الدرس (16) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح
قال الإمام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالىٰ:
(ويُؤْتَى بالموْتِ في صورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فيُذبَحُ بين الجنَّةِ والنّارِ، ثم يُقال: ”يا أهلَ الجنَّةِ خلودٌ ولا موْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ خلودٌ ولا موْتَ“).
بسم الله الرحمـٰنالرحيم
الحمد لله رب العالمين،وأصليوأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد،وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
تقدم الكلام على أول هذا البحث في قول المؤلف رحمه الله: (والجنَّةُ والنّارُ مخلوقتانِ لا تفْنيانِ).صلةهذا قال رحمه الله: (ويُؤْتَى بالموْتِ في صورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ)ويؤتىبالموت وهو المعروف الذي هو مفارقة الحياة،والموت خلقٌ من خلق الله عز وجل،هذا هو الصحيح أنه خلقٌ من خلق الله عز وجل،ولذلك يؤتىبه في صورة كبش أملح، ودليل أن الموت خلقٌ من خلق الله عز وجل قول الله جلّ وعلا:﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[سورة : الملك (2).]. فالموت ليس مجرّد العدم،إذ العدم ليس بشيء،إنما الموت خلق من خلق الله جلّ وعلا،وهو مفارقة الحياة. يؤتىبه يوم القيامة إذا استقر كل أهل دار في دارهم، إذا استقر أهل الجنة في الجنة واستقر أهل النار في النار -نعوذُ بالله من الخسران-، (ويُؤْتَى بالموْتِ في صورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ)أي يمثله الله عز وجلعلىصورة كبشٍ أملح،فيذبح بين الجنة والنار على مرأىمن أهل الجنة وأهل النار، كل يرىالموت ويعرفه؛لأنه قد ذاقه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾،[سورة : آل عمران (185)، الأنبياء (35).]فإذا جاء لا يؤتىبه على صورة منكّرة غير معروفة، مجهولة للمخاطبين؛بل هي صورة معروفة معلومة لمن يُدعون ويخاطبون من أهل الجنة وأهل النار.
(فيُذبَحُ بين الجنَّةِ والنّارِ)أي يذبح وينتهي فلا موت بعد هذا الذبح،ولذلك(ثم يُقال: ”يا أهلَ الجنَّةِ خلودٌ ولا موْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ خلودٌ ولا موْتَ“).كل هذا خبرٌ جاء في الصحيح: ((أنه يؤتى بالموت وينادى: يا أهل الجنة! فينظرون فيرون الموت على صورة كبش أملح، فيذبح فيقال:يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت))[ البخاري: كتاب التفسير، باب قوله: ﴿وأنذرهم يوم الحسرة﴾[مريم:39]، حديث رقم (4730).
مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، حديث رقم (2849).]. وهذا يدل على بقاء كل فرقةمن هاتين فيما هي فيه إلى أبد الآباد.
وقد تقدم أن خلود الجنة لا خلاف فيه بين أهل العلم،وأن أول من أحدث القول بفناء الجنة هو الجهم ابن صفوان، وهو قول مبتدع أنكره عليه أهل الإسلام.
وأما خلود النار ففيه قولانلأهل العلم من السلف والخلف:
جمهور العلماءمن السلف والخلف على أن النار باقية خالدة لا تتحول ولا تفنى.
والقول الثاني:أنها تفنى، وهو قول لجماعة من الصحابةومن بعدهم من سلف الأمة وخلفها.
والصحيح من هذين القولين بقاء النار وأنها لا تفنى، كما دل على ذلك ثلاث آيات فيكتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع ذكرناها في الدرس السابق:
الأول:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (169)﴾[سورة : النساء (168-169).]. الشاهد في الآية ذكر التأبيد، وإلا ذكر التخليد فيمواضع كثيرة؛لكن الكلام على التأبيد، وهو أنه لا نهاية له.
طيب الموضع الثاني:﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.[سورة : الأحزاب (64-65).]هذا الموضع الثاني.
الموضع الثالث في سورة الجن: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)﴾.[سورة : الجن (23).]
هذه ثلاثةمواضع في كلام الله عز وجل تدل علىصحة ما ذهب إليه جمهور العلماء من السلف والخلف منأن النار باقية لا تفنى،نسأل الله السلامة منها.
سؤال: أمّا أنت يا أخي الذي كنت تسأل قبل قليل تقول: كيف الصحابة فهموا؟
الأفهام تختلف؛لكن العبرة بفهم الغالب العام الذي عليه جمهور الصحابة ومنبعدهم من سلف الأمة وخلفها على أن النار باقية.
ماذا قالوا؟ ما ندري ماذا قالوا؛لكنهم قد تكون خفيتعليهم هذه الآيات؛يعني بمعنىما استحضروها،وقد يكون أجابوا عليها بما في الآيات الأخرى،أن التأبيد طول المدة وليس التخليد المطلق، وهذه مسألة أطال العلماء البحث فيها؛لكن الكلام على دلالاتالنصوص،لا ماذا قال المخالف فيها؛ لأن المخالف قد يكون خفي عليه النص لما تكلم بالكلام،قد يكون عنده مانع من القول بدلالة آية أخرى.
المراد أننا بالنظر إلى الأدلة تبين -فيما يظهر أنهالصواب- أن النار خالدة لا تفنىكما دلت عليه هذه النصوص.
لكن هل يبدّع منقال: إن النار تفنى؟ الجواب:لا؛الذي يبدّع الذي يقول:إن الجنة تفنى،أما النار ففيها خلاف بين العلماء كما سمعتم. نعم.
(فصل
ومحمدٌ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَمُ النَّبِيِّينَ وسَيِّدُ المرسلينَ، لا يصحُّ إيمانُ عبْدٍ حَتّى يُؤمِنَ برسالته، ويشهَدَ بنبوتِه، ولا يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ في يوم القيامَةِ إلاَّ بشفاعَتِهِ، ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ أُمّةٌ إلاّ بعْدَ دُخولِ أُمّتِه.
صاحِبُ لِواءِ الحمْدِ، والمقامِ المحمودِ، والحوْضِ الموْرودِ، وهوَ إمامُ النَّبِيّينَ، وخَطِيبُهم، وصاحِبُ شفاعتِهم، أمّتُه خيْرُ الأممِ).
طيب،هذا الفصل ذكر المؤلف رحمه الله فيأوله ما خص الله به محمداًصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَمن الفضائل والخصائص.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه الله جلّ وعلا من الخصائص والفضائل ما لم يعط نبيًّا غيره، كما في حديث جابر في الصحيحين: ((أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي)). فله من الخصائص والفضائل ما ليس لغيره،وهذه الخصائص منها ما يتعلّق به،ومنها ماهوله ولأمته،ومنها ما هو في الدنيا ومنها ما هو في الآخرة.
هذه الخصائص التي مُيِّز بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
منها ما هو له خاصة مثل: ((وبعثت للناس عامة))بعثه لعامة الناس.
ومنها ماهوله ولأمته، كقوله: ((نصرت بالرعب))على قول،وأوضحمن هذا: ((جُعلت لي الأرض مسجداً وطهورًا)).[البخاري: كتاب الصلاة، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً))، حديث رقم (438). مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521).]
ومنها ما هو في الدنيا، كهذه التي ذكرناها.
ومنها ما هو في الآخرة، كشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفي الموقف،فهذا له دون غيره.
وكذلك أن أمته تدخل الجنة قبل الأمم،وهذا له ولأمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ،فما خصهالله به شيء كثير،وما شاركه فيه غيره من الأنبياء له فيه -في غالب موارده-التقدم،وإن كان في بعض الخصائص يتقدم عليه غيره، لكن هـٰذا التقدملا يعني أنه أفضل منه؛بل هو أفضل الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال في حديث أبي هريرة وغيره: ((أنا سيدولد آدم يوم القيامة ولا فخر))[سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، حديث رقم (4308). قال الشيخ الألباني: صحيح. وفي صحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (2278). دون ((ولا فخر)).]. وسيادته يوم القيامة تدل على سيادته في الدنيا ولا شك؛لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإذا قدمه الله في يوم الجزاء فهوالمقدم في هذه الدنيا؛لأن التقديم يوم القيامة دليل على التقدم في الدنيا،كما قال الله جلّ وعلا:﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)﴾.[سورة : الواقعة (10).]
قال رحمه الله: (ومحمدٌ رسولُ اللهِ) أي أرسله الله جلّ وعلا،وأدلة هذا كثيرة جدًّا من الكتاب ومن السنة ومن الشواهد الدالة على صدقهوالآيات والبراهين الدالة على صحة رسالته.
ودلائل النبوة كثيرة جدًّا لا تنحصر في قول الله ولا في قول النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛بل دلائل صدق نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَمنها ما هو حالي، ومنها ما هو في خبره، ومنها ما هو في أسماء الله عز وجل وصفاته،فدلائل النبوة متعددة كثيرة، كلها تدل على صحة رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وأنه رسول رب العالمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، أرسله الله عز وجل إلى الناس عامة.
يقول المؤلف رحمه الله:(خاتَمُ النَّبِيِّينَ)أي ختم الله به النبيين،وقد جاءهذافي قول الله تعالى:﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾،[سورة : الأحزاب (40).]فختم الله به الرسالات.
(خاتمُ)لها وجهان:خَاتَم وخاتِم.
الخَاتِم هو الذي ختمهم، وأُغلقت به الرسالة.
والخاتَم هو الذي يلبس فيتجمّل به ويتزين به،رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَهو جمال الأنبياء وزينتهم وإمامهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وهو خاتمهم أي هو الذي ختم الله عز وجل به الرسالات، فلا نبي بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
وخاتَم المرسلينأيضاً؟الجواب:نعم،خاتَم المرسلين،إذا كان خاتَم النبيين فهو خاتَم المرسلين؛لأن كل رسول نبي،فإذا كان قد ختم الله به النبوات فإنه ختم به الرسالات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
قال: (وسَيِّدُ المرسلينَ) أي: صاحب الشرف والعلو والمقام الرفيع فيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،ولا ريب أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَسيد المرسلين،ويدلك لذلك تدافع أولي العزم من الرسل للشفاعة في ذلك الموقف، فإنهم يتدافعونها وتصير إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفيقول: ((أنا لها،أنا لها))[ البخاري: كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، برقم: (7510). مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم: (193).]. فهذا يدل على سيادته وشرفه وعلو مكانته ورفيع منـزلته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))[تم تخريجه في الصفحة (2).]. فهو سيد كل من ولدهآدم،فسيادته لولد آدم تدل على سيادته للمرسلين؛لأن المرسلين جميعهم من ولد آدم.
قال رحمه الله: (لا يصحُّ إيمانُ عبْدٍ حَتّى يُؤمِنَ برسالته)ولا شك أنه لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعثه الله بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً،من لم يؤمن بهذا فإنه لا يصح له إيمان،ولا يثبت له عقد، ولا يستقر له في الإسلام قدم،ولذلك مفتاح الدخول إلى هذه الشريعة وهذا الدين أن يقول:أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله))[البخاري: كتاب الإيمان، باب ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾[التوبة:5]، حديث رقم (25). مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إلـٰه إلا الله محمد رسول الله..، حديث رقم (22).]. فمن لم يشهد بذلك فإنه لم يتحقق له إسلام ولا إيمان.
يقول رحمه الله: (ويشهَدَ بنبوتِه)هذا مكمل للأول ودليله دليل السابق.
قال رحمه الله: (ولا يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ في القيامَةِ إلاَّ بشفاعَتِهِ). وهذا قد جاءت به النصوص عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،منها ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة من أن الأنبياء يتدافعون الشفاعة،إذا جاءهم الناس يطلبونهم أن يشفعوا لهم، فتصير إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفيقول: ((أنا لها، أنا لها. فيذهب يخر تحت العرش، ثم يقول الله له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع))[تم تخريجه في الصفحة (2).]. فيشفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَفي فصل القضاء بين الناس؛أي أن يأتي الله عز وجل لفصل القضاء والحكم بين الناس،فإذا شفع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَجاء الرب جلّ وعلا للفصل بين الناس فيما يكون بينهم وبيان جزائهم وأجرهم وأعمالهم.
هـٰذا معنىقوله رحمه الله: (ولا يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ في القيامَةِ إلاَّ بشفاعَتِهِ)أي بتوسطه لدى الله جلّ وعلا أن يأتي لفصل القضاء،وهذا مما لا شك فيه، ثبتت به السنة،وجاءت الإشارة إليه في قول الله تعالىٰ:﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79)﴾[سورة : الإسراء (79).].فالمقام المحمود جاء بيانه في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبأنه مقامهبين الناس يشفع لهمفي فصل القضاء،فإنه يحمده على هذا كل أحد.
قال رحمه الله: (ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ أُمّةٌ إلاّ بعْدَ دُخولِ أُمّتِه)،(ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ)الجنة قلنا: إنها دار النعيم الكامل التي أعد الله فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن نكون من أهلها.
هذه الدار لا يدخلها أحد قبل أمةالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة))[البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب (54)، حديث رقم (3486).مسلم: كتاب الجمعة، باب هداية هـٰذه الأمة ليوم الجمعة، حديث رقم (855).]
الآخرون في الدنيا الأولون يوم القيامة،فإن أول الأمم دخولاًأمة الإسلام، أمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع كونها آخر الأمم من حيث الزمن والتاريخ في الحياة الدنيا؛لكن هذا التأخر الزمني لم يمنع أن يسبقوا الأمم قبلهم فيدخول الجنة؛وذلك لما خصهم الله به من كمال الشريعة وتمام العبودية لله عز وجل،ويدل لهذا أن أول شفيع في الجنة هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشفق ما يكون على أمته؛ولذلك يشفع في أمته.
فالأحاديث التي جاءت في ذكر الشفاعة العظمىومجيء الناس له -أي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَلطلب الشفاعة- إذا نظرت إلى سياقها في أكثر ما ورد في الصحيحين وفي غيرهما من دواوين السنة تجد أنه إذا جاءه الناس لطلب فصل القضاء فيشفع لدى الله عز وجل، يذكر أهل العلم شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته ((فأقول:أمتي أمتي.فيقول الله عز وجل:أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرةمن إيمان))[تم تخريجه في الصفحة: (2).].
فهذه الشفاعة التي ذكرها أهل العلم فيدواوين السنة ليست هي الشفاعة العظمىالتي هي المقام المحمود، إنما هي شفاعته في أمته في بعض مندخل النار أن يخرج منها أو من استحق النار أن يدخلها أن لا يدخلها،والسبب في ذكر هذا دون ذكر الشفاعة العظمىفي أكثر هذه الأحاديث أنّالشفاعة العظمىلم ينكرها الخوارج ولم تنكرها المعتزلة ولم ينكرها منكروالشفاعة،إنما أنكروا وناقشوا وخالفوا في شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر، أما شفاعته في الأمم لفصل القضاء فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يخالفوا فيه.
المراد أن هـٰذه الأمة هي أول الأمم دخولاً الجنة، وهـٰذا معنى قوله رحمه الله: (ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ أُمّةٌ إلاّ بعْدَ دُخولِ أُمّتِه).
ثم ذكر المؤلف رحمه الله شيئاً مما اختص الله به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صاحِبُ لِواءِ الحمْدِ) واللواء هو الراية التي يحملها قائد الجيش في الغالب، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرفع له يوم القيامة لواء يحمله، وهـٰذا اللواء يسمى بلواء الحمد، ولذلك أضاف اللواء إلىٰ الحمد فقال: (صاحِبُ لِواءِ الحمْدِ)، والحمد أي حمد الله جل وعلا، وهو ذكر المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أعلى الناس حمداً لربه في ذلك الموقف، ويدل لذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر الشفاعة يقول: ((فآتي فأسجد فأحمد الله عز وجل بمحامد يفتحها علي لا أعلمها الآن –أو: لا أعرفها الآن-))[تم تخريجه في الصفحة: (2).]. محامد يدركها ويعلمها في تلك الساعة وفي ذلك الوقت، ولذلك يعطى لواء الحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكونه أعظم الخلق والناس حمداً لربه في ذلك الموقف.
وهـٰذا اللواء للعلماء فيه قولان:
منهم من قال: إنه لواء معنوي.
ومنهم قال: إنه لواء حقيقي.
والصواب أنه لواء حقيقي؛ لأن الأصل فيما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحقيقة لا المجاز، فهـٰذا اللواء لواء حقيقي، ولا تقل كيف يكون حقيقيًّا؟ نقول: أمر الآخرة ليس مما تدرك العقول حقائقه وتتبين كيفياته؛ بل إنه أمر نؤمن به على ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أن نلج في كيف يكون ذلك.
فإن النصوص قد أخبرت بألوية تكون يوم القيامة، ففي الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ينصب لكل غادر يوم القيامة لواء، عند استه، يقال: هـٰذه غدرة فلان))[البخاري: كتاب الجزية والموادعة، باب إثم الغادر للبر والفاجر، حديث رقم (3186، 3187). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، حديث رقم (1738)، واللفظ له.]. وهـٰذا اللواء حقيقي، ولذلك يشار إليه ويقال: هـٰذه غدرة فلان، هـٰذا اللواء الذي عقد للغادر لواء حقيقي يدرك ويشار إليه، فما المانع من أن يكون اللواء الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو لواءً حقيقيًّا؟ وهـٰذا هو الأصل.
واختلف العلماء رحمهم الله في ما هو سبب اللواء:
فقيل: إن اللواء سببه ما ذكرت قبل قليل من أنه يفتح للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحمد ما لا يفتح لغيره.
وقيل: إن هـٰذا اللواء سببه موقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم، حيث يَفتح الله له من الفضل والمكانة والعمل ما ينفع به جميع الناس مسلمهم وكافرهم، في الشفاعة في فصل القضاء؛ لأنه قد جاء في بعض الآثار أن الكفار يطلبون الخلاص من موقف القيامة حتى ولو كان ذلك إلىٰ النار؛ لأن الإنسان في الشدة قد يتصوّر أنها أعلى ما تكون، ويغيب عنه أن ما سيقبل عليه أعظم وأشد.
ولذلك جاء في بعض الآثار أن شدة الموقف على أهله تحمل الكفّار أن يقولوا: ربنا خلصنا ولو إلىٰ النار. يظنون أن النار أهون من ذلك الموقف، وهي أشد وأنكى نسأل الله السلامة والعافية.
المراد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمده في ذلك الموقف كل أحد حتى الكفار، وهـٰذا من معاني اللواء المحمود.
وقيل أقوال أخرى في معاني اللواء المحمود أو سبب اللواء المحمود، قيل: إنه لإجلاس الله عز وجل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العرش.
وقيل غير ذلك.
والذي يظهر أنه لما له من الفضائل والمنزلة في ذلك الموقف، الفضائل العامة التي تعم كل أحد والخاصة التي تختص أمته وتختصه هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
ثم قال: (صاحِبُ لِواءِ الحمْدِ والمقامِ المحمودِ) أي صاحب المقام المحمود، والمقام هو مكان القيام، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم المقام المحمود الذي يحمده عليه كل أحد، وهو شفاعته لفصل القضاء.ثم قال: (والحوْضِ الموْرودِ) ذكرنا ذلك فيما تقدم في كلام المؤلف رحمه الله على الحوض في قوله: (ولنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوض في القيامة) وقلنا: إن معنى الحوض مجمع الماء، وهو مجمع عظيم يكون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)﴾[سورة : الكوثر (1).]وبما جاء متواتراً عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إثبات حوضه يوم القيامة.قال: (وهوَ إمامُ النَّبِيّينَ) أي مقدَّمهم الذي يؤمه الأنبياء ويأتمون به ويقتدون به؛ لعظيم منزلته ورفيع مكانته، وهو إمامهم في الدنيا وإمامهم في الآخرة.
أما إمامته لهم في الدنيا فلأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ صلى بهم وأمهم في بيت المقدس ليلة المعراج.
وأما إمامته لهم في الآخرة: فأولو العزم وأصحاب العلو والرفعة والمكانة من الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهـٰذا من إمامته لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وخَطِيبُهم)، الخطيب معروف، وهو الذي يتكلم في بيان الحاجة، وقوله: (وخَطِيبُهم) أي خطيب الأنبياء، وقد جاء هـٰذا في جامع الترمذي من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر ((بأنه خطيب الأنبياء إذا وفدوا))[سنن الترمذي: كتاب المناقب، باب فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (3610)، وقال: هـٰذا حديث حسن غريب.قال الشيخ الألباني: ضعيف.]
أي إذا وفدوا على الله عز وجل في أرض المحشر؛ من ذلك أنه هو الذي يطلب الشفاعة للخلق ويتأخر كل الأنبياء لا يتكلم أحد ﴿إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)﴾،[سورة : طه (109).]وأولهم رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أول من يكلم الله جل وعلا في المحشر رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو خطيبهم إذا وفدوا.
وشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء؛ فقد جاء في وصفه في بعض الآثار أنه خطيب الأنبياء، لكنه خطيبهم في الدنيا؛ وذلك لجميل بيانه وحسن كلامه في دعوته لقومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما الخطيب الذي يكون يوم القيامة فهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وصاحِبُ شفاعتِهم) يعني الذي تصير إليه الشفاعة في ذلك الموقف، فإن الأنبياء يتدافعونها إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقول: (أمّتُه خيْرُ الأممِ) ولاشك أن هـٰذه الأمة خير الأمم، قال الله تعالىٰ: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾[سورة : آل عمران (110).]. وقال تعالىٰ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[ سورة : البقرة (143).]. فهاتان الآيتان دالتان على خيرية الأمة في الدنيا، والخيرية في الدنيا تدل على الخيرية في الآخرة.
وأما الخيرية في الآخرة: فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في حديث علي في مسند الإمام أحمد في بيان ما أعطاه الله عز وجل وخصه -:((وجعلت أمتي خير الأمم))[أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3939) وقال: أخرجه أحمد والبيهقي في السنن.]. فأمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأمم، خيريتها في التوحيد، خيريتها في العمل، خيريتها في الثواب، خيريتها في الشريعة، خيريتها في الآخرة بتقدمها على الأمم وسبقها لهم إلىٰ كل فضل، فخيرية الأمة لها من الأوجه والجوانب ما يطول تتبعه وذكره.
ثم قال رحمه الله: (وأصحابُه خيْرُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم السّلامُ)، بدأ بهذا المقطع أو بهذه الجملة الكلام عن صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، نجعل ذلك إن شاء الله تعالىٰ في الدرس القادم، والله تعالىٰ أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.