الدرس (3) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
[المتن]
وقد علَّم الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- عباده كيف مباينة الشرك في توحيد الإلـٰهية، وأنه - تعالى - حقيقبإفراده وليًّا وحَكَماً وربًّا. فقال تَعَالىٰ:﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[سورة: الأنعام، الآية (14).]وقال: ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾[سورة: الأنعام، الآية (114).] وقال: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾.[ سورة: الأنعام، الآية (164).]
فلا وليَّ ولا حَكَمَ ولا ربَّ إلا الله الذي من عَدَلَ به غيره فقد أشرك في إلهيته، ولووحّد ربوبيته.
فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق، مؤمنها وكافرها.
وتوحيد الإلـٰهيةمَفْرَق الطرق بين المؤمنين والمشركين.
ولهٰذا كانت كلمة الإسلام (لا إلـٰه إلا الله)، ولو قال: (لا رب إلا الله) لماأجزأه عند المحقِّقين.
[الشرح]
يقول -رحمه الله-: (وقد علّم الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ- عباده كيف مباينة الشرك في التوحيد) وهـٰذا أمر واضح جلي يا إخواني، القرآن بيَّن التوحيد بيانا لا لبس فيه، لا يالتبس على من يفهم الخطاب، من يفهم كلام العرب لا يلتبس عليه التوحيد إذا خلص نفسه من الشبهات التي قد يشحن بها رأسهـ ويملأ بها قلبه قبل أن يرد الكتاب، الذي يرد إلى القرآن خاليا من شبهات وأهواء فإنه يستدل به ويتبين له بالقرآن الكريم ما هو التوحيد الذي أمر الله تعالى به عباده وهو إفراد الله تعالى بالعبادة إفراده -جل وعلا- في كل ما أمر به من العبادات الظاهرة والباطنة.
يقول -رحمه الله-: (وقد علم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عباده كيف مباينة الشرك في توحيد الإلهية) يعني كيف يفضي، أو كيف يؤدي توحيد الإلهية إلى مباينة الشرك، كيف يباين الإنسان بتوحيد الإلهية الشرك، يقول -رحمه الله-: (وأنه تعالى حقيق بإفراده) هـٰذا تفصيل لبيان كيف أن توحيد الإلهية يصل بالإنسان إلى أن يكون الشرك في جانب وهو في جانب، وهـٰذا مطلب كبير ومرغب عظيم ينبغي للإنسان أن يسعي إليه الله -جلّ وعلا- قص فيما ذكر من خبر إبراهيم خليل الرحمـٰن -عليه السلام- أنه كان يدعو ويقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35)﴾[سورة: إبراهيم، الآية (35).]، فسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعله وبنيه في جانب وعبادة الأصنام في جانب، وهـٰذا هو المباينة الفعلية والعقدية -أي القلبية- للشرك بأن تجعل الشرك في جانب وأن تكون في جانب مقابل بعيد عن الشرك في القول والعمل والاعتقاد يقول -رحمه الله-: (وأنه تعالى حقيق) أي جدير -سبحانه وبحمده- (بإفراده وليا) والولي هو القريب، ومنه: ولى الشيءُ الشيءَ، ومنه قول: أجب على الأسئلة التالية؛ أي القريبة التي تلي، فالولي هو القريب، ويطلق الولي في كلام العرب علي الناصر فقوله: (بإفراده وليا) أي: محبوبا ناصرا معبودا، قال: (وحكما) هل هناك حكم مع الله في قضائه وقدره؟ لا، وهـٰذا بإقرار من؟ بإقرار الخلق كلهم، يقرون بأن الله هو الحكم على هـٰذا الكون، وأنه الذي خلق السمٰوات والأرض والشمس والقمر وسائر ما في هـٰذا الكون مخلوقات، يقرون بهـٰذا، ما عندهم إشكال في هـٰذا، فهم يفردونه حكما في الخلق وهـٰذا معنى توحيد الربوبية؛ لكنهم يشركون معه في العبادة، ويقع بسبب هـٰذا الشرك في الإلهية.
يقول -رحمه الله-: (بإفراده وليا وحكما وربا) أي: مصلحا قائما علي العالم بما يصلحه (قال تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ﴾)وهـٰذا استفهام إنكار، أمر الله تعالى رسوله بأن يستفهم من المشركين استفهاما منكرا عليهم ذلك وطلبهم أن يتخذ وليا غير الله تعالى ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ أي: ناصرا معبودا محبوبا دون الله تعالى، (وقال: ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾) أي أطلب من يحكم غير الله تعالى، هـٰذا لا يكون من أهل التوحيد؛ بل لا يحكّمون إلا الله تعالى كما قال الله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)﴾[سورة: النساء، الآية (65).] لأنه حكم الله فالنبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبلّغ عن ربه حكمه كما قال جل وعلا: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)﴾.[سورة: النجم، الآية (03).]
(وقال: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾) وكل هـٰذه الآيات تدلّ على أن الشرك يباين التوحيد ويفارق التوحيد ويخالفه مخالفة تامة، فالتوحيد هو إفراد الله تعالى بالمحبة، إفراد الله تعالى بطلب النصرة، إفراد الله تعالى بالعبادة، إفراد الله تعالى بالحكم، إفراد الله تعالى بالربوبية.
يقول المؤلف تقريرا للمعني المتقدم: (فلا وليَّ ولا حَكَمَ ولا ربَّ إلا الله، الذي من عَدَلَ) أي سوّى(به غيره فقد أشرك في إلهيته، ولووحّد ربوبيته.) أي ولو قال: لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله، لا مالك إلا الله، لا مدبّر إلا الله، هـٰذا لا ينفع إذا كان يقول هـٰذا ثم يقول: غير الله تعالى يُتقرب إليه بالقربات، غير الله تعالى يحب محبة عبادية، غير الله تعالى يتعلق به القلب يدعا، ينظر له، يحكم قوله بين الناس، كل هـٰذا يخالف مقتضي التوحيد.
يقول -رحمه الله-: (فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق)، (اجتمعت فيه الخلائق) أي لم يقع بينهم خلاف، فلم تعرف أمة تنكر توحيد الربوبية، هناك أفراد أنكروا توحيد الربوبية؛ لكن ليس هناك في الدنيا أمة من الأمم اجتمعت على إنكار أن الله رب العالمين؛ بل حتى الثانوية وهم سيأتي لهم ذكر وهم الذين يقولون بإلـٰه النور، إلـٰه الظلمة؛ إلـٰه الخير، وإله الشر، لا يجعلون الإلهين في درجة واحدة؛ بل يجعلون أحدهما تابع للآخر كما سيأتي بيانه وتفصيله.
إذن ليس في الناس من يجعل مع الله إلها آخر على درجة واحدة، وهـٰذا يدل على أن الخلق مفطورون على توحيد الربوبية لله تعالى، ولذالك يقول: (فتوحيدالربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق) أي جميع الخلق (مأمنها وكافرها).
ثم يقول -رحمه الله-: (وتوحيد الإلـٰهيةمَفْرَق الطرق بين المؤمنين والمشركين) به يتميز أهل الإيمان وأهل الشرك، يتبين من هـٰذا أن توحيد الربوبية ليس مفرقا بين المشركين والمؤمنين؛ بل الذي يفرق بين أهل الشرك وأهل الإيمان هو ما يتعلق بتوحيد الإلهية، إقرارهم بأن الله إلـٰه العالمين.
يقول -رحمه الله-: (ولهـٰذا)أي لأنّ توحيد الإلهية هو الفارق بين الناس (كانت كلمه الإسلام لا إلـٰه إلا الله) وليست كلمة الإسلام (لا رب إلا الله) أو (لا خالق إلا الله) أو (لا رازق إلا الله) أو (لا مخترع إلا الله) أو (لا صانع إلا الله) هـٰذا كله لا يؤدي المعنى الذي يفيده قول أهل الإسلام (لا إلـٰه إلا الله) فإن (لا إلـٰه إلا الله) تدل على أنه يجب أن يُفرد الله تعالى بالعبادة و لا يعبد معه غيره، ولا يتعلق بسواه، وأنه ينبغي أن يكون القلب والعمل والقول والعقد خالصا لله جلّ وعلا ليس لغيره فيه نصيب.
يقول -رحمه الله-: (ولهٰذا كانت كلمة الإسلام (لا إلـٰه إلا الله)، ولو قال: (لا رب إلا الله) لماأجزأه عند المحقِّقين.) يعني من أهل العلم، لو قال: (لا رب إلا الله) هل يدخل في ذلك بالإسلام؟ الجواب: لا يدخل قول هـٰذا في الإسلام، إنما الذي يدخله في الإسلام أن يقول: (لا إلـٰه إلا الله).
يقول المؤلف -رحمه الله-:
[المتن]
فتوحيد الألوهية هو المطلوب من العباد. ولهٰذا كان أصل ((الله)) الإله، كما هو قول سيبَوَيه، وهو الصحيح، وهو قول جمهورأصحابه إلا من شذّ منهم.
وبهٰذا الاعتبار الذي قرّرنا به الإله، وأنه المحبوب لاجتماع صفات الكمال فيه، كان الله هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو الذي يُنكره المشركون.
[الشرح]
يقول -رحمه الله-: (فتوحيد الإلهية -أو الألوهية- هو المطلوب من العباد، ولهـٰذا كان أصل (الله) الإله) أي أصل كلمة (الله) الإله، معنى أصل كلمة (الله) الإله؛ يعني أن كلمة الله اسم الله -جلّ وعلا- اسم لفظ الجلالة (الله) مشتق من الإله، وهـٰذه مسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين:
ذهب جماعة إلى أن لفظ الجلالة الاسم العظيم (الله) ليس مشتقا؛ بل هو من الأسماء الجامدة التي لم تشتق، فليس مشتقا من غيره، لماذا قالوا: ليس مشتقا؟ قالوا: لأنه إذا كان مشتقا يستلزم مادة يشتق منها، واسمه تعالى قديم، وإذا كان قديما فإنه يستحيل عليه الاشتقاق، وهـٰذا المعنى بعيد، وهو متفق عليه بين القائلين بالاشتقاق وبين من يقول بعدم الاشتقاق.
القائلون بالاشتقاق ماذا يريدون؟ يريدون أن الاسم الذي هو لفظ الجلالة الله يلتقي بمصدره في اللفظ والمعنى، هـٰذا مرادهم بالاشتقاق، ولذلك ذهب المحققون من أهل اللسان -أهل اللغة- إلى أن لفظ الجلالة -الاسم الكريم الله- مشتق من الإله، وهـٰذا هو الذي أشار إليه المؤلف -رحمه الله- وبين أنه قول سيبويه وهو الصحيح، قال: (وهو قول جمهور أصحابه إلا ما شذ منهم).
طيب ما فائدة هـٰذا التقرير؟ فائدة هـٰذا التقرير يقول: (وبهٰذا الاعتبار الذي قرّرنا به الإله، وأنه المحبوب لاجتماع صفات الكمال فيه) إذن الإلهية معناها التعبد والمحبة والتأله، هـٰذا معنى الإلهية، توحيد الإلهية يعني توحيد المحبة؛ يعني توحيد العبادة لله تعالى، وهي مشتقة من أله، فـ(الله) -جل وعلا- هـٰذا الاسم يدل على انفراده بالمحبة، يدل على انفراده بصفات الكمال كلها -كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله- فالله -جل وعلا- هو المحبوب.
لماذا كان ربنا -جل وعلا- محبوبا؟ قال: (لاجتماع صفات الكمال فيه) فكل كمال فيه -جل وعلا- ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)﴾،[سورة: الشورى، الآية (11).]قال الله تعالى: ﴿وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[ سورة: الأعراف، الآية (180).] قال جل وعلا: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾[سورة: الروم، الآية (27).]، ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾[سورة: النحل، الآية (60).]وهـٰذا يدل على أنه جلّ وعلا متصف بصفات الكمال، وأنه -جلّ وعلا- اجتمع فيه كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (كان الله هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسني والصفات العليا..) إلى آخر ما ذكر.
قبل ما ندخل في معنى الله المعني الذي أشار إليه المؤلف -رحمه الله- ما معنى (لا إلـٰه إلا الله)؟ لا معبود حق إلا الله، وهـٰذا المعنى هو الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وإجماع السلف، ودل عليه لسان العرب.
هناك جماعة من أهل العلم، وهو الذي أشار إليه بقوله: (عند المحققين) جماعة من أهل العلم قالوا: إن معنى الإله الرّب القادر على الاختراع. فيقولون: (لا إلـٰه إلا الله) معناها القدرة على الاختراع ولذلك عندهم أخص صفات الرب -جلّ وعلا- قدرته على الاختراع فيفسرون (لا إلـٰه إلا الله) بأنه لا قادر على الاختراع إلا الله ولهـٰذا قال الأشعري -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم، لكن هـٰذا المعنى فاسد وباطل ويرده القرآن وترده السنة ويرده إجماع السلف على معنى (لا إلـٰه إلا الله) ويرده لسان العرب، فإنه ليس في كلام العرب أن الإله هو الرب؛ بل الإله كلمة لها معنى مغاير لما تدل عليه كلمة الربوبية، فإذا كان القرآن والسنة وإجماع السلف ولسان العرب يدل على أن الإله هو المعبود المحبوب وأنه لا يصلح تفسير الإله بأنه القادر على الاختراع؛ فينبغي الكف عن هـٰذا المعنى، ونقول: إن ما ذكرتموه من القدرة على الاختراع هي من لوازم الإلهية، هي من لوازم الإلهية وليست هي معنى الإلهية بالمطابقة، إنما هي من لوازم الإلهية، وهـٰذا الذي جعل المؤلف -رحمه الله- يقول: (كان الله هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا) يعني يشير بهـٰذا إلى أن القدرة على الاختراع من لوازم الإله، من لوازم إثبات صفة الألوهية لله، من لوازم معنى كلمة الله فإنه القادر على الاختراع؛ لأنه لا يكون إلها قد جمع صفات الكمال إلا إذا كان قادرا على الاختراع وعلى الخلق. يعني لماذا قال المؤلف: (وبهٰذا الاعتبار الذي قرّرنا به الإله، وأنه المحبوب لاجتماع صفات الكمال فيه، كان الله هو الاسم الجامع) يعني هنا يريد أن يبين المؤلف أن من فسر (لا إلـٰه إلا الله) بأنه لا قادر على الاختراع إلا الله أن هـٰذا تفسير باللازم وليس تفسيرا له بمعناه الذي دل عليه اللفظ،
إذن الذي فسر (لا إلـٰه إلا الله) بلا قادر على الخلق والاختراع إلا الله قد فسر الكلمة بلازمها وعطل المعنى الذي يدل عليه اللفظ، وهـٰذا خطأ وغلط وانحراف في تفسير كلام الله تعالى وتفسير كلمة الإسلام الذي ينتقل بها الناس من الكفر إلى الإيمان، إنما معنى (لا إلـٰه إلا الله) لا معبود حق إلا الله، فإن الإله هو المعبود، وإنما قدرنا (حق) في سياق الكلام لأنه لابد من خبر، ضرورة اللسان تقتضي خبرا، وهنا أنسب ما يقدر الخبر به أن يقدر بإيش؟ بحق؛ لأنه لو قدرناه موجود كان ذلك مخالفا للواقع وموهما معنى فاسدا، مخالفته للواقع أن هناك آلهة غير الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً﴾[سورة: مريم، الآية (81).] فأثبت الله تعالى أن هناك آلهة تعبد من دونه؛ لكنها باطلة، فإذا قلنا: (لا إلـٰه موجود) نكذب الواقع، والواقع أنه هناك آلهة موجودة غير الله تعالى.
المعنى الثاني الذي يجعلنا لا نقدر الخبر بموجود أنه يوهم معنى فاسد، وهو أن كل معبود في الدنيا فهو الله، كل آلهة في الدنيا فهي الله فهي من الآلهة الحق، وهـٰذا المعنى من أبطل الباطل، وهل قال به أحد؟ نعم قال به غلاة الصوفية الذين أهل الوحدة والحلول الذين يرون أن الله حال في كل شيء، حتى إن أحد يقول: سبحاني ما أعظم شأني، على أن رب العالمين حلّ به.
ويقول قائلهم:
أدين بدين الحب أنى توجهت |
|
ركائبه فالحب ديني وإيماني |
يعني أي شيء تحب في الدنيا فهو إلهك (أنى توجهت ركائبه) (أدين بدين الحب) يعني ديني هو دين الحب (أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني) هـٰذا انحراف كبير، وأدهي من هـٰذا وأمر قول ذاك الذي قال وهو من أبطل القول وأفسده قال:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا |
|
وما ربنا إلا عابد في صومعة |
يعني العابد الذي يعبد في الصومعة هـٰذا ربنا، ومنه قولهم:
العبد رب والرب عبد |
|
يا ليت شعري من المكلف |
إن قلت رب فذاك عبد أو قلت |
|
عبد فذاك رب أنى يكلف |
هكذا الانحراف والضلال يتطرق بأصحابه إلى أنواع من الضلالات بالانحراف والشدة فيه تجعل الإنسان يقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. وإلا فهـٰذا الكلام لا يعقله أصحاب البصائر ولا يدركون أن وجها بينا أو وجها يسوغ مثل هـٰذه الانحرافات الكبيرة؛ لكن ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾[سورة: القصص، الآية (56).].
الخلاصة نريد أن نفهم لماذا قال المؤلف -رحمه الله-: (كان الله هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو الذي يُنكره المشركون) لماذا قال هـٰذا؟ ليبين أن من فسر (لا إله إلا الله) فإنه لا قادر على الاختراع إلا الله، فإنه قد فسره باللازم، يقول المؤلف: (كان الله) يعني لفظ الجلالة (هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا) وهـٰذا المعنى صحيح، فاسم الله دال علي جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا بأنواع الدلالات الثلاثة، كم هي أنواع الدلالات؟ ثلاثة مطابقة، دلالة ملازمه أو لازم، ودلالة تضمن، هـٰذه الدلالات الثلاثة إذا استعملتها في هـٰذا الاسم وجدت هـٰذا الاسم دالا على جميع أسماء الله تعالى وصفاته، وتفصيل هـٰذا فيه نوع طول وقد تكلم عليه ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، وتكلم عليه غيره من أهل العلم كلاما واضحا بينا.
المراد أن هـٰذا الاسم اسم يجمع جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولذلك قال بعض أهل العلم إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يدل على جميع الأسماء، ومما يدلك على أن هـٰذا الاسم يدل على جميع الأسماء أنه هو المقدم في كل الأحوال، الله عز وجل يقول: ﴿وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[سورة: الأعراف، الآية (180).] ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾[سورة: النحل، الآية (60).]فجعل الأسماء الحسنى مضافة إلى الله، وجعل الصفات العليا مضافة إلى الله تعالى، فدل على ما ذكره المؤلف من أن هـٰذا الاسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو الذي ينكره المشركون، ماذا ينكر المشركون من هـٰذا الاسم؟ ينكرون معناه ومدلوله من وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، يقول -رحمه الله-:
[المتن]
ويحتج الرب سُبْحَانَهُ عليهم بتوحيدهم ربوبيته على توحيد ألوهيته، كما قال الله تَعَالىٰ: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَاتِوَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)﴾.[سورة: النمل، الآيات (59-60).]
[الشرح]
هـٰذا فيه بيان طريقة القرآن الكريم في تقرير توحيد الإلهية، الطريقة التي سلكها القرآن في تقرير توحيد الإلهية هو الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، توحيد الربوبية هو اعتقاد أن الله تعالى هو القائم على الخلق ومصالحهم خلقا وملكا ورزقا وتدبيرا، هـٰذا أمر تقر به الفطر، ولذلك كان الدليل الأعظم الذي استدل به الله تعالى، واحتج به الناس في تقرير وجوب عبادته وحده لا شريك له كان ذلك بتقريرهم بتوحيد الربوبية.
ولذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: (ويحتج الرب سبحانه عليهم) أي على الخلق (بتوحيدهم ربوبيته) أي أنهم أقروا بأنه رب العالمين،وأنه خالقهم ورازقهم ومالكهم ومدبرهم، استدل بتوحيدهم ربوبيته على توحيد ألوهيته، وذكر المؤلف -رحمه الله- نموذجا لذلك وهو ما ذكره الله تعالى في سورة النمل (قال الله تَعَالىٰ: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)﴾)الله -جلّ وعلا- أمر رسوله أن يحمده -جلّ وعلا- وحمد الله فيه إثبات كمال ربوبيته وكمال إلهيته وكمال أسمائه وصفاته، ولذلك يقول جماعة من السلف: إن هـٰذه الكلمة يثبت بها كمال الأفعال وكمال الأسماء وكمال الصفات لله تعالى؛ لأنه لا يحمد إلا من كان متصفا بالصفات العليا، ولا يحمد إلا من كانت له الأسماء الحسنى، ولا يحمد إلا من كانت له الأفعال الجميلة، ولذلك بدأ الله تعالى في تقرير إلهيته بحمده؛ لأنه المستحق للحمد، ومن حمد الله وعقل هـٰذا المعنى فإنه يستغني عن كل دليل في إثبات إلهيته؛ لأنه لا يحمد إلا من كمل في إلهيته -جلّ وعلا- ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ سلّم على عباده بعد أن حمد نفسه؛ لأنهم الذين كملوا حقه، أو لأنهم الذين عرفوا حقه وسعوا في تكميل حقه جلّ وعلا، وعباده الذين اصطفى هم أول من يكون الرسل والأنبياء الصديقون والشهداء والصالحون، فهؤلاء كلهم مصطفون، اصطفاهم الله تعالى واختارهم وجعلهم محلا لإنعامه وفضله وهدايته وتوفيقه﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)﴾هـٰذا استفهام إنكار على من سوَّى بالله غيره، ﴿آلله﴾يعني آلله هـٰذا استفهام ﴿خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ولم يذكر المشرَك به على وجه التعيين ليشمل كل ما يشرك به من دون الله، ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي ما يشرك به هؤلاء الله جلّ وعلا من أنواع المعبودات، سواء كان ذلك في عبادة الملائكة أو عبادة الرسل والأنبياء أو الصالحين أو النجوم أو الأصنام أو الجن أو غير ذلك، الله جلّ وعلا لا شك أنه خير من هؤلاء كلهم؛ لأنه المحمود -جلّ وعلا- الذي له كمال الأسماء والصفات والأفعال، يقول بعد هـٰذا في تقرير توحيد الإلهية، وأنه لا عِدل لله تعالى من الخلق؛ بل هو جلّ وعلا ليس كمثله شيء قال: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾هـٰذا استفهام ﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾أي أإله مع الله فعل ذلكفتعدلون به غيره! قال:﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)﴾ المشكلة في هؤلاء ليس أن هناك من فعل هـٰذا مع الله، ولذلك ﴿بَلْ﴾ هنا للإضراب والانتقال من الاستفهام إلى تقرير المشكلة التي أودت بهؤلاء إلى تسوية الله بغيره، أو تسوية غير الله به قال: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ أي مسوون بالله غيره جلّ وعلا، يبين المؤلف -رحمه الله- هـٰذا المعني فيقول: (وكلما ذكر تعالى من آياته جملة) أي طائفة من آياته ومخلوقاته التي يقر بها هنا؛ لأن هؤلاء خوطبوا بهـٰذا القرآن الله أمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يوجه إليهم الخطاب ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ هـٰذا في خطاب النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمشركين ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَاتِوَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾لو كانوا يعتقدون هناك إله مع الله فعلى هـٰذا أكانوا يتورعون أو يترددون أو يتلكؤون في الرد على النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقولون: هناك إله فعل هـٰذا مع الله ما كان يمكن أن يتلكؤوا ولا أن يترددوا وهم الذين يطلبون الحجة في دحض ما جاء به النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-ورده لكن ما قالوا شيئا؛ لأن هـٰذا مما يقرون به، ولذلك أقام الله تعالى عليهم الحجة قال: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ أي: يسوون بالله تعالى غيره.
يقول -رحمه الله-: (وكلّما ذكر تَعَالىٰ من آياته جملة من الجمل قال عقبها: ﴿أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾) يقول -رحمه الله-:
[المتن]
وكلّما ذكر تَعَالىٰ من آياته جملة من الجمل قال عقبها: ﴿أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾ فأبان سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ بذلك أنّ المشركين إنما كانوا يتوقّفون في إثبات توحيد الإلهية لا الرّبوبية، على أنّ منهم من أشرك في ربوبيته كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله تَعَالىٰ.
[الشرح]
(أشرك في ربوبيته) وسيأتي في كلام المؤلف -رحمه الله- وجه إشراكهم في ربوبيته، وأنهم ليسوا في الشرك في الربوبية كما هو في الإلهية بتسوية غير الله تعالى به؛ لكن هـٰذا لن نتركه حتى يأتي مقامه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾هـٰذا فيه الحجة عليهم؛ لأن من فعل لهم هـٰذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هـٰذه الآيات، من فعل لهم هـٰذه الأشياء وحده هو المستحق أن يعبد وأن يوحّد، وأن يفرد بالحب والخوف والرجاء وسائر العبادات، فينبغي أن تعبدوه في الخطاب يقول: إن كنتم تقرون بأنه لا شريك مع الله في هـٰذا فينبغي أن تعبدوه وحده لا شريك له إذ لم يكن معه إله آخر يصنع هـٰذه الأشياء. وهـٰذا من الاحتجاج بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.
ملخص درس اليوم القرآن يحتج بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية؛ لأن توحيد الربوبية من كمّل توحيد الربوبية فإن لازم هـٰذا أن يقر بأنه لا إلـٰه إلا الله، إذن ما العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية؟ توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، ما معنى يستلزم توحيد الإلهية؟ يعني أنه إذا كمل الإنسان توحيد الربوبية فلا بد ضرورة أن يصير إلى تكميل توحيد الإلهية.
[المتن]
وبالجملة فهو تَعَالىٰ يحتج على منكري الإلهية بإثباتهم الربوبية.
والملك هو الآمر النّاهي الذي لا يخلق خلقا بمقتضى ربوبيته ويتركهم سدىً معطلين لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون، فإنّ الملك هو الآمر الناهي المعطي المانع الضار النافع المثيب المعاقب.
ولذلك، جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الرب والملك والإله، فإنه لما قال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[سورة: الناس، الآية (01).]، كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقي أن يقال: لما خلقهم: هل كلّفهم وأمرهم ونهاهم؟ قيل: نعم، فجاء ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾[سورة: الناس، الآية (02).]،فأثبت الخلق والأمر ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾[ سورة: الأعراف، الآية (54).].فلما قيل ذلك، قيل: فإذا كان ربا موجداً وملكاً مكلفاً، فهل يُحَبُّ وَيُرغبُ إليهِ،ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر؟ قيل: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾[ سورة: الناس، الآية (03).]،أي مألوههم ومحبوبهم الذي لا يتوجّه العبد المخلوق المكلف العابد إلا له، فجاءت الإلهية خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها.
[الشرح]
فخاتمة ما تقدم في القراءة السابقة وهي قوله -رحمه الله-: (ويحتج الرب سُبْحَانَهُ عليهم بتوحيدهم ربوبيته على توحيد ألوهيته)، قال: (وبالجملة) يعني: في العموم والقول العام الذي يمكن أن يستخلص من هـٰذه الآيات ومن غيرها من طريقة القرآن (فهو تَعَالىٰ يحتج على منكري الإلهية) أي من وقع في نقض توحيد الإلهية أو نقصه (بإثباتهم الربوبية) بإثباتهم توحيد الربوبية، فيحتج عليهم ليثبتوا أنه لا يستحق العبادة إلا هو بأنهم مقرون بأنه خالقهم ورازقهم ومالكهم ومدبرهم، وهـٰذه هي طريقة القرآن كما تقدم وهـٰذا من مواضع لا تحصى في كلام الله تعالى كثيرة ظاهرة ومستنبطه أن الله جلّ وعلا يحتج على من وقع في شرك الإلهية بتوحيد الربوبية؛ بل يحتج على إثبات الإلهية بتوحيد الربوبية ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَٰوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)﴾[سورة: المؤمنون، الآيات (86-89).]والآيات في هـٰذا كثيرة جدا ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)﴾[سورة: العنكبوت، الآية (61).]فالآيات في هـٰذا كثيرة؛ التي فيها إثبات أن القرآن يحتج بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية؛ وذلك لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، فمن أقر لله أنه رب العالمين خالقهم ورازقهم ومالكهم ومدبرهم على وجه الكمال لا بد أن يقر بأنه لا يستحق العبادة سواه.
ثم بعد ذلك انتقل المؤلف -رحمه الله- إلى بيان مقتضي صفة الملك لله تعالى يقول -رحمه الله-: (الملك هو الأمر الناهي الذي لا يخلق خلقا بمقتضي ربوبيته ويتركهم سدا معطلين)
الأول هو طريق من طرق الاحتجاج على توحيد الإلهية، وهو الاحتجاج بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.
الثاني الاحتجاج على توحيد الإلهية بالأسماء والصفات بأسماء الله وصفاته فإنه من آمن بالله تعالى بأسمائه وصفاته، لا بد أن يؤدي إيمانه بالأسماء والصفات إلى أن يفرد الله تعالى بالعبادة، فذكر الملك هنا ليس كلاما مبتورا أو مقطوعا إنما هو في سياق بيان الطرق التي يحتج بها لإثبات توحيد الإلهية.
فالطريق الأول الذي ذكره المؤلف توحيد الربوبية، ولذلك لخص الموضوع فقال: (وبالجملة فهو تَعَالىٰ يحتج على منكري الإلهية بإثباتهم الربوبية).
انتقل إلى طريق آخر لإثبات إلهية الله تعالى وهو الاحتجاج بأسمائه وصفاته، فإن أسماءه وصفاته جلّ وعلا دالة على أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة سواه، وأخذ بذلك اسما فقال: (والملك هو الآمر النّاهي) هـٰذا مقتضي الملك أن له الأمر والنهي (الذي لا يخلق خلقا بمقتضى ربوبيته ويتركهم سدًى) أي هملا (معطلين) أي (لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون، فإن الملك هو الآمر الناهي المعطي المانع الضار النافع المثيب المعاقب)، وإنما يكون الثواب والعقاب نتيجة الأمر والنهي، وهو أمرهم بعبادته وحده لا شريك له، ونهاهم عن عبادة غيره، فإذا كان الله -جل وعلا- موصوفا بالملك، وأن له الملك، وأنه الملك -جل وعلا- فإنه يجب إفراده بالعبادة، فلا يطاع غيره ولا يعبد سواه، وهـٰذا احتجاج بالأسماء والصفات على أنه إلـٰه الأولين والآخرين وأنه لا إلـٰه إلا هو.
يقول -رحمه الله-: (ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى) التي مقتضى الإيمان بها أن يفرد العبد -جل وعلا- بالإلهية والعبادة قال: (بالأسماء الحسنى الثلاثة الرب والملك والإله) وهـٰذه الأسماء الثلاثة المذكورة في هـٰذه السورة -سورة الناس- هي الجوامع لمعاني الأسماء والصفات يقول ابن القيم -رحمه الله-: فقد تضمنت هـٰذه الأسماء الثلاثة جميع معاني الأسماء الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ وأن يحفظ ويمنع من وساوس الشياطين، فهـٰذه الأسماء الثلاثة بها يجتمع معاني أسماء الله تعالى وصفاته، ويتبين هـٰذا من التفصيل الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- يقول: (فإنه لما قال:﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[سورة: الناس، الآية (01).]) الله -جل وعلا- أمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يستعيذ بربّ الناس، والاستعاذة هنا بثلاثة أسماء: رب الناس، ملك الناس، إلـٰه الناس. بدأ بذكر الربوبية في أول مقامات الاستعاذة؛ لأن الربوبية هي المعنى الجامع لجميع الخلق الذي لا يخرج عنه أحد فجميع ما في السمٰوات ومن في الأرض مربوب لله تعالى والله ربه، قال الله تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَٰوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾[سورة: مريم، الآية (93)] قال جل وعلا: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[سورة: الفاتحة، الآية (02)]فهو رب العوالم كلها -جل وعلا-، لا يخرج أحد عن ربوبيته، ومقتضى الربوبية قيامه عليهم، أو معنى الربوبية أنه قائم عليهم خلقا ورزقا وملكا وتدبيرا، فبدأ بالربوبية في أول مقامات الاستعاذة؛ لأنها أوسع هـٰذه المعاني من حيث الشمول لا يخرج عنها أحد، ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (فإنه لما قال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[سورة: الناس، الآية (01).]، كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقي أن يقال: لما خلقهم: هل كلّفهم وأمرهم ونهاهم؟) فجاء ذكر الوصف المقتضي لذلك وهو صفة إيش؟ الملك فقال: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾[سورة: الناس، الآية (02)] هـٰذه الصفة تقتضي أنه -جل وعلا- أمر ونهى، وأنه يثيب ويعاقب وأنه يمنع ويُعطي، وأنه يعز ويذل، فجاء ذكر هـٰذا بعد الربوبية لبيان أنه ربهم، وأنه مالكهم وإن كان الملك من إفراد توحيد الربوبية؛ لأن توحيد الربوبية يقتضي الملك، إفراد الله بالخلق والرزق والملك والتدبير؛ لكن نص عليه من بين المعاني ليبين أنه ربهم ومالكهم الذي يأمرهم وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم ويمنع ويضر، ومن جملة ما أمرهم به أن يعبدوه وحده لا شريك له.
يقول -رحمه الله-: (قيل: نعم، فجاء ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾[سورة:: الناس، الآية (02).]،فأثبت الخلق والأمر) أثبت الخلق في الربوبية والأمر في الملك، واضح؟ الخلق في الربوبية والأمر في الملك، ويمكن أن يُقال: الملك يقتضي الخلق والأمر؛ لأن الخلق فعله والأمر قوله، وأمر الله تعالى ينقسم إلى قسمين: أمر كوني وأمر شرعي، الأمر الكوني به تكون الأشياء ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[سورة: يس، الآية (82).] فقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ﴾ القول هنا قول كوني أو شرعي؟ كوني؛ الذي به تكون الأشياء.
والأمر أيضا، من الأمر ما هو شرعي وهو الذي حصلت به الشرائع؛ ككلامه -جل وعلا- بالقرآن والتوراة والإنجيل، وسائر ما أوحاه إلى رسله، (فلما قيل ذلك) أي قيل إيش؟ إنه خالقهم وإنه مالكهم (قيل فإذا كان ربًّا مُوجِدًا ومَلِكًا مُكَلِّفًا فهل يُحَبْ ويُرْغَبْ إليه ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر) أي مقصود وعلة الخلق والأمر فجاء الجواب في قوله جل وعلا: (﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾[سورة: الناس، الآية (03).]أي مألوههم) فإله فعال؛ بمعنى مفعول، ككتاب بمعنى مكتوب وصراط بمعنى مصروط، فإله الناس أي مألوههم أي معبودهم ومحبوبهم الذي تألهه القلوب محبة وخوفًا ورجاءً وإجلالاً وتعظيمًا وإنابةً وسائر ما يكون من أعمال القلوب، فهو إلـٰه الناس، وهـٰذه الصفة أخص الصفات المذكورة؛ لأن المذكور هو صفات ثلاثة أو المذكور من الأسماء ثلاثة: رب الناس، ملك الناس، إلـٰه الناس، فالربوبية والملك لا يخرج عنها أحد، له ما في السمٰوات وما في الأرض، رب العالمين، لا يخرج عنها شيء من الأشياء.
أما الإلهية فإنه إنما ألّهه السعداء نسأل الله أن نكون منهم، ألهه أي أحبه وعبده السعداء دون الأشقياء ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾[سورة: الحجر، الآية (42).] فهؤلاء الذين ألهوه وأحبوه وعبدوه وحده لا شريك له، ولذلك أخّر هـٰذه الصفة؛ لأنها أخص الصفات المستعاذ بها.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (قيل: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾[سورة: الناس، الآية (03).]،أي مألوههم ومحبوبهم الذي لا يتوجّه العبد المخلوق المكلف العابد إلا له، فجاءت الإلهية خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها.) إذن المؤلف استدل بهـٰذه الآيات الثلاثة على طريقة القرآن في تقرير توحيد الإلهية، نحن لسنا في تفسير، لابد أن نعرف لماذا جاء المؤلف بهـٰذا الكلام في هـٰذا الموضع؟ ليس مقصود المؤلف التفسير، وإلا كان جاب آية الكرسي أعظم آية في القرآن، أو سورة الفاتحة أعظم سورة، إنما جاء بهـٰذا الكلام لغاية، ما هي؟ الاستدلال من القرآن على أن طريقة القرآن في تقرير الإلهية هو الاستدلال عليه بالربوبية وبماذا ؟ وبالأسماء والصفات، فإن من كمّل الربوبية وكمّل الأسماء والصفات لا يمكن أن يقع عنده خلل في الإلهية، بل لابد أن يقر بأنه إله العالمين، ولذلك قال: (فجاءت الإلهية خاتمة) للصفات السابقة (وغاية) يعني منتهى (وما قبلها كالتوطئة لها.) يعني التمهيد والتقديم لها.
والملاحظ في هـٰذه الأوصاف الثلاثة أنها لم تعطف؛ بل ذكرت من غير عطف، وذلك لبيان أن الاستعاذة تحصل بها مجتمعة، فإن المستعاذ به شيء وليس شيئا متغايرًا؛ لأن الواو تقتضي المغايرة، وهي ليست متغايرة في الحقيقة من حيث المستعاذ به، فهو الله الذي لا إلـٰه إلا هو، ولكنها متغايرة من حيث دلالتها ومعانيها، فرب الناس غير إلـٰه الناس غير ملك الناس في الدلالة والمعنى، وهـٰذا ما تقدم بسطه وشرحه وبيانه في كلام المؤلف -رحمه الله-.
إذن الخلاصة الآن قبل ما ننتهي، ما صلة أنواع التوحيد الثلاثة بعضها ببعض؟ توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات يستلزمان توحيد الإلهية، واضح ؟ معنى يستلزمان، يعني إذا كمّل الإنسان توحيد الربوبية وكمّل الإيمان بالأسماء والصفات فإنه لابد أن يُقِر بأن الله إله العالمين، ومن كان مقرًّا بأنه لا إلـٰه إلا الله صدقًا وحقًّا فإنه مقر بأن الله رب العالمين، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى -جل وعلا-.