الدرس (8) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح
قال الإمام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى:
(فصل
ومِنْ صِفاتِ اللهِ تعالى أنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ،لا يَكُونُ شَيءٌ إلا بِإرادَتِهِ،وَلا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ،وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَلا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِهِ، ولا مَحِيدَ عَنِ القدَر المقدورِ، ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوحِ المسْطورِ،أرَاد ما العالَمُ فاعِلوهُ، وَلَوْ عَصَمَهُم لمَاَ خالَفوهُ، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعًا لأَطاعُوهُ، خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم، وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجَالَهُم، يَهْدِي مَنْ يَشاءُبِرَحْمَتِهِ، وَيُضِلُّمَنْ يَشاءُبِحِكْمَتِه، قال اللهُ تعالىٰ: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾،[سورة : الأنبياء (23).]وقال اللهُ تعالىٰ: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾،[سورة : القمر (49).]وقال تعالىٰ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾،[سورة : الفرقان (2).]وقال تعالىٰ: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾،[سورة : الحديد (22).]وقال تعالىٰ: ﴿فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾.[سورة : الأنعام (125).]
رَوَى عُمَرُ أنَّ جِبْرِيلَ عليه السلامُ قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الإيمان؟ قال: ((أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ))،فقال جبريل: صَدَقْتَ. متفق عليه.[البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان..، حديث رقم (50). مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.. حديث رقم (8). واللفظ له.]
وقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((آمنْتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ)).[أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث، من طريق يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، ويزيد الرقاشي ضعيف، كما في التقريب بل قال النسائي: متروك، وأحمد: منكر الحديث. وجاء في سنن ابن ماجه: كتاب المقدمة، باب في القدر، حديث رقم (87)، بلفظ ((وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها)). قال الشيخ الألباني: ضعيف جدًّا.]
ومِنْ دُعَاءِ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الّذي علَّمَهُ الحسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَدْعُو بِهِ في قُنُوتِ الوِتْرِ: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ)).[سنن الترمذي: كتاب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر، حديث رقم (464). سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، حديث رقم (1425).سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في الوتر حديث رقم (1178).سنن النسائي: كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، حديث رقم (1745).قال الشيخ الألباني: صحيح.]
ولاَ نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَهُ حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِهِ واجْتِناب نَوَاهِيه، بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبعْثَةِ الرُّسُلِ، قال اللهُ تعالىٰ: ﴿لِئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[سورة : النساء (165).].
ونعلَمُ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىما أَمَرَ ونَهى إلاَّ المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَداً على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَةٍ، قال اللهُ تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾،[سورة : البقرة (286).]وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾،[سورة : التغابن (16).]وقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾.[سورة : غافر (17).]
فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا يُجْزَى على حَسَنِهِ بالثَّوابِ، وعلى سَيِّئِهِ بالعِقابِ، وهو واقِعٌ بقضاءِ الله وقَدَرِه).
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الفصل ذكر فيه المؤلف -رحمه الله- ما يتعلق بالإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان أحد إلا بها، فلا بد للمؤمن أن يؤمن بالقدر خيره وشره، وكل من كان غير مؤمن بالقدر فإنه لم يحقق الإيمان الذي تحصل به النجاة من النار، وقد دلّت الأدلة في الكتاب والسنة وأجمع سلف الأمة من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم والتابعين وأئمة الدين على وجوب الإيمان بالقدر، وأنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر.
وقد قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في بيان منـزلة الإيمان بالقدر: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه.
وهذا يدل على أن كل من لم يؤمن بالقدر فقد انتقض توحيده؛ لأن الإيمان بالقدر أساس التوحيد، هذا معنى قوله رضي الله عنه: (نظام التوحيد)؛ أي به ينتظم، وبه يستقيم، وبه يصلح، وبه يستقر، فمن لم يؤمن بالقدر لا توحيد له، ومن لم يؤمن بالقدر لا إيمان له.
فالإيمان بالقدر أصل من أصول الدين، ومن أصول الإيمان وأركانه التي لا يتم إيمان أحد إلا بها، وقد قال ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما بلغه إنكار من ينكر الإيمان بالقدر، ويقول: إن الأمر أُنف. قال: والذي نفس ابن عمر بيده، والله لو أنفق أحد مثل جبل أُحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.
وجاء مثل هذا عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم من أئمة أهل السنة حديث عبد الله بن فيروز بن الديلمي الذي جاء إلى أُبي بن كعب، فقال: إن في نفسي شيئاً من القدر فحدثني لعل الله أن يذهبه عني. فقال له أُبي رضي الله عنه: إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو أنه رحم أهل سماواته وأهل أرضه لكانت رحمته أفضل لهم، وإنه لو أنفق أحد مثل جبل أُحد ذهباً لم يتقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال له: وأت ابن مسعود فسأله. يقول ابن الديلمي: فأتيت ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكلمهم حدثني بما حدثني به أُبيّ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
فدلّ ذلك على أنّ الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مُجمعون على الإيمان بالقدر، وأنه من لم يؤمن بالقدر مات على غير الإسلام.
ولذلك جاء في حديث عُبادة بن الصامت في وصيته لابنه الوليد بن عُبادة لما قال له: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. ثم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتُب، قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة))،[سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في القدر، حديث رقم (4700).سنن الترمذي: كتاب القدر، باب (17)، حديث رقم (2155)، وقال الترمذي: هـٰذا حديث غريب من هـٰذا الوجه.قال الشيخ الألباني: صحيح، وأورده في السلسلة الصحيحة برقم (133).]وفي رواية: ((فإن مِتَّ على غير ذلك أحرقك الله بالنار))، أو ((فمن مات على غير هذا أحرقه الله بالنار)).
فدل ذلك على وجوب الإيمان بالقدر، وأمر القدر أمر خطير عظيم، إنكاره ينقض التوحيد كما ذكرنا في كلام ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو تكذيب للقرآن وانتقاص لرب العالمين.
ولذلك لما سئُل الإمام أحمد رحمه الله عن القدر قال: القدر قدرة الله عز وجل، فمن أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله جل وعلا.
وكل هذا يبين لنا عظيم منزلة القدر، وأن الاختلال فيه اختلال في الإيمان، يعني الاختلال في الإيمان به اختلال في الإيمان، ولذلك لا يخلو كتاب من كتب الاعتقاد من الحديث عن القدر وبيان منزلته وما الذي يجب فيه.
والقدر يطلق في اللغة على التقدير، والمراد به في كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثل قوله: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)).[تم تخريجه صفحة (2).]
المراد به علم الله بالكائنات وحكمه فيها.
وعرفه جماعة من العلماء بأنه الحكم الكوني؛ يعني الحكم وقضاء الله عز وجل في الكون.
وعرّفه آخرون بأنه: علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه.
وهذا تعريف يسير سهل يجمع لك بيان القدر وبيان مراتب الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر مراتب:
أولاها: الإيمان بعلم الله عز وجل، وأنه ما من شيء إلا بعلمه جل وعلا.
الثانية:الإيمان بكتابة الله تعالى، وأنه ما من شيء إلا وقد كتبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما من شيء من علمه إلا وهو مكتوب.
الثالثة: مشيئته، فما من شيء إلا بمشيئة الله جل وعلا.
الرابعة: خلقه، فما من شيء في الكون إلا وخلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقد قال في بيان القدر بعض العلماء في نظمه:
وخلقه وهو إيجادٌ وتكوين |
|
علمٌ كتابة مولانا مشيئته |
وهذا يجمع لك تعريف القدر. وقوله: (وهو إيجاد وتكوين) بيان معنى الخلق، وأنه يطلق على الإيجاد ويطلق على التكوين.
يقول ابن قدامة -رحمه الله- في هذه العقيدة: (ومِنْ صِفاتِ اللهِ تعالى أنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ) وابتدأ تقرير ما يتعلق بالقدر بإثبات صفات الفعل لله جلّ وعلا، وأن الإيمان بالقدر فرع عن الإيمان بأنه فعال لما يريد، وأن من قال: إنه لا يقدر مقادير الأشياء، وإن في الكون ما يكون بلا تقديره ولا خلقه ولا مشيئته، فإنه مكذّب لإيمانه بأن الله -جلّ وعلا- فعال لما يريد، وإذا كان -جلّ وعلا- فعالاً لما يريد فإنه ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
وقوله رحمه الله: (الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ) مأخوذ من قول الله تعالىٰ: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)﴾[ سورة : هود (107).]في بيان صفة الرب جلّ وعلا فيما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه في كتابه.
و﴿فَعَّالٌ﴾جيء بها على صيغة المبالغة لإفادة معنيين:
المعنى الأول: كثرة الفعل.
والثاني: عظم الفعل.
فصيغة المبالغة تستعمل لأحد هذين المعنيين: إما لكثرة الشيء، وإما لعظمه ولو لم يكن كثيراً.
والذي في حقه -جلّ وعلا- المعنيان، فأفعاله كثيرة سبحانه وتعالى ما يكون من شيء إلا بأمره وتقديره، وأيضاً هذه الأفعال عظيمة كبيرة المنزلة والمكانة، رفيعة الشأن.
يقول -رحمه الله-: (الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ) الإرادة هنا المقصود بها الإرادة الكونية، وإنه لمن المهم لمن أراد أن يفهم باب القدر أن يميز بين نوعين من الإرادة:
النوع الأول:الإرادة الكونية، وتسمى الإرادة الخَلْقية، وهذه الإرادة الكونية الخلقية تعني كل ما يقع في هذا الكون، فالإرادة الكونية بها يحصل كل شيء في الكون: من خير وشر، من أمر الخلق البشر ومن أمر غيرهم، فكل ما يجري في الكون فهو مندرج تحت الإرادة الكونية، من خير وشر، من صلاح وفساد، من حوادث ووقائع في السماوات وفي الأرض وفي البشر وفي غيرهم، فهي الإرادة الشاملة المحيطة بكل الوقائع في الكون.
وهي التي يقصدها العلماء في قولهم: ما من شيء إلا بإرادة الله ومشيئته. فمقصود العلماء بهذا كل شيء، وكل ما يقع في الكون.
ولذلك قال المؤلف: (لا يَكُونُ شَيءٌ إلا بِإرادَتِهِ،وَلا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ) فالمشيئة هنا والإرادة هي الإرادة الكونية التي تنتظم جميع الحادثات والكائنات بلا استثناء.
هذا النوع الأول من الإرادة.
هذا النوع من الإرادة هل يتعلق بمحبة الله عز وجل؟ الجواب: لا يتعلق بالمحبة؛ يعني لا يلزم من هذا أن يكون مما يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس كل ما يقع في الكون محبوباً له؛ لكنه ما من شيء في الكون إلا وهو مراد له جلّ وعلا، فصلاح الصالحين وفساد المفسدين، وما إلىٰ ذلك من وقائع الدنيا هي كلها مندرجة تحت إرادته الكونية سبحانه وبحمده.
ولذلك لما قال أحد أهل البدعة لعالم من العلماء: سبحان من تنزه عن الفحشاء، قالها أحد المبتدعة في مجلس أحد العلماء، يريد بهذا أن ما يقع من الشر والفساد في الدنيا ليس من إرادته سبحانه وبحمده.
فماذا أجابه العالِم المدرك لمعنى ما يقول هذا المبتدع؟ قال: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. أيهما أعظم إجلالاً لله عز وجل؟ الثاني؛ لأنه إذا كان الله جلّ وعلا المالك والملِك فإنه لا يسوغ أن يكون في ملكه ما لا يشاء؛ يعني ما لم يرده؛ لكن لا يلزم أن يكون جميع ما في ملكه محبوباً له، فإن الزنى والسرقة وفساد المفسدين وترك التاركين للتوحيد والواجبات الشرعية، هذا يحبه الله أو لا يحبه؟ لا يحبه، ومع ذلك فهو -جلّ وعلا- يريده لحكمةٍ بالغة، فهو مما يريده الله عز وجلّ؛ لكن بأي أنواع الإرادة يريده؟ بالإرادة الكونية الخلقية التي تنتظم جميع الكائنات وجميع الحادثات، ولا يخرج عنها شيء من خلق الله عز وجل.
النوع الثاني من الإرادات: الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، كل هذه من الأسماء: تسمى الإرادة الدينية، تسمى الإرادة الأمرية، تسمى الإرادة الشرعية، وهي لا تكون إلا فيما يحبه الله سبحانه وتعالىٰ ويرضاه، فلا يدخل في هـٰذا النوع من الإرادة شيءٌ من المبغوضات والمكروهات لربّ العالمين؛ بل ليس فيها إلا ما يحبه الله جلّ وعلا ويرضاه.
إذاً فهمنا أن الإرادة في كلام الله عز وجل وفي كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنقسم إلى كم قسم؟ إلى قسمين، وهذا أساس في فهم باب القدر، والسلامة من الضلال فيه؛ لأن ممن ضل في هذا الباب من لم يميز بين هذين النوعين من الإرادة: الإرادة الكونية الخلقية، والإرادة الشرعية الدينية.
إذاً الإرادة الشرعية تختص بما يحبه الله ويرضاه، تختص بما يتعلق بمحاب الله سبحانه وتعالىٰ.
أما الإرادة الكونية الخلقية فهي تشمل جميع الحادثات، جميع الكائنات بلا استثناء.
مثال النوع الأول من الإرادة وهو الإرادة الخلقية الكونية، من يأتي بمثال من كلام الله عز وجل لهذا النوع؟ نريد آية ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)﴾[سورة : هود (107).]قلنا: إن الإرادة هنا إرادة كونية؛ لأنها تشمل كل ما في الكون، فإنه داخل في إرادته هذه، سواء كان يحبه أو لا يحبه، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)﴾.[سورة : يس (82).]
مثال للإرادة الكونية أيضاً قول نوح -عليه السلام- لقومه لما قالوا له في نصيحته لهم قال: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾[سورة : هود (34).]. الإرادة هنا أي نوع من أنواع الإرادة؛ الشرعية التي يحبها ويرضاها أو الكونية التي تنتظم كل ما يقع في الكون؟ الكونية.
طيب قول الله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾[سورة : الأنعام (125).]،الإرادة المذكورة في الآية من أي النوعين؟ من الإرادة الكونية؛ لأن بها يقع الضلال ويقع الفساد ويقع الخير والصلاح؛ لأنها تنتظم كل شيء.
وهذه الآية تشكل على بعض طلبة العلم، ويظن أنها تجمع نوعي الإرادة؛ لكن هذا ليس مقصوداً، ليس المقصود هنا إثبات نوعي الإرادة، إنما الإرادة هنا إرادة واحدة وهي الإرادة الكونية ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾،وهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[سورة : الأنعام (39).]. والمشيئة هل هي تنقسم إلى مشيئة شرعية ومشيئة كونية أو هي مشيئة واحدة تنتظم كل شيء؟ المشيئة واحدة لا تنقسم إلى شرعية دينية وخلقية كونية، هي واحدة تنتظم كل شيء.
ولذلك الإرادة الكونية هي المشيئة.
يقول المؤلف -رحمه الله- بعد أن ذكرنا هذين القسمين: (لا يَكُونُ شَيءٌ إلا بِإرادَتِهِ) أي أنواع الإرادة؟ الكونية، (وَلا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ) أي مشيئة؛ المشيئة الشرعية؟ أصلاً ما فيه مشيئة شرعية وكونية، المشيئة تشمل كل ما يكون، لا تنقسم المشيئة، بخلاف الإرادة.
قال رحمه الله: (وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ) نؤمن بهذا أنه ليس في العالم شيء يخرج عن تقدير الله عز وجل، فكل حركة وسكون في برٍّ أو بحر أو سماء أو أرض ، في بني آدم أو في غيرهم هي من تقدير الله جلّ وعلا، نبض عروقنا، لحظ أعيننا، سير أقدامنا، كله بتقدير الله جلّ وعلا.
واجعل في بالك أنه ما من حركة ولا سكون من حي أو ميت في سماء أو في أرض إلا بتقدير الله جلّ وعلا، دليل ذلك قول الله تعالىٰ:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾،[سورة : القمر (49).]فكل شيء هو مخلوق بتقدير الله جلّ وعلا، فالقدر ينتظم كلَّ كائن في الكون، لا يخرج عنه شيء من خلق الله عز وجل في العالم.
يقول: (وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَلا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِهِ) ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن جلّ وعلا، إيمان العبد بهذا يورثه عظيم التوحيد لله جلّ وعلا، ويعقبه عظيم التعظيم والمحبة للرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي بيده مقاليد الأمور يصرفها كيف شاء، يهب لمن يشاء ما يشاء، ويمنع من يشاء ما يشاء ((لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجدِّ)) أي صاحب الغنى ((ولا ينفع ذا الجدِّ منه الجد))[ مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، حديث رقم (477).]فالجدُّ والغنى لا ينفع صاحبه إذا جرده الله منه، فكم من إنسان عنده من المال العريق ما يملك به الشيء الكثير؛ لكنه لا يستطيع أن يدخل إلى جوفه قطرة ماء إما لمرض أو لمانع، فكل شيء في هذا الكون لا يصدر إلا عن تدبير الله جل وعلا.
يقول: (ولا مَحِيدَ) يعني لا مصرف ولا مهرب (عَنِ القدَر المقدورِ)، وهذا ما قاله عُبادة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لابنه: واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. وهذا قد جاء مرفوعاً من غير حديث عُبادة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه وجوب الإيمان بأن ما نزل بك لا يمكن أن يندفع عنك مهما فعلت، وما صرفه الله عنك لا يمكن أن يصيبك مهما سعى الناس في أن ينزل بك. وهذا معنى ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس في الوصية المشهورة المعروفة: ((احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا استَعَنْتَ فاسْتَعِن بالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرّوكَ إلاَّ بِشَيْء ٍ قَدْ كَتَبَهُ الله علَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))[سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع ، باب (60)، حديث رقم (2516)، قال الترمذي: هـٰذا حديث حسن صحيح. قال الشيخ الألباني: صحيح.].أي قضي الأمر وفُرغ منه، ليس الأمر وليد الساعة أو الآن أو يمكن زحزحته وتغييره، أمر قضاه الله وقدره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة لما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء، أو اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فإذا أيقن العبد بهذا اطمأن وعلم أنه لا مفر من تقدير الله عز وجل (ولا مَحِيدَ عَنِ القدَر المقدورِ) أي: القدر التقدير الذي قدره الله جلّ وعلا (ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوحِ المسْطورِ) يعني ما يصيبك وما ينزل بك لا يتجاوز ما رُقم و كُتب (في اللَّوحِ المسْطورِ) أي: في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه القلم مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
قال -رحمه الله- بعد أن أثبت الكتابة والمشيئة؛ الآن المؤلف أثبت مرتبتين من مراتب القدر:
المشيئة حيثُ قال: (لا يَكُونُ شَيءٌ إلا بِإرادَتِهِ،وَلا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ،وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَلا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِهِ، ولا مَحِيدَ عَنِ القدَر المقدورِ).
ثم قال: (ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوحِ المسْطورِ) أفادنا أن هذا القدر مكتوب، وهذا من مراتب الإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن الله كتب مقادير كل شيء، فما من شيء إلا قد كتبه الله جلّ وعلا، جرى به القلم الذي خلقه الله سبحانه وتعالىٰ.
(أرَاد ما العالَمُ فاعِلوهُ)، (أرَاد) أي أنواع الإرادة؟ الكونية التي تنتظم فِعل بني آدم كلهم.
يقول رحمه الله: (وَلَوْ عَصَمَهُم لمَاَ خالَفوهُ) هذا فيه الجواب عن إشكال: هل معصية العاصين تقع بمشيئة الله أو بغير مشيئته، بإرادة الله الكونية أو بغير إرادته؟ الجواب: تقع بمشيئته وإرادته، وهو على كل شيء قدير جلّ وعلا؛ لكنه مكنهم من مخالفته، وأذن لهم في عصيانه لحكمة بالغة، ولذلك قال: (وَلَوْ عَصَمَهُم) أي: منعهم من الوقوع في المعصية أو منعهم من ترك الواجب (لمَاَ خالَفوهُ، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعًا لأَطاعُوهُ) قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾[سورة : هود (118).]أي: في الإيمان والتقوى والصلاح والهدى ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾[سورة : هود (118).]فمنهم مؤمن ومنهم كافر، كما قال الله جل وعلا، فاختلافهم المذكور في سورة هود هو المشار إليه في سورة التغابن: ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾.[سورة : التغابن (2).]
فقسم الله عز وجل الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير. هذا في المآل.
وفي العمل أيضاً قسمهم جلّ وعلا إلى قسمين: قسم يؤمن وقسم يكفر.
فقوله رحمه الله: (وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعًا لأَطاعُوهُ) أدلة هذا من الكتاب كثيرة منها ما ذكرناه.
(خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم) هذا فيه الرد على القدرية.
واعلم أن القدر ضل فيه طائفتان من الناس:
الطائفة الأولى القدرية:الذين قالوا: إن الله لم يشأ معصية العاصين ولم يقدر مخالفتهم، فالله لم يخلق أفعال العباد، بل العباد هم الذين يخلقون أفعالهم.
قابل هؤلاء فرقة أخرى غلوا في إثبات القدر وهم الجبرية: الذين قالوا: إنه ليس للإنسان اختيار ولا له فعل، وإنما هو كالريشة في مهب الريح لا تملك لنفسها تصريفاً ولا توجيهاً، فأفعال الخلق هي أفعال الله جلّ وعلا، ليس لهم إدارة ولا اختيار، وإنما هم مجبورون على كل ما يكون منهم.
يشير -رحمه الله- إلىٰ قوله: (وَلَوْ عَصَمَهُم لمَاَ خالَفوهُ، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعًا لأَطاعُوهُ، خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم) فيه الرد على أي الطائفتين؛ الذين غلوا في إثبات القدر أو الذين نفوا أن يكون فعل الخلق من تقدير الله وخلقه؟ الثاني؛ الرد على القدرية الذين يقولون: إن فعل المخلوق ليس مقدراً من الله جلّ وعلا.
يقول رحمه الله: (وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجَالَهُم)، (وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم) أي ما ينالهم من الرزق.
و(أرْزَاقَهُم) جمع رزق، والرزق هو كل ما يصل إلى الإنسان من نعمة الله عز وجل.
يشمل هـٰذا: النعم الحسية والنعم المعنوية.
فيدخل في الرزق صلاح القلب واستقامة الحال وصلاح العمل والتقوى والإيمان، هـٰذا من رزق الله جل وعلا.
ويدخل فيه ما يقوم به البدن.
فرزق الله يشمل ما يقيم القلوب وما يقيم الأبدان، كله يدخل في رزق الله.
قال: (وآجَالَهُم) أي: قدّر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعمارهم وآجال أعمالهم وآجال ما يكون منهم .
(يهدِي مَنْ يَشاءُبِرَحْمَتِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشاءُبِحِكْمَتِه) أي: هو في فعله -جلّ وعلا- في الهداية والإضلال لا يخرج عن الرحمة والحكمة.
يأتي بقية الكلام على هذا إن شاء الله تعالىٰ في الدرس القادم غداً إن شاء الله تعالى.