×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / تجريد التوحيد المفيد / الدرس (5) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:782

م الله الرحمـٰن الرحيم

[المتن]

ومعلوم قطعا أن هٰذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرِّين بأنّ الله تعالى وحده هو ربّهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه رب السمٰوات السبع ورب العرش العظيم، وأنه سُبْحَانَهُ هو الذي بيده ملكوت كل شيء،وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ.

[الشرح]

 بعد أن بين المؤلف -رحمه الله- في ما تقدّم أصل شرك من أشرك بالله تعالى في إلهيته، وأنه الشرك الواقع في المحبة حيث سووا مع الله غيره، بَيَّنَ المؤلف -رحمه الله- في ماذا كانت التسوية، في أي شيء كانت تسوية الكفار الله تعالى بغيره، فيقول: (ومعلوم قطعا أن هٰذه التسوية) يعني التي وقعت من المشركين (لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم) إنما كانت في شيء آخر، كيف لم تكن في الربوبية وفي الخلق؛ أي لم يسووا مع الله غيره في ربوبيته وفي خلقه؟ يقول: (فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرِّين بأنّ الله تعالى وحده هو ربّهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده) كما قال تعالى: ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[سورة: المؤمنون، الآيات (84-85).](وأنه رب السمٰوات السبع ورب العرش العظيم) كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَٰوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)[ سورة: المؤمنون، الآية (87).] (وأنه سُبْحَانَهُ هو الذي بيده ملكوت كل شيء وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ)، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)[سورة: المؤمنون، الآيات (88-89).] فكلّ هـٰذا يبين أنهم كانوا يقرّون بهـٰذا، وأن الجميع لله تعالى خلقا وملكا، وأنه هو المدبر، وأنه هو الرازق -جل وعلا-، إذا في أي شيء كانت تسويتهم يقول -رحمه الله-:

[المتن]

 وإنما كانت هٰذه التسوية بينهم وبينه تعالى في المحبة والعبادة فمن أحب غير الله تعالى وخافه ورجاه وذل له كما يحب الله تعالى ويخافه ويرجوه، فهٰذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، فكيف بمن كان غير الله آثر عنده منه، وأحب إليه وأخوف عنده، وهو في مرضاته أشدّ سعياً منه في مرضاة الله؟

[الشرح]

 هـٰذه التسوية التي كانت من المشركين التي قالوا فيها: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ[سورة: الشعراء، الآيات (97-98).]  أنهم سووا بالله تعالى غيره في المحبة كما قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ[سورة: البقرة، الآية (164).] فمعلوم ومستقر في الأذهان أنهم لم يسووا مع الله تعالى غيره في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولا قالوا: إن آلهتهم تخلق وترزق وتملك وتدبر وتحي وتميت، إنما قالوا: إنها تستحق منا المحبة ما يستحقه الله، إنها تستحق من العبادة والتعظيم ما يستحقه الله تعالى فوقعوا بذلك في الشرك والتسوية التي ذكرها الله تعالى عنهم في كتابه.

يقول -رحمه الله- :

[المتن]

فإذا كان المسوّي بين الله وبين غيرِه في ذلك مشركاً فما الظن بهٰذا؟

فعياذاً بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحّد، فهٰذا أحد أنواع الشرك.

 [الشرح]

 يقول -رحمه الله-: (فإذا كان المسوّي بين الله وبين غيرِه في ذلك) يعني في المحبة والخوف والعبادة والرجاء والذل وسائر الأعمال العبادية (إذا كان المسوّي بين الله وبين غيرِه في ذلك) أي في هـٰذه الأعمال العبادية (مشركاً فما الظن بهٰذا؟) المشار إليه من؟ الذي جعل غير الله أعلى من الله تعالى في المحبة، كما قال: (فكيف بمن كان غير الله آثر عنده [منه] وأحب إليه وأخوف عنده، وهو في مرضاته أشدّ سعياً منه في مرضاة الله) تعالى، فهؤلاء أحب آلهتهم ومعبوداتهم أشد من محبة الله تعالى وأعلى من محبة الله تعالى، فجعلوا الله تعالى دونهم في المحبة ودونهم في الخوف ودونهم في الرجاء، فهؤلاء لا شك أنهم أعظم ذنبا وأكبر جرما، إذا كان المسوي بين الله وبين غيره قد بلغ في الظلم، كما قال الله تعالى فيه:﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)[سورة: لقمان، الآية (13).] ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)[البقرة:254]فكيف بمن جعل غير الله تعالى أعلى محبة وأكبر خشية وخوفا ورجاء، لا شك أنه أعظم شركا وكفرا، والعياذ بالله.

قال: (فعياذاً بالله من أن ينسلخ مشركاً فما الظن بهٰذا؟ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحية من قشرها) يعني انسلاخا سريعالطيفا، فإن انسلاخ الحية من قشرها يوصف بهـٰذابأنه انسلاخ سريع،وأنه انسلاخ سهل لا يدرك، وليس فيه عناء ومشقة، فالحية تنخلع من جلدها وقشرها أسرع ما يكون وأيسر ما يكون (وهو يظن أنه مسلم موحّد) انتبه هـٰذا الذي جعل غير الله في المحبة والخوف والرجاء والتعظيم أعلى من الله طمس الله بصيرته؛ فظن أنه بهـٰذا العمل أو مع هـٰذا العمل موحد لله تعالى فظن أنه موحد لله -جل وعلا-، وأنه داخل في زمرة أهل لا إلـٰه إلا الله، وهـٰذا لا شك أنه من أبعد ما يكون؛ لأن من وقع في هـٰذا فإنه على خطر كبير إذا كان جاهلا؛ لأن الجهل بهـٰذا الأمر جهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة وما يدركه كل أحد ممن يطالع القرآن ويقرؤه، يعلم أنه يجب عليه أن يعظم الله تعالى، وأن يحبه وأن يخافه وأن يرجوه أعظم من محبة غيره؛ لكن قوله -رحمه الله-: (وهو يظن أنه مسلم موحد) هل يدل هـٰذا على أن الشيخ -رحمه الله- يرى أن الإنسان يكفر من حيث لا يشعر.

 هـٰذه مسألة ذكرها بعض أهل العلم، وهي هل يكفر الإنسان وهو غافل عن الكفر فتترتب عليه الأحكام وهو لا يعلم أنه وقع في مكفر؟ الجواب الإجماع منعقد على أنه لا يخرج الإنسان من الإسلام ويدخل في الكفر إلا باختيار، والاختيار يقتضي العلم، ويقتضي الذكر، ويقتضي عدم الإكراه، كما أن الإنسان لا يدخل الإسلام إلا باختيار، فكذلك لا يخرج منه إلا باختيار معين، وذكره الله تعالى في قوله في رفع الصوت عند النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)[سورة: الحجرات، الآية (02).] هـٰذه الآية لا يصح الاستدلال بها على أن الإنسان قد يدخل في الكفر وهو لا يشعر؛ لأن قوله تعالى: ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)﴾ ليس فيها أنه يكفر وهو لا يشعر؛ لأن هـٰذه الآية كقوله تعالى: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)[سورة: النور، الآية (15).]هم يعرفون أن رفع الصوت عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والجهر له بالقول من العمل الذي يأثم صاحبه؛ لكنهم لم يدركوا أن ذلك قد يفضي بهم إلى حبوط العمل، وسقوط حكم الإسلام عنهم، فهـٰذه الآية لا تدل على هـٰذا المعنى؛ لأن الإجماع منعقد على أنه لا يكفر الإنسان وهو لا يعلم، كما أنه لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره، وقد حكى هـٰذا الاجتماع القرطبي -رحمه الله- في تفسيره، وذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر هـٰذا المعنى ولم ينص على الإجماع، ذكر هـٰذا المعنى وأنه لا يكفر الإنسان إلا بالعلم في مناقشته للبكري في الرد عليه، ودلائل هـٰذا واضحة منها ما رواه الإمام مسلم من طريق إسحاق بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر فرح توبة الله تعالى بالعبد، ثم قال في قصة قول الرجل -صاحب الراحلة- الذي وجدها: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح))[مسلم: كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، حديث رقم (2745، 2747).]فهـٰذا لم يؤاخذ بهـٰذا القول فاستدل شيخ الإسلام بهـٰذا الحديث على أنه لا يكفر الإنسان إلا وهو عالم، أما إذا كان الكفر صدر من الإنسان بسبب الاندهاش أو بسبب عدم العلم، أو بسبب مانع يمنع ترتب الكفر عليه كالإكراه مثلا، فإنه لا يؤاخذ بذلك، وما في الصحيح من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إن الرجل يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))[البخاري: كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، حديث رقم (6477). مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، حديث رقم (2988).]وفي رواية ((يهوي بها في جهنم))وفي رواية عند الترمذي ((يهوي بها في النار سبعين خريفا))،فهـٰذه كلها محمولة على أنه يعلم التحريم؛ لكنه لا يعلم ما سيؤول به الحال إذا تكلم بهـٰذه الكلمة.

ومعلوم أن الجهل بالعقوبة لا يسقط ترتّبها، الجهل بالعقوبة لا يسقط ترتّبها، وهـٰذه من القواعد المعروفة في الأحكام الشرعية، أن الجهل من ما يترتب على الحكم بعد العلم به لا يسقطه.

فقوله -رحمه الله-: (وهو يظن أنه مسلم موحد) لا يستفاد منه ما ذكرت من أنه يكفر ولو كان لا يعلم، فليس حجة للقول بعدم العذر بالجهل، وهـٰذه مسألة كبيرة ومهمة وخطيرة نحتاج إلى التنبيه عليها والوقوف عندها مرارًا وتكرارًا.

وقوله -رحمه الله-: (فعياذاً بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحية من قشرها) إشارة إلى ما كان عليه أهل العلم، ومن سلك مسلك السلف من الخوف على النفس، من أن ترتد عن الإسلام بعد دخولها فيه، وهـٰذا الأمر جاءت الإشارة إليه في مواضع عديدة من كلام الله وكلام رسوله، قال الله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[سورة: الأعراف، الآية (99).] وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- كما في الصحيحين من حديث أنس: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان))وذكر من هـٰذه الثلاث ((أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار))[البخاري: كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، حديث رقم (16).مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث رقم (43).]وقد سار سلف الأمة على هـٰذا المعنى، يقول عبد الرحمـٰن بن مهدي: نام عندي سفيان الثوري ليلة فأطال البكاء، فقيل له: ألذنوب تخشى؟ فرفع شيئا من الأرض، قال: إن ذنوبي أهون عندي من هـٰذه؛ ولكني أخشى أن أسلب الإيمان. فهـٰذا الشعور والوجل الذي كان عليه السلف ينبغي لطالب العلم ولأهل الإسلام أن يقوم في قلوبهم ليس عندنا ضمانة، ليس عند واحد منا ضمانة أن لا يرجع إلى سيئ الحال بعد حسنها، كيف وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الحديث المشهور المعروف: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة..))إلى آخر الحديث ثم قال: ((فو الذي لا إلـٰه  غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة)).[البخاري: كتاب القدر، باب في القدر، حديث رقم (6594).مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، حديث رقم (2643).] وفي رواية عند مسلم من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الزمن الطويل ثم يختم له بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار الزمن الطويل ثم يختم له بعمل أهل الجنة))مثل هـٰذا يوجب الخوف أشار ابن القيم -رحمه الله- في نونيته فقال:

والله ما خوفي الذنوب فإنها

 

لعلى سبيل العفو والغفران

لكنما أخشى انسلاخ القلب من

 

تحكيم هـٰذا الوحي والقرآن

ورضًا بآراء الرجال وخرسها

 

لا كان ذاك بمنة الرحمـٰن

 

هـٰذا الذي كان عليه السلف، وهـٰذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يحذّر منه، وأن يتنبه له في نفسه وأن ينبه الناس إليه، ليس عندنا ضمانة أن تنقلب قلوبنا أو أن نرجع إلى عمل رديء بعد أن نوفق إلى عمل صالح، وهـٰذا ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي كان يسأل الله -جل وعلا- فيقول:»اللهم مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك«

المراد يا إخواني أن مثل هـٰذه الإشارات في كلام أهل العلم، ينبغي أن لا تمر علينا مرورًا سهلا لا نقف عنه ونتدبر ما وراءها من المعاني الكبار التي فيها تربية وفيها تهذيب، وفيها تأكيد لمعاني نقرؤها في كلام الله تعالى ونقرؤها في سنة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فعياذاً بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحّد، فهٰذا أحد أنواع الشرك.)

ثم قال -رحمه الله-:

[المتن]

والأدلة الدّالة على أنه تعالى يجب أن يكون وحده هو المألوه تبطل هٰذا الشرك وتدحض حُجَج أهله، وهي أكثر من أن يحيط بها إلا الله تعالى.. بل كل ما خلقه الله تعالى فهو آية شاهدة بتوحيده، وكذلك كل ما أمر به، فَخَلْقُهُ وأمره وما فطر عليه عباده وركّبه فيهم من العقول شاهدٌ بأنه الله هو الذي لا إلـٰه إلا هو، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه الله هو الحقّ المبين تقدّس وتعالى.

 أم كيف يجحده الجاحد

 

وواعجبا كيف يُعصى الإله

وتسكينة أبدًا شــاهد

 

ولله في كل تحريكة

تدل على أنه واحــد[قال الشيخ علي حسن في تحقيقه: هٰذا لأني نواس كما قال ابن خلكان في وفياته (7/138). قلت: وقد نسبه السيد أحمد الهاشمي في كتابه جواهر الأدب لأبي العتاهية، وهو المشهور.]

 

وفي كل شيء له آيةٌ

 

 [الشرح]

 يقول المؤلف -رحمه الله-: (والأدلة الدّالة على أنه تعالى يجب أن يكون وحده هو المألوه تبطل هٰذا الشرك) الآن بعد أن ذكر المؤلف -رحمه الله- الشرك الواقع في الإلهية وهو صرف العبادة لغير الله تعالى: عبادة القلب وعبادة الجوارح وعبادة الأقوال، بيّن الآن بطلان هـٰذا النوع من الشرك وأنه لا يسوغ تسوية الله تعالى بغيره، فالله -جل وعلا- الذي به الحمد كله والذي له الحق في أن يُعبد وحده لا شريك له، إنما الله إلـٰه واحد، فالله -جل وعلا- إله واحد لا يعبد معه غيره.

يقول -رحمه الله-: (والأدلة الدّالة على أنه تعالى يجب أن يكون وحده هو المألوه) يعني المعبود (تبطل هـٰذا الشرك) يعني الشرك في الإلهية (وتدحض حجج أهله) وأعظم حجة يستمسك بها هؤلاء ما هي؟ الشفاعة، أعظم حجة يستمسك بها هؤلاء: الشفاعة، لذلك تقدمت الإشارة إلى هـٰذا في أول كلامه -رحمه الله-: (وهي أكثر من أن يحيط بها إلا الله تعالى)؛ لكنها جمل، الشبه كثيرة وتشتيت كثير؛ لكنه يندرج تحت جمل يمكن أن تصنف الشبه والتشكيكات ضمن هـٰذه المجموعات فيسهل عند ذلك إبطالها ودحضها.

قال -رحمه الله-: (بل كل ما خلقه الله تعالى فهو آية شاهدة بتوحيده) آية تدل على أنه واحد -جل وعلا-، والوحدانية هنا ليست في خلقه فحسب؛ بل هي في خلقه في إلهيته وفي أسمائه وصفاته -جل وعلا- (وكذلك كل ما أمر به) إذن الاستدلال على صدق ما جاء به النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ بل ما جاءت به الرسل من أنه يعبد وحده لا شريك له، هو بالخلق والأمر، بالآيات الكونية في الآفاق وفي الأنفس ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[سورة: فصلت، الآية (53).]وأيضا من الأدلة على صدق ما جاء به النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شرعُه الدال على كمال من تكلم به ومن أمر به -جل وعلا-، ولذلك لما طلب المشركون من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-آيات ماذا جاء الجواب من رب العالمين؟ ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ[ سورة: العنكبوت، الآية (50).]فجعل القرآن قاطعا لكل حجة وكافيا عن كل آية، كيف كان القرآن آية؟ كان آية بما تضمنه من عظيم التشريع والأسرار والحكم البالغة التي تعجز عن الإحاطة بها عقول البشر ولو اجتمعوا، فكلام الله تعالى لا تنتهي عجائبه ولا تنقضي أسراره، وهـٰذا لا يتبين إلا لمن أدام النظر في هـٰذا الكلام العظيم وفي هـٰذا الوحي المبين، فبقدر ما مع الإنسان من الإقبال على كلام الله -جل وعلا- وعلى سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقدر ما يتبين له صدق ما دعت إليه الرسل من الأدلة الشرعية نفسها، وهـٰذا ما أشار إليه -رحمه الله- في قوله: (فهو آية شاهدة بتوحيده) هـٰذا في الآيات الخلقية (وكذلك كل ما أمر به) فجميع ما أمر به آية شاهدة على كمال هـٰذه الشريعة (فَخَلْقُهُ وأمره وما فطر عليه عباده وركّبه فيهم من العقول شاهدٌ بأنه الله هو الذي لا إلـٰه إلا هو، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه الله هو الحقّ المبين) الحق ضد الباطل، و(المبين) يعني الذي استحقاقه وألوهيته واضحة بينة لا غبش فيها، لا تلتبس على أصحاب البصر، ولا تلتبس إلا على من انطمست بصيرته وأعمى الله تعالى قلبه.

يقول:

أم كيف يجحده الجاحد

 

وواعجبا كيف يُعصى الإله

 

وهـٰذا فعلا في غاية العجب أن يعصى الإله، وأن يجحده الجاحد.

وتسكينة أبدًا شــاهد

 

ولله في كل تحريكة

 

لكن من يشاهد هـٰذه الآيات الذين قال الله تعالى فيهم:  ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ[سورة: آل عمران، الآية (189).] هؤلاء هم الذينيشهدون آيات الله في كل تحريكة،وفي كل تسكينة، أما أولئك الذين يسيرون تشرق الشمس وتغرب ويأتي الليل ويعقبه النهار وتتوالى عليهم أنواع الدلائل المبصَرة ولا يعتبرون ولا يذكرون الرب المسير لهـٰذا الكون فإنهم لا ينتفعون من هـٰذه الآيات، كم من الناس يبصر الليل والنهار، كل بني آدم يبصرون الليل والنهار؛ لكن كم هم الذين يستفيدون من هـٰذا التعاقب، الله -جل وعلا- ما جعل السنين وتعاقبها آية؛ بل جعل ما هو أقرب من هـٰذا وهو الليل والنهار، قال جل وعلا: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً[سورة: الفرقان، الآيات (61-62).]يخلف هـٰذا هـٰذا، الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليللمن؟﴿لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[سورة: الفرقان، الآية (62).] فهـٰذه الآية القريبة التي لا يمر عليها إلا زمن يسير ويدركها الإنسان من يقف عندها ويتأمل آيات الله تعالى، ويعتبر في هـٰذا التعاقب الدال على عظيم وعلو شأن المدبر له سبحانه وبحمده؟

وتسكينة أبدًا شــاهد

 

ولله في كل تحريكة

تدل على أنه واحــد

 

وفي كل شيء له آيةٌ

 

هـٰذه الأبيات قيل: إنها للشافعي -رحمه الله-، وقيل: إنها لأبي العتاهية، وهي صالحة لهـٰذا وذاك وما فيها من لفت الأنظار إلى الاعتبار بالآيات والشواهد، معنى عظيم جليل دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة.

قال -رحمه الله-:

[المتن]

والنوع الثاني من الشرك: الشرك به تعالى في الربوبية كشرك من جعل معه خالقا آخر كالمجوس وغيرهم الذين يقولون بأن للعالم ربَّين، أحدهما خالق الخير، ويقولون له بلسان الفارسية: ((يزدان)). والآخر خالق الشر ويقولون له المجوس بلسانهم: ((أهرمن)).

[الشرح]

يقول المؤلف -رحمه الله-: (والنوع الثاني من الشرك) تقدّم النوع الأول وهو الشرك في أي شيء؟ في الإلهية، وهو الشرك الشائع المنتشر في الناس ممن وقع في الشرك، النوع الثاني من الشرك هو الشرك في الربوبية وهـٰذا الشرك قليل في بني آدم.

يقول -رحمه الله-: (الشرك به تعالى في الربوبية) يعني في خلقه وفي رزقه وفي تدبيره وفي ملكه -جل وعلا-، فمن أثبت خالقا غير الله فقد أشرك في الربوبية، من أثبت رازقا غير الله فقد وقع في الشرك، من أثبت مدبرا غير الله فقد وقع في الشرك، من أثبت مالكا غير الله تعالى فقد وقع في الشرك؛ يعني يمكن أن نقول: تعريف الشرك في الربوبية هو إثبات فاعل مستقل. وبهـٰذا عرفه شيخ الإسلام -رحمه الله- في بعض كلامه أن الشرك في الربوبية هو إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى، وهـٰذا تعريف جيد يشمل المعاني الأربعة كلها يشمل الخلق والرزق والملك والتدبير.

والشيخ -رحمه الله- لمح في تعريفه بالشرك الذي وقع في الربوبية فإن الذين وقع عندهم الشرك في الربوبية حقيقة قولهم أنهم أثبتوا فاعلا مع الله تعالى مستقلا عن فعل الله تعالى ليس تابعا له، ولذلك قال في تعريفه: إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى.

يقول -رحمه الله-: (كشرك من جعل معه خالقا آخر كالمجوس) المؤلف -رحمه الله- ذكر أصنافا ممن وقعوا في شرك الربوبية، ونحن عرفنا أن الشرك في الربوبية هو أن يثبت مع الله خالقا، أو يثبِت معه رازقا أو مالكا أو مدبرا، ننظر في المثال الذي ذكر، وهو أول الأمثلة، وذكر أول الأمثلة: المجوس؛ لأنهم أقدم الطوائف شركا في الربوبية.

المؤلف سنلاحظ أنه لم يذكر النمرود، ولم يذكر فرعون مع أنهم ممن أشرك في الربوبية، فلم يحفظ في الدنيا كلها أن أحدا قال: أنا ربكم الأعلى. سوى من ؟ فرعون كما ذكر الله تعالى عنه في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[سورة: النازعات، الآية (26).] ومع ذلك لم يذكر المؤلف -رحمه الله- بالنص في من أشرك في الربوبية، السبب أن فرعون والنمرود شركهم في ألسنتهم، وأما في قلوبهم فهم مقرون بأن الله رب كل شيء، وأنه خالق كل شيء، ولذلك فرعون ماذا قال لما جد الجد ووقعت عليه العقوبة وعاين قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين.

لم يكتف فقط بالإحالة على بني إسرائيل بل أقر بالإسلام وقد ذكر تعالى تكذيبهم مع إيقانهم بصدق ما جاء به موسى فقال الله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا[سورة: النمل، الآية (14).]

فعدم ذكر المؤلف -رحمه الله- لفرعون والنمرود ومن شابههم ولم يحفظ عن غيرهم ادعاء الربوبية، إنما ذلك لكون هؤلاء كذبوا بألسنهم، وقلوبهم مقرة بأن الله خالق كل شيء وأنه رب العالمين.

ذكر المجوس قال: (وغيرهم) والمجوس طائفة ممن أشرك في الربوبية وجه شركهم في الربوبية بينه المؤلف -رحمه الله- فقال: (الذين يقولون بأن للعالم ربَّين) يعني خالقين (أحدهما خالق الخير... والآخر خالق الشر) الأول يسمونه إلـٰه النور، والآخر يسمونه إلـٰه الظلمة؛ لكن سؤال هل هؤلاء جعلوا هذين الإلهين في منزلة واحدة؟ الجواب: لا، وهـٰذا تقدم ذكره وأنه لم يأت أحد فيما يتعلق بشرك الربوبية جعل مع الله ربا مماثلا له؛ بل كل من أشرك في الربوبية فيجعل من أثبت له فعلا مستقلا يجعله في منزلة دون منزلة الله تعالى، ولذلك هؤلاء الذين قالوا بأن للعالم إلهين؛ إله نور وإله ظلمة، إله خير وإله شر، يجعلون إله الشر تابعا لإله الخير، ويحبون إله الخير، ويكرهون إله الشر.

إذن هـٰذا المثال الأول الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- وهو المجوس وهم أبرز من قال بأن للعالم ربين؛ لكنهم لم يقولوا بأنهما ربان متكافئان متماثلان؛ بل بينهما من الفروق ما هو معلوم في قولهم.

المثال الثاني الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- لمن أشرك في الربوبية هم الفلاسفة، والفلاسفة هم من يتبع الحكمة، فإن كلمة (فلسفة) مأخوذة من الحكمة فقولهم الفلاسفة يعني الحكماء، وهم في الحقيقة سفهاء وليسوا حكماء، ولكنهم سموا أنفسهم بهـٰذا الاسم، والعبرة بالمعاني لا بالأسماء.

[المتن]

وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون بأنه لم يصدر عنه إلا واحد بسيط، وأن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس، وأن مصدر هٰذا العالم عن العقل الفعّال، فهو رب كل ما تحته ومدبِّره.

وهٰذا شر من شرك عباد الأصنام والمجوس والنصارى، وهو أخبث شرك في العالم، إذ يتضمّن من التعطيل وجحد إلهيته سبحانه ورّبوبيته واستناد الخلق إلى غيره سُبْحَانَهُ مالم يتضمّنه شرك أمة من الأمم.

 [الشرح]

 تقدّم في القراءة السابقة تعريف شرك الربوبية، وذكرنا أن الشرك في الربوبية يدور على إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى، وذكر المؤلف -رحمه الله- لذلك سورة فقال: (كالمجوس وغيرهم الذين يقولون بأن للعالم ربين خالق الخير.. وخالق الشر) وبينا شيئا مما يتعلق بهـٰذا الاعتقاد، وأنهم لا يجعلونهما على درجة سواء؛ بل عندهم أن إلـٰه الخير خير من إلـٰه الشر، وأن إلـٰه الشر منبثق أو له نوع تبعية لإله الخير.

ثم قال في ثاني صور الشرك في الربوبية قال: (وكالفلاسفة) والفلاسفة لفظ معرّب أو لفظ أجنبي عن العربية، فهو لفظ يوناني ومعناه محبة الحكمة، معنى كلمة الفلسفة محبة الحكمة، فالكلمة في الأصل (فيلا سوفا)؛ (فيلا) محبة و(سوفا) هي الحكمة فحيثما دارت هـٰذه الكلمة واشتقاقا وتصريفا فالمراد بها إيش؟ محبة الحكمة.

فقوله: (كالفلاسفة ومن تبعهم) هؤلاء قوم فلاسفة اليونان، قوم كان عندهم نظر في الأمور العقلية والاعتناء بالحكم وما إلى ذلك؛ لكن لم يكن لهم نور من النبوة، ولذلك كانوا يتخبطون فيما يقولون، ويأتون بالغرائب، من جملة هـٰذا أن منهم من اخترع آلهة يعبدها دون الله.

يقول: (وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون بأنه لم يصدر عنه إلا واحد بسيط)؛ (لم يصدر عنه) يعني عن الإله، عن الله (إلا واحد بسيط) ومعنى قولهم (واحد بسيط) أنه غير مركب من الجواهر المنفردة أو الجواهر المفردة، هـٰذا معنى قولهم: (بسيط) أنه لا يتركب من جواهر مفردة أو منفردة والجواهر المفردة؛ هم يقولون الأجسام تتكون من جواهر مفردة، تتكون من أمور هـٰذه المكونات كلما قسمتها انقسمت إلى أن تصل إلى ما لا يقبل القسمة، هكذا تصورهم في صفة المخلوقات وصفة الأشياء فيقولون: أنه لم يصدر عنه أي عن الله إلا واحد بسيط، ثم يقول: (وأن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس) فسموا عندهم ما يصدر عن هـٰذا الواحد البسيط عقول ونفوس، هـٰذه العقول وهـٰذه النفوس يسمونها الأرباب الصغرى أو الآلهة الصغرى، والعقول عشرة والنفوس تسعة، العقول عشرة والنفوس عند الفلاسفة تسعة. يقول: (وأن مصدر هـٰذا العالم عن العقل الفعال، وهو العقل الأول، وهو رب كل ما تحته) سوى الله، ثم يأتي العقل الثاني، ويقول هـٰذا العقل رب كل ما تحته سوى العقل الفعال.. وهلم جرّا إلى أن يصل إلى العقل العاشر وهو رب ما تحت السماء الدنيا، هكذا زعموا وهكذا قالوا، فهم جعلوا آلهة متعددة وأربابا متعددة دون الله تعالى، هـٰذا قول الفلاسفة.

ولقائل أن يقول: كيف حدوها بعشرة وكيف توصلوا إلى تسعة، هكذا الضلال، التحديد هـٰذا ليس تحته طائل؛ لأنه مبني على باطل﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ[سورة: الكهف، الآية (110).] ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[سورة: الإخلاص، الآية (01).] فهؤلاء لما ضلّوا اخترعوا ما اخترعوا، وجاءوا بهـٰذا الكلام الذي ليس له خطام ولا زمام ولا له برهان ولا دليل.

يقول -رحمه الله-: (وأن مصدر هٰذا العالم عن العقل الفعّال) العقل الفعال هو العقل رقم كم؟ العقل الأول، (فهو رب كل ما تحته ومدبره) يقول: (وهـٰذا شر من شرك عباد الأصنام والمجوس والنصارى) يقول في بيان وجه أنهم شر من شرك عباد الأصنام والمجوس والنصارى يقول: (وهو أخبث شرك في العالم، إذ يتضمّن من التعطيل وجحد إلهيته سبحانه ورّبوبيته واستناد الخلق إلى غيره سُبْحَانَهُ مالم يتضمّنه شرك أمة من الأمم.) فهو أعظم أنواع الشرك شركا حيث إنه تعطيل لربوبية الله تعالى وجحد لإلهيته حيث إنهم قالوا: إنهم قالوا: إنه لم يصدر عنه إلا واحد بسيط، ثم هـٰذا الواحد هو الذي كان عنه هـٰذا الخلق وهـٰذه النفوس وهـٰذه العقول وهـٰذا الخلق الكثير، أما هو فإنه لم يخلق ذلك، وليس إلها له، وحتى لو وصفوا بأنه رب لها وأنه إله لها، لا يصفون ذلك بالصفة التي تقتضيها هـٰذه الكلمة من أنه خالق كل شيء ومالكه ومدبره وإلهه، وهـٰذا من أخبث الضلال وأعظم الشرك بالله تعالى.

يقول -رحمه الله تعالى- بعد هـٰذا الشرك النوع الثالث من أنواع الشرك في الربوبية:

[المتن]

وشرك القدرية مختصر من هٰذا، وباب يُدخل منه إليه، ولهٰذا شبّههم الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بالمجوس، كما ثبتَ عن ابن عمر وابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وقد روى أهل السنن فيهم ذلك مرفوعا[سنن أبي داوود: كتاب لسنة، باب في القدر، حديث رقم  (4691)، قال الشيخ الألباني: حسن، جوّد إسناده في السلسلة الصحيحة تحت رقم (2748).]أنهم مجوس هٰذه الأمة.

[الشرح]

 شرك القدرية هـٰذا هو ثالث الأنواع أو ثالث الأمثلة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- في شرك الربوبية، يقول شرك القدرية أي: الشرك الذي وقعت فيه القدرية، والقدرية فرقة منسوبة إلى القدر، فالقدرية فرقة منسوبة إلى القدر، وسبب نسبتها إلى القدر أنها ضلت في ما يتعلق بأقدار الله تعالى، فجعلت قدرة الله تعالى قاصرة، ولم يؤمنوا بأن الله على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد؛ بل قالوا: إنه ليس على كل شيء قدير، فبخسوا القدرة حقها وشمولها، فأخرجوا عنها أفعال الحيوان من الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان، فإنها ليست خلقا لله تعالى، فمعصية العاصين وطاعة الطائعين ليست خلقا لله تعالى.

يقول المؤلف: (وشرك القدرية) الذي وجهه أنهم أثبتوا خالقا غير الله تعالى، فالعبد يخلق فعل نفسه، الحيوان يخلق فعل نفسه، ليس خلقا لله، طاعتنا حضورنا لمجلس الذكر ليس من خلق الله، إنما من خلقنا وفعلنا الذي لا ينسب إلى الله تعالى، معصية العاصين كذلك ليست خلقا لله تعالى؛ إنما هي خلق لأربابها الذين فعلوها، هـٰذا معنى قوله -رحمه الله-: (وشرك القدرية) وجهه أنهم أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله تعالى، فأثبتوا فاعلا مستقلا غير الله تعالى (وشرك القدرية مختصر من هـٰذا) يعني مأخوذ من هـٰذا، ولماذا جعل شرك القدرية مختصرا من شرك الفلاسفة مع أنه أشبه بشرك المجوس؟ أن المجوس قالوا: إن للعالم إلهين ربين، خالق الخير وخالق الشر، وأما الفلاسفة فتعددت عندهم الآلهة فهي عشرة العقول عشرة والنفوس التسعة وهؤلاء شابههم في التعدد، فإن كل مخلوق يخلق فعل نفسه، إذن الآلهة والأرباب الذين يخلقون كثر وليسوا ربا واحدا ولا عشرة أرباب كما تقول الفلاسفة، إنما هم كثر فكل مخلوق يخلق فعل نفسه وما يصدر عنه، هو رب ما يجري من أعماله. هـٰذا وجه نسبة المؤلف -رحمه الله- هـٰذا الشرك إلى شرك الفلاسفة قال: (وشرك القدرية مختصر من هٰذا)، ويمكن أن يقال إن شرك القدرية مختصر من هـٰذا يعني من هـٰذه الأنواع المتقدمة، فيشمل شرك المجوس وشرك الفلاسفة، شرك المجوس في إثبات خالقين خالق للخير وخالق الشر، وشرك الفلاسفة في إثبات خالقين متعددين.

يقول -رحمه الله-: (وباب يُدخل منه إليه، ولهٰذا شبّههم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بالمجوس) الذين أثبتوا خالقين غير الله تعالى (كما ثبت عن ابن عمر وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-)، فإنه قد جاء عن ابن عمر وابن عباس وصفهم بأنهم مجوس، وقد صح هـٰذا عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وجاء في ذلك أحاديث يقول المؤلف: (وقد روى أهل السنن فيهم ذلك مرفوعا أنهم مجوس هـٰذه الأمة) أي أن القدرية هم مجوس هـٰذه الأمة جاء في ذلك أحاديث عديدة ذكرنا شيئا من الكلام عليها فيما تقدم، جاء ذلك من طريق ابن عمر ومن طريق حذيفة ومن طريق عبد الله بن عمرو ومن طريق جابر ومن طريق جماعة من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-.

أمثل ما جاء هو ما رواه الترمذي من طريق حيوة بن شريح عن أبي صخر عن نافع عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قال: ((يكون في هـٰذه الأمة خسف ومسخ أو قذف في أهل القدر))[سنن الترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، حديث رقم (2212)، قال الترمذي: هـٰذا حديث غريب، قال الشيخ الألباني: حسن.] وهـٰذا يدل على ذمهم وأنهم أهل لعقوبة الله تعالى، وأهل القدر هم الذين كذبوا فيه أو كذبوا به وولجوا فيه بالباطل.

فهـٰذا ثالث صور الشرك في الربوبية التي ذكرها المؤلف -رحمه الله-.

وذكرت لكم في ما تقدم أن المؤلف لم يذكر شرك فرعون ألم يقل فرعون ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[سورة: النازعات، الآية (26).] ولم يذكر شرك النمرود الذي قال: ﴿أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ[سورة: البقرة، الآية (258).] وهـٰذا منازعة لله تعالى في ربوبيته، فلماذا لم يذكرهما؟ أي نعم لأن شرك هؤلاء كان في اللفظ، شرك في اللسان وليس له حقيقة في قلوبهم، وأما هؤلاء فعندهم من الشرك في الاعتقاد ما هو بيّن وواضح، ولذلك ذكرهم على وجه النص.

ويمكن أن يقال: إن المؤلف إنما ذكر الجماعات والأمم والطوائف، ولم يذكر الأفراد ولذلك لم يذكر فرعون والنمرود في جملة من مثّل بهم في شرك الربوبية.

الطوائف الثلاث كلها الجامع بينها ماذا؟ شرك الربوبية من حيث إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى، هـٰذا الضابط الذي ذكرناه في أول الكلام عن شرك الربوبية قلنا: هو إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى.

[المتن]

وكثيرا ما يجتمع الشِّركان في العبد، وينفرد أحدهما عن الآخر.

[الشرح]

هـٰذه فائدة مهمة، وهي تبين أن كل من وقع في نوع من الشرك فلا بد أن يقع في الشرك الآخر؛ لأن تكميل الربوبية يفضي إلى تكميل الإلهية، وكمال الألوهية كمال توحيد الألوهية يستلزم أن يكون العبد مكملا في الربوبية.

يقول: (وكثيرا ما يجتمع الشركان في العبد وينفرد أحدهما عن الآخر) أي في الصورة، وإلا في الواقع أنه لا بد أن يكون هناك قصور في توحيد الإلهية، إذا كان هناك شرك في الربوبية، أو قصور في توحيد الربوبية إذا كان هناك قصور في توحيد الإلهية إذا كان عنده شرك في الربوبية.

إذن مقتضى تلازم هـٰذان النوعان أنه إذا حصل قصور في توحيد الإلهية فذلك يدل على أن توحيد الربوبية غير كامل، ولو كان مكملا لتوحيد الربوبية فإنه يستلزم كمال توحيد الإلهية، فالذين بعث فيهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مشركون في أي نوع من أنواع الشرك؟ في الإلهية، هل عندهم شرك في الربوبية ؟ الجواب: نعم، عندهم شرك في الربوبية؛ لكنه ليس في ظهوره ووضوحه وخطورته وجلائه كالشرك في توحيد الإلهية، ولذلك كان يحتج عليهم بما يقرون به في توحيد الربوبية لإثبات توحيد الإلهية، كما جرى ذلك في آيات كثيرة، وبيّنا هـٰذا فيما تقدم من استدلال القرآن بتوحيد الربوبية لإثبات الإلهية.

واضح لا يحتاج إلى إعادة نعم.

الآن المؤلف -رحمه الله- في المقطع القادم يبدأ بتفصيل في أنواع التوحيد يقول -رحمه الله-:

[المتن]

 والقرآن الكريم بل الكتب المنزلة من عند الله تعالى كلها مصرحة بالرد على أهل هـٰذا الإشراك، كقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[سورة: الفاتحة، الآية (05).] فإنه ينفي شرك المحبة والإلهية، وقوله: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[ سورة: الفاتحة، الآية (05).]فإنّه ينفي شرك الخلق والربوبية، فتضمنت هـٰذه الآية تجريد التّوحيد لرب العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال، ولا في الألفاظ، ولا في الإرادات.

[الشرح]

يقول -رحمه الله-: (والقرآن الكريم بل الكتب المنزلة من عند الله تعالى كلها مصرحة بالرد على أهل هـٰذا الإشراك) إشراك في الربوبية، والإشراك في الإلهية (كقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[سورة: الفاتحة، الآية (05).] فإنه ينفي شرك المحبة والإلهية) لأن الله -جل وعلا- ذكر في هـٰذه الآية عبادته على وجه الحصر والقصر، تقدم ما حقه التأخير، وذلك في تقديم المعمول في قوله: ﴿إِيَّاكَ، فإن حقه أن يتأخّر: نعبد إياك؛ لكن لما قَدَّم ما حقه التأخير أفاد ذلك الحصر، وأنه لا يعبد غيره -جل وعلا-، والعبادة تدور على معنى المحبة وسائر ما يكون من الأعمال العبادية هي منبثقة من المحبة، ولذلك قال: (كقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[سورة: الفاتحة، الآية (05).]فإنه ينفي شرك المحبة والإلهية) يعني الشرك في العبادة بأن يعبد غيره -جل وعلا- في قول أو فعل أو اعتقاد قال: (وقوله: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[سورة: الفاتحة، الآية (05).])أيضا هـٰذا فيه تقرير توحيد الربوبية، (فإنّه ينفي شرك الخلق والربوبية) لأنه لا يستعان إلا بمن يملك الخلق، بمن يملك الإيجاد، بمن يملك تحقيق ما يستعان فيه -جل وعلا-، فقوله تعالى: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُفإنه ينفي شرك الخلق والربوبية، وبهـٰذا تكون هـٰذه الآية على اختصارها قد جمعت هذين النوعين من أنواع التوحيد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.

وقد فصّل في معنى هـٰذه الآية وبين ذلك بيانا واضحا ابن القيم -رحمه الله- في كتاب مدارج السالكين، فتكلم في أول الرسالة عن بيان ما تفيده هـٰذه الآية من مقامات التوحيد لله تعالى بيانًا جيدًا، مراجعته مفيدة، وفيها خير كثير.

يقول -رحمه الله- (فتضمنت هـٰذه الآية تجريد التّوحيد) المؤلف ذكر الآن القرآن ولم يذكر غيره من الكتب، لماذا؟ لأن القرآن مهيمن عليها؛ لأن القرآن مهيمن على كل كتاب، ففاتحة الكتاب التي فيها تقرير لهذين النوعين من التوحيد تكفي في إثبات أن كل كتاب جاء مقررًا هـٰذا الأمر، وهو وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، ووجوب إفراده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالربوبية، والآيات في هـٰذا كثيرة، لكن هـٰذا منها، أما الأحاديث فقد تقدم معنا ما رواه البخاري ومسلم من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((الأنبياء إخوة لعلات))وفي بعض الأحاديث ((أولاد لعلات))وفي بعض الروايات((أبناء لعلات أمهاتهم شتى))أي: متفرقة((ودينهم واحد))،[البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: ﴿واذكر في الكتاب مريم﴾[مريم:16]، برقم: (3443). مسلم: كتاب الفضائل، باب فضائل عيسىٰ عليه السلام، برقم: (2365).] والمقصود بـ((دينهم))هو ما فرض الله تعالى على العباد من عبادته وحده لا شريك له.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94004 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف