الدرس (15) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح
قال الإمام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسيرحمه الله تعالىٰ:
(ويَشْفَعُ نبيُّناصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَنْ دخلَ النّارَ مِنْ أُمّتِهِ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ فيَخْرُجونَ بِشفاعَتِهِ بَعْدَمَا احْتَرَقُوا وصاروا فَحْمًا وحمَمًا، فيدخلونَ الجنَّةَ بشفاعَتِهِ.
ولسائِرِ الأنبياءِ والمؤمنين والملائكةِ شفاعاتٌ، قال تعالىٰ: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾.[سورة : الأنبياء (28).]
ولا تَنْفَعُ الكافِرَ شفاعةُ الشّافعين).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله فيه بيان ما يكون من الشفاعة في ذلك اليوم العظيم، وقد تقدم لنا إحدى الشفاعات التي تكون في ذلك اليوم، وهي شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الموقف، شفاعته للناس جميعاً في أن يقضى بينهم، وأن يأتي الله جلّ وعلا لفصل القضاء.
من الشفاعات التي تكون يوم القيامة ما ذكره رحمه الله في قوله: (ويَشْفَعُ نبيُّناصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَنْ دخلَ النّارَ مِنْ أُمّتِهِ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ).
الشفاعة في اللغة: هي من الشفع، وهو جعل الفرد زوجاً، هذا معناها في اللغة، ولذلك تسمى الركعتان شفعاً لكونهما زوجاً، فالشِّفع هو جعل الفرد زوجاً، هذا من حيث اللغة.
وأما من حيث المعنى الاصطلاحي: فالشفاعة هي التوسط في جلب الخير أو دفع الضُّر، فتكون الشفاعة دائرة على أمرين: جلب المنفعة، ودفع البلاء.
فالشفاعة توسط لجلب المنفعة ولدفع البلاء.
وشفاعة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعة من يشفع يوم القيامة هي توسط لدى الله جل وعلا في أن يجلب الخير للمشفوع، وأن يدفع عنه البلاء والشر.
وهذه الشفاعة التي تكون يوم القيامة أنواع ودرجات:
- منها ما هو للمؤمنين جميعاً، وإن كانوا يتفاوتون في نصيبهم منها.
- ومنها ما يكون للأنبياء.
- ومنها ما يكون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ دون غيره.
فالشفاعة من حيث انفراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها تنقسم إلى قسمين:
شفاعة خاصة به، لا يشركه فيها غيره.
والنوع الثاني: شفاعة له ولغيره؛ يعني شفاعة تكون منه وتكون من غيره.
الشفاعة التي اختص بها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ دون غيره شفاعته في فصل القضاء، الشفاعة العظمى التي يشفع فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله -جلّ وعلا- في فصل القضاء وإراحة الناس من الموقف، وقد جاء خبر هذا في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن، وهو أمر مجمع عليه لا خلاف فيه بين أهل الإسلام.
النوع الثاني من الشفاعة التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم: شفاعته في دخول الجنة، فإنه يشفع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دخول الجنة لأهلها؛ أي يشفع لأهل الجنة في دخولهم الجنة، وذلك كما في حديث أنس: ((أنا أول شفيع في الجنة)) والحديث في صحيح الإمام مسلم[ مسلم: كتاب الإيمان، باب في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أنا أول الناس يشفع في الجنة))، حديث رقم (196).].
وقد جاء في حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم: ((أن الناس يأتون إلى آدم، أن أهل الإيمان يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة في دخول الجنة، فيعتذر ويحيلهم إلى نوح، ونوح يحيلهم إلى إبراهيم، وإبراهيم يحيلهم إلى موسى، وموسى يحيلهم إلى عيسى، وعيسى يحيلهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))[مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم: (195).] كالشفاعة التي تكون في أرض المحشر في فصل القضاء، على أن بعض العلماء يقول: هذه هي تلك؛ لأنه بعد ذكر هذه الشفاعة جاء ذكر الصراط وما يكون من أحوال الناس في مرورهم عليه؛ لكن مما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يشفع في دخول الجنة، ويدل لذلك ما في صحيح الإمام مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أُمرت لا أفتح لأحد قبلك))[مسلم: كتاب الإيمان، باب في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أنا أول الناس يشفع في الجنة))، حديث رقم (197).]. فدل ذلك على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ شفيع لأهل الجنة في دخول الجنة. هذا ثاني ما اختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ من الشفاعات.
ثالث ما اختص به من الشفاعات: شفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف الله عنه العذاب، وذلك كما في الصحيحين من حديث العباس بن عبد المطلب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله عمك أبو طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، ما أغنيت عنه أو ما نفعته؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار))[البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، حديث رقم (3883). مسلم: كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، حديث رقم (209).]. والضحضاح هو الماء الرقيق على وجه الأرض الذي لا عِرق له، والأصل في الضحضاح هو ما لا قعر له، وقد جاء بيان ذلك أنه في ضحضاح من نار إلى كعبيه، فهو أهون أهل النار عذاباً ممن يخلد فيها، وهذا التخفيف لا يفيده من حيث الواقع؛ فإنه عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن هذا إكرام للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تخفيف العذاب وتهوينه.
فهذا النوع من الشفاعة خاص بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً هذه الأنواع الثلاثة هي مما اختص به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
هناك نوع من الشفاعة خاص بالأنبياء، يعني لا يشركهم فيه غيرهم وهو خاص بالرسل، وهو شفاعتهم عندما يجوزون الصراط، فإنه عندما يجوز الناس الصراط لا يتكلم أحد إلا الرسل، ودعواهم: اللهم سلم، سلم كما في الصحيحين، وفي رواية سهيل قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعند ذلك حلت الشفاعة، وهذا النوع من الشفاعة هو شفاعة لأهل الإيمان؛ ولكنها شفاعة خاصة بالرسل، وما جاء في جامع الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة: اللهم سلم سلم))[ سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في شأن الصراط، حديث رقم (2432)، وقال: هـٰذا حديث غريب. قال الشيخ الألباني: ضعيف.]فهذا لا يعارض ما جاء من أنه لا يتكلم أحد على الصراط إلا الرسل، فإن الرسل يصدق عليهم وصف الإيمان؛ بل هم أعلى المؤمنين إيماناً، فيكون شعار المؤمنين الذين يتكلمون وهم من؟ وهم الرسل دون غيرهم، فإنه لا يتكلم أحد من الناس على الصراط إلا الرسل ودعواهم اللهم سلم سلم؛ لعظم الأمر وشدة الكرب، فهم يدعون لأنفسهم بالسلامة، ويدعون لأممهم ومن آمن بهم بالسلامة.
هذه شفاعات الثلاث الأول منها خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرابعة له ولسائر الرسل.
ويبقى شفاعات للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويشركه معه غيره من الرسل والأنبياء، وسائر أهل التقى من الصديقين والشهداء والصالحين.
وذلك كشفاعته في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها، فيشفع في ألا يدخلوها.
وكذلك شفاعته وشفاعة أهل الإيمان في قوم استحقوا النار أن يخرجوا منها.
وكذلك شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشفاعة أهل الإيمان في رفع درجات أهل الجنة.
هذه الأنواع الثلاثة من الشفاعات تكون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكون لغيره من المؤمنين؛ لكن نصيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يكون له من هذه الشفاعات، هل هو مثل غيره أو أعلى؟ الجواب: نصيبه منها أعلى من نصيب غيره، فحظه من هذه الشفاعات أعلى من حظ سائر الخلق.
وهذه الشفاعات كلها جاءت بها النصوص، أو أجمع عليها سلف الأمة وعلماؤها، وأثبتها أهل السنة والجماعة.
وخالف فيها ثلاث طوائف: المعتزلة والخوارج، فهؤلاء لا يثبتون الشفاعة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر؛ لأن من دخل النار عندهم فإنه لا يخرج منها أبداً.
ووافقهم في إنكار الشفاعة المرجئة الغلاة، فإنه لا يدخل عندهم النار مؤمن ولو ارتكب ما ارتكب من الموبقات والسيئات والأعمال القبيحة، فهؤلاء وافقوا الخوارج في نفي الشفاعة فقالوا: لا شفاعة، وما جاء من نصوص الشفاعة جعلوها في رفع الدرجات.
وهذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره في أهل النار الذين استحقوها أو الذين دخلوها أن يخرجوا منها.
يقول المؤلف رحمه الله: (ويَشْفَعُ نبيُّناصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَنْ دخلَ النّارَ مِنْ أُمّتِهِ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ) أي أهل الذنوب الكبيرة الموجبة لدخول النار، والكبائر جمع كبيرة، وهي كل ما جاءت النصوص بلعن صاحبه أو التبري منه أو ذكر عقوبة له في الدنيا أو في الآخرة، هـٰذا أقرب ما يقال في بيان ضابط وحد الكبيرة، فالكبيرة هي كل ما تهدد الله عز وجل عليه بعقوبة، أو توعد عليه بعقوبة في الدنيا أو في الآخرة، أو جاء في حق صاحبه لعن أو براءة، فهٰؤلاء يستحقون النار إن لم يتوبوا وكانت سيئاتهم راجحة على حسناتهم يستحقون النار أو استوت حسناتهم وسيئاتهم فإنهم يستحقون النار، فإذا دخلوها ليمحصوا ويخلوا من هذه الأوزار والسيئات، قد يشفع فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يشفع فيهم من يشفع من أهل الإيمان.
وأحاديث الشفاعة أكثر من تحصر.
يقول رحمه الله: (فيَخْرُجونَ بِشفاعَتِهِ بَعْدَمَا احْتَرَقُوا وصاروا فَحْمًا وحمَمًا) يخرجون بعدما احترقوا وعُذبوا وعُوقبوا وصاروا إلى هذه الحال فحماً وحمماً من جرّاء الاحتراق بالنار والاصطلاء بها نسأل الله السلامة والعافية. فيُلقون في نهر الحياة في أفواه أبواب الجنة فينبتون فيها كما ينبت الحميل في جنبتي مجرى السيل، فينتعشون ويحيون ويكونون من أهل الجنة، (فيدخلونَ الجنَّةَ بشفاعَتِهِ).
ثم قال رحمه الله: (ولسائِرِ الأنبياءِ والمؤمنين والملائكةِ شفاعاتٌ) وإنما قدّم شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مع أن غيره يشركه في هذا النوع من الشفاعة- لكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم الناس شفاعة وأعظم الخلق شفاعة، فشفاعته فوق كل شفاعة، وإلا فإنّ الأنبياء يشفعون، والمؤمنين يشفعون، والملائكة تشفع.
ثم قال رحمه الله: (قال تعالىٰ: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾[سورة : الأنبياء (28).]).هذا فيه بيان أن أهل الإيمان والملائكة يشفعون فقوله: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾هذا في خبره عمن؟ عن الملائكة ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾أي إلا لمن رضي الله جل وعلا عنه، وهذا فيه بيان شرط الشفاعة، وأنه لا يُشفع إلا فيمن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فمن لم يرض الله عنه لا تنفع فيه شفاعة ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم﴾أي هؤلاء الشافعون وهم الملائكة ﴿مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾، وهذا يبين لنا أن شفاعة الشافعين لا تكون عن استحقاق للشفاعة، إنما هي فضل الله عز وجل على الشافع وعلى المشفوع.
ولذلك الشفاعة حقيقتها إكرام الله عز وجل للشافع في أن يخلّص المشفوع، فهي كرامة بسبب توحيده وإقراره بالإلهية، فيكرم الله عز وجل بالشفاعة الشافع، وينفع بها المشفوع؛ لكن لا يمكن أن تكون الشفاعة إلا بشرطين:
برضا الله جل وعلا عن الشافع.
وبرضاه الله جل وعلا عن المشفوع، وبإذنه.
﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾،﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَٰوَاتِ لا تُغْنِيشَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى (26)﴾.[سورة : البقرة (255).]فتبين لنا من هذا أن الشفاعة لا تكون إلا لمن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ولمن أذن له جل وعلا في أن يشفع.
قال: (ولا تَنْفَعُ الكافِرَ شفاعةُ الشّافعين) قال الله تعالىٰ في ذلك: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾.[سورة : المدثر (48).]
ونفى الله عز وجل الشفاعة في مواضع كثيرة من كتابه، والشفاعة المنفية في القرآن العظيم هي الشفاعة في أهل الشرك، أو الشفاعة التي يزعمها من يزعمها من المشركين.
فالشفاعة المنفية هي شفاعة الشرك، أو الشفاعة التي يظنها ويتوهمها من لم يفهم كلام الله وكلام رسوله من أن أحداً يشفع دون إذنه ورضاه.
وقوله رحمه الله: (ولا تَنْفَعُ الكافِرَ شفاعةُ الشّافعين) موافقة لقوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾.[سورة : المدثر (48).]فنفى الله عز وجل عن أهل الكفر نفع الشفاعة، وهل هذا نفي للنفع بالكلية؟ الجواب: هذا هو الأصل؛ لكن دلت السنة على أن من الكفار من ينتفع بالشفاعة؛ لكنه ليس نفعاً تامًّا، إنما هو نوع تخفيف:
من ذلك الشفاعة الخاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمه أبي طالب، وقد وسع بعض أهل العلم الدائرة فجعلها شفاعة تشمل كل من نصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكفار، ومعلوم أن الكفر درجات، وليس على مرتبة واحدة، فكما أن الإيمان شُعب ودرجات، فكذلك الكفر أعمال ويتفاوت أهله فيه، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾[سورة : التوبة (37).]فجعل النسيء وهو تأخير الأشهر الحرم وتقديمها والتلاعب بها مما يزيد به كفر الكافر، والنار معلوم أنها دركات، وهذا التفاوت في دركات النار إنها هو لتفاوت درجات الكفر، فالكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين في رفع العذاب وإزالته، إنما تنفعهم في تخفيفه.
وذلك في عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واضح، حيث بيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفعه عمَّه حيث قال: ((إنه في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرْك الأسفل من النار))، والحديث في الصحيحين.[تم تخريجه صفحة (2).]ويدل أيضاً لهذا التخفيف حديث الشفاعة العظمى، فإن الناس يجتمعون يوم القيامة ويأتون إلى الأنبياء طالبين منهم التخفيف والشفاعة عند رب العالمين في فصل القضاء، هذه الشفاعة هل الذي يطلبها الكفار أو أهل الإيمان؟ كثير من النصوص جاءت مطلقة: ((أن الناس يأتون إلى آدم))، والناس يصدق عليهم المسلم والكافر، وفي بعض روايات الحديث عند الإمام مسلم في صحيحه قال: ((فيجتمع المؤمنون فيأتون آدم)) فيكون الطالب للشفاعة هم أهل الإيمان؛ لكن حتى على هـٰذه الرواية فإن طلب الشفاعة فيه نوع شفاعة للكفار، لكنها شفاعة تخفيف وليست شفاعة رفع؛ لأن ما يُقبلون إليه أعظم وأشد مما أدبروا عنه.
والمراد أن قوله تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾.[ سورة : المدثر (48).]هل يدخله تخصيص أو لا؟ لا يدخله تخصيص؛ لأن تخفيف العذاب لا ينتفع به الكافر انتفاعاً تامًّا، وإنما يحصل النفع الكامل في أي شيء؟ في رفع العذاب وإزالته، فأبو طالب مع عظيم نفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بهذه الشفاعة حيث إنه صار أهون أهل النار عذاباً، هل انتفع بهذا؟ لا، يرى أنه أعظم أهل النار عذاباً؛ يرى أنه أشدهم عذاباً، وهذا صدق قول الله تعالىٰ: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾.[ سورة : المدثر (48).]
قال رحمه الله بعد ذلك:
(والجنَّةُ والنّارُ مخلوقتانِ لا تفْنيانِ، فالجنَّةُ مأوى أوليائه، والنّارُ عِقابٌ لأعدائِهِ، وأهلُ الجنَّةِ فيها مُخَلَّدونَ. ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74)لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾[سورة : الزخرف (74-75).]).
يقول رحمه الله: (والجنَّةُ والنّارُ مخلوقتانِ لا تفْنيانِ) الجنة هي دار النعيم الكامل التي أعدها الله عز وجل لعباده الصالحين، والنار هي دار العذاب التام التي أعدها الله عز وجل للكافرين والعصاة.
يقول المؤلف رحمه الله: (الجنَّةُ والنّارُ مخلوقتانِ) يعني الآن، وهذا هو الذي عليه عقد أهل السنة والجماعة، أجمع عليه سلف الأمة ودل عليه الكتاب والسنة، ففي كتاب الله عز وجل يقول في الجنة:﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾،[سورة : آل عمران (133).]ويقول عن النار: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[سورة : البقرة (24)، آل عمران (131).]ويقول عن النار: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)﴾،[سورة : النبأ (21).]ولا يكون هذا إلا فيما أُعد ووجد.
وأما الأحاديث فهي أكثر من أن تحصر، من أبرزها ما رواه الإمام مسلم: ((أن الله لما خلق الجنة والنار قال لجبريل: اذهب فانظر إلى الجنة وما أعددت لأهلها فيها، فيأتي إلى الجنة فينظر إليها فيقول: يا رب لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم توضع المكاره حول الجنة، فيقول الله عز وجل: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فينظر فيأتي فيقول: إني خشيت ألا يدخلها أحد لما حُفت به من المكاره. ثم يرسله الله إلى النار، لينظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها، فيقول جبريل عليه السلام للرب جلّ وعلا: إنه لا يسمع بها أحد فيدخلها، فتوضع الشهوات وتُحف بالشهوات فيأتي إليها فينظر إليها فيقول: إني خشيت ألا ينجو منها أحد لما حُفت به من الشهوات))[سنن الترمذي: كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، حديث رقم (2560). وقال: حسن صحيح.
سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار، حديث رقم (4744).
سنن النسائي: كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله تعالىٰ، حديث رقم (3763).
قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
وهـٰذا الحديث بهذا الطول ليس في مسلم؛ بل الذي في مسلم: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)). وهو في البخاري أيضاً.].
الشاهد في هذا الحديث قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لما خلق الله الجنة والنار)). فالجنة وما فيها وما أعده الله لأهلها موجود، والأدلة على هذا في السنة مثل ما ذكرت أكثر من أن تحصر، منها ما رواه أنس وعائشة وابن عباس في الصحيح من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الكسوف: ((رأيت في مقامي هذا الجنة والنار))[البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (7287).
مسلم: كتاب صلاة الكسوف، باب ما عرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، حديث رقم (905). وغيره من أحاديث الباب.]. وهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتناول قِطفاً من الجنة، ولما رأى النار يحطم بعضها بعضاً تأخر.
فالأدلة على وجود الجنة والنار في الكتاب والسنة كثيرة، وعليه أجمع أهل الإسلام. أهل الاعتزال الذين بلاهم الله بمحاكمة النصوص بعقولهم قالوا: ما فائدة وجود الجنة والنار الآن؟ قالوا: لا فائدة، عبث، والله منزه عن العبث، فالجنة والنار ليستا موجودتين، فنفوا وجود الجنة والنار، وقالوا: يخلقهما الله عند الحاجة إليهما، وكذبوا النصوص الدالة على وجود الجنة والنار؛ لكن هذا التكذيب هل معهم فيه نص؟ هل لهم فيه بينة؟ الجواب: لا، إنما معهم عقول كليلة، ومعهم بصائر حسيرة، حاكموا وحكموا بها على النصوص، فأبطلوا ما دلت عليه من وجود الجنة والنار.
فأدلة ما ذكر المؤلف رحمه الله من أن الجنة والنار مخلوقتان، واضحة وظاهرة يدركها كل من قرأ كتاب الله عز وجل، أو سمع ما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك.
ثم قال المؤلف في مسألة أخرى: (لا تفْنيانِ) أي: لا تبيدان ولا تذهبان ولا تضمحلان؛ بل هما باقيتان، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم من السلف والخلف، والأدلة عليه دالة.
واعلم أنه لا خلاف بين أهل السنة وأهل الإسلام في بقاء الجنة، وأنها لا تفنى، وإنما الخلاف الذي وقع بين أهل السنة في فناء النار: فذهب جماعة من السلف والخلف من أهل السنة والجماعة إلى أن النار تفنى، ونقل هذا القول عن جماعة من الصحابة منهم عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأبو هريرة وغيرهما، ونصره ابن القيم.
والذي عليه جمهور السلف والخلف أن النار باقية، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر عذاب النار وذكر خلوده، وذكر تأبيده في ثلاثة مواضع من كتابة، فما ورد يوهم انقطاع عذاب النار يجب حمله على المحكم الدال على بقائه وتأبيده.
فمثلاً قول الله تعالىٰ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)﴾،[سورة : هود (106-107).]قالوا: إن قوله تعالىٰ: ﴿إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ﴾يدل على عدم الخلود.
وكذلك قوله تعالىٰ: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)﴾[سورة : النبأ (23).]أي مدداً متطاولة، قالوا: مُدد متطاولة تنتهي.
وما أشبه ذلك من النصوص التي ليس فها ذكر التأبيد يجب حملها على ما جاء من النصوص الدالة على أنّ عذاب النار ممتد مؤبد لا ينقطع. وقد ذكر الله ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه:
في سورة النساء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (169)﴾[سورة : النساء (168-169).]ولا يمكن أن يقال: هذا لا خلود فيه، فإن الله ذكر الخلود والتأبيد.
والموضع الثاني في سورة الأحزاب في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.[سورة : الأحزاب (64-65).]
والموضع الثالث في سورة الجن في قول الله تعالىٰ: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)﴾.[سورة : الجن (23).]
فهذه المواضع الثلاثة التي ذُكر فيها التأبيد تقضي على غيرها من النصوص التي قد يتوهم منها أو يفهم منها أن النار تفنى، فعلم بهذا صحة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وذكره في عقد أهل والجماعة حيث قال: (لا تفْنيانِ)، وهذا هو الصحيح الذي نؤمن به ونجزم بأنه الصواب؛ لدلالة الكتاب والسنة.
لكن هل هذه المسألة يُبدع فيها المخالف مسألة فناء النار؟
الجواب: لا؛ لأنه قد نُقل عن بعض سلف الأمة هذا القول، فهو من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة.
الذي انفرد بقول:إن الجنة تفنى هو الجهم بن صفوان وتبعه عليه من تبعه، وهو قول مُحدث لم يسبق إليه، وليس به قائل لا من السلف ولا من الخلف، فيميز بين فناء النار وفناء الجنة.
يقول رحمه الله: (فالجنَّةُ مأوى أوليائه) (مأوى) أي: مصير ومآل أوليائه، والأولياء هم أهل التقوى، قال الله تعالىٰ: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)﴾[ سورة : يونس (62-63).]. فكل من حقق الإيمان وكل من اتصف بالتقوى فإنه من أولياء الله عز وجل الموعودين بالجنة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الذي في الصحيحين: ((أعددت لعبادي)) أيفي الجنة ((لعبادي الصالحين:ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر))[البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث رقم (3244).
مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم (2824).]. فالأولياء هم الصالحون الذين أصلحوا بواطنهم وظواهرهم.(والنّارُ عِقابٌ لأعدائِهِ)وهم كل من حادّالله من أهل الكفر وأهل المعصية؛ولكنها متفاوتة،فالنار دركات: منها ما يكون للعصاة،ومنها ما يكون لأهل الكفر.
ثم قال رحمه الله: (وأهلُ الجنَّةِ فيها مُخَلَّدونَ)وسكت رحمه الله عن ذكر أهل النار؛لكنه أجاب عن حال أهل النار بالآية،والسبب -والعلم عند الله- أن أهل الجنة لا خلاف في أنهم مخلدون كما ذكرنا،فلا قائل لا من السلف ولا من الخلف بأن أهل الجنة لا يخلّدون، لكن لما كان الخلاف في أهل النار،ماذا قال المؤلف رحمه الله؟ قال:﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)﴾[سورة : الزخرف (74-75).]فأتىبالآية الدالة على تخليد أهل النار؛لأنه قد وقع الخلاف في خلود أهل النار هل يخلدون أولا،فأتىبالآية الدالة على بقائهم واستمرارهم.
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.