الدرس (2) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
يقول رحمه الله:(وإذا عرفت ذلك) أي إذا عرفت ما تقدّم من أنواع التوحيد وما ينتج عن ذلك، والآن عرف الربوبية ثم عرف الإلهية، ثم بين حقيقة التوحيد، ثم بيّن ما يثمره التوحيد وما ينتج عنه قال رحمه الله: (وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الربوبية منه - تعالى - لعباده) أي أنها فعله -جل وعلا- لعباده، وهي إفراد الله تعالى بإيش؟ بالخلق والملك والرزق والتدبير، دليل ذلك: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَالْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31)﴾[سورة: يوسف الآية (31).] وهـٰذه الآية جمعت ما يتعلق بتوحيد الربوبية.
يقول -رحمه الله-: (والتأله من عباده له سبحانه) التأله يعني فتأله معناه التعبد بالمحبة والخوف والرجاء وسائر أنواع العبادات، فالتأله هو التعبد لله تعالى، هـٰذا حق الله تعالى على عباده، ويدلّ لذلك ما في الصحيحين من حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن معاذ بن جبل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قال: ((أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)) فبعد المراجعة بينهما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا))[البخاري: كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، حديث رقم (5967). مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل علىٰ من مات علىٰ التوحيد دخل الجنة قطعا، حديث رقم (30).] فهـٰذا هو حقه -جل وعلا- الذي يجب على عباده أن يقوموا به.
قال رحمه الله: (كما أن الرّحمة هي الوِصلة بينهم وبينه) والوصلة هي ما يصل بين الشيئين فكل شيء اتصل بشيء فما بينهما وصلة؛ أي السبب الذي بين الله –تعالى- وعباده هي رحمته التي وسعت كل شيء سبحانه وبحمده.
ثم قال رحمه الله:
[المتن]
واعلم أن أنفس الأعمال وأجلها قدراً توحيد الله - تعالى-، غير أن التوحيد له قشران:
الأول: أن تقول بلسانك: لا إلـٰه إلا الله، ويسمى هٰذا القول توحيداً، وهو مناقض التثليثالذي تعتقده النصارى، وهٰذا التوحيد يصدر أيضاً من المنافق الذي يخالف سرُّه جهرَه.
والقشر الثاني: أن لا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هٰذا القول، بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهٰذا هو توحيد عامّة الناس.
[الشرح]
يقول رحمه الله: (واعلم أن أنفس الأعمال) أي أعلاها وأشرفها وأكرمها يقول: (وأجلها قدرا) أي أعلاها مكانة وأرفعها مكانة عند الله تعالى: (توحيد الله تعالى) وهـٰذا لا ريب فيه أن توحيد الله تعالى وهو إفراده -جل وعلا- بالعبادة أجل القُرُبَات وأعظم الطاعات، وأدلة هـٰذا كثيرة، من ذلك أن الله تعالى أمر في أول ما أمر بالتوحيد فقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾[سورة: المدثر الآيات (1-5).] والرجز هنا هي الأصنام، فأمر الله –تعالى- بهجر الأصنام؛ لأنها بها وقعت الشركة فيه -جل وعلا- فهي مضادة للتوحيد، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾[سورة: المدثر الآية (3).] فتكبير الله تعالى تعظيمه بإفراده بالعبادة وإجلاله أن يكون له شريك في خلقه أو في ملكه أو في رزقه أو في تدبيره أو في عبادته -جل وعلا- أو في أسمائه وصفاته، وكذلك في أول نداء ناد الله تعالى به في كتابه على ترتيب المصحف كان النداء للناس جميعا بإفراده بالعبادة، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾[سورة: البقرة الآية (21).] ثم إنّه من دلائل أن التوحيد أشرف الأعمال أنه إذا حققه العبد فاز بالجنة، فإن أهل التوحيد مآلهم الجنة، وإن عظمت ذنوبهم وكثرت، فإنّ أهل الكبائر إما أن يمحّص عنهم بالعقوبة والمصائب، وإما أن يكون تحت المشيئة، وإمّا أن يشفع فيهم الشّافعون ومآلهم إلى الجنة، وهـٰذا لا يكون إلا لأهل التوحيد، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- لما سأله أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: ((من قال: لا إلـٰه إلا الله خالصا من قلبه))،[البخاري: كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، حديث رقم: (99).]أدلة أن التوحيد أشرف الأعمال كثيرة جدا، وإذا تتبعنا ذلك في كلام الله تعالى وفي كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجدنا الشيء الكثير الدال على أنّ التوحيد أعظم المطلوبات، وأنه أشرف الأعمال، ومن دلائل ذلك أنه أوّل مطلوب وآخر مطلوب، فأول مطلوب يطالب به المكلّف ليدخل في دين الإسلام أن يشهد أن لا إلـٰه إلا الله كما في الحديث؛ حديث ابن عمر في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلـٰه إلا الله وأني رسول الله))[البخاري: كتاب الإيمان، باب ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾[التوبة:5]، حديث رقم (25).مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إلـٰه إلا الله محمد رسول الله..، حديث رقم (22).] وفي حديث بعث معاذ إلى اليمن قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأني رسول الله))[البخاري: كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، حديث رقم (1458).مسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم (19).] وهو آخر مطلوب فمن كان آخر كلامه من الدنيا لا إلـٰه إلا الله دخل الجنة، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كما في الصحيح: ((لَقِّنُوا مَوْتاكُم لا إلـٰه إلا الله))[مسلم: كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إلـٰه إلا الله، حديث رقم (916، 917).]الأدلة على ما ذكر المؤلف من أن التوحيد أعظم المطلوبات كثيرة جدًا هـٰذا بعضها.
قال -رحمه الله- بعد هـٰذا التفريق (غيرأن التوحيد له قشران) الآن المؤلف يفصّل هـٰذا التوحيد الذي هو أعظم المطلوبات وأشرفها، وتفصيله -رحمه الله- اجتهادي لتقريب الصورة وتوضيحها، فهـٰذا التقسيم فائدته التقريب وليس متعبدا بذاته، يقول رحمه الله: (وغير أن التوحيد له قشران) القشر -يا إخواني- هو للشيء كالجِلْدِ للإنسان؛ يعني قشر الشيء كالجِلْدِ للإنسان، وهو ما غَطَّاه وغَلَّفَه وأَحَاطَ به، فقشر التوحيد هو ما غَطَّاه وأحاط به، يقول رحمه الله: (له قشران) من أين هـٰذا؟ من أين أن التوحيد له قشران؟ هـٰذا أمر اجتهادي، اصطلح عليه المؤلف ولا مشاحة في الاصطلاح إذا كان المعنى صحيحًا، يقول: (الأول: أن تقول بلسانك: لا إلـٰه إلا الله) وجعل قول (لا إلـٰه إلا الله) قشر لأنه ظاهر كما أن القشر ظاهر الشيء -قشر الثمار- هو ظاهرها، فكذلك قول (لا إله إلا الله) قشر التوحيد لأنه أمر يظهر ويبين، فأول هذين القشرين: قول: (لا إلـٰه إلا الله) ولذلك أن تقول بلسانك: لا إلـٰه إلا الله (ويسمى هـٰذا القول توحيدًا) ودليل ذلك ما في الصحيح من حديث جابر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَهَلَّ بالتوحيد، والتوحيد ما هو؟ قول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. هـٰذه هي معنى هـٰذه الكلمة (لا إلـٰه إلا الله) وهي كلمة التوحيد، وهو أيضا ما دل عليه بعض روايات حديث بعث معاذ إلى اليمن فإنه قال: ((فادعهم أن يوحدوا الله))[البخاري: كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته إلى توحيد الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ، حديث رقم (7372).] ثم جاءت الروايات الأخرى لبيان معنى التوحيد ((وهو أن يشهدوا أن لا إلـٰه إلا الله وأني رسول الله))أو ((شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله)).[البخاري: كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، حديث رقم (1458).مسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم (19).]
وهـٰذا التوحيد يقول رحمه الله: (ويسمى هـٰذا القول توحيدًا) يقول: (وهو مناقض التثليث الذي تعتقده النصارى) سؤال: هل هـٰذا حصر؟ يعني كلمة التوحيد لا يناقضها إلا عقد النصارى، أم أن هـٰذا تمثيل؟ هـٰذا تمثيل وليس حصرًا، لماذا؟ لأن كلمة التوحيد يناقضها كل شرك وكفر، وإنما ذكر عقيدة النصارى لأنهم ينتسبون إلى أهل الكتاب، فبيّن كفرهم ومناقضتهم للتوحيد الذي اتفقت عليه الشرائع وجاءت به الرسل، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾[سورة: النحل الآية (36).] فكلّ أمة بعث الله فيها رسولا يدعوها إلى التوحيد، هؤلاء خالفوا ما جاءت به الرسل من توحيد الله تعالى. يقول: (وهو مناقض التثليث الذي تعتقده النصارى) وهو أنهم يعتقدون أن الله ثالث ثلاثة؛ كما قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾،[ سورة: المائدة الآية (73).] وأما غيرهم فكل من أشرك بالله تعالى فقد ناقض التوحيد، فالذين عبدوا اللاَّت، الذين عبدوا هُبَل، الذين عبدوا الآلهة على مر العصور المتجدد منها والقديم والحادث والسابق، كل أولئك قد وقعوا في ما يناقض التوحيد.
يقول: (وهٰذا التوحيد يصدر أيضاً من المنافق) يعني هـٰذا النوع من التوحيد، هـٰذا القشر يمكن أن يأتي به المنافق، والمنافق هو الذي يخالف سره جهره، عرفه المؤلف رحمه الله فقال: (الذي يخالف سره جهره) وهـٰذا تعريف للنفاق بأعلى صوره؛ لأن النفاق نوعان نفاق اعتقادي ونفاق عملي، هـٰذا الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- من أي النوعين؟ النفاق الإعتقادي وهو أن يُسِرَّ خلاف ما يُظْهِر،أن يُبْطِنَ الكفر ويظهر الإسلام، وكون هـٰذا يصدر من المنافق؟ نعم يصدر من المنافق، ودليل ذلك ما رواه الشيخان من طريق هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في خبر فتنة القبر وما يكون فيه من الابتلاء، قالت -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فأما المنافق أو المرتاب، فإذا قيل له: ما علمك بهـٰذا الرجل؟))أي: رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما جاء به، ((فيقول: ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته))[البخاري: كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء (أما بعد)، حديث رقم (922).مسلم: كتاب صلاة الكسوف، باب ما عرض على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صلاة الكسوف، حديث رقم (905).] إذًا هـٰذا قول اللسان ليس للقلب منه نصيب ولاحظ، وهـٰذا هو حال المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾،[سورة: النساء الآية (145).] ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾[سورة: آل عمران الآية (167).] فهم يقولون بأفواههم من الكلام الذي يَعْصِم دماءهم ويحقنها، وليس في قلوبهم شيء من ذلك.
ثم قال -رحمه الله-: (والقشر الثاني: أن لا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هٰذا القول) والحقيقة أن تسمية هـٰذا بالقشر فيه نظر؛ لأنه أمر باطن وليس أمرًا ظاهرًا، فإن ما يتعلق بالقلوب ليس مما يوصف بالقشر.
وقوله -رحمه الله- في تقسيم التوحيد إلى قشر ولب لا يتطرّق إليه أن القشر لا أهمية له، كما قد يفهمه بعض الناس في وصفهم لبعض الأمور بهـٰذه قشور والمهم هو اللب، التوحيد قشره ولبه سواء في الأهمية؛ بل قشره هو البوابة التي يلج منها الإنسان إلى لبِّه، فلا يمكن أن يقال: إن في وصف قول لا إله إلا الله بأنها قشر التوحيد أن ذلك يدل على عدم أهميتها وعدم ضرورتها؛ بل هـٰذا بيان أن هـٰذه بوابة إذا دخل منها فقد دخل في دائرة التوحيد، ثم بعد ذلك يجب عليه أن يُكَمِّل ذلك القول بتحقيق معناه.
(القشر الثاني أن لا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هـٰذا القول بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك) أي اعتقاد معنى هـٰذه الكلمة (والتصديق به، وهـٰذا هو توحيد عامة الناس)؛ أي التوحيد الشائع المنتشر بين الناس، وهـٰذا حقيقة لا يوصف بأنه قشر بل هو لب، وإن كان هـٰذا هو الذي يشترك فيه عامة الموحدين يعني قوله: (وهٰذا هو توحيد عامّة الناس) يعني الحد الأدنى الذي يقبل من الناس في التوحيد، هو أن يقولوا: لا إلـٰه إلا الله بأفواههم، وأن يصدقوا ذلك بقلوبهم، فيعتقدوا أنه لا معبود حق إلا الله جل وعلا، هـٰذا معنى قوله رحمه الله: (غير أن التوحيد له قشران) وقد ذكرت أنه مما يُلاحَظ في كلام المؤلف وصفه المرتبة الثانية التي تتعلق بالقلب إيش؟ بأنها قشر وهـٰذا خلاف الحقيقة والواقع أنها ليست قشر؛ بل هي لب، ولكنه لب في أدنى درجاته، وهو تصديق المعنى بأنه لا معبود حق إلا الله.
ثم هـٰذا التوحيد يتفاوت في قلوب أصحابه، وليس على درجة واحدة، وهـٰذا الأمر لا شك فيه، فإن الإيمان يزيد وينقص، دلائل هـٰذا في كلام الله تعالى وفي سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر من أن تحصر، وقد أجمع أهل العلم من سلف الأمة، ومن تبعهم بإحسان على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكل حسنة تزيد في التوحيد وكل سيئة تنقص من التوحيد، ولذلك يعلم العبد أن إساءته صادرة عن نقص التوحيد، وأن طاعته صادرة عن توحيده وصحة هـٰذا التوحيد، ولذلك يقول الله فيما كان من يوسف -عليه السلام- من امتناعه عن الزنا مع تيسره له وتهيئة أسبابه، ووجود الدعوة ممن لا يخشى في إجابتها محظور، قال الله تعالى:﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾[سورة: يوسف الآية (24).]في قراءة ﴿الْمُخْلِصِينَ﴾ في قراءة أخرى، وقراءة ﴿الْمُخْلِصِينَ﴾ هي الدالة على أن التوحيد إذا صدق في قلب العبد فإنه يمنع من مواقعه المعاصي والسيئات، وهـٰذه من ثمار التوحيد، وهـٰذه من نتائجه التي توجب على العبد أن يلتفت إليه، ويعتني به، ويكثر من المطالعة فيه تحقيق تعلما وعملا حتى يكون القلب خلص لله -جل وعلا-.
إذا قوله: (هـٰذا توحيد عامة الناس)، هل مقصوده ما يصنفه الصوفية من أن التوحيد أو الدين مراتب عامه أو خاصة أو خاصة الخاصة، إذن ما مقصوده بقوله: (وهٰذا هو توحيد عامّة الناس) أنه الحد الأدنى الذي يقبل من كل أحد ليدخل في دارة الإسلام، واضح؟
[المتن]
ولباب التوحيد أن يرى الأمور كلها من الله- تعالى -، ثم يقطع الالتفات عنالوسائط، وأن يعبده - سبحانه - عبادة يفرده بها، ولا يعبد غيره.
[الشرح]
قوله رحمه الله: (ولباب التوحيد) ولباب الشيء هو خلاصته والمقصود منه، فقوله رحمه الله: (لباب التوحيد) نظير قوله فيما يتقدم: (فإن التوحيد حقيقته) أي: أنه أصل التوحيد ومنتهاه، وخلاصته أن يرى الأمور كلها من الله تعالى، وترجمة هـٰذا أن يقطع الالتفات عن الأسباب، وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها ولا يعبد غيره، فيكون بذلك قد كمل نوعا التوحيد: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وهـٰذا فيه نوع تكرار مع قوله -رحمه الله-: (فإنّ التوحيد حقيقته أن ترى الأمور كلها لله كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات عن الأسباب والوسائط فلا ترى الخير والشر إلا منه) لكن فيه زيادة وهي ما يتعلق بالتعبد في قوله: (وأن يعبده - سبحانه - عبادة يفرده بها، ولا يعبد غيره) فيكون قد حقق لله تعالى توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية.
ثم قال رحمه الله:
[المتن]
ويخرج عن هٰذا التوحيد اتباع الهوى؛فكل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده، قال تَعَالىٰ:﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ﴾.[سورة: الجاثية الآية (23).]
وإذا تأمّلت عرفت أن عابد الصنم لم يعبده، إنما عبد هواه، وهو ميل نفسه إلى دين آبائه، فيتبع ذلك الميل، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يُعبَّر عنها بالهوى.
[الشرح]
يقول رحمه الله: (ويخرج) الآن بعد أن بين لنا التوحيد وأقسامه وحقيقته؛ ما تقدم من الكلام السابق، بين في هـٰذا المقطع من كلامه -رحمه الله- بماذا يخرج الناس عن التوحيد من الذي يخرجهم عن التوحيد عن تحقيق العبادة لله تعالى وتحقيق الربوبية له -جل وعلا-؟ يقول رحمه الله: (ويخرج عن هـٰذا التوحيد اتباع الهوى) واتباع الهوى يُعمي عن الحق معرفةً وقصدًا، وبدأ به المؤلف -رحمه الله- لأن التوحيد واتباع الأهواء متضادان، لا يمكن أن يجتمعا، فإنّ الهوى صنم لكل ما عبد من دون الله تعالى، فاتباع الهوى أعظم ما يحصل به الخروج عن دائرة التوحيد، ولذلك ذكره المؤلف -رحمه الله- في أول ما ذكر من أسباب الانحراف عن التوحيد.
عرّف المؤلف -رحمه الله- الهوى فقال: (وهو ميل نفسه إلى دين آبائه فيتّبع ذلك الميل) أصل الهوى هو ميل النفس، وهو مرض يصيب القلب يمنعه ما فطر عليه من صحة الإدراك والحركة، هكذا عرفه شيخ الإسلام رحمه الله في تلبيس الجهمية، مرض في القلب يمنعه ما فُطر عليه -أي ما جبله الله تعالى عليه وفطره- من صحة الإدراك والحركة، وفُهم من هـٰذا التعريف أن الهوى يؤثر على العقائد وعلى الأعمال.
فقوله -رحمه الله- في تعريفه: يمنعه ما فطر عليه من صحة الإدراك، هـٰذا فيما يتعلق بالعلوم والمعارف وقوله رحمه الله: والحركة، هـٰذا يبيّن لنا أن الهوى يخرج الإنسان عن الصراط المستقيم في أفعاله، فقوله: الحركة، هـٰذا يتعلق بالعمل، سواء كان عمل القلب أو عمل الجوارح، وقد ذمّ الله تعالى الهوى ونهى عنه في كتابه فقال جل وعلا: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾[ سورة: ص الآية (26).] فتبين أن الهوى من أعظم ما يحصل به الضلال عن سبيل الله، وقوله: ﴿فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي يخرجك عنه، ولا تتمكّن من الثبات عليه.
ثم المؤلف -رحمه الله- ذكر قاعدةً فقال: (فكلّ من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده) وهـٰذا فيهعموم في كل من اتّبع الهوى سواءكان ذلك في أمر دقيق أو في أمر جليل؛ ولكن الحقيقة أن الهوى درجات، والذي يتكلم عنه المؤلف هنا هو اتباع الهوى فيما ينحرف به عن التوحيد، وأما اتباع الهوى في مواقعة أنواع وألوان من المعاصي فإنه لا يخرج بها من دائرة الطاعة، ولا يوصف الهوى في هـٰذه الأحوال بأنه إلـٰه يعبد؛ لكنه في الحقيقة يخشى أن العبد إذا تدرّج في الهوى في صغائر الأموركما في كبائرها، أن يصل به الحد إلى أن يعبد هواه من دون الله، فيجعل هواه قائدا له إلى أنواع من المهالك وهو لا يشعر.
قال المؤلف -رحمه الله- في الاستدلال على ما ذكر من قاعدة أن (كل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده)، قال: (قال الله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ﴾)وهـٰذه الآية لا يمكن أن يستدل بهاعلى اتباع الهوى في الصغائر، أو في ارتكاب المعاصي سواء إن كانت صغيرة أو كبيرة؛ لأنّ الآية لا تنطبق إلا على الكافر أو المنافق، فتتمة الآية تدل على أنه لا يصلحأن تكون هـٰذه الآية من عمل أهل الإسلام،قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾هل يكون هـٰذا منطبقا على حال أهل الإسلام؟ الجواب: لا، فإن من دخل في هـٰذا الدين لا يمكن أن يوصف بهـٰذه الأوصاف على وجه الاجتماع؛ قد يكون فيه اتباع للهوى، قد يكون فيه ميل إلى أنواع من الشر؛ لكن لا يوصف إعراض عن سماع الحق؛ لكن لا يوصف بهـٰذا الوصف المجتمع إلا من كان كافرا بالله العظيم.
وهـٰذا فيه بيان أن الهوى أعظم الأسباب التي تقود إلى الشرك، وجه ذلك أنه أول ما ذكره الله تعالى في سيئات هـٰذا الصنف ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ إنما ذلك اتخاذ إلهه هواه ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ فكانت ثمرة اتباع الهوى والضلال عن الحق مع العلم والمعرفة ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ فأغلقت مصادر التلقي، فأغلق القلب، وأغلق البصر وأغلق السمع، ثم خُتم على القلب، نعوذ بالله فلا سبيل إلى حصول الخير ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾ ما يمكن أن يهتدي مثل هـٰذا، نسأل الله لنا ولكم السلامة.
الشاهد في هـٰذه الآية أنّ الله ذكر في أول ما ذكر الهوى بيانا لعظيم يؤول إليه صاحب إتباع الهوى، وأنه يؤول به في هـٰذه الحال الشديدة السيّئة.
وأما هـٰذه الآية فقد قال جماعة من أهل العلم بأنها في الكافر أو في المنافق، ذُكر ذلك عن الحسن وعن قتادة وعن جماعة من أهل التفسير، فقالوا: إنه في الكافر لا يهوى شيئا إلا تبعه، وقال الحسن: لا يهوى شيئا إلا ركبه، وقال قتادة: هو المنافق لا يرضى شيئا إلا ركبه.
وقد جاء في ذم الهوى حديث رواه الطبراني من حديث أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((ما تحت ظل السماء من إلـٰه يعبد من دون الله أعظم من هوى متبع))[وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وهو في السلسلة الضعيفة برقم (6538)، قال الشيخ الألباني: موضوع.]وهـٰذا الحديث لا يصح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإن فيه الحسن بن دينار وهو متروك.
المقصود أن الهوى يتطرف بصاحبه إلى أن يخرجه من التوحيد، فإذا كانت هـٰذه نتيجة اتباع الهوى، فالواجب على المؤمن أن يفطم نفسه عن اتباع الهوى في دقيق الأمر وجليله، لأنّه من اتبع في الأمر الدقيق لا يأمن أن يتبع الهوى في إيش؟ الأمر الجليل، والشيطان لا يأتي للإنسان ويقول له: اكفر من أول المراتب؛ بل يأتيه تدرّجا لتزيين المعاصي، بصغيرها ثم كبيرها، ثم بعد ذلك ينتقل به إلى البدع، ثم يؤول به إلى الكفر والشرك بالله، وهـٰذا مشاهد في حياة الناس، نسأل الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- أن يعصمنا وإياكم وأن يدفع عنا وعنكم البلاء والشر.
يقول رحمه الله: (وإذا تأملت عرفت أن عابد الصنم لم يعبده) لم يعبد الصنم الذي هو حجر وطين وجبس وما أشبه ذلك مما تصنف الأصنام من الأخشاب والحديد وغيرها (إنما عبد هواه).
ثم قال -رحمه الله- في بيان كيف أن من عبد غير الله تعالى إنما عبد هواه؟ وهـٰذه الصورة يظهر بها عبادة الهوى يعني ما عبده من دون الله إنما هو صورة يظهر بها هواه وتقديمه هواه على محاب الله تعالى وعبادته، يقول رحمه الله: (وهو ميل نفسه إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل) أي يتّبع هـٰذا الهوى الذي مال به عن الصراط المستقيم إلى متابعة أهله ومن كان من آبائه على الكفر والشرك.
يقول رحمه الله: (وميل النفس إلى المألوفات) يعني: ما اعتادته ونشأت عليه (أحد المعاني التي يُعبَّر عنها بالهوى).
ثم انتقل -رحمه الله- إلى ثاني ما يخرج به الإنسان عن هـٰذا التوحيد -توحيد الإلهية- فقال رحمه الله:
[المتن]
ويخرج عن هٰذا التوحيد السخط على الخلق والالتفات إليهم، فإنَّ من يرى الكل من الله كيف يسخط على غيره أو يأمل سواه. وهٰذا التوحيد مقام الصديقين.
[الشرح]
هـٰذا ثاني ما ذكره المؤلف -رحمه الله- مما يحصل به الخروج عن الصراط المستقيم، عن توحيد رب العالمين في إلهيته وفي ربوبيته، يقول رحمه الله: (ويخرج عن هـٰذا التوحيد السخط على الخلق) السخط نوع غضب وهو أشده، والمقصود بـ(السخط على الخلق) أي الضجر منهم واللوم لهم ورؤية الأشياء منهم والالتفات إليهم، كما يقول: (فإن من يري الكل من الله كيف يسخط على غيره) يعني من يري أن ما ينزل به إنما هو من الله –تعالى- كيف يقوم في قلبه السخط على غيره؛ لأنه يعلم أنه ما من شيء إلا بقضائه وقدره كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾[سورة: القمر الآية (49).]فيشمل كل ما يقع في الكون والوجود من الحوادث والوقائع مما يحب الإنسان ويكره هي بقضاء الله وقدره.
فإذا كان كذلك فيجب إذا نزل به المكروه من الأقضية والأقدار أن يلحظ فعل الله –تعالى- وأنه -جل وعلا- الحكيم الخبير، وأن ما أصابه إنما بسبب ذنبه، وينبغي له أن يكف عن لوم الناس من جهة وقوع ما قُدِّر عليه، قد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف الناس استراح. وهـٰذه كلمة توزن بالذهب؛ لأنها تريح الإنسان من عناء كبير وشقاء كثير في معاملته للخلق، من عرف الناس استراح، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى في بيان هـٰذه الكلمة: يريد -والله أعلم- أنهم لا ينفعون ولا يضرون. هـٰذا مراد الفضيل بن عياض فيما استظهره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وإذا كانوا لا ينفعون فإن الإنسان يسلم من السخط عليهم، ويسلم من تعليق الآمال بهم؛ بل يعلق رغبته بالله تعالى ورهبته به -جل وعلا- فلا يرغب إلا الله ولا يرهب إلا الله، ولا يرجو إلا هو -جل وعلا-، وإذا قام في قلب العبد هـٰذا انقطعت أطماعه عن الخلق،
إذا انقطعت أطماع عبد عن الورى |
|
................................... |
فإنه يحقق بذلك أنواعا من الراحة والطمأنينة والانشراح
.................................... |
|
تعلق بالرب الكريم رجاؤه |
فأصبح حراً عزةً و قناعةَ |
|
على وجهه أنواره و ضياؤه |
هـٰذا الحال الأولى، حال أن العبد قطع رجاءه وطمعه في الناس، فإنه يجد انشراحا وطمأنينة وفرحا وسرورا وسكونا لا يجده بغيره.
وإن علقت بالخلق أطماع نفسه |
|
تباعد ما يرجو وطال عناؤه |
لأنه لا سبيل إلى تحصيل ذلك من قبل الخلق إنما يحصله من قبل تحصيل الخالق -جل وعلا-
فلا ترجو إلا الله في الخطب وحده |
|
ولو صح في خِل الصفاء صفاؤه |
وهـٰذا في غاية النصح وبيان أنه ينبغي للعبد أن لا يُعلق قلبه إلا بالله تعالى، وقد أمر الله تعالى بصدق الاعتماد عليه فقال: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[سورة: المائدة الآية (23).] وهـٰذا لا يكون إلا لمن قطع عُلق قلبه عن التعلق بالناس والنظر إليهم، فعلم أنه لا يدفع السوء والشر عنه إلا الله تعالى ولا يكشف الضر عنه إلا الله، وعلم أنه لا يجلب الخير له إلا الله جل وعلا، وصدق ما ذكره الشاعر فقال:
فإن حبل رجائي فيك متصل |
|
بحسن صنعك مقطوع عن الناس |
يعني أنه ليس اتصال بالناس، إنما هو بحسن الظن بالله تعالى ورجائه.
هكذا يكون العبد محققا لهـٰذا المعنى، إذا تحقق للمرء هـٰذا المعنى وهو انقطاع نظره عن الخلق ودوام تعلق قلبه بالله تعالى أصبح -كما ذكر المؤلف رحمه الله- سالما من السخط على الخلق معظما للرغبة لله جل وعلا، وهـٰذا التوحيد مقام الصديقين الذين أثنى الله تعالى عليهم، وجعلهم في المرتبة والين للأنبياء، نسأل الله -عز وجل- أن يبلغنا وإياكم هـٰذه الدرجة.
ثم قال رحمه الله:
[المتن]
ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون؛ بل أقروا بأنه - سبحانه - وحده خالقهم وخالق السمٰوات والأرض، والقائم بمصالح العالم كلِّه، وإنما أنكروا توحيد الإلـٰهية والمحبة، كما قد حكى الله - تعالى - عنهم في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ [سورة: البقرة الآية (165).]
[الشرح]
المؤلف رحمه الله في هـٰذا المقطع بيّن ما وقع فيه المشركون من إنكار توحيد الإلهية فقال: (ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون)، (ولا ريب) لا شك، وهـٰذا دلائله في القرآن كثيرة، وشواهده في كتاب الله تعالى أكثر من أن تحصى، فإنهم يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المالك المدبر، الذي له الملك، المحيي المميت، وهـٰذا كله من مفردات توحيد الربوبية؛ بل أقروا أنه سبحانه وحده خلقهم، وخالق السمٰوات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنَّما أنكروا توحيد الإلهية الذي وقعت المخالفة فيه هو توحيد الإلهية، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، يقول المؤلف رحمه الله: (توحيد الإلـٰهية والمحبة) ذِكر المحبة بعد الإلهية، أو عطف المحبة على الإلهية هو عطف بعضٍ على كل، وإنما ذكر المحبة؛ لأنها الأصل الذي يبني عليه غيره من العمل، وأنه إذا انخرم الحب فقد فسد العمل، كما قد حكى الله تعالى عنه في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ﴾إذا فسدت المحبة اختل السير، كما ذكرنا من تصوير من صور السلف سير الإنسان بالطائر له جناحان ورأس؛ رأسه المحبة، وجناحاه الخوف والرجاء، فإذا قطع الرأس فهل يمكن أن يسير؟ لا يمكن أن يسير، لا حراك له، ولذلك ذكر الله -جل وعلا- في أول ما ذكر من صور الشرك الخاص: شرك المحبة؛ لأنه الذي يفسد على الإنسان عمل، فالمحبة هي الباعث على كل عمل كل عمل يفعله الإنسان إنما منشأه المحبة في الأصل، وقد يكون العمل ناشئا عن خوف، أيضا لكن الغالب في الخوف أنه يكف والغالب في المحبة أنها تبعث، وهـٰذا الفرق بينهما، فيكفه عن حدود الله تعالى خوفه، ويبعثه على القيام بما أمر محبته؛ أي محبة الله تعالى، فذكر الله -جل وعلا- عن المشركين أنهم صرفوا المحبة لغيره، ولذلك اختلت أعمالهم فوقع النذر لغير الله، ووقع الحلف بغير الله، ووقع تعظيم غير الله بسبب اختلال هـٰذه المحبة، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾ أي جعلوهم في المحبة بمنزله الله تعالى سواء، والإنسان عبد محبوبه كائنا من كان، ولذلك يجب أن يخلص المحبة لله تعالى، فإذا أشرك مع الله تعالى في المحبة غيره، فإنه يكون بذلك قد اتخذه إلها وعبدهم من دون الله.
وقد قال فيما استشهد ابن القيم -رحمه الله- في بيان أثر المحبة في سير العبد قال:
أنت القتيل بكل من أحببته |
|
فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي |
إذا كان كذلك ينبغي للعبد أن يصطفي أعلى وأشرف المحبوبات وهو الله -جل وعلا-، الذي محبته سعادة الدنيا وسرورها وبهجتها والإعراض على محبته فساد الدين والدنيا، وقد ذكرنا أن العبد لا يستقيم حاله ولا يصلح قلبه ولا يسكن إلا بمحبته لله تعالى، كما مرّ معنا ذلك في قول ابن القيم أثر المحبة على القلب:
فالقلب مضطر إلى محبوبه |
|
الأعلى فلا يغنيه حب ثان |
وصلاحه ونعيمه وفلاحه |
|
تجريد هـٰذا الحب للرحمن |
هـٰذا بيان أن المحبة لا يمكن أن يستقيم القلب إلا بها، المحبة التي تكون لله تعالى، إذا ترك العبد محبة الله تعالى قلبه مفطور على أن يحب شيئا، ولذلك تجده متعلق بمحبوبات كثيرة إذا انصرف عن الله، يحب الدنيا، يحب ألوان المتع فيها، ويتعذب بهـٰذه المحاب إلا محبة الله، فإن محبة الله نعيم، وهـٰذا الفرق بين محبة الله ومحبة غيره، فمن تعلق بالله انشرح صدره، وابتهج خاطره، ونال سعادة الدنيا والآخرة ومن تعلق بغير الله تعالى تعس في هـٰذه المحبة وشقي، وهـٰذا فارق يجده الإنسان فيما إذا أسرف في محبة شيء حتى ولو كان محبا لله في الأصل مخلصا؛ يعني من أهل الإيمان؛ لكن يصرف المحبة قد يزاحم محبة الله بمحبة غيره من الخلق من المال أو الدنيا، أو نساء، أو جاه أو منصب، تجد أن هـٰذا الحب الذي دخل عليه في قلبه وزاحم محبة الله لا بد أن يورثه شيئا من النكد والضجر والضيق، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾ يعني مثل محبة الله، يحبونهم مثل محبة الله قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ الذين آمنوا أعظم محبة لله؛ لأنهم جردوا المحبة له، وأخلصوها له، فلم يجعلوا له شريكا في هـٰذه المحبة.
وهـٰذه المحبة التي ذكرها الله تعالى، ذكرنا أنها أصل العمل، ولذلك يتبعها الخوف والرجاء والعبادة الدعاء، فإذا صرفت هـٰذه المحبة لغير الله تعالى تبعها صرف العمل كله لغير الله تعالى، هـٰذا واضح أو لا في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ﴾ ليس الشرك هنا فقط في المحبة، ذكر المحبة هنا لأنها الأصل الذي إذا صرف إلى غير الله -جل وعلا- فسيتبعه أشياء كثيرة، سيتبعه الخوف سيتبعه الدعاء، سيتبعه الرجاء سيتبعه، ألوان من العبادات فيكون واقعا في الشرك المحض، فليس الشرك هنا للمحبة فقط؛ لكن لأنها أصل العمل، كما ذكرت هـٰذا قبل قليل.
يقول -رحمه الله- بعد هـٰذا في بيان إشكال المشركين كيف وقعوا في شرك المحبة يقول -رحمه الله:
[المتن]
فلمّا سوّوا غيره به في هٰذا التوحيد كانوا مشركين.
[الشرح]
(سوّوا غيره به) سوّوا غير الله –تعالى- به في هـٰذا التوحيد؛ يعني في هـٰذه العبادة التي يجب أن يوحد بها، وهي محبته -جل وعلا-، لما أحبوا معه غيره أصبحوا واقعين في الشرك، ولذلك لابد للعبد أن يمحص محبته لله تعالى، وأن يكون الله -جل وعلا- أحب المحبوبات إليه، ومحبة الله مغايرة لكل محبوب محبة، كل محبوب تابعة لمحبة الله، مما أمر الله بالحب ويأجر عليه كلها محبات تابعة لله تعالى؛ محبة الأنبياء الأولياء الرسل الصالحين هـٰذه كلها تابعة لمحبة الله تعالى، هناك محبات طبيعية ليس فيها لوم ولا ذم من حيث الأصل، وهي أن الإنسان مفطور مجبور على محبة إيش؟ ما يلائمه، فالإنسان يحب الدفء في البرد، ويحب الماء البارد في العطش، ويحب الطعام الدافئ في الشتاء، هـٰذه كلها لأنها توافق الطبيعة، هل يذم على هـٰذه المحاب؟ هل هـٰذه مناطق ذم أو مدح؟ هل يمدح الإنسان على أنه يحب الدفء، أو يحب الطعام الشهي، أو يحب الولد أو يحب الزوجة أو يحب الوالد، هل يذم ويمدح؟ لا يذم ولا يمدح على هـٰذه؛ لأنها مما جرت به عادة الناس وجبلوا عليه؛ لكن متى تكون محلا للمدح؟ إذا أفضت إلى خير، ومتى تكون محلا للذم؟ إذا أفضت إلى شر، فإذا كانت محبة الوالد تحمل على البر والإحسان كانت ممدوحة، وإذا كانت محبة الولد تحمل على صيانته وتربيته وتنشئته على الخير كانت ممدوحة، إذا كانت محبة الولد والوالد تمنع من طاعة الله تعالى، تعيق عن بذل المعروف والقيام بما أمر الله تعالى به، كانت مذمومة؛ لكن من حيث الأصل في هـٰذه المحبة، لا يتعلق بها مدح ولا ذم؛ لأنها محبة طبيعية يتعلق بها المدح والذم باعتبار ما تؤدى إليه، ما تنتهي إليه.
وهـٰذا كلام مهم حتى لا يختلط معنا كيف نفرد الله بالمحبة، وهـٰذه المحاب موجودة نقول: هـٰذه المحاب محاب طبيعية لا يتعلق بها مدح ولا ذم، إنما المدح والذم فيما تؤدي إليه من الأعمال، إن أدّت إلى خير فهي محمودة لما تفضي إليه، وإن أدت إلى شر فهي مذمومة لما تؤدي إليه.
[المتن]
كما قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾[ سورة: الأنعام الآية (01).]أي يسوُّون غيرَه به، وقال الله تعالى: ﴿وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)﴾.[سورة: الأنعام الآية (150).]
[الشرح]
إذا الإشكال الذي وقع فيه المشركون أنهم سووا بالله غيره، واعلم أنّ الشّرك هو تسوية غير الله به هـٰذا، أضبط تعريف للشرك: تسوية غير الله تعالى به شرك، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي تعريفا للشرك جيدا، يقول: تشبيه الخالق بالمخلوق أو المخلوق بالخالق هـٰذا هو الشرك، تشبيه الخالق بالمخلوق أو المخلوق بالخالق هـٰذا هو الشرك، وهو معنى ما ذكرناه تسوية الله تعالى بعباده تسوية الله تعالى بالخلق، هـٰذا هو الشرك، ويدل لهـٰذا المعنى ما ذكره المؤلف من آيات، قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾فحمد الله تعالى نفسه وأثنى عليها بأنه خلق السمٰوات والأرض، وهـٰذا فعل من أفعال الربوبية، ثم أخبر أن المشركين لم ينقادوا لما دلت عليه فطرهم من أن الله رب العالمين لا شريك له؛ بل أشركوا معه غيره فقال:﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾وأصل العدل التسوية، أصل العدل في اللغة التّسوية، فمعنى قوله: ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾أي يسوون غيره به، وأصرح من هـٰذه الآية في الدلالة على أن الشرك دائر على معنى التسوية قول الله تعالى: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)﴾[سورة: الشعراء الآيات (97-98).] هـٰذا قول المشركين في النار شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا في ضلال بعيد وكبير وعظيم، كيف؟ ﴿إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وقعنا في هـٰذا الضلال الكبير والانحراف العظيم، فقوله -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾أي يسوون، وكذلك قوله في سورة الأنعام: ﴿وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)﴾ أي يسوون به غيره -جل وعلا-.