الدرس (1) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام المقريزي -رحمه الله تعالى- في كتابه (تجريد التّوحيد المفيد):
[المتن]
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله علىٰ نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبهأجمعين.
وبعد،فهٰذا كتاب جمّ الفوائد بديع الفرائد، ينتفع به من أراد اللهَ والدّار الآخرة. سميته: ((كتابتجريد التّوحيد المفيد))، واللهَ أسأل العون على العمل بهبمنِّه.
[الشرح]
المؤلف -رحمه الله- هو أحمد بن علي المقريزي المصري الشّافعي، وهو من علماء القرن الثّامن والتّاسع الهجري، والمؤلف -رحمه الله- من الكبراء الذين أكثروا التّأليف في فنون شتى؛ إلاّ أن بروزه الأكبر والأظهر فيما يتعلّق بالتواريخ، فهو إمام كبير له مؤلفات معتمدة ونظر ثاقب فيما يتعلّق بتواريخ الأمم الإسلامية، وله مؤلّفات في الفقه وفي غيره من العلوم، ومنه هـٰذا المؤلَّففيماما يتعلق بأصل الدِّين وهو التوحيد.
والمؤلف -رحمه الله- سمّى هـٰذا الكتاب (تجريد التّوحيد المفيد) ومعنى الـ(تجريد) التّخليص، فتجريد الشّيء تخليصه وإزالة العوائق العالقة به، و(التّوحيد) المقصود بالتّوحيد هنا توحيد الإلهية، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
وأصل التّوحيد مأخوذ من: وحّد، يوحِّد، توحيدًا. فهو بمعنى التفريد.
وأما في الاصطلاح فذكرتُ أنه: إفراد الله –تعالى- بالعبادة.
وقوله -رحمه الله-: (المفيد) أي الذي يفيد الإنسان في تحقيق الفضائل وتحصيل ما رتّبه الله –تعالى- من الأجور على التّوحيد، فقوله: (تجريد التّوحيد المفيد) أي تخليص التّوحيد الذي تحصل به الفائدة؛ وذلك أن التوحيد الذي جاءت به الرّسل متفق عليه بينهم، وهو ظاهر بيِّن في كتاب الله –تعالى-، لا يتعب النّاظر في كتاب الله –تعالى- والقارئ لكلام الله -جل وعلا- في التوصل إلى معناه، وأنه إفراد الله –تعالى- بالعبادة؛ لكن هـٰذا التوحيد طرأ عليه من العلائق والشّوائب ما أوجب تخليصه حتى يصفو ويسلم مما علق به، فجعل المؤلف -رحمه الله- كتابه بهـٰذا الاسم ليبيِّن أنّ مقصوده من كتابه تجلية التّوحيد وتوضيحه، والتّوحيد الذي يريد تجليته وتوضيحه هو التّوحيد الذي يحصل به الفائدة لمن حقّقه وعمل به.
ابتدأ المؤلِّف -رحمه الله- هـٰذا الكتاب المبارك بالبسملة كسائر عمل العلماء في مؤلفاتهم، والبسملة جملة مفيدة تامّة وهي إما اسمية أو فعلية على حسب التّقدير، والبداءة بالبسملة هي ما جرى عليه كلام الله –تعالى- في كتابه؛ فإنّ الله تعالى افتتح كتابه بالبسملة وافتتح السّور بالبسملة عدا سورة براءة، فافتتاح الكتب بالبسملة سنة قرآنية كما أنه سنة نبوية؛ فإنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كان يفتتح كتبه بالبسملة كما جرى ذلك في كتاباته للملوك وأصحابه وغيرهم ممن كتب لهم، فكان يفتتح كتبه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بـ(بسم الله الرحمـٰن الرحيم) أو (باسمك اللهم) أو ما إلى ذلك مما جرى به عمله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمْ- وقد جاءت أحاديث عديدة في النّدب إلى الافتتاح بالبسملة؛ لكن لا يصح منها شيء، فكلّها ضعيف.
وعطف المؤلف –رحمه الله- على الافتتاح بالبسملة: الحمدلة، فجمع في هـٰذا الكتاب بين الأمرين: البسملة والحمدلة، وكان يكفي أن يبتدئ كتابه بالبسملة؛ لأنّه الأصل فيما تفتتح به المكاتبات؛ لكن ذكر الحمدلة مما جرى عليه عمل العلماء، وإن كان المحفوظ من هدي النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتبه أنه يقتصر في الافتتاح على البسملة ثم يشرع في المقصود من الكتاب؛ لكن جرى عمل العلماء على ذكر الحمدلة، فجمعوا بين الأمرين، والأمر في هـٰذا واسع؛ لكن من حيث المحفوظ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو ذكر البسملة في أوّل كتبه.
قال -رحمه الله-: (الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين) اقتضب المؤلف -رحمه الله- في هـٰذه المقدمة في افتتاح الكتاب مسارعة في البداءة بالمقصود، وذكر في الحمدلة نوعين من أنواع التوحيد: الإلهية والرّبوبية، وهـٰذا قد يقال: إنه من براعة الاستهلال؛ لأنّ المؤلف -رحمه الله- سيتكلّم عن هذين النوعين، وإن كان المقصود الأصلي في الكلام هو الكلام على توحيد الإلهية؛ لكنه ذكر أيضا توحيد الرّبوبية في ثنايا كلامه.
ثم بين أنّ (العاقبة للمتقين) و(العاقبة) أي الخاتمة وما يؤول إليه الأمر، (للمتقين)، وهي في الدنيا على وجه الاحتمال بالنّسبة للأفراد، وفي الآخرة على وجه اليقين لكل أحد ممن اتصف بهـٰذا الوصف، أما في الدنيا فهي في حق الأفراد على الاحتمال، قد تكون العاقبة لهم؛ بمعنى أنهم يظفرون ويظهرون على خصومهم، وقد لا يكون ذلك، ولكنّها لا تفوت في الآخرة؛ بل هي لهم على وجه اليقين، وأما من حيث العموم في وصف المتّقين فإنّ العاقبة لهم حتى في الدنيا؛ لأنّ الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، سيظهر هـٰذا الدين على كل دين أمر لابد منه؛ لأنّه وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
ثم صلّى على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم بعد ذلك قال: (وبعد) والغالب في كلام العلماء استعمال (أما بعد)، وهـٰذا هو الذي جاءت به السنة، وأما كلمة (وبعد)، فإنها لم تذكر في كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وليست مما عُرف في كلام المتقدِّمين فيما يظهر؛ لكن جرى عليها كلام المتأخِّرين ولعل ذلك على وجه الاختصار لكثرة ورود هـٰذه الكلمة، وإلا فإن الأصل في الكلمة أنها (أما بعد).
يقول -رحمه الله-: (فهـٰذا كتاب جمّ الفوائد بديع الفرائد) المشار إليه هو ما سنقرؤه من هـٰذا الكتاب، والمشار إليه هنا مشار إلى موجود، وقبل تأليفه مشار إلى منوي.
وصف الكتاب -رحمه الله- بوصفين أنّه (جم الفوائد، بديع الفرائد):
(جم الفوائد) أي: كثيرها، كما قال الله تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)﴾[سورة: الفجر الآية (20).]أي كثيرا، قوله: (جم الفوائد) أي كثير الفوائد.
(بديع الفرائد)، (بديع) أي: أنه يأتي بفوائد مبتكرة لم يُسبق إليها، وهـٰذا على وجه التجوّز، وليس في كل ما ذكر، إنما فيه فوائد أشار إليها ونبّه إليها لم يُسبق إليها، ولعل الكتاب ذاته بديع من حيث هو؛ لأنه لم يُسبق إلى التأليف في هـٰذا الباب من أبواب العلم على وجه الخصوص، فأصل التَّأليف على وجه الاختصاص لهـٰذا الموضوع لم يسبق إليه المؤلف -رحمه الله- كما ذكرنا قبل قليل. فقوله: (بديع الفرائد) أي أنه يأتي بفرائد لم يُسبق إليها، وهو صادق من حيث بعض ما تضمنه الكتاب ومن حيث الكتاب أصله، فإنه بدعة حسنة دعت إليها الحاجة.
قال رحمه الله: (ينتفع به من أراد الله والدّار الآخرة) المؤلف -رحمه الله- بعد أن أثنى على كتابه، وهـٰذا الثّناء ليس من الإعجاب بالعمل في شيء، إنما هو للتّرغيب والحث، نظير قول يوسف -عليه السلام-: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾[سورة: يوسف الآية (55).]ووصف نفسه بهذين لا على وجه العلوّ والارتفاع والكبر والعُجب إنما ذلك على وجه البيان للواقع حتى يُقبِل الملك علي تعيينه والاستفادة منه. فكذلك المؤلف -رحمه الله- وصف كتابه بهـٰذا الوصف ليحثّ القرّاء على قراءته والسّامعين على سماعه والدارسين على دراسته؛ لكنه اشترط للانتفاع به شرطين، وهـٰذان الشرطان لا بد منهما لمن أراد العلم النّافع، قال رحمه الله: (ينتفع به من أراد الله والدّار الآخرة):
(من أراد الله) أي قصد الله تعالى في عمله.
و(أراد.. الآخرة) يعني أراد ثواب الله تعالى، ولم يكن همّه أمرا من أمور الدنيا؛ بل همه الدّار الآخرة يسعى لتحصيلها والفوز بها.
والدّار الآخرة هي ما يستقر فيه النّاس وسُميت الآخرة لأنها آخر المراحل، وآخر الطِّباق التي يمرّ بها الناس، قال الله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19)﴾[سورة: الانشقاق الآية (19).] أي: من معاني هـٰذه الآية أنّ الإنسان يمرّ بمراحل أولا ترابا، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يولد الإنسان صغيرا، ثم يشبّ حتى يهرم، ثم يموت فيقبر، ثم ينشر ويحاسب، ثم بعد ذلك يصير إلى ما ذكر الله تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)﴾،[سورة: الشورى الآية (07).]وهـٰذا منتهى المراحل ومنتهى الطباق، ولذلك سميت تلك الدار بالدار الآخرة؛ لأنها آخر الدُّور التي يسكنها الإنسان.
والدُّور: دار العدم، ودار الوجود الدنيوي، ودار الحياة البرزخية، والدار الآخرة التي ينتهي إليها الناس، فهي أربعة دُور في الجملة على إجمال للمراحل التي تقدّمت.
يقول رحمه الله: (سميته: ((كتاب تجريد التوحيد المفيد))) وتكلّمنا على هـٰذا المعنى.
ثم بعد ذلك قال: (والله أسأل العون على العمل بهبمنِّه) يعني بعد علمه ومعرفته ينتقل الإنسان إلى العمل، وهـٰذه الفتات: لفتات مهمة لطالب العلم، وأنه إنّما يتعلم ليعمل لا ليستكثر من المعلومات والمعارف فقط، فإنّ الاستكثار من المعلومات والمعارف دون أن ينتقل ذلك إلى عمل لا ينفع الإنسان؛ بل لا بد للمؤمن أن يجتهد في العمل بكل ما علم، وقد كان السلف يحرصون على العمل بما علموه ولو مرة واحدة، حتى أنّ الإمام أحمد -رحمه الله- عمل في الحجامة وأعطى الحاجم دينارا كما فعل النـبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تأسيا بعمله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذًا بسنته.
فينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يكون عمله تابعًا لعلمه، وأن لا يكون العلم مجرّد معارف نظرية فإن المرء إذا لم يُقيِّد العلم بالعمل لم ينتفع، وكان علمه حجّة عليه ومزيدا من حجج الله –تعالى- التي تقوم عليه يوم القيامة.
يقول رحمه الله بعد هـٰذا:
[المتن]
اعلم أن الله – سُبْحَانَهُ - هوربّ كل شيء ومالكه وإلـٰههُ:
فالرب مصدر ربَّ يرَبُّ ربّاً فهو رابٌّ: فمعنى قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة: الفاتحة الآية (01).]، رابِّ العالمين، فإنّ الرّب - سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- هو الخالق الموجد لعباده، القائم بتربيتهم وإصلاحهم، المتكفِّل بصلاحهم من خَلقٍ ورزقٍ وعافية وإصلاح دينٍ ودنيا.
[الشرح]
يقول رحمه الله: (اعلم أنّ الله - سُبْحَانَهُ - هوربّ كل شيء ومالكه وإلـٰههُ) هـٰذا شروع في المقصود من هـٰذا الكتاب، وابتدأه -رحمه الله- بطلب العلم فقال: (اعلم) وهـٰذا يكون فيما يُهمّ إدراكه، وفيما يشرف من المعلومات قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾[سورة محمد الآية (19).] ولذلك الغالب أنّ ذلك يأتي فيما يُهم إدراكه ويَختل أمر الإنسان بتركه وجهله، فطلب العلم في مثل هـٰذا المقام للتنبيه إلى أهمية المعلم (اعلم أن الله –سبحانه- هو ربّ كل شيء ومالكه وإلـٰهه) فعرف المؤلف الله –تعالى- بربوبيته وإلهيته، فقال: (اعلم أن الله سبحانه هو رب كل شيء) والله –تعالى- رب كل شيء كما قال جل وعلا: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة: الفاتحة الآية (01).]، والعالم هو كل ما سوى الله تعالى، فالعالمين جمع عالم، والعالم هو كل ما سوى الله تعالى، فـ(هو ربّ كل شيء ومالكه) أي مالك كل شيء،فالملك كله لله تعالى، ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[سورة: آل عمران الآية (189).] وهـٰذا مما ذكره الله –تعالى- في كتابه كثيرا فإن الله تعالى مالك كل شيء -جل وعلا- (وإلهه) أي: ومألوهه وسيأتينا بيان معنى الإلهية في كلام المؤلف -رحمه الله-.
بعد أن بيّن المؤلف -رحمه الله- أن الله -جلا وعلا- رب كل شيء، وأنه إلـٰه كل شيء، بيّن معنى الربوبية فقال: (فالرب مصدر ربَّ يرَبُّ ربًّا) وابتدأ المؤلف -رحمه الله- ببيان الربوبية؛ لأنه الأصل الذي تبنى عليه الإلهية، الأصل الذي تبنى عليه الإلهية، ولذلك ابتدأ بذكره، وابتدأ ببيانه فقال: (اعلم أن الله –سبحانه- هو رب كل شيء ومالكه) ثم قال: (وإلهه)، وبدأ في التفسير والتفصيل في بيان شرح الربوبية فقال: (فالرب مصدر ربَّ يرَبُّ ربًّا فهو رابٌّ) وهـٰذه الكلمة تدور على معنى التربية، وهو التدرج في الشيء إلي أن يبلغ كماله، هـٰذا المعنى الجامع لكلمة (الرب)، وإذا تأملت فيما ذكره العلماء في معنى هـٰذه الكلمة وجدت أنه لا يخرج عن هـٰذا المعنى.
فالرب في كلام العلماء هو السّيد المالك الرازق المصلح المدبر.. وما أشبه ذلك من المعاني، وهـٰذه المعاني مقتضاها أن الرب هو القائم على العبد بما يصلحه خلقا وملكا ورزقا وتدبيرًا، وهـٰذا المعني يتبين به قول الله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة: الفاتحة الآية (01).]، أي القائم على العالمين جميعا، كما قال الله تعالى:﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾[سورة: الرعد الآية (33).] فالله تعالى قائم على كل نفس بما كسبت؛ أي بكسبها، وكل شيء يقوم به، فلا قيام لشيء إلا به -سبحانه وبحمده- وهـٰذا من معاني اسمه القيوم، فبه قامت السمٰوات والأرض و به قام الخلق، فالرب هو القائم على عباده بما يصلحهم خلقا، ملكا، رزقا، تدبيرا.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (فمعنى قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة: الفاتحة الآية (01).]، رابِّ العالمين) فهو مصدر في معنى اسم الفاعل راب في معنى قائم بما تحصل به مصالح العالمين، (فإنّ الرّب - سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- هو الخالق الموجد لعباده) والخلق من أول ما يندرج في معنى الربوبية.
ثم قال: (القائم بتربيتهم وإصلاحهم) التربية هنا هي القيام بكل ما يحصل به نموهم و زكاؤهم وارتفاعهم؛ لأنّ التربية مأخوذة من الربو وهو الزّكاء والصلاح والارتفاع (المتكفّل بصلاحهم من خلق ورزق وعافية وإصلاح دين) إذن الملخّص من هـٰذا الكلام أن معنى الرّبوبية هي القيام على الخلق بما يصلحهم، القيام على الخلق بما يصلحهم خلقا وملكا ورزقا وتدبيرا.
والدليل على أن الربوبية تشتمل على هـٰذه المعاني الأربعة قول الله –تعالى- في سورة يونس: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَالْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31)﴾[سورة: يوسف الآية (31).] هـٰذه الآية تضمّنت هـٰذه المعاني الأربعة، وهي أصول ما يتعلّق إثبات الرّبوبية لله تعالى:
الرزقفي قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾.
الملكفي قوله: ﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ﴾.
الخلقفي قوله: ﴿وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَالْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾.
التدبيرفي قوله: ﴿وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾.
فهـٰذه المعاني الأربعة كلها من لوازم الإقرار بربوبية الله –تعالى-، لا يتم إيمان أحد بأن الله هو رب العالمين إلا إذا أقرّ بهـٰذه المعاني الأربعة، فمن جعل خالقا غير الله فإنه كفر بالربوبية، من جعل مالكا مع الله فإنه كفر بربوبية الله تعالى، من جعل خالقا رازقا مع الله فقد أشرك في الربوبية ، من جعل مدبّرا مع الله يدبر الكون ويصرف أمر الخلق ولو في جزء من الأجزاء وأمر من الأمور فقد أشرك في الربوبية.
وهـٰذه الأصول كانت العرب تقرّ بها؛ بل إن جميع من أرسل الله تعالى إليهم الرسل كانوا يقرون في الجملة بهـٰذه المعاني، وإن كان بعض من أرسل إليهم أشركوا في الربوبية كما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى. كما قال النّمرود: أنا أحيي وأميت. لكن هـٰذا على وجه الشّذوذ لا على وجه العموم.
فعامة من بعثت إليهم الرسل يقرون بهـٰذا النوع من التوحيد، ليس عندهم إنكار ولا تكذيب لتوحيد الربوبية، ولذلك تجد أن القرآن يحتج على المشركين فيما وقعوا من تقصير في توحيد الإلهية بأي شيء؟ بتوحيد الربوبية، ولذلك في هـٰذه الآية التي ذكرناها قبل قليل بعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلّق بالربوبية ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَالْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ ما هو جوابهم؟ قصّ الله جوابهم ﴿فَسَيَقُولُونَ اللّهُ﴾[سورة: يوسف الآية (31).] ولو كانوا يقولون غير الله هل يسكتون ويجاملون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هـٰذا، كانوا سيقولون: لا، غير الله يفعل هـٰذا؛ لكن لم يُحفظ أن أحدا من المشركين جادل النبي في هـٰذا ﴿فَسَيَقُولُونَ اللّهُ﴾ثم جاء الاحتجاج بهـٰذا التوحيد على توحيد الإلهية فقال: ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى؟ والتكذيب للرسول فيما دعاكم إليه من إفراد الله بالعبادة؟ هنا لم يذكر المتقى يعني لم يذكر المفعول قال: ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ولم يذكر إيش يتقون وهـٰذا لإفادة إيش؟ العموم ليعم كل ما يتقى، فيشمل الاتقاء أفلا تتقون الشرك، فلا تتقون تكذيب الرسل، أفلا تتقون الله الذي أشركتم به، أفلا تتقون النار التي وعدها الله للمشركين؟ يشمل كل هـٰذا لأجل ترك المعمول وحذف المعمول يفيد العموم في المعنى.
ثم قال -رحمه الله-:
[المتن]
والإلـٰهيةكون العباد يتخذونه - سبحانه - محبوباً مألوهاً، ويُفردونه بالحب والخوف والرجاء والإخبات والتوبة والنذر والطاعة والطلب والتوكل، ونحو هٰذه الأشياء.
فإنّ التوحيد حقيقته أن ترى الأمور كلها من الله - تعالى - رؤية تَقْطع الالتفاتعن الأسباب والوسائط، فلا ترى الخير والشر إلا منه - تعالى -، وهٰذا المقام يُثمر التوكل وترك شكاية الخلقِ، وترك لومهم، والرضى عن الله تعالىوالتسليم لحكمه.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الربوبية منه - تعالى - لعباده، والتَّأَلُّهَ من عباده له - سبحانه -، كما أن الرّحمة هي الوِصلة بينهم وبينه عزّ وجل.
[الشرح]
المؤلف -رحمه الله- عطف على بيان الربوبية بيان الإلهية، فقال:(والإلهية)، والإلهية مأخوذ في الأصل من الإلـٰه، وهي كلمة يدور معناها على التألّه وهو الحب، فالمألوه هو المعبود المحبوب، وسيأتي مزيد بيان لهـٰذا التوحيد في كلام المؤلف -رحمه الله-؛ لكن بيّن المؤلف -رحمه الله- شيئا مما يندرج أو أصولا ما يندرج في الإلهية.
والإلهية توحيد الإلهية هو إفراد الله تعالى بالعبادة. هـٰذا أجود وأوضح تعريف للإلهية؛ إفراد الله تعالى بالعبادة؛ أي أنه لا يُعبد سواه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[سورة: البينة الآية (5).] أي مخلصين له العمل، فالإلهية هو عبادة الله وحده لا شريك له.
ويذكر بعض أهل العلم تعريفات أخرى منها إفراد الله تعالى بأفعال العباد؛ لكن هـٰذه التعاريف لا يتبين بها المعنى على وجه الوضوح، كما أن لا تخلو من إعتراض على بعض ما يفهم منها.
لكن التعريف الواضح الذي يتبادر إلى الذهن وتقبله النفوس أن يقال: توحيد الإلهية أن يعبد الله وحده لا شريك له. إفراد الله تعالى بالعبادة. أن لا يعبد مع الله غيره. الإلهية هي لا إلـٰه إلا الله. هـٰذا أيسر تعريف وأسهل تعريف لمعنى توحيد الإلهية الذي يدور هـٰذا الكتاب على تجريده وتوضيحه.
وقد أحسن المؤلف -رحمه الله- لما بدأ ببيان التوحيد؛ لأنّ بيان الشيء يعطي تصوّرا للعبد عن حقيقة هـٰذا النّوع من التوحيد.
ثم إذا تحقق له هـٰذا النوع وتبيّن، فهـٰذا أعظم تخليص للتوحيد والتجريد له؛ لأنه به يتبين أن كل انحراف بصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى، سواء كانت عبادة قولية أو فعلية أو عملية يقدح في توحيد الإلهية.
يقول -رحمه الله-: (والإلـٰهيةكون العباد يتخذونه - سبحانه - محبوباً مألوهاً) وإنما ذكر الحب لأن الحب أصل العبادة وهي التي تبقى مع العباد حتى في الآخرة، فأصل العبادة محبة الله تعالى، ولذلك كان أول شرك ذكره الله على وجه البيان والظهور في كتابه في المصحف العثماني شرك المحبة.
ذكر الله -عز وجل- الشرك إجمالا في قوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾[سورة: البقرة الآية (22).] في أول سورة البقرة، ثم قال في بيان أول صورة من صور الشرك ظاهرة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾[سورة: البقرة الآية (165).]-وهـٰذا بين أن كل خلل في توحيد العبادة مبعثه وأصله نقص في المحبة، وأنها من أخص لوازم العبادة؛ إذ لا تقوم العبادة إلا بالمحبة، ولا يدرك الإنسان سعادة الدنيا ونعيم الآخرة إلا بالمحبة، وهـٰذا أمر اضطراري وليس اختياريا، يعني ليس للإنسان عنه غنى.
فالقلب مضطر إلى محبوبه |
|
الأعلى فلا يغنيه حب ثان |
كما قال ابن القيم -رحمه الله-، (القلب مضطر إلى محبوبه الأعلى) يعني الله جلا وعلا (فلا يغنيه حب ثان)
وصلاحه ونعيمه وفلاحه |
|
تجريد هـٰذا الحب للرحمن |
أي: تخليصه، فإذا خلصه أدرك النّعيم والصلاح والفلاح، وأدرك سعادة الدنيا وفوز بالآخرة،
فإذا تخلى منه أصبح حائرا |
|
................................... |
يعني إذا خلا القلب من محبة الله تعالى؛ أصبح الإنسان في حيرة أصبح حائرا.
..................................... |
|
ويعود في ذا الكون ذا هيمان |
أي أنه يهيم على وجه لا يدرك خيرا ولا يحصل برا؛ بل هو في ظلمات لا حد لها ولا وصف، إنما هي تعسات وشقاوات، فالذي يريد السعادة يجرد هـٰذا الحب لله تعالى.
ولذلك ذكر المؤلف -رحمه الله- في أول ما ذكر مما يتعلق بتوحيد الإلهية: المحبة فقال: (كون العباد يتخذونه - سبحانه - محبوباً) وقد ذكرنا أن محبة الله تعالى هي أصل العبادات، وهي أصل الأعمال لأنها المحرك الذي يوجب العمل، فالمحبة هادٍ يقود الإنسان إلى الأعمال وإلى الصّالح منها من طاعة الله تعالى.
وذكر بعد المحبة فقال: (ويُفردونه بالحبّ والخوف والرّجاء) يعني هم يحبونه -سبحانه وبحمده- وهـٰذه المحبّة لا يصلح أن يكون فيها شريكا؛ بل لا بدّ أن تكون خالصة، ولذلك ذكر ابن القيم في نونيته قال:
وصلاحه ونعيمه وفلاحه |
|
تجريد هـٰذا الحب للرحمـٰن |
فلا بد من تجريد هـٰذا الحب لله -جلّ وعلا- وتخليصه، ولذلك يقول المؤلف رحمه الله: (ويُفردونه) أي: يوحدونه (بالحب والخوف والرجاء والإخبات والتوبة والنذر والطاعة والطلب والتوكل ونحو هـٰذه الأشياء) أي: مما يتعلق بأنواع العبادات، بدأ بأصولها وهي ثلاثة: الحب والخوف والرجاء، وهـٰذه الأمور الثلاثة هي أركان الإيمان ومقامات الإحسان التي عليها مدار مقامات السالكين إلى لله تعالى.
فالسالكون إلى الله تعالى لا يصلون إليه إلا بطائر رأسه الحب وجناحاه الخوف والرجاء، فإذا قطع الرأس مات الطائر وانقطع السير إلى الله تعالى، وإذا اختلّ الجناحان أو أحدهما كان السير إلى الله تعالى عاثرا، فينبغي للعبد أن يكمِّل خوفه، أولا يكمل محبته لله تعالى؛ لأنها الرأس، ويكمل خوفه ورجاءه لله تعالى، فبهما يتم السير إلى الله تعالى، ما دليل أن هـٰذه أصول العبادة، قال الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾[سورة: الإسراء الآية (56-57).] فهـٰذه الآية تضمّنت هـٰذه المقامات الثلاثة، وبدأ الله تعالى بذكر المحبة وذلك في قوله: ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ القربى وذلك بمحبته، فإن ابتغاء الوسيلة إليه -جل وعلا- هي التقرب إليه بحبه سبحانه وبحمده، فالتقرب إليه بالحب هو أول المقامات وأعظمها الذي إذا حققه العبد فاز وسبق سبقا كبيرا.
ثم ذكر بعد ذلك أنواعا من أعمال القلوب والجوارح، فقال: (الإخبات والتوبة والنذر والطاعة والطلب والتوكل) وهـٰذه أعمال تكون في القلب وتكون في الجوارح، منها قولي ومنها عملي، كل هـٰذه يجب إفراد الله تعالى بها.
ومن هنا نفهم أن توحيد الإلهية هو أن تفرد الله تعالى بالعبادة، فلا تعبد معه غيره، هـٰذا هو توحيد الإلهية؛ إفراد الله تعالى بالعبادة فلا يعبد معه سواه -جل وعلا-؛ بل هو المتفرد -سبحانه وبحمده- بالحب والخوف والرجاء وسائر الأعمال الواجبة والمستحبة الظاهرة والباطنة التي أمر الله تعالى بها ورسوله.
وهـٰذا التعريف أجود مما شاع في بعض الكتب وانتشر من أن توحيد الإلهية إفراد الله تعالى بأفعال العباد، فإن هـٰذا التعريف لا يبين المعرَّف، ومن وظائف التعاريف ومهامها إيش؟ الكشف عن معاني الألفاظ أليس كذلك، إذا قلت: تعريف التوحيد، تعريف الفقه، تعريف الأصول، تعريف كذا، إنما تريد أن تبين وتعرف، فكيف تختار تعريفا من هـٰذه التعاريف أو ترشح تعريفا من التعاريف الكثيرة التي تذكر، انظر إلي مدى بيانه للمقصود، فإنّه كلما كان التعريف مبينا للفظ وموضحا للمعنى كان ذلك أجدر وأولى بالترشيح من غيره في الاختيار.
يقول -رحمه الله-: (فإن التوحيد حقيقته) فإن التوحيد حقيقته أي منتهاه وأصله، حقيقة الشيء تطلق على منتهاه؛ يعني ما ينتهي إليه، ويطلق أيضا على أصله الذي به يتبين ويتضح، (أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات عن الأسباب والوسائط) الله أكبر، هـٰذه حقيقة التوحيد أن ترى الأمور كلها من الله تعالى، رؤية تقطع الالتفات عن الأسباب والوسائط في جلب المنافع ودفع المضار، فإن التوكل ثمرة كمال توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، فإذا كمّل العبد تعلقه لله تعالى في ربوبيته وفي إلهيته وفي أسمائه وصفاته، صار إلى هـٰذه المنزلة العظمى، وهي أن يرى الأمور كلها من الله تعالى فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وهـٰذه الكلمات نرددها بعد صلواتنا وفي أدبار الفرائض والمكتوبات، ونقولها في غير ذلك من المناسبات والأحوال، ينبغي أن نقف عند معناها: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت. فهو -جل وعلا- عنه يصدر كل شيء، فكل خير يصل إليك وكل شر يندفع عنك إنما هو من الله تعالى.
فينبغي للعبد أن يحقق هـٰذه المرتبة، وهـٰذا ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- ففي صحيح الإمام مسلم من طريق ثابت البناني عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: خدمت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عشرة سنوات، لم يقل لي قط في شيء فعلته لم فعلته، ولا في شيء لم أفعله هلا فعلته، وكان إذا لامني أهله أو عاتبوني في شيء قال: ((دعوه فلو قضي شيء لكان))،[البخاري: كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، حديث رقم (6038).مسلم: كتاب الفضائل، باب كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحسن الناس خلقا، حديث رقم (2309).(وكان إذا لامني أهله أو عاتبوني في شيء قال: ((دعوه فلو قضي شيء لكان))) ليست في الصحيحين وهي في غيرهما.]وهـٰذا هو التسليم التام الذي يشير إليه المؤلف -رحمه الله- في قوله: (فإنّ التوحيد حقيقته أن ترى الأمور كلها من الله - تعالى - رؤية تَقْطع الالتفات عن الأسباب والوسائل) وانظر إلى قطع الالتفات، وليس الشأن في عدم الأسباب والوسائط؛ لكن هنا من يأخذ بالسبب والوسيلة كما سيأتي توضيحه، والواسطة التي ستوصله إلى الغاية، لكنه يأخذ بها على أنه أمر الله، وأنها الوسيلة التي يصل بها إلى النتيجة، وليس هناك تعلق ولا نظر ولا اعتماد على هـٰذه الوسيلة، أو هـٰذا السبب، أو هـٰذه الواسطة التي توصله إلى الغاية، فرق بين الأخذ بالأسباب وبين الالتفات إليها، الالتفات إليها نقص في التوحيد، والأخذ بها من كمال الشرع والدين والعقل، ونفي الأسباب بالكلية هـٰذا لا يقرّه شرع ولا عقل.
فعندنا مراتب ثلاثة: التفات، أخد، وقطع وترك للأسباب. الطريق القويم الذي كان عليه رسول الله وأمر الله به ورسوله أن يأخذ الإنسان بالأسباب؛ لكن يأخذ بها على أنها وسائل، قد تؤدي إلى نتيجة وقد لا تؤدي إلي النتيجة والفاصل في ذلك والحاكم هو الله -جل وعلا- الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (فلا ترى الخير والشر إلا منه تعالى) كما جاء ذلك في الذكر المأثور الذي رواه البخاري ومسلم من طريق المغيرة بن شعبة فيما كتبه معاوية بن أبي سفيان أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول دبر الصلوات: ((لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع من ذا الجد منك الجد)).[البخاري: كتاب القدر، باب لا مانع لما أعطى الله ، حديث رقم (6615).مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، حديث رقم (593).]
يقول رحمه الله: (وهـٰذا المقام يثمر التوكل) يعني إذا تحقق للعبد هـٰذا المقام وهو أن بلغ حقيقة التوحيد، فإن التوكل ثمرة ذلك السعي، ونتيجة ذلك العمل، (وترك شكاية الخلق)؛ يعني يثمر أيضا ترك شكاية الخلق، (وترك لومهم)، كما ذكرنا في حديث أنس بن مالك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقل له في شيء فعله لما فعلته، ولا في شيء لم يفعله هلا فعلته. (وترك لومهم والرضى عن الله تعالى)، والرضا عن الله -جل وعلا- غاية نعيم الدنيا كما أنه غاية نعيم الآخرة، ففي صحيح الإمام مسلم من حديث عامر بن سعد، عن عباس بن عبد المطلب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا))[مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإسلام ودينا وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبار، حديث رقم (34).] (ذاق طعم الإيمان) أي حصله ذوقا طعما يجده في قلبه وفي فؤاده، يجده كما يجد الإنسان طعم الحلو والمر والمالح وغيره بلسانه؛ لكنه لا يذوق ذلك إلا من حقّق الوصف الذي ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبيا، (والرضى عن الله –تعالى-) أي: يثمر هـٰذا المقام من مقام التوحيد تكميل الإلهية وتكميل الربوبية يثمر الرضى عن الله تعالى (والتسليم لحكمه).