الدرس (6) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح
قال الإمام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسيرحمه الله تعالىٰ:
(وقَوْله تعالىٰ: ﴿قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾.[سورة : الإسراء (88).]
وهُوَ هَذَا الكتابُ العربيُّ الّذي قال فِيهِ الذين كَفَرُوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ﴾،[سورة : سبأ (31).]وقال بعضُهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾،[سورة : المذثر (25).]فَقال الله سُبْحانه: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾،[سورة : المدثر (26).]وقَالَ بَعْضُهم:هو شِعْرٌ. فقال الله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾.[سورة : يس (69).]
فَلَمَّا نَفَى اللهُ عنْهُ أنَّهُ شِعْرٌ وأثبتَهُ قُرْآناً لم يَبْقَشُبْهةٌ[يمكن شكلها: يُبقِ شُبْهةً.]لِذِي لُبٍّ في أنَّ القرآنَ هو هذا الكتابُ العرَبيُّ الَّذي هُوَ كَلِمَات،وحُرُوفٌ وآياتٌ؛ لأنَّ ما ليْس كذلِك لا يقُولُ أحَدٌ:إنَّه شِعرٌ.
وقالَ عزّ وجلّ: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ﴾،[سورة : البقرة (23).]ولا يجوزُ أنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِالإتْيانِ بِمِثْلِ ما لا يُدْرَى ما هُوَ ولا يُعْقَلُ.
وقالَ تَعالىٰ: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾،[سورة : يونس (15).]فأَثْبَتَ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ الآياتُ الَّتي تُتْلَى عَلَيْهِمْ.
وقال تعالىٰ: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾،[سورة : العنكبوت (49).]وقال تعالىٰ: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾،[سورة : الواقعة (77-79).]بَعْدَ أنْ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ.
وقال تعالىٰ: ﴿كهيعص﴾،[مريم:1]﴿حم(1)عسق﴾[سورة : الشورى (1-2).]، وافْتَتَحَ تِسْعًا وعِشْرينَ سُورةً بالحروفِ المقطَّعَةِ.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ))،[أورده الشيخ الألباني في السلسة الضعيفة.]حديثٌ صحيحٌ.
وقال عليْه الصّلاةُ والسّلامُ: ((اقْرَؤوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَتَعَجَّلُونَ أَجْرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ)).[سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، حديث رقم (831).قال الشيخ الألباني: حسن صحيح. وأورده في السلسلة الصحيحة برقم (259).]
وقَالَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رضيَ اللهُ عنْهُما: إِعْرابُ القُرآنِ أَحَبُّ إليْنَا مِنْ حِفْظِ بعْضِ حُرُوفِهِ.
وقالَ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهُ.
واتَّفَقَ المسلمون على عَدِّ سُوَرِ القرآنِ وآياتِهِ وكلِماتِهِ وحُروفِهِ.
ولا خِلافَ بيْن المسلمين في أنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَ القُرآنِ سُورَةً أو آيَةً أو كلِمَةً أو حرْفًا مُتَّفَقًا عليْه أنَّه كافِرٌ، وفي هذا حُجَّةٌ قاطِعَةٌ على أنَّهُ حُروفٌ).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الذي سمعناه صلة ما في هذا الفصل من تقرير أن القرآن كلام الله جلّ وعلا، فقد افتتح المؤلف رحمه الله هذا الفصل بقوله: (ومِنْ كلامِ الله سبْحانه القرآنُ العظيمُ) يقول رحمه الله: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾،[سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، حديث رقم (831).
قال الشيخ الألباني: حسن صحيح. وأورده في السلسلة الصحيحة برقم (259).]تكلمنا على هـٰذا، وقلنا: إن قوله تعالىٰ: ﴿تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾،دليل على أنّ القرآن منزّل من الله جلّ وعلا؛ لأن (مِن) هنا لابتداء الغاية، فالله جلّ وعلا هو المتكلم بالقرآن، هو المنزل له، كما قال جل وعلا: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)﴾.[سورة : النمل (6).]
ثم قال: (وقَوْله تعالىٰ: ﴿قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾[سورة : الإسراء (88).]).
أتى المؤلف رحمه الله بهذه الآية ليبين دليلاً من الأدلة الدالة على أن القرآن كلام الله ليس كلام البشر وليس كلام غيرهم، بل هو كلامه جلّ وعلا، الدليل هو أن الله جلّ وعلا تحدى كل أحدٍ من الإنس والجِن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾أي معيناً، فإنهم يعجزون عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالىٰ: ﴿قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾أي: لا يتمكنون ولا يتوصلون إلىٰ الإتيان بمثله ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾أي: لو كان بعضهم يعين بعضاً في طلب ذلك وفي تحصيله، وهذه الآية هي من الآيات المعجزة الدالة على أنّ هذا القرآن كلام الله عز وجل؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوحى الله إليه بأن يتحدى كل أحدٍ من الأنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهذا التحدي ليس مقصوراً على وقت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزمنه؛ بل هو ممتد امتداد الزمان والمكان، فالتحدي قائم، فمع كثرة المعارض المكذب وشدة سعيه في إبطال دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكذيب رسالته، مع ذلك لم يأت أحد من الخلق يدّعي أنه جاء بمثل هذا القرآن.
وهذا دليل معجز واضح بيّن على أنه كلام ربّ العالمين، وأنه لا يأتي بمثله بشر؛ ﴿قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾أي: لا يمكن أن يأتوا بمثله ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.
قال رحمه الله: (وهُوَ هَذَا الكتابُ العربيُّ الّذي قال فِيهِ الذين كَفَرُوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ﴾[سورة : سبأ (31).]) يعني الذي وقع التحدي الذي تحدى الله جلّ وعلا الإنس والجِن على أن يأتوا بمثله هو هذا القرآن الذي كذب به أهل الكفر حيث قالوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾،[سورة : سبأ (31).]يعني ولا بالذي تقدمه وسبقه من الكتب، (وقال بعضُهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾[سورة : المذثر (25).]) ما هذا إلا قول البشر، (إِنْ) هنا بمعني (ما) النافية؛ فهي تنفي أن يكون هذا القرآن شيئاً من الأشياء ﴿إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾؛ أي قول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كذّبهم الله جلّ وعلا بهذا، وإذا كان قول البشر فأتوا بمثله فإنكم لا تعجزون عن أن تأتوا بمثله وأنتم أصحاب اللسان والبيان، (فَقال الله سُبْحانه: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾،[سورة : المدثر (26).]) في حق من؟ في حق من قال: إن هذا القرآن قول البشر. فقد تهدّد الله جل وعلا وتوعد من زعم أن القرآن كلام غيره، وأنه قول البشر بأنه جلّ وعلا سيصليه صقر، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)﴾[سورة : المدثر (27-30).]هي نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، فتهدد الله وتوعد كل من قال: إن القرآن كلام البشر بهذا الوعيد الشديد، (وقَالَ بَعْضُهم) أي قال بعضُ العرب في هذا القرآن: (هو شِعْرٌ)، فكذبهم الله جلّ وعلا فقال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾،[ سورة : يس (69).]﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ﴾أي ما علمنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشعر، فهو لا يقول شعراً، وما يكون منه من بيت أو شبهه فإنه لا يوصف بذلك بأنه شاعر، إنما هو مما قد يندُّ عن كل أحد ولا يوصف من قال بيتاً أو بيتين أو ثلاثة بأنه شاعر، فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلمه الله عز وجل الشعر، وذلك أن الشعر وظيفة أصحاب البيان الذين ينشئون المعاني والألفاظ من قبل أنفسهم، ويتجاوزون الحدود في وصف ما يصفون أو قول ما يقولون، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226)﴾،[سورة : الشعراء (224-226).]فلما كان هذا هو الوصف الغالب لهؤلاء نفى الله جل وعلا عن رسوله أن يكون شاعراً، بل نفى تعليم الشعر فضلاً عن أن يكون قائلاً للشعر ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾أي ويستحيل عليه هذا معنى قوله: ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾.﴿إِنْ هُوَ﴾أي ما هذا القول وما هذا الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾وشتان بين قول رب العالمين وبين ما ينشئه الشعراء أو يقوله أصحاب البيان من الفصحاء، فالبَوْن بينهما شاسع والفرق بينهما كالفرق بين صفات الله عز وجل وصفات المخلوقين، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وكل من سمع القرآن وقرأه يعلم أنه ليس قول البشر، إنما هو قول رب العالمين جلّ وعلا.
أما قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ (إن) هنا بمعنى إن النافية ما هو إلا ذكر وقرآن مبين، (فَلَمَّا نَفَى اللهُ عنْهُ أنَّهُ شِعْرٌ وأثبتَهُ قُرْآناً لم يَبْقَشُبْهةٌلِذِي لُبٍّ في أنَّ القرآنَ هو هذا الكتابُ العرَبيُّ الَّذي هُوَ حُرُوفٌ وكلِماتٌ، وآياتٌ؛ لأنَّ ما ليْس كذلِك لا يقُولُ أحَدٌ:إنَّه شعرٌ).
إذاً يقول -رحمه الله- في الاستدلال: (فَلَمَّا نَفَى اللهُ عنْهُ)أي نفى عن القرآن(أنَّهُ شِعْرٌ وأثبتَهُ قُرْآناً لم يَبْقَ شُبْهةٌ) الشبهة هي: عارض يعتري القلب، يحول بينه وبين رؤية الحق ومعرفته وإدراكه.
يقول رحمه الله: (لم يَبْقَ شُبْهةٌلِذِي لُبٍّ) أي: لصاحب عقل وصاحب بصر في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي جاء به مَن؟ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(الَّذي هُوَ.. كلِماتٌ) أي: إنه مكون من كلمات وحروف وآيات؛ (لأنَّ ما ليْس كذلِك لا يقُولُ أحَدٌ:إنَّه شِعرٌ) يعني لولا أن هذا القرآن الذي يخبر الله بأنه منه، وأنه قوله، ونفى أن يكون قول البشر، لو لم يكن محل الخلاف هو القرآن لما نفى أنه شعر، فلما نفى أنه شعر وبيَّن أنه ليس بقول البشر عُلم أنه قول رب العالمين، كما قال الله جلّ وعلا:﴿تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾،[سورة : فصلت (42).]في ما ساقه المؤلف من الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله جلّ وعلا.
(وقالَ عزّ وجلّ: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ﴾،[البقرة:23]) ذكر المؤلف رحمه الله دليلاً آخر من الأدلة الدالة على أن القرآن كلام الله، استدل لذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾في ريب يعني في شك واشتباه وعدم بصيرة، ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾فتحداهم الله جلّ وعلا أن يأتوا بسورة ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾أي مثل ما أنزل جلّ وعلا على رسوله، فـ﴿مِنْ﴾هنا بيانية، أي: فأتوا بسورة مثل إحدى سور القرآن.
وهذا يبين لنا أن التحدي لهؤلاء كان على مراتب:
فتحداهم الله جلّ وعلا أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله.
ثم انتهى التحدِّي إلى أن يأتوا بسورة من مثله، فقال تعالىٰ: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ﴾فلم يأتوا بسورة من مثله. وأقل سورة في القرآن كم عدد آياتها؟ ثلاث آيات وهي سورة الكوثر، فلم يأتوا بمثله، وهذا يدل على عظيم إعجاز هذا القرآن، وأنه من البيان والفصاحة والقوة في الألفاظ والمعاني، وأنه في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنىً ما لا يمكن أن يدرك شأوه، أو يبلغ حده أبلغ البلغاء وأعظم الفصحاء؛ بل إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أوتي جوامع الكلم يميز المؤمن بين كلامه وبين كلام رب العالمين، وترى الفرق واضحاً بيناً بين كلام الله عز وجل وبين كلام الذي أوتي جوامع الكلم، فكيف بغيره؟ فيتميَّز للإنسان ما قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكلام وما جاء به كلام رب العالمين.
يقول رحمه الله: (ولا يجوزُ أنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِالإتْيانِ بِمِثْلِ ما لا يُدْرَى ما هُوَ ولا يُعْقَلُ) هذا فيه بيان أن القرآن ألفاظه ومعانيه من كلام رب العالمين، فإن الله جلّ وعلا تحداهم ليس فقط أن يأتوا بألفاظ مثل ألفاظ القرآن، إنما تحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو يأتوا بسورة من مثله في ألفاظه ومعانيه، فإنّ إعجاز القرآن لا يقتصر فقط على إعجاز الألفاظ، ولا على إعجاز المعاني فحسب، بل إعجاز القرآن في لفظه ومعناه، وهذا الذي وقع عليه التحدي.
يقول رحمه الله: قال تعالىٰ: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾﴿تُتْلَى﴾ أي تُقرأ، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي على الكفار ﴿آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾أي واضحات لا لبس فيها لا في ألفاظها ولا في معانيها ﴿قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾أي: قال الذين لا يخافون أو لا يطمعون، فالرجاء يطلق على الخوف ويطلق على الطمع، فقوله تعالى: ﴿قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ أي: الذين لا يطمعون في لقائنا، أو الذين لا يخافون لقاءنا، ومنه قوله تعالىٰ: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ﴾[سورة : الكهف (110).]يعني من كان يخاف لقاء ربه، أو من كان يطمع في لقاء ربه، فالرجاء يطلق على الخوف ويطلق على الطمع، فهو من المعاني المشتركة.
يقول: ﴿لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾يقولون في الاحتجاج والاعتراض على القرآن وعلى ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ أعطنا وأحضر لنا قرآناً غير هذا ﴿أَوْ بَدِّلْهُ﴾أي: غيِّر فيه بحذف بعضه، أو الزيادة عليه، أو ما أشبه ذلك من أنواع التبديل والتغيير.
جاء الجواب من رب العالمين: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله -عز وجل- أمر رسوله أن يخبرهم أنه ليس إليه التبديل ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ولو كان قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي تكلم به، هو الذي أنشأه، أو كان قول جبريل لكان يمكن أن يبدل أو أن يغير؛ لكن الله عز وجل أخبره بأنه لا يمكن أن يبدله محمد أو يأتي بغيره؛ لأنه رسول رب العالمين، ولذلك قال: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾؛يعني ما أتبع إلا ما أوحاه الله إليّ، فإذا كان رسولاً مُتَّبِعاً فليس إليه تبديل القرآن ولا الإتيان بغيره.
قال رحمه الله: (فأَثْبَتَ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ الآياتُ الَّتي تُتْلَى عَلَيْهِمْ) لقوله تعالىٰ: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا﴾،[ سورة : يونس (15).]فالقرآن هو كلام الله عز وجل الذي تلاه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هؤلاء (وقال تعالىٰ: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾،[سورة : العنكبوت (49).]) هو الضمير يعود إلى أي شيء؟ إلى القرآن ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾بينات أي: واضحات، ﴿فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾معنى هذه الآية:
أن القرآن آيات واضحات في صدور الذين منَّ الله عليهم بالعلم فليس فيه التباس ولا اشتباه.
والمعنى الثاني: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾أي: محفوظات في صدور الذين أوتوا العلم، ولذلك قال: ﴿فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾.
فقوله تعالىٰ: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾:
يحتمل أنه يريد:
أنه بَيِّن في صدورهم يعلمون أنه الحق ويدركون معانيه.
ويحتمل أنه محفوظ في صدورهم.
ويحتمل أنه يريد الأمرين وهو الصواب.
أي إن القرآن في صدور الذين أوتوا العلم حفظاً وفهماً، فكلما علا نصيب الإنسان من فهم كتاب الله عز وجل كان داخلاً في هذه الآية، وكان حقيقاً بها، فقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾لا يقتصر فقط على حفظه؛ بل على فهمه وهو الأهم، فهم القرآن أهم من حفظ بعض حروفه، كما نُقل ذلك عن أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعمر حيث قالا: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. وليست هذه دعوة لأن يترك الإنسان حفظ القرآن؛ لكنها دعوة إلى أن يجتهد في فهم معناه وإدراك معانيه كاجتهاده في حفظه أو أشد؛ بل ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الصحابة كانت عنايتهم الفائقة في فهم الكتاب، وكان الذي يحفظ الكتاب منهم هم القلة، فالأكثرون كانوا يعتنون بالفهم لمعاني كلام الله عز وجل، ولهم عناية بالحفظ؛ لكن كانت عنايتهم بالفهم أعظم؛ لأن الفهم هو المقصود الأول من هذا الكلام الذي أوحاه الله عز وجل لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال رحمه الله: (وقال تعالىٰ:﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾،[ سورة : الواقعة (77-79).])﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾أي: هذا الكلام الذي جئت به يا محمد قرآن كريم. (كَرِيمٌ) أي كثير الخير والبركة والإحسان والفضل والأجر، فالكريم فعيل بمعنى فاعل فهو مكرِم لأهله، يشفع لهم في القبر ويشفع لهم في الآخرة ويحصّلون به خيراً كثيراً، كما قال الله عز وجل: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾[سورة : ص (29).]فهو مبارك في لفظه، مباركٌ في معناه، مباركٌ على حافظه، مبارك على العامل به، مبارك في الدنيا، مبارك في الآخرة، مبارك في البرزخ، مبارك في المحشر، بركته من أعظم البركات، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بركة هذا الكتاب المبين. ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)﴾أي محفوظ ، والمراد بالكتاب المكنون هنا اللوح المحفوظ، فالقرآن في الكتاب المكنون، ولا يخلو هذا من أحد معنيين:
المعنى الأول:أن يكون ذكره في الكتاب المحفوظ، أن يكون ذكر القرآن في الكتاب المحفوظ، لا جميع آياته وكلماته، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ (196)﴾[سورة : الشعراء (196).]أي هذا القرآن في زبر الأولين مذكور، وليس أنه قد جاءت به الرسل التي سبقت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المعني الثاني في قوله تعالى: ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾أنّ القرآن بجميع آياته وألفاظه في الكتاب المكنون قبل أن يتكلم الله جلّ وعلا به، وهذا معنىً ثان لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾.
﴿لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾هذا المقصود به اللوح المحفوظ، لا يمسه إلا المطهرون، والمطهرون هم الملائكة.
ومن استدل بهذه الآية على أنه لا يجوز مس المصحف إلا بطهارة، فإن استدلاله لا يصح أن يكون على هذا المعنى؛ لأن الكتاب المكنون ليس القرآن، إنما الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ.
يقول رحمه الله:( بعد أن أقسم على ذلك) أقسم على ماذا؟ أقسم على قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾. ما هو القسم؟ ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)﴾[سورة : الواقعة (75-77).]هذا المقسم عليه في قوله تعالىٰ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾،وقوله: ﴿فَلاَأُقْسِمُ ﴾:﴿لاَ﴾ هنا للعلماء فيها أقوال:
منهم من قال: إن ﴿لاَ﴾هنازائدة؛ صلة، والتقدير: أقسم بمواقع النجوم.
ومنهم من قال: إن ﴿لاَ﴾ هنا لنفي كلام سابق مقدّر، أي لا أنظر إلىٰ ما تقولون، ولا أستمع إلى شبهكم، وأقسم بمواقع النجوم. فهو لنفي كلام سابق.
وقيل: إن ﴿لاَ﴾ هنا تفيد التوكيد والتحقيق لهذا القسم، فإن العرب تزيد (لا) في القسم لتأكيده.
وقيل: إن ﴿لاَ﴾ هنا للنفي؛ أي لست محتاجاً إلى أن أقسم، لوضوح الأمر وبيانه.
والصحيح أن ﴿لاَ﴾ هنا صلة تفيد توكيد القسم وإثباته، لا نفيه، ولا نحتاج إلى أن نقدر منفيًّا كما ذكرت في الأقوال السابقة.
قال رحمه الله: (وقال تعالىٰ: ﴿كهيعص﴾[سورة : مريم (1).]، ﴿حم(1)عسق﴾[سورة : الشورى (1-2).]، وافْتَتَحَ تِسْعًا وعِشْرينَ سُورةً بالحروفِ المقطَّعَةِ).أراد المؤلف رحمه الله بهذا أن يبين أن القرآن حروف ومعانٍ، وأن الحروف كلام الله وأن المعاني كلام الله، ليس الحروف كلام الله دون المعاني، ولا المعاني كلام الله دون الحروف؛ بل القرآن حروفه ومعانيه كلام الله تعالىٰ، وهذا الذي أجمع عليه سلف الأمة.
وهو يرد بهذا على من قال: إن القرآن كلام الله من حيث المعنى، أما الحروف فإنها ليست كلام الله. كما يقوله الكُلاَّبية والأشعرية.
فأول من قال بهذا القول (أن المعاني هي كلام الله دون الحروف) أول من قال بذلك عبد الله بن سعيد ابن كُلاب، وهو أول من أظهر هذا القول في الإسلام فلم يسبق إليه، تبعه عليه -أي تبع عبد الله بن كُلاب على هذا القول- أبو الحسن الأشعري، ثم قال به كثيرٌ من الناس ممن يتبع هذين بعد ذلك.
والذي عليه سلف الأمة ودل عليه الكتاب والسنة أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، فليس الحرف كلام الله دون المعاني، ولا المعاني كلام الله دون الألفاظ؛ بل الحروف والمعاني هي كلام الله جلّ وعلا.
أما هذه الحروف المقطعة التي افتتح الله بها بعض السور فقد اختلف العلماء فيها رحمهم الله على أقوال ثلاثة في الجملة؛ يعني أقوال كثيرة؛ لكن نجملها في ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا معنى لها مطلقاً ليس لها معنى في ذاتها، وهذا القول قول مجاهد بن جبر إمام التفسير أخذ تفسيره عن ابن عباس وغيره من الصحابة؛ لكنه ممن اختص بابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هذا القول الأول أنه لا معاني لهذه الحروف.
استدل هؤلاء بأي شيء ؟ بأن الله عز وجل وصف القرآن بأنه كتاب عربي مبين، وأنه أنزله بلسان العرب، والعرب لا تعرف لهذه الحروف المقطعة معاني. هذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن هذه الحروف لها معانٍ واختلف هٰؤلاء أو انقسم هؤلاء إلى قسمين:
قسم قالوا: لها معنى الله أعلم به، لا ندرك معناها.
والقسم الثاني:قالوا في بيان معانيها:
فمنهم من قال: إنها أسماء للسور.
ومنهم من قال: إنها أسماء للرسول.
ومنهم من قال: إنها أسماء من أسماء الله عز وجل.
ومنهم من قال: إنها تعبر عن مدة عُمر هذه الأمة.
وقيل غير ذلك.
القول الثالث: التوقف، ومعنى التوقف أنهم لا يجزمون بأحد القولين، لا يقولون: إن لها معنى، ولا يقولون: إنه ليس لها معنى؛ بل يتوقفون.
هذه ثلاثة أقوال لأهل العلم في هذه الحروف المقطعة التي افتتح الله بها بعض سور القرآن.
والراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو القول الأول، وأنها ليس لها معنى مطلقاً.
طيب إذا كان ليس لها معنى، هل منها فائدة؟ الجواب: نعم، منها فائدة، ما فائدتها؟ فائدتها بيان إعجاز القرآن، ولذلك الملاحظ في جميع موارد هذه الأحرف أنه يأتي بعدها ذكر القرآن تعظيماً وامتناناً، ولم ينخرم هذا الاطراد إلا في موضعين أو ثلاثة، وإلا ففي جميع الموارد كانت هذه الأحرف معقبة متلوة بذكر القرآن.
﴿الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾،[سورة : السجدة (1-2).]﴿ الۤمۤ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[سورة : البقرة (1-2).]﴿حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)﴾[سورة : فصلت (1-2).]وما أشبه ذلك من الموارد التي تذكر فيها هذه الحروف ثم بعد ذلك يشيد الله -جلّ وعلا- بالقرآن الكريم، لم ينخرم هذا إلا في سورة الروم قال الله عز وجل: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾[سورة : الروم (1-3).] أيضاً العنكبوت ماذا قال الله؟ ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾[سورة : العنكبوت (1-2).]القلم ماذا قال؟ ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾،[سورة : القلم (1-2).]فلم يذكر القرآن ومريم: ﴿كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾،[مريم (1-2).]لكن إذا تأملت في هذه السور التي لم يأتِ فيها ذكر القرآن صريحاً تجد أنه ذكر فيها ما لا يتلقى إلا من القرآن.
فعلى سبيل المثال سورة الروم قال الله تعالىٰ: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ﴾هذا خبر عن ماذا ؟ عن واقع، وهو ما حدث من ظهور فارس على الروم ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾من أين هذا؟ هل يتلقى هذا من غير الوحي؟ من غير القرآن؟ لا، فلذلك تجد أن ما لم يذكر فيه القرآن صريحاً في المواضع التي ذكرت فيها هذه الحروف المقطعة، ذُكر فيها شيء يتعلق بالقرآن، أو لا يمكن أن يحصل ولا يتلقى إلا من القرآن، فعادت كسائر المواضع أنها بيان للإعجاز، ووجه الإعجاز في هذه الأحرف أنها من كلام العرب، من هذه الحروف يتكون كلام العرب، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة من مثله.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ))) أعربه أي أفصح في قراءته وأبان ولم يلتبس عليه الكتاب، ((فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ))أي مال عن القراءة التي جاء بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ)).
وقد روي هذا من حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في جامع الترمذي، وفيه قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول:ألم حرف؛ بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) والحديث صحيح، قال عنه الترمذي: حديث حسنٌ صحيح غريب.[سنن الترمذي: كتاب ثواب القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر، حديث رقم (2910). وقال الترمذي: هـٰذا حديث حسن صحيح غريب من هـٰذا الوجه.
قال الشيخ الألباني: صحيح. وأورده في السلسلة الصحيحة برقم (3327).]
ثم قال رحمه الله: ((اقْرَؤوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ)) أي يعتنون بإقامة كلماته. ((لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)) أي إنّه لا ينفذ إلىٰ قلوبهم؛ لأنّ التراقي، الترقوة هي العظمة التي تحيط بالنحر، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)) أي إنهم يقتصرون في أثرالقرآن وإقامته على اللسان دون أن ينفذ إلى قلوبهم إصلاحاً وتزكية وتربية، هذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَتَعَجَّلُونَ أَجْرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ))؛ أي: يتعجلون تحصيل نفعه والكسب من ورائه في الدنيا ((وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ)) أي ولا يحتسبون ذلك عند الله عز وجل في الآخرة، فهم يقرؤون إما ليحصلوا كسباً دنيويًّا، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يدركها بعض من يقرأ القرآن في الدنيا ولا ينظرون إلىٰ ثواب الآخرة وأجرها ، وما أعد الله عز وجل لأهل القرآن.
(وقَالَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رضيَ اللهُ عنْهُما: إِعْرابُ القُرآنِ أَحَبُّ إليْنَا مِنْ حِفْظِ بعْضِ حُرُوفِهِ).(إِعْرابُ القُرآنِ) أي الإفصاح به، وإدراك معانيه، لماذا جاء التركيز على الإعراب؟ لأن الإعراب سُلَّمُ الفهم، فلا يمكن للإنسان أن يفهم كلام الله إلا إذا أعربه، ولذلك قال ابن عطية رحمه الله: إعراب القرآن أصلٌ في الشريعة؛ لأن به لك تقوم معانيه التي هي من الشرع.
فالمقصود أن إعراب القرآن بلغ هذا الشأو وهذه الأهمية وهـٰذه المنزلة لأنه سبيل فهم الألفاظ، فإذا لم يقم الإنسان الإعراب لم يتمكن من فهم القرآن، وليس الإعراب أن يعرف الفاعل من المفعول فقط دون أن يفهم ما يترتب على هذا الفهم من الفاعل والمفعول، المقصود من الإعراب أن يفهم كلام الله عز وجل وأن يدرك المعنى الذي جاءت به الآيات.
(وقالَ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهُ).وهذا لا إشكال فيه، أن من أنكر كلمةً أجمعت الأمة على أنها من القرآن فقد كفر به كله، (كَفَرَ بِهِ كُلِّهُ) أي كفر بجميعه لأنه لا يتم الإيمان ولا يثبتُ بناؤه ولا يستقر قراره إلا بأن يؤمن بجميع القرآن، فمن آمن ببعضه وكفر ببعض فإنه لم يؤمن به لأن الله لم يرضَ من الإيمان بالكتاب إلا أن يؤمن بجميع ما أخبر به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما قلنا: ما أجمع عليه العلماء؛ لأنه قد وقع في بعض الحروف خلاف هل هي من القرآن أو لا؟ على اختلاف القراءات، فلذلك من كفر بحرف أجمع العلماء على أنه من القرآن فقد كفر به كله.
قال رحمه الله: (واتَّفَقَ المسلمون على عَدِّ سُوَرِ القرآنِ وآياتِهِ وكلِماتِهِ وحُروفِهِ).فأهل الإسلام اعتنوا بهذا القرآن عناية فائقة في ضبطه والإحاطة به ومعرفته، وهذا من نعمة الله عز وجل على هذه الأمة، أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكل حفظ القرآن إلىٰ فئة من الناس ولا إلى أفراد؛ بل الأمة تلقت هذا القرآن جيلاً بعد جيل، ينقله الخلف عن السلف بسلاسل ثابتة واضحة، فالأمة تلقت هذا القرآن قرنًا بعد قرن ولم يجرِ فيه أي تغيير، ولذلك تذهب إلىٰ حيث ذهبت في أرض أو في سماء تجد أن الأمة متفقة على هذا القرآن ليس بينهم اختلاف فيه، قد يختلفون في طريقة أداء القرآن يعني في طريقة القراءة؛ لكنهم لا يختلفون على حروفه وكلماته وآياته فهي محفوظة بحفظ الله تعالىٰ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾[ سورة : الحجر (9).]يقول: (ولا خِلافَ بيْن المسلمين في أنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَ القُرآنِ سُورَةً أو آيَةً أو كلِمَةً أو حرْفًا مُتَّفَقًا عليْه أنَّه كافِرٌ) لأنه آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض (وفي هذا حُجَّةٌ قاطِعَةٌ على أنَّهُ حُروفٌ)، وكل هذا لبيان وإبطال الذين قالوا: إن القرآن معانٍ لا حروف.
والمؤلف -رحمه الله- أطال في مسألة الحرف والمعنى لكونه يرد على الأشاعرة الذين يقولون: إنّ القرآن المعنى من الله والحروف من جبريل أو محمد. ولو كانت الحروف من غير الله لما بلغت هذا المبلغ من التعظيم والحفظ والصيانة والمكانة.
وأنتم تعلمون أن كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاز العلماء نقله بالمعنى؛ لكن هذا لم يأت في القرآن فالأمة مجمعة على أنه لا يجوز نقل القرآن إلا كما سُمع، وكما تلقته الأمة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
وبهذا قد يكون انتهى الفصل المتعلق بتقرير أن القرآن كلام الله، ونقف عليه، ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.