال وعدم الاستقامة أمران:
الجهل: وهذا يتوقاه بقوله: ((اللَّهُمَّ ألْهِمْنيِ رُشْدِي)).
اتباع الهوى: وهذا يتوقاه بقوله: ((وَقِنيِ شَرَّ نَفْسِي)). فإن الإنسان قد يكون عالماً للحق؛ لكن يحول بينه وبين اتباعه والأخذ به هوى نفسه واتباع شهواته.
فإذا وقي هذا ووفق إلى ذاك فقد كمل له الخير، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال عنه: غريب، وقد حسنه جماعة من العلماء، وهو من رواية الحسن بن أبي الحسن البصري عن عمران رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (وَفيمَا نُقِلَ مِنْ عَلاماتِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوَأصحابِهِ في الكُتُبِ المتقدِّمةِ) أي كتب الأنبياء كالتوراة والإنجيل: (أنَّهم يَسْجُدون بالأرْضِ، ويَزْعُمون أنَّ إلـٰهَهمْ في السَّماءِ.) وهذا وصف صادق على الأمة، فإن أهل الإسلام يسجدون بالأرض، ثم إذا سجدوا ماذا يقولون؟ يقولون: سبحان ربي الأعلى. (ويَزْعُمون أنَّ إلـٰهَهمْ في السَّماءِ) أي في العلو، ولذلك كل ساجد يقول: سبحان ربي الأعلى. وأول ما ينقدح في القلب عند قولك في وصف الله: الأعلى أي شيء؟ علوه جل وعلا بذاته في السماء.
هذا أول ما يتبادر إلى القلب، وهذا أمر وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وغيرهم.
فإن غير أهل السنة ينكرون هذا النوع من العلو ويقولون: الأعلى قدراً والأعلى قهراً، لكنهم لا يقولون: الأعلى ذاتاً، والعلو الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل هو العلو بأنواعه كلها:
فله جل وعلا علو الذات، فهو فوق كل شيء سبحانه وبحمده.
وله علو القدر والشرف، فهو الذي له المثل الأعلى، له الصفة العليا جل وعلا، وله الأسماء الحسنى.
وهو العالي على عباده قهراً، كما قال تعالىٰ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾.[سورة : الأنعام (18).]
المتكلمون الذين ينكرون علو ذاته جل وعلا يقولون: إن قول الله جل وعلا: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)﴾[سورة : الأعلى (1).]وقول الساجد: سبحان ربي الأعلى، إنما هو علو القدر، وعلو القهر.
وهم في هذا بخسوا الله جل وعلا علوه الذي اختص به وهو الأصل، فإن الأصل في العلو الثابت هو علو الذات، وأما علو القدر وعلو القهر فهو تابع ومن لوازم علو ذاته جل وعلا، فما ذكر في الكتب المتقدمة من أن هذه الأمة موصوفة بأنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء وصف مطابق لحال أمة الإسلام.
(وَرَوَى أبو داودَ في سُننه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقالَ:((إنَّ مَا بَيْنَ سمَاءٍ إلىَ سَمَاءٍ مَسِيرَةَ كذَا وَكذَا)وذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كم بين كل سماء والتي تليها (-وذَكَرَ الخَبَرَ إلى قَوْلهِ:- ((وَفَوْقَ ذَلِكَ العَرْشُ، وَالله سُبْحَانَهُ فَوْقَ ذَلِكَ)))[سبق] أي: فوق العرش.
ويمكن أن يقول: ((وَالله سُبْحَانَهُ فَوْقَ ذَلِكَ)) أي فوق كل ما تقدم. فـ((ذَلِكَ)) في قوله: ((وَالله سُبْحَانَهُ فَوْقَ ذَلِكَ)) يحتمل أن يرجع إلىٰ العرش ويحتمل أن يرجع إلى العرش وما عداه من السماوات المذكورة.
وهذا الحديث أخرجه أبو داوود وغيره من حديث العباس بن عبد المطلب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو مشهور عند أهل العلم بحديث الأوعال؛ لأن فيه ذكر الأوعال التي تحمل العرش وهو حديث صحيح رواه أصحاب السنن أبو داوود والترمذي وابن ماجه ورواه ابن خزيمة، وقد طعن فيه بعضهم لكن طعنه واهٍ، فالحديث ثابت ولا تنتفي صفة العلو بتشغيب من شغّب بتضعيفه؛ لأن الأحاديث والآيات مستفيضة في الدلالة على أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق كل شيء.[انظر المناظرة التي عقدت لشيخ الإسلام على عقيدته الواسطية مجموعة الفتاوى (3/123-ط دار الجيل).]
يقول رحمه الله: (فَهَذَا وَمَا أشْبَهَهُ مِمَّا أَجْمَعَ السَّلَفُ رَحِمَهم اللهُ على نَقْلِهِ وقَبُولِهِ)، (هـٰذا) أي ما تضمنته الآيات والأحاديث المتقدمة من إثبات استوائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلوه على عرشه (فَهَذَا وَمَا أشْبَهَهُ مِمَّا أَجْمَعَ السَّلَفُ رَحِمَهم اللهُ على نَقْلِهِ وقَبُولِهِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِرَدِّهِ ولا تَأْوِيلِهِ ولا تَشْبِيهِهِ ولا تَمْثِيلِه).
يعني جروا في هذه الصفة على ما جروا عليه في سائر الصفات، فهم لا يردون؛ لا يكذبون ولا يحرفون ولا يمثلون.
واعلم أنه لا سلامة لأحد في خبر الله أو خبر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يتصف به الرب جل وعلا إلا بسلوك هذا السبيل: أن يثبت ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فإنّ هذه الاحترازات الأربعة: نفي التحريف، ونفي التعطيل، ونفي التمثيل، ونفي التكييف، بها يسلم المرء من الضلالات في باب الأسماء والصفات. ولذلك كرر المؤلف رحمه الله قوله: (ولم يَتَعَرَّضُوا لِرَدِّهِ ولا تَأْوِيلِهِ ولا تَشْبِيهِهِ ولا تَمْثِيلِه) فإن أهل السنة والجماعة يثبتون ذلك على الوجه اللائق بالله عز وجل.
واذكر دائماً أن حظ النصوص ونصيبها عند أهل السنة التسليم والقبول مع حسن الفهم كما تقدم ذلك فيما ذكرناه من قول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والتجهيل حظ النص عند الجاني |
|
فالجحد والإعراض والتأويل |
حسن القبول وفهم ذي إحسان
|
|
لكن لدينا حظه التسليم مع |
فإن هذين البيتين يختصران لك الضلالات التي وقع فيها من وقع في باب الأسماء والصفات، ويبينان لك طريق السلامة من هذه الضلالات، فيحسن حفظ هذين البيتين.
يقول رحمه الله في آخر ما ذكر في هذا الفصل: (سُئِلَ الإمامُ مالك بنُ أنسٍ رَحمه اللهُ فَقِيلَ: يا أبَا عبدِ الله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[سورة : طه (5).]كيْف استوى؟) وهذه القصة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله تناقلها العلماء، سأله رجل عن قول الله تعالىٰ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾كيْف استوى؟)وكان الإمام مالك -رحمه الله-يحدِّث أو يعلم وقت هذا السؤال، فسكت رحمه الله سكوتاً طويلاً كما ذكر الذهبي وغيره، حتى علاه الرُّحَضَاء أي حتى علاه العرق من شدة ما اعتراه -رحمه الله-من غرابة هذا السؤال وعظمه. فوفق رحمه الله إلى جواب مسدد (فقال: الاسْتِواءُ غيْرُ مجهولٍ) وفي بعض الروايات (الاستواء معلوم) والمعنى واحد، فغير المجهول هو المعلوم؛ أي إن الاستواء لا يُجهل في لسان العرب، فيدركه كل من له فهم للغة العرب، هذا معنى قوله رحمه الله: (الاستواء معلوم) أو (الاسْتِواءُ غيْرُ مجهولٍ). ثم قال: (والكيْفُ غيْرُ معْقولٍ) كيفية هذا الخبر لا سبيل إلى علمها، لماذا لا سبيل إلى علمها؟ لأن الله -جل وعلا-لم يبين لنا كيفية استوائه، فليس عندنا خبر من الله جل وعلا كيف استوى؛ لكن عندنا منه خبر أنه استوى، فالواجب أن نقف حيث وقف النص فنثبت استواء الله جل وعلا على عرشه دون أن نتطرق إلى ذلك بطلب الكيفية، فإن الكيفية لا سبيل إلى تحصيلها ولا إلى إدراكها، قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾[سورة : آل عمران (7).]هذا دليل أن الكيفيات لا سبيل إلى تحصيلها، وأن الكيف مجهول وأن الكيف غير معلوم، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾أي:حقيقته وكنه خبره جل وعلا، وما يؤول إليه الخبر إلا الله جل وعلا ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾هذا معنى قوله رحمه الله: (والكيْفُ غيْرُ معْقولٍ) أي لا سبيل إلى عقله وإدراكه؛ لأن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات، وليس لنا علم بكيفية الذات حتى نفهم ونعرف كيف صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم قال رحمه الله: (والإيمانُ به واجبٌ) الإيمان أي:الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، الإقرار الذي يحصل به طمأنينة القلب وسكونه إلى خبر الله وخبر رسوله في هذه الصفة وفي غيرها واجب، فلا يسوغ لأحد أن ينكر الاستواء لكونه لم يعقل كيفيته؛ بل الواجب على المؤمن أن يقرّ بالاستواء الذي أخبر الله به عن نفسه وأما ما يتعلق بالكيفية فأمرها إلى الله لا سبيل إلى إدراكها، ولا إلى العلم بها، (والإيمانُ به) أي:بالاستواء الذي أخبـر به في كتابه (واجبٌ، والسُّؤالُ عنْه بدعةٌ) عن إيش؟ عن الكيفية؛ السؤال عن كيفية الاستواء وعن كيفية سائر الصفات بدعة؛ أي محدث في الدين، وإذا كان بدعة فإن كل بدعة ضلالة، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((وإياكم ومحدثات الأمور؛فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).[الترمذي: كتاب العلم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم 2676. وقال: حسن صحيح.
أبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم 4607.
ابن ماجه: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث رقم 42، 43.
قال الشيخ الألباني: صحيح.] فالواجب الكف عن هذا، ولو كان خيراً لسبقنا إليه سلف الأمة.
(ثُمّ أَمَرَ بالرَّجُلِ فأُخْرِجَ) أي أخرج من مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أحدثه.
وفي ما ذكره الذهبي رحمه الله من هذه القصة قال الإمام مالك رحمه الله لهذا الرّجل: وإني لأظنك ضالاًّ، أخرجوه. فلما أخرجوه نادى الرجل الإمام مالكاً رحمه الله قال: يا أبا عبد الله لقد سألتُ عن هذا أهل الكوفة والبصرة والعراق، فلم أجد أحداً وُفِّق إلى ما وفقت إليه.
كأن هذا الرجل وجد جواب الشبهة التي دارت في صدره وحارت وطلب جوابها عند علماء البصرة وعلماء الكوفة وعلماء العراق، فلما أجابه الإمام مالك -رحمه الله- بهذا الجواب شفى ما في قلبه من شبهة وأزال ما في قلبه من عارض.
وهذا الجواب لم يكن جواباً مخترعاً من الإمام مالك رحمه الله؛ بل إنه قد نقل عن غيره من أئمة السلف، فهو منقول عن شيخ الإمام مالك، عن ربيعة الرأي، عن ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله، وقد نقل عن بعض الصحابة كأم سلمة.
المراد أنه منقول عن غير واحد من سلف هذه الأمة، وقد تلقاه علماء الأمة بالقبول، فكثير من أهل العلم يتناقل هذا القول ويحتج به، وهو قول مسدد في جواب هذه الشبهة.
بعد هذا ننتقل إلى الفصل الثاني الذي ذكره المؤلف رحمه الله في هذه العقيدة المباركة.
(فصل
ومِنْ صِفات الله تعالى أنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ، يُسْمِعُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. سَمِعَهُ مُوسى -عليْه السلامُ- مِنْهُ مِنْ غيُرِ وَاسِطَةٍ، وسَمِعَهُ جِبْريلُ عليْه السلامُ، وَمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ ملائكتِهِ، وَرُسُلِهِ.
وأنَّه سُبْحَانَه يُكَلِّمُ المؤمنين في الآخِرَةِ، ويُكلِّمُونَهُ، ويَأْذَنُ لهم فَيَزُورُونَهُ، قال اللهُ تعالىٰ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾،[سورة : النساء (164).]وقال سبْحانه: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾،[سورة : الأعراف (144).]وقال سبْحانه: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾،[سورة : البقرة (253).]وقال سبْحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾،[سورة : الشورى (51).]وقال سبْحانه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾[سورة : طه (11-12).]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾[سورة : طه (14).]وغيْرُ جائِزٍ أنْ يقولَ هذا أَحَدٌ غيْرُ الله.
وقالَ عبْدُ الله بنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إذَا تَكَلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّماءِ، رُوي ذلك عَنِ النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.[استشهد به البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالىٰ: ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾[سبأ:23].]
وَرَوى عبدُ الله بْنُ أُنَيْسٍ عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قالَ:((يَحْشُرُ الله الخلائِقَ يوْمَ القيامَةِ عُرَاةً حُفاةً غُرْلاً بُهْمًا فَيُنَادِيهم بصوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان))رواهُ الأئمةُ[أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد.] واسْتَشْهَدَ به البخاريُّ.[استشهد به البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالىٰ: ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾[سبأ:23].]
وفي بعْضِ الآثارِ أنَّ موسى -عليْه السلامُ- ليْلةَ رأى النّارَ فَهَالَتْهُ، فَفَزِعَ منْها، فَنَاداهُ رَبُّهُ: يا موسى! فأجابَ سريعًا اسْتِئْناسًا بالصَّوْتِ، فَقَالَ: لبَّيْكَ لبَّيْكَ أسْمَعُ صوْتَكَ ولا أَرَى مكانَكَ، فأين أنتَ؟ فقال: أنا فَوْقَكَ، وَأَمَامَكَ، وعَنْ يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، فَعَلِمَ أنَّ هذِهِ الصِّفَةَ لا تَنْبَغِي إلاَّ للهِ تَعالى. قال: كَذَلِكَ أنْتَ يَا إِلهي أفَكلامَك أسمعُ أمْ كلامَ رسولِك؟ قال: بلْ كلامي يا موسى).
هذا الفصل خصّه المؤلف -رحمه الله- بذكر صفة جليلة من صفات الربّ جل وعلا وهي صفة الكلام، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موصوف بالكلام أزلاً وأبداً، فالكلام صفة من صفات الذات، وهي صفة من صفات الفعل باعتبار الآحاد والأفراد، أما باعتبار الأصل فالكلام من الصِّفات الذاتية.
يقول -رحمه الله- تعالىٰ: (ومِنْ صِفات الله تعالىٰأنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ) والمقصود بـ(القديم) أي الأول الذي ليس قبله شيء، فكلامه ليس صفة حادثة بعد أن لم يكن؛ بل كلامه جلّ وعلا من صفاته الذاتية التي لم يزل متصفاً بها، ولا يزال متصفاً بها، وقد اتفق على إثبات هذه الصفة لله جل وعلا أهل السنة والجماعة -أئمة هذا الدين من الصحابة فمن بعدهم- فلا خلاف بينهم في إثبات هذه الصفة؛ بل إن هذه الصفة دل عليها كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما لا مجال لإنكارها؛ بل إنّ إنكار هذه الصفة يفضي إلى إنكار الرسالة من أصلها، ولذلك الذين ينكرون أن يرسل الله رسولاً إما أن ينكروا أن الله يكلم أحداً، وإما أن ينكروا أن الله ينزل على رسوله كتاباً ، كما قال الله عز وجل: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾،[ سورة : يونس (2).]فجعل الله -عز وجل-تعجب الكفار أن يوحي إلى رجل منهم، ولذلك قال القائل منهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾[سورة : المدثر (25).]، فأنكر أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا، فالإنكار لمسألة تكلم الله -عز وجل- وصفة الكلام له جل وعلا من أخطر ما يكون؛ لكونه يوافق قول المكذبين للرسل، فيلغي الرسالة ويلغي أن يكون الله -جل وعلا- قد أرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وأنه أوحى إليهم وأرسل إليهم.
فهذه المسألة من أخطر ما يكون، ولذلك إثبات هذه الصفة اتفق عليها الرسل جميعاً، فكل الرسل أخبروا أقوامهم بأن الله أوحى إليهم، وأنه كلمهم، وأنه بعثهم وأرسلهم، فإثبات صفة الكلام مما أجمعت عليه كتب الله عز وجل كلها، فمن أنكر هذه الصفة فقد أنكر ما اتفق عليه الرسل جميعاً.
والكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله -عز وجل- كلام قديم، بمعنى أنه كلام لا أول له، فليس الكلام صفة حادثة بعد أن لم تكن، وهذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (أنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ)؛ لكن هل هذا الكلام حادث الأنواع أي متجدد أم أنه كلام تكلم به ثم فرغ منه؟
الجواب: أنه كلام متجدد، ولذلك هو بهذا الاعتبار من صفات الأفعال، فلما نادى الله عز وجل آدم وحواء بعدما وقع منهما ما وقع من المخالفة، هذا نداء حادث في وقته أم أنه نداء متقدم في الأزل؟ معلوم أنه حادث في وقته.
لما أنزل الله عز وجل القرآن على رسوله هل تكلم به وقت نزوله أو لا ؟ الجواب: نعم تكلم به وقت نزوله.
فالله -جل وعلا- يتكلم بكلامه متى شاء وكيف شاء جل وعلا؛ لكن هذه الصفة لم يزل متصفاً بها؛ أي إن الكلام ليس حادثاً بعد أن لم يكن.
هذا معنى كلام المؤلف -رحمه الله-: (أنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ).
قال -رحمه الله-: (يُسْمِعُهُ) أي يسمع كلامه منه -جل وعلا- لا من غيره (مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ)، وهـٰذا السماع سماع مباشرة لا بواسطة؛ ولذلك قال: (سَمِعَهُ مُوسى عليْه السلامُ مِنْهُ) أي من الله -جل وعلا- من غير واسطة، فلم يكن بين الله -جل وعلا- وبين موسى عليه السلام واسطة في سماع الكلام؛ بل سمعه مباشرة، وهذا لا يختص موسى عليه السلام من كل وجه؛ يعني أصل سماع الكلام مباشرة ليس خاصًّا بموسى؛ بل كلم الله عز وجل رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مباشرة في ليلة الإسراء؛ بل كلم بعض هذه الأمة بعد موته كما في حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «إنّ الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً»[سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، حديث رقم (3010).سنن ابن ماجه: كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث رقم (2800)، وايضاً رقم (190).قال الشيخ الألباني: حسن.]
أي من غير واسطة، وذلك بعد استشهاده رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في غزوة أحد.
وأما في الآخرة فإنه يكلم كل أحد، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي في الصحيحين: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه تَرجُمان))؛[البخاري: كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، حديث رقم (6539). مسلم: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، حديث رقم (1016).]
أي ليس بينه وبينه مفسر، ((ترجمان)) هو: المفسر الذي يكشف عن معنى الكلام؛ بل سيكلمه مباشرة بلا واسطة، لكن ما جرى لموسى عليه السلام من الكلام في رسالته أمر زائد على سائر ما جرى للأنبياء، ولذلك يوصف موسى -عليه السلام- بأنه كليم الرحمـٰن، ولما يأتي الناس كما في حديث أبي سعيد وغيره في المحشر إلى موسى يقولون له: أنت الذي كلمك الله وكتب لك التوراة بيده. فذكروا ما اختص به دون غيره، وإذا نظرت إلى ذكر إيحاء الله عز وجل للرسل تجد أن ما اختص به موسى عليه السلام مخالف لهم جميعاً.
انظر إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾،[سورة : النساء (163).]هذا خطاب لمن ؟ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ ثم ذكر الرسل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ثم ذكر موسى مفردًا فقال: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)﴾[سورة : النساء (164)]، فدل هذا على أن نصيب موسى من تكليم الله عز وجل مخالف لكل من تقدم حتى النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن ما اختص الله به موسىٰ من صفة التكليم مخالف لغيره، فدلّ ذلك على أن نصيب موسى من هذه الصفة ليس كغيره من الرسل، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، ولم يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن نصيب موسى في هذه الفضيلة وهذه الصفة لم يشاركه فيه أحد، ودليل ذلك من القرآن واضح في آية النساء: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾وذكر جملة من الأنبياء ثم بعد ذلك قال: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، ولم يقل فقط ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى﴾؛ بل أكد ذلك حيث قال: ﴿تَكْلِيمًا﴾فدلّ ذلك على أن حظه ونصيبه من التكليم الذي جرى له -عليه السلام- مخالف لغيره من الرسل، وهذا هو السبب في كونه عليه السلام يوصف بأنه كليم الرحمـٰن، وأن الناس يقولون له يوم المحشر: أنت الذي كتب الله لك التوراة بيده وكلمك بنفسه.
يقول رحمه الله: (وسَمِعَهُ جِبْريلُ عليْه السلامُ) أي: تلقاه جبريل عن الله عز وجل.
قال: (وَمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ ملائكتِهِ، وَرُسُلِهِ) أي: يسمع كلام الله عز وجل من يأذن الله عز وجل في أن يسمع كلامه من ملائكته ورسله.
(وأنَّه سُبْحَانَه يُكَلِّمُ المؤمنين في الآخِرَةِ، ويُكلِّمُونَهُ)، (في الآخِرَةِ) يحتمل أنه في الجنة، ويحتمل أنه في الموقف؛ ولكن المراد أنه يكلمهم في الجنة، وخص المؤمنين بالتكليم -مع أن ظاهر الحديث أنه يكلم أهل الإيمان وغيرهم- لأن تكليمه لأهل الإيمان أعلى ما يكون من الكرم، أما تكليمه لأهل الكفر، فإنه تكليم تقريع وتوبيخ وتعذيب، وليس تكليم إكرام ومِنَّة.
أما تكليمه لأهل الكفر فهو لا إشكال فيه، دل عليه قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله))، والخطاب هنا ليس خاصًّا بالصحابة؛ بل يعم كل أحد، ويدل له أيضاً ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة، وفيه أن الله عز وجل يخلو بعبده الكافر، ويقول له: ((ألم أسوِّدك؟ ألم أربِّعك؟ ألم أجعلك ترأس؟ فيقول: بلى يا ربي. فيقول: أكنت تظن أنك ملاقي؟ فيقول الرجل: لا. فيقول الله عز وجل: اليوم أنساك كما نسيتني))،[مسلم: كتاب الزهد والرقائق، حديث رقم (2968).]وهذا لا يمكن أن يكون من مسلم، لا يكون إلا من كافر.
ثم قال -رحمه الله- في ذكر الآيات الدالة على إثبات هذه الصفة للرب جل وعلا: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾[سورة : النساء (164).]،وذكرنا أن هذه الآية من أصرح الأدلة في إثبات صفة الكلام لله عز وجل؛ لأن الله أكد كلامه بالمصدر في قوله: ﴿تَكْلِيمًا﴾.
والعجيب أن المحرفين قالوا: إن هذه الآية تدل على أن موسى لم يحصل له من الفضل أكثر من غيره، وإنما معنى الكلام هنا الجرح، كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله))، يعني يجرح، فقالوا: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، أي جرّحه بأظافير الحكمة، هكذا حرفوا الكلم عن مواضعه.
مع أن المقام ليس مقام بيان تجريح أو ما أشبه ذلك؛ لأن الله عز وجل ابتدأ الكلام بقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾[سورة : النساء (163).]ثم ذكر تكليمه جل وعلا لموسى، وأكد هذا ومع ذلك حرّفوا هذا الكلم عن مواضعه وقالوا: إن المراد بالتكليم هنا التجريح.
وهذا لاشك أنه يدخل في ما ذكره الله عز وجل من تحريف الكلم عن مواضعه.
(وقال سبْحانه: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾[سورة : الأعراف (144).]) هذا دليل على أن الله عز وجل كلم موسىٰ، وأنه اختصه بشيء من الكلام لا يشاركه فيه أحد من الناس.
طيب، هل هذا يدل على أن موسى أفضل من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ الجواب: لا؛ لأن الاختصاص بفضيلة خاصة لا يلزم منه الفضل من كل وجه.
وهذه قاعدة اجعلها معك في كل ما ورد من الفضائل: ورود فضيلة خاصة لا يلزم منه التفضيل على غيره من كل وجه، هو فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هـٰذا؛ لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل منه من حيث العموم فيما خصه الله به وحباه به من الفضائل. ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ﴾أي اخترتك وخصصتك ﴿عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾.
(وقال سبْحانه: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾[سورة : البقرة (253).]) يعني من؟ الرسل، فدل ذلك أن تكليم الله عز وجل ليس خاصًّا بموسى؛ بل من الرسل من كلم الله عز وجل.
ثم قال -رحمه الله-: (وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾[سورة : الشورى (51).]) فذكر الله -عز وجل- في هذه الآية في آية الشورى مراتب الوحي، وجعلها ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الوحي الذي هو الإلهام.
والمرتبة الثانية: التكليم المباشر.
والمرتبة الثالثة: التكليم بواسطة.
وجعل ذلك كله من مراتب الوحي:
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا﴾،هذه المرتبة الأولى.
﴿أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾هذه المرتبة الثانية، وهي التي جرت وحصلت لموسى عليه السلام.
﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء﴾،وهذه التي يشترك فيها جميع الرسل.
فالآية دالة على أن الله -جل وعلا- يتكلم وأن كلامه جل وعلا أنواع.
هذه الآية احتج بها أهل البدعة على أن كلام الله معنى، ولا يلزم أن يكون كلام الله عز وجل باللفظ، حيث قالوا: إنكم تقولون: إن من مراتب التكليم الوحي؛ لأن الله عز وجل يقول:﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا﴾(وَحْيًا) أي: إلهام وإعلام سريع على وجه الخفاء؛ لأن الوحي في لغة العرب هو الإعلام السريع الخفي، وهذا لا يختص الرسل؛ بل يكون لكل من شاء الله أن يلهمه، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾،[سورة : النحل (68).]فأخبر بإيحائه إلى لنحل، ومنه أيضاً قول الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾[سورة : القصص (7).]مع أنها ليست بنبية ولا رسولة، فهذا الوحي هو الإلهام؛ لكن هل هذا كلام؟ الجواب: ليس بكلام عند الإطلاق، إنما الكلام في لغة العرب عند الإطلاق لا بد فيه من ألفاظ.
يقول ابن مالك:
.............................. |
|
كلامنا لفظ مفيد كاستقم |
فالكلام لا يصح أن يوصف بأنه كلام عند الإطلاق إلا إذا توفر فيه وصفان:
الوصف الأول: اللفظ.
والوصف الثاني: إفادة المعنى.
ولذلك يقول:
............................. |
|
كلامنا لفظ مفيد كاستقم |
أي كلام العرب
فلا بد أن يكون لفظاً، ولا بد أن يكون مفيداً لمعنى، وإلا فإنه لا يوصف بأنه كلام.
المراد أن احتجاجهم بهذه الآية ليس في محله؛ لأن الله -جل وعلا- ذكر الأقسام ليس لأقسام الكلام عند الإطلاق، إنما ذكر أقسام الوحي، ومنه ما يكون إلهاماً، وهذا لا إشكال فيه؛ لكنه لا يسمى كلاماً، وإنما الكلام ما تلفظ به صاحبه.
يقول رحمه الله: (وقال سبْحانه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾[سورة : طه (11-12).]) ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾أي: أتى الشجرة ﴿نُودِي يَا مُوسَى﴾أي: ناداه الله جل وعلا، فالمنادي هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، دليل ذلك قوله تعالى الذي ذكره المؤلف: (وقال سبحانه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾[ سورة : طه (14).])، وهل يسوغ أن يكون هذا من غير الله جل وعلا؟ هل يسوغ أن يكون هذا مخلوقاً كما تقول المعتزلة؟
الجواب: لا؛ لأن المخلوق لا يمكن أن يقول لموسى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾فهذا الكلام لا يجوز أن يصدر إلا من الرب جل وعلا.
ويقول -رحمه الله-: (وغيْرُ جائِزٍ أنْ يقولَ هذا أَحَدٌ غيْرُ الله تعالىٰ)؛ لأنه لا يوصف بهذا إلا الله -جل وعلا- فهو المتكلم بذلك، فلا يجوز أن يكون من خَلْقٍ خَلَقَه، ولا يجوز أن يكون من الشجرة، ولا يجوز أن يكون من ملك، إنما هو من الله جل وعلا.
فموسى -عليه السلام- اختصه الله بالتكليم نداءً ونجاءً، والله -جل وعلا- قد أخبر في عشرة مواضع في كتابه بأنه ينادي، والنداء هو في لغة العرب الكلام بصوتٍ عالٍ.
فدل ذلك على أن كلام الله بحرف وصوت؛ لأنه لا يمكن أن يكون الكلام نداءً إلا إذا كان بصوت، ولذلك ميز الله -جل وعلا- في تكليمه لموسى بين نوعين من الكلام: بين النداء الذي يدعى به البعيد ويسمع بصوتٍ عالٍ، وبين النجاء الذي يكون بين المتقاربين الذي لا يحتاج معه إلى رفع صوت.
قال الله عز وجل: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)﴾[سورة : مريم (52).]فجمع الله لموسى بين النداء وهو الصوت العالي وبين النجاء، وهو الكلام بصوتٍ خفي.
فدل ذلك على أن كلام الله -جل وعلا- بصوت.
في قوله تعالىٰ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾،[سورة : النساء (164).]ذكرنا وجهاً من أوجه التحريف -تحريف معنوي- قالوا: كَلَّم معناها جَرَّح، هذا تحريف اجعله من أمثله التحريف المعنوي.
هذه الآية أيضاً يجتمع فيها نوع آخر من أنواع التحريف سلكه بعضهم وهو التحريف اللفظي حيث قالوا: وكلم اللهَ موسى تكليماً. فنصبوا لفظ الجلالة فقالوا: كلم اللهَ. فجعلوا المكلِّم من؟ موسىٰ هو المتكلم، والمكلَّم من؟ الله. حيث قالوا: وكلم اللهَ موسى تكليماً.
هكذا طلب أحد أئمة البدعة من بعض القراء أن يقرأ الآية قال له: اقرأ قوله تعالىٰ: وكلم اللهَ موسى تكليماً. فأجابه قال: إن أجبتك في هذه فكيف تصنع في قوله تعالىٰ: ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾[سورة : الأعراف (143).]؟ يعني: لا سبيل إلى إلغاء تلك القراءة؛ لأنه واضح في تلك القراءة أن الكلام مضاف إلى من؟ إلى الله جل وعلا، فهذه الآية حاول بعضهم أن يحرفها تحريفاً لفظيًّا لكنه عجز.
قال -رحمه الله-: (وقالَ عبْدُ الله بنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إذَا تَكَلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّماءِ، رُوي ذلك عَنِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).والحديث في الصحيحين: «إذا تكلم الله بالوحي في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خَضَعَاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم»[البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم﴾[سبأ:23]، حديث رقم (4800). لم أجده في مسلم.]. ((كأنه)) الضمير يعود إلىٰ أي شيء؟ إلى كلام الله عز وجل ((كأنه سلسلة)) أي: كأن صوت الله -عز وجل- كالسلسلة على الصفوان، (السلسلة) الحديد الذي يربط بعضه ببعض بحلق صغيرة، كجر السلسلة على الصفوان، والصفوان هو الحجر؛ أي: يصدر صوت عظيم ينفذهم من جراء تكلم الرب جل وعلا.
ثم قال -رحمه الله-: (وَرَوى عبدُ الله بْنُ أُنَيْسٍ عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قالَ:((يَحْشُرُ الله الخلائِقَ يوْمَ القيامَةِ عُرَاةً حُفاةً غُرْلاً))). ((يَحْشُرُ)) أي يجمع ((الخلائِقَ يوْمَ القيامَةِ)) الخلائق يعني: بني آدم والجن وسائر ما خلقه الله جل وعلا، فكل ما له روح يبعثه الله -عز وجل- يوم القيامة من سائر الخلق يحشرهم، كما قال الله -جل وعلا- في ذكر الحشر: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)﴾[سورة : التكوير (5).]فالوحوش تحشر يوم القيامة، والوحوش هي كل حيوان متوحش، فإذا كانت الحيوانات المتوحشة التي تفرّ وتهرب من غيرها تحشر فما بالكم بالحيوانات التي تألف الناس وتكون بينهم؟ حشرها أيسر، وإنما ذكر الوحوش لأنها في الغالب تهرب ممن يريدها ويطلبها، فهي لا تتمكن يوم القيامة من الهرب من الله جل وعلا؛ بل يأتي بها -جل وعلا- محشورة، وكما في قوله تعالىٰ: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)﴾[سورة : الأنعام (38).]أي: كل هؤلاء يحشرون إلىٰ الله عز وجل، كل ما يدب على الأرض أو يطير في السماء فإنه يحشر إلى الله جل وعلا. هذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((يَحْشُرُ الله الخلائِقَ يوْمَ القيامَةِ))؛ لكن هنا ذكر صفة حشر من؟ بني آدم لأنهم هم المقصودون الأولون في حشر يوم القيامة؛ لأن الجزاء والحساب يقع عليهم قبل غيرهم، وما يكون من جزاء وحساب لغيرهم فهو تابع لهم ((عُرَاةً حُفاةً غُرْلاً)) عراةً أي: مجردين من كل لباس، حفاةً أي: ليس معهم ما يقيهم حر وأهوال ذلك اليوم، ((غُرْلاً)) أي: قد كمل خلقهم فما فرّط الله -جل وعلا- من خلقهم في شيء؛ بل يأتون غرلاً أي: غير مختونين كما خلقهم الله -عز وجل-: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)﴾[سورة : الأنبياء (104).]. ((فَيُنَادِيهم -جل وعلا- بصوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ)) أي: يسمعه كل أحد، هذا معنى قوله:((يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان)).
وهذا فيه فائدة أن الناس في حشرهم متفاوتون في المكان، على اتساع المكان فهم منتشرون فيه، فيهم البعيد وفيهم القريب، يُسْمِعُهُم الله -عز وجل- فيقول: ((أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان)) هل يسوغ ويجوز أن نقول: إن الذي ينادي يوم القيامة بهذا الصوت: ((أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان)) هو غير الله؟ الجواب: لا. لأن هذا لا يكون إلا من الله جل وعلا ((أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان)) هذا لا يتكلم به إلا الله جل وعلا، ((أَنَا الملِكُ)) فلا مَلِكَ غيره جل وعلا في ذلك اليوم، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿مَٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾،[سورة : الفاتحة (04).]فلا ملك لأحدٍ معه في ذلك اليوم؛ بل كل ملك يسقط فلا يبقى إلا ملك الله جل وعلا، مع أنه مالك الدنيا والآخرة؛ لكن يظهر ملكه في ذلك اليوم لأنه لا منازع له فيه سبحانه وبحمده. ((أنَا الدَّيَّان)) أي أنا الذي أحاسبكم، فالديان فَعَّال من المحاسبة أي كثير الحساب، فهو يحاسبهم جل وعلا حساباً سريعاً يقضي به الحقوق، ويجزي به على الأعمال.
يقول رحمه الله: (رواهُ الأئمةُ واسْتَشْهَدَ به البخاريُّ) .
والشاهد في هذا الحديث قوله: ((فَيُنَادِيهم بصوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان)).وهذا فيه فائدة، وهي أن كلام الله جل وعلا بصوت، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن النداء بصوت، وإنّما ذكر الصوت هنا تأكيداً، وإلا فالنِّداء لا يكون إلا بصوت رفيع كما ذكرنا عن لسان العرب.
ثم ذكر بعد ذلك قال: (وفي بعْضِ الآثارِ أنَّ موسى عليْه السلامُ ليْلةَ رأى النّارَ) إلىٰ آخر ما ذكر نأتي عليه إن شاء الله تعالىٰ غداً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.