الدرس (11) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح
قال الإمام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسيرحمه الله تعالى:
(فصل
والإيمانُ قوْلٌ باللسانِ، وعمَلٌ بالأرْكانِ، وعَقْدٌ بالجَنَانِ، يزيدُ بالطاعةِ وينْقُصُ بالعصيانِ.
قال الله تعالىٰ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[ سورة : البينة (5).]، فجعَلَ عبادَةَ اللهِ تعالىٰوإخلاصَ القلبِ، وإقامَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ، كُلَّهُ مِنَ الدِّينِ.
وقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ)). فجعَلَ القَوْلَ والعَمَلَ مِنَ الإيمانِ.
وقال تعالىٰ: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾،[سورة :آل عمران (173).]وقال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾.[سورة : الفتح (4).]
وقال رسولُ اللهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله. وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ))فجعَلَهُ متفاضلاً).[سنن ابن ماجه(4312)، وصححه الألباني]]
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهـٰذا الفصل جعله المؤلف رحمه الله لبيان عقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالإيمان، والإيمان عرّفه المؤلف رحمه الله بقوله: (والإيمانُ قوْلٌ باللسانِ وعمَلٌ بالأرْكانِ وعَقْدٌ بالجَنَانِ)، هكذا عرّف المؤلف -رحمه الله- الإيمان الذي بين أحكامه، واستدل له في هذا الفصل، وهذا التعبير الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو أحد ما جاء ونقل عن السلف رحمهم الله في بيان الإيمان (والإيمانُ قوْلٌ باللسانِ وعمَلٌ بالأرْكانِ وعَقْدٌ بالجَنَانِ) فدل ذلك على أن الإيمان يشمل كل ما يكون من الإنسان من عمل ظاهر وعمل باطن.
ولذلك عرف بعض أهل العلم الإيمان بأنه يشمل كل عمل ظاهر وعمل باطن أمر الله به ورسوله، فهو كل ما أمر به الله ورسوله من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وهذا ينتظم جميع خلال الإيمان وجميع شعبه وجميع أوصافه.
والمؤلف -رحمه الله- ذكر ما يكون من الإيمان بالقول، وما يكون من الإيمان بالعمل، وما يكون من الإيمان بالقلب، فقال رحمه الله: (قوْلٌ باللسانِ) ويشمل هذا قول شهادة أن لا إله إلا الله فإن الشهادة لله بالإلهية وللنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، هي أصل الإيمان الذي يدخل به الإنسان في دائرة الإسلام، ولذلك أول ما يدخل في قوله رحمه الله: (قوْلٌ باللسانِ) الشهادتان فإن أول ما يدخل في قول اللسان من أعمال الإيمان وصفاته وخصاله أن يتكلم اللسان بهاتين الشهادتين، ثم يدخل ما وراء ذلك من الذكر والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وكل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه جل وعلا بقوله. فقراءة القرآن من قول اللسان الذي يدخل في الإيمان، تعليم العلم، تعلم العلم، استذكاره، بيان الحق، دعوة الخلق، الجهاد في سبيل الله عز وجل باللسان في الذب عن الشريعة والرد على شبه المشبهين، كل هذا من قول اللسان الذي يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (والإيمانُ قوْلٌ باللسانِ) إلا أن أوله وأصله وأساسه الذي يبنى عليه غيره هو الشهادتان. قال -رحمه الله-: (وعمَلٌ بالأرْكانِ) أي عمل بالجوارح، فالمقصود بالأركان أركان الإنسان وما يكون من جوارحه، ويمكن أن يقال: (وعمَلٌ بالأرْكانِ) أي بأركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك، أي أيضاً العمل بغير ذلك من أعمال الجوارح التي يقوم بها البدن من الإحسان، غير ذلك من ألوان البر، المراد بالأركان هنا إما أركان بمعنى الجوارح، وإما أركان أي أركان الإسلام التي بها يستقر الإسلام لمن أسلم، وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج. قوله: (وعَقْدٌ بالجَنَانِ) أي عمل القلب، وعمل القلب منه ما هو قول ومنه ما هو عمل، يعني ما يكون في القلب ينقسم إلى قسمين: قول وهو الاعتقاد والإقرار والتصديق، وعمل وهو جميع ما يكون في قلب الإنسان من أعمال القلوب كالخشية والمحبة والخوف والرجاء والإنابة والتوكل وما إلى ذلك من الأعمال القلبية، فيكون هذا التعريف شاملاً لكل ما يكون من عمل ولكل ما يكون من قول، وهو أحد ما يعبر به عن الإيمان ويبين به الإيمان في كلام أهل العلم وأقوال أهل السنة، وقد تنوعت عبارات السلف في بيان حقيقة الإيمان: فمنهم من قال ما ذكره المؤلف رحمه الله، ومنهم من قال: إن الإيمان قول وعمل. ومنهم من قال: الإيمان قول وعمل ونية. ومنهم من قال: الإيمان قول وعمل ونية واتباع سنة. ومنهم من قال: الإيمان قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. كل هذه التعبيرات والبيانات والتعريفات الواردة عن السلف في بيان حقيقة الإيمان هي في الحقيقة تدور على معنى واحد اختلف قول العلماء في التعبير عنه وفي التلفظ بما يدل عليه، وهم متفقون في أن الإيمان يعود إلى قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، فهذا أمر متفق عليه، يعني الاختلاف الوارد عن السلف في بيان حقيقة الإيمان ليس اختلافاً في المعنى، إنما هو اختلاف في التعبير، اختلاف في اللفظ لبيان حقيقة الشيء، ولا شك أنك تصف الشيء أو تبين الشيء ببعض أموره وتختلف ألفاظ الناس في بيانه ولكنهم يتفقون على معناه، فهم متفقون على هذا المعنى وأن الإيمان قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وإنما يقتصر بعضهم على قول وعمل وبعضهم يزيد نية، وبعضهم يزيد اتباع سنة لأجل أن بعض من يقتصر في التعريف قد يتوهم السامع لهذا التعريف أنه يخرج مثلاً النية أو يخرج العمل عمل الجوارح أو يخرج مثلاً اتباع السنة عن حقيقة الإيمان، وإلا فإن أخصر التعاريف للإيمان هو ما ذكره جماعة من السلف من أن الإيمان قول وعمل، هذا أخصر التعاريف في بيان الإيمان، وهو ينتظم جميع التعاريف الأخرى، أي كل تعريف يزيد على هذا التعريف فهو يزيد احترازاً، فلكون بعض الناس يظن أن قول اللسان لا يدخل في العمل يقول: قول القلب وقول اللسان وعمل الجوارح. فهذه التفصيلات وهذه الاختلافات في التعبيرات إنما هي زيادة بيان لحقيقة الإيمان، لحقيقة أمر متفق عليه بين أهل السنة والجماعة، وهو أن الإيمان قول وعمل، فهذا أمر لا يقبل النقاش ولا يقبل الاختلاف؛ لكون ألفاظ الصحابة وما نقل عنهم وما نقل عن التابعين وما نقل عن أئمة الدين وما دل عليه الكتاب والسنة دالاًّ على أن الإيمان يتكون ويتركب من شيئين: من عمل باطن ومن عمل ظاهر، عمل قلب وعمل جوارح، ومن عمل الجوارح قول اللسان. إذاً هذه حقيقة الإيمان فلا يشكل عليك تنوع عبارات العلماء في بيان الإيمان وبيان حقيقته وتعريفه. يقول رحمه الله: (والإيمانُ قوْلٌ باللسانِ وعمَلٌ بالأرْكانِ وعَقْدٌ بالجَنَانِ) الجنان أشار به إلى عمل القلب، وسمي عمل القلب بعمل الحنان لأنه عمل مختفٍ، عملٌ لا يظهر، وأصل مادة جنَّ سَتَر، وهي تدل بجميع اشتقاقاتها واختلاف مواردها على ما خفي واستتر: فالجنة سميت بالجنة لأنها تجن صاحبها وتستره، والجن سموا بهذا الاسم لأنهم يخفون ويستترون، والجنان سمي بهذا لأنه خافٍ متوارٍ عن الأنظار، فجميع موارد هذه الكلمة تدل على الخفاء والستر. فقوله: (وعَقْدٌ بالجَنَانِ) أي عقد بالقلب الذي لا يظهر ولا تقع عليه الأنظار ولا تطاله الأبصار. يقول رحمه الله بعد أن بين حقيقة الإيمان:(يزيدُ بالطاعةِ وينْقُصُ بالعصيانِ) وهذا أيضاً مما اتفق عليه سلف الأمة وجاءت به النصوص في الكتاب والسنة، وقد ذكر البخاري عن ابن أبي مُليكة أنه أدرك ثلاثين من الصحابة كلهم يخاف النفاق على نفسه وما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، والمقصود بهذا أن الإيمان يزيد وينقص، إذا كان هؤلاء رضي الله عنهم ما منهم من يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل فإنهم يقرون بأن الإيمان يزيد وينقص. وقد تواردت كلمات السلف على إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان، ولا خلاف بين أهل السنة في إثبات ذلك وإنما خالف من خالف في زيادة الإيمان ونقصانه من المعتزلة والخوارج والمرجئة لأنهم اختلفوا في حقيقة الإيمان، ولذلك يذكر أهل العلم مسألة الزيادة والنقصان بعد حقيقة الإيمان؛ لأن هذا الاختلاف في الزيادة والنقصان ناشئ عن اختلاف في فهم حقيقة الإيمان، الإيمان يتركب ويتكون كما ذكرنا من ماذا؟ من قول وعمل: من قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، واضح؟ طيب هؤلاء عندهم أن الإيمان كل واحد لا يتركب ولا يتكون من أشياء وليس له خصال، هو شيء واحد إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً. فالمعتزلة والخوارج لما حكموا بكفر مرتكب الكبيرة قالوا: لا يمكن أن يقر الإيمان في قلب نفى الله ورسوله عن صاحبه الإيمان، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يدل على أن الزاني ليس في قلبه إيمان، معنى هذا أنه إذا زنى فقد خرج عن الإيمان، إذا سرق فقد خرج عن الإيمان، وإذا خرج عن الإيمان فقد وقع في الكفر. الخوارج يركِّبون في هذه الدنيا الحكم والاسم فيقولون: إن فعله كفر وهو كافر. وأما المعتزلة فيقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وإذا صار في الآخرة فحكمه كافر، فهم وافقوا الخوارج في الحكم وخالفوهم في الاسم، فلم يطلقوا على مرتكب الكبيرة وصف الكفر واسم الكفر، إنما قالوا:هو في منزلة بين المنزلتين. المرجئة لما كان الإيمان عندهم شيئاً واحداً قالوا: لا يمكن أن يكون نقص العمل سبباً في نقص الإيمان، فالإيمان قار وثابت ولو نقص العمل وعلى هذا فالإيمان لا يزيد ولا ينقص. إذاً الاختلاف والتشوش في مسألة زيادة الإيمان ونقصه ناشئ عن أي شيء ؟ ناشئ عن عدم فهم حقيقة الإيمان وأن الإيمان خِلال وصفات وشعب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا نقصت شعبة من هذه الشعب هل ينقص أو لا ينقص ؟ ينقص، وإذا زاد شعبة من هذه الشعب زاد أو لم يزد ؟ زاد، وهذه واضحة جلية. ولذلك السلف رحمهم الله قرروها تقريراً بيناًً وأنكروا على من تكلم بهذا الكلام من المرجئة وأشباههم وبينوا خطأ قولهم وضلال رأيهم، وأن الإيمان يزيد وينقص. وقد جاء بيان زيادة الإيمان ونقصه والإنكار على من أنكر الزيادة والنقصان في كلام جمهور عظيم من السلف من الصحابة فمن بعدهم، وقد سُئل سفيان بن عُيينة مرة فقيل له: الإيمان يزيد؟ قال: نعم. قيل له: أو ينقص؟ قال: ما من شيء يزيد إلا وينقص ، ما من شيء يوصف بالزيادة إلا وينقص. وقد جاءت الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص في الكتاب والسنة، وذكر المؤلف رحمه الله شيئاً من ذلك في قوله:(قال الله تعالىٰ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾) [سورة : البينة (5).]هذه من أعظم الأدلة الدالة على أن الإيمان قول وأنه عمل بالأركان وأنه اعتقاد بالجنان حيث إنها شملت جميع ذلك: قال تعالى:{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } والإخلاص محله القلب { ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} إقامة الصلاة تتضمن قول اللسان والعمل بالأركان، وكذلك إيتاء الزكاة يتضمن العمل بالأركان، قال تعالى في جميع ما تقدم:﴿وذلك دين القيمة﴾ والدين هنا بمعنى العمل، فدل ذلك على أن العمل والإيمان الذي أمر الله به يشمل ماذا؟ قول القلب وعمله ويشمل قول اللسان وعمل الجوارح، فهو قول وعمل وهذه من أقوى الأدلة التي استدل بها أهل السنة والجماعة في إبطال قول أهل الإرجاء وقول غيرهم ممن نفوا أن الإيمان قول وعمل أو أنه يزيد وينقص. يقول رحمه الله:( فجعَلَ عبادَةَ اللهِ تعالىٰ وإخلاصَ القلبِ، وإقامَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ، كُلَّهُ مِنَ الدِّينِ). فدل ذلك على أن الدين قول وعمل وأن الإيمان قولٌ وعمل. ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى:{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. فهذه الآية من أجمع الآيات الدالة على أن الإيمان قولٌ باللسان وعمل بالأركان وعقدٌ بالجنان. من الأدلة الدالة على ذلك قول الله تعالى في سورة التوبة:{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} والثانية قال:{فخلوا سبيلهم}فدل ذلك على أن ثبوت الأخوة في الدين والتخلية بعدم المؤاخذة إنما تكون لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة. والآيات والأدلة على هذا أكثر من أن يحاط بها وأن تحصى، إنما ذكرنا أبرز ما يكون من الأدلة الدالة على أن عقد أهل السنة والجماعة موافق لما دل عليه كتاب الله عز وجل، وهو موافق أيضاً لما دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جبريل عليه السلام في مجيئه وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فلما فرغ من جواب ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عمر: ( أتدري من هذا يا عمر؟ قال: الله ورسوله أعلم. فلبث مليّاً ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم –وفي رواية: يعلمكم دينكم-). فدل ذلك على أن الدين يشمل الاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان وقول اللسان، وهذا واضح جلي. كذلك الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله،حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم:( وقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ))).
الإيمان بضع وسبعون شعبة أي إنه يبلغ من الخِلال والصفات والأعمال هذا العدد: بضع وسبعون شعبة أي نيف وسبعون يعني ما بين السبعين إلى الثمانين من الخلال والصفات:يبلغ تسعاً وسبعين أو ثمانياً وسبعين أو ما هو أقل، المهم أنه ما بين السبعين إلى الثمانين من العدد. وقوله: شعبة يعني صفة وخلة وعملاً من أعمال الإيمان، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان. وهذا الحديث أيضاً من الأدلة الدالة على أن الإيمان قول وعمل: قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ) شهادة أن لا إله إلا الله قول باللسان ولا يكمل الإيمان في حق صاحبه إلا إذا وافق ما في لسانه ما في قلبه، فإذا توافق اللسان والقلب الظاهر والباطن كمل هذه الخصلة ( شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فإماطة الأذى –إزالته- عن طريق المسلمين هذا من ماذا ؟ هذا من الإيمان، وهو من شُعب الإيمان وخلالها مع أنه عمل من الأعمال. أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ( والحياء شعبة من الإيمان) يدل على أن الإيمان يكون في القلب، ولم يذكره المؤلف رحمه الله هنا مع أنه في الحديث لأن الخلاف في قول اللسان وفي عمل الجوارح هل يدخل في الإيمان أو لا يدخل في الإيمان ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم بين بياناً واضحاً دخول الشهادة التي هي قول اللسان وإماطة الأذى عن الطريق في الإيمان. ثم قال رحمه الله تعالى:(فجعَلَ القَوْلَ والعَمَلَ مِنَ الإيمانِ) . ثم انتقل إلى بيان ما يتعلق بأدلة زيادة الإيمان ونقصانه قال رحمه الله:(وقال تعالىٰ: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾،[سورة :آل عمران (173).]) فدل ذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، ولا يمكن أن يقال: إن الزيادة هنا لغير الإيمان الذي يكون في القلب، بل الزيادة ثابتة بهذه الآية وبقوله أيضاً:{ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} وبقوله تعالى:
{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} والآيات في زيادة الإيمان متعددة وإنما ذكر المؤلف رحمه الله شيئاً منها. ثم قال: (وقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله. وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ)). هذا دليل على الزيادة أو النقصان؟دليل على الأمرين:الزيادة والنقصان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فاوت بين الإيمان، ولذلك قال المؤلف رحمه الله:( فجعَلَهُ متفاضلاً)وهذا معنى قول سفيان ابن عُيينة رحمه الله لما سُئل: أينقص؟ قال:نعم، لا يزيد شيء إلا وينقص. فما يمكن أن يوصف شيء بزيادة إلا وهو قابل للنقصان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال) مثقال يعني وزن (برة) والبَّرة معروفة (أو خردلة) والخردلة هي وزن أربع ذرات،وقيل: هي أقل ما يوزن، لكن لا شك أن الخردلة أكبر من الذرة، ولذلك قال: (أو خردلة أو ذرة) والذرة قيل: هي أقل ما يوزن، أدنى شيء يمكن وزنه، وقيل: هي الذرة الصغيرة التي ترى من صغار النمل، وقيل: إن الذرة هي الهباء الذي يكون في شعاع الشمس كرؤوس الإبر، وقيل: إن الذرة هي ما يتساقط من اليد عند ضربها في التراب ثم نفخها. وعلى كل حال الذرة شيء يسير ويمكن أن يقال ما قيل أولاً من أنه أدنى شيء يوزن. ويدل لهذا ما في البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، ثم يخرج من النار من كان في قلبه أدنى شيء من إيمان). فيكون قول النبي صلى الله عليه وسلم:( أو ذرة) المقصود به أدنى ما يكون مما يقبل الوزن من الإيمان، فجعله متفاضلاً، وهذا دليل على الزيادة والنقص. وبهذا يكون قد تبين لنا ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقدٌ بالجنان، ومن أنه أيضاً يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
تبقى مسألة من المسائل المهمة المتعلقة بالإيمان، وهي: هل العمل من الإيمان أو لا؟ تبين مما تقدم أن العمل من الإيمان، هل يدخل جنس العمل في الإيمان أو لا؟ وهل ترك جنس العمل يبطل الإيمان أو لا ؟ هذه مسألة من المسائل التي اشتبكت فيها الأقوال واشتبهت فيها الآراء واختلف فيها الناس، وهي مسألة نرجئ إن شاء الله تعالى بحثها وتناولها إلى درس غدٍ، ونكتفي بهذا في هذا اليوم والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. فيه سؤال؟ نعم، بعضهم يقول: إنها ليست للحصر، والظاهر أنها لحصر أُصول الإيمان؛ لأن في بعض روايات البخاري:( بضع وستون).
نعم هناك أصغر من الذرة، لكن الكلام أصغر منها شيءٌ لا يوزن.
نعم صحيح { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} فإذا اختل شرط من هذه الشروط فتنتهي الأخوة الدينية، وهذا مما يستدل به بعض أهل العلم على أن تارك الصلاة لا يكون مسلماً.