×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / تجريد التوحيد المفيد / الدرس (6) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:441

الدرس (6) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي

يقول -رحمه الله-بعد هـٰذا: (فتضمنت هـٰذه الآية تجريد التّوحيد لرب العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال، ولا في الألفاظ، ولا في الإرادات.) الآن المؤلف -رحمه الله- ذكر ما تفيده هـٰذه الآية في ما يتعلّق بتوحيد الإلهية، الذي يدور هـٰذا الكتاب على تقريره وتوضيحه، هـٰذا الكتاب تجريد التوحيد المفيد، ومعنى المفيد قلنا ماذا؟ في أول الدراسة المفيد النجاة من الشرك في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة، فإنه لا يكون التوحيد مفيدا إلا إذا أثمر هاتين الثمرتين: السلامة من الشرك في الدنيا، والسلامة من النار في الآخرة، ولا يمكن أن يتحقق لعبد هـٰذا الأمر إلا بماذا يا إخواني ؟ إلا بتحقيق توحيد الإلهية توحيد العبادة.

يقول -رحمه الله-: (فتضمنت هـٰذه الآية تجريد التوحيد) أي: تصفيته وتنقيته من الشوائب والعوالق (لرب العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات) فُهم من هـٰذا أن الشرك يقع في الأفعال، والشرك يقع في الإرادات، والشرك يقع في الأقوال والألفاظ.

فالشرك يقع في الألفاظ مثاله أن يدعى غير الله تعالى بأن يقول الإنسان في مخاطبة المقبور: يا فلان اغفر لي ارحمني انصرني، هـٰذا خطاب لا يجوز إلا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإذا وجهه العبد لأصحاب القبور، فقد أشرك، وهـٰذا الاتفاق أمة الإسلام لا خلاف بينهم في هـٰذا، أنه لا يجوز بأن يخاطب المقبورون بما يخاطب به رب العالمين، هـٰذا شرك في الألفاظ.

الشرك في العمل بأن يذبح لغير الله تعالى أو يسجد لغير الله تعالى، وسيذكر المؤلف -رحمه الله- نماذج وأمثلة لكل نوع من أنواع الشرك، إنما نريد التوضيح قبل أن نقرأ كلام المؤلف.

الشرك في الاعتقادات كمحبة غير الله تعالى، محبة لا تليق إلا بالله، وخوف غير الله تعالى خوفا لا يليق إلا بالله، وما إلى ذلك من أنواع الأعمال القلبية.

إذن قوله -رحمه الله-: (لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات)، المقصود بذلك الأفعال والألفاظ والإرادات العبادية التي يُقْصَد بها؛ لأن شرك الإلهية هو تسوية الله تعالى بغيره في عبادته بأن يصرف شيء من العبادة لغير الله تعالى، فكل عبادة قولية أو فعلية أو قلبية لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، ومن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك، بعد هـٰذا انتقل المؤلف -رحمه الله- على ذكر الأمثلة فبدأ بالأفعال فقال:

[المتن]

 فالشرك به في الأفعال كالسّجود لغيره سُبْحَانَهُ، والطواف بغير بيته المحرّم، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه تعالى في الأرض[فيه نظر إذ ورد هٰذا بحديث لا يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رواه ابن عدي (1/336) والخطيب (6/328)، وفي سنده الكاهلي وهو وضاع، وقد فصّل الشيخ الألباني الكلام على هٰذا الحديث في كتابه المفيد سلسلة الأحاديث الضعيفة (رقم 223).]أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها.

وقد لعن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ  سَلَّمَ- من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله فيها.. فكيف من اتخذ القبور أوثانا تُعبد من دون الله؟ فهٰذا لم يعلم معنى قول الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[سورة: الفاتحة، الآية (05).]

[الشرح]

المؤلف -رحمه الله- بدأ بذكر صور من صور الشرك في الأفعال، وحتى نكون في الصورة لا بد أن نعرف معنى الشرك، وتقدم هـٰذا مرارًا؛ الشرك الذي يتكلم عنه المؤلف -رحمه الله- هنا هو الشرك في العبادة، في الإلهية، والشرك في العبادة هي تسوية غير الله تعالى بالله في ما يجب له، تسوية غير الله تعالى به فيما يجب له، هـٰذا تعريفه، ويمكن أن يقال صرف العبادة لغير الله صرف العبادة لغير الله هي شرك الإلهية سواءً كانت العبادة قولية أو العبادة فعلية أو العبادة قلبية كله يدخل في الشرك الذي نهت عنه الرسل.

يقول المؤلف -رحمه الله-: (فالشرك به) أي الشرك بالله تعالى (في الأفعال كالسّجود لغيره سُبْحَانَهُ) هـٰذا مثال، وذكر السجود لغيره؛ لأن السجود من العبادات التي يظهر بها كمال الخضوع والذل لله تعالى، فالسجود اسم جنس وهو دال على كمال الخضوع لله -جل وعلا-، وكمال الذل له -جل وعلا-، وهـٰذا لا يكون عبادة إلا لله تعالى؛ لكن سؤال: هل لا يكون السجود إلا عبادة؟

السجود ينقسم إلى قسمين:

سجود عبادة، وهـٰذا لا يكون إلا لله -جل وعلا-، وهو الذي أمر به أهل الإسلام وأمر به غيرهم على وجه العموم.

والقسم الثاني من السجود سجود تحية، وهـٰذا الذي كان في الأمم السابقة، كما قص الله تعالى عن إخوة يوسف قال جل وعلا: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا[سورة: يوسف، الآية (100).]وكأن الذي كان منتشرا في بني إسرائيل، وكقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لو كنت آمرا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه))[سنن الترمذي: كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، حديث رقم (1159).سنن ابن ماجه: كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، حديث رقم (1853).قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.] وهـٰذا الحديث جاء من طرق عديدة، في أفراد هـٰذه الطرق ضعف؛ لكن له مجموعة طرق يدل على ثبوته، فهـٰذا الحديث يفيد أن ليس السجود في كل موارده عبادة؛ لأنه لو كان عبادة لما جوّز النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر المرأة بالسجود؛ لكن جعل المانع هو أن السجود حق لله تعالى، فلا ينبغي أن يمثل به غيره على وجه التعظيم الذي لا يكون إلا لله تعالى.

فالسجود يكون عبادة، ويكون تحية.

السجود الذي يكون عبادة لا يجوز صرفه إلا لله تعالى، السجود الذي يكون تحية نهت عنه، هـٰذه الشريعة فإنه لا يجوز تحية أحد بالسجود له وذلك من كبائر الإثم وعظائمه.

فقوله -رحمه الله-: (كالسجود لغيره سبحانه) هـٰذا محل اتفاق، سواء إن كان السجود للتعبد وهـٰذا لا إشكال في أنه شرك وكفر أو كان السجود تحية وتعظيما، فإن الاتفاق منعقد على أنه لا يجوز السجود لغير الله تعالى، ولا فرق في هـٰذا بين السجود للحي والسجود للميت؛ لأنه من الناس الآن من يسجد للقبور تعظيما لأصحابها وتحية لأصحابها، يقول: نحن لا نسجد عبادة لهم وإنما تعظيما، فنقول: هـٰذا لا يجوز وهـٰذا من الشرك؛ إما الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وإما أن يكون من وسائله إذا كان يجهل أنه لا يجوز أن يحيى أحد بهـٰذا؛ لأنه قد يقول: أنا أتعبد لله تعالى  بتعظيم هـٰذا، ولا أعظم هـٰذا، لا أتعبد للمقبور.

المقصود أن السجود لغير الله تعالى من الأفعال الشركية:

قد يكون شركا أكبر، وهـٰذا هو الأصل لأنه عبادة لا يجوز صرفها إلا الله تعالى.

وقد يكون شركا أصغر فيما تعبد أحد لله تعالى بالسجود لغيره، فإن هـٰذا لا يجوز وهـٰذا من الجهل الذي يجب أن ينبه عليه الساجد لغير الله تعالى.

قال: (والطواف بغير البيت المحرم) وهـٰذا أيضا محل اتفاق بين أهل العلم أنه لا يجوز الطواف بغير البيت الحرام، فإن الله تعالى لم يأمر بالطواف بغيره، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾،[ سورة: الحج، الآية (28).] فلم يأمر الله -جل وعلا- ولم يشرع طواف غير الطواف بالبيت العتيق البيت المحرم؛ أي المعظم الذي حرمه الله تعالى وعظمه. فالطواف بغيره هو فص تشبيه له بهـٰذا البيت الذي أمر الله تعالى بتعظيمه بالطواف حوله عبادة لله تعالى وتعظيما له -جل وعلا-.

فالطواف بالقبور هو من الشرك إذا كان ذلك تعظيما للمقبورين، وهو من عظائم الأمور والبدع المنكرة إذا كان ذلك عبادة لله، فمن طاف على مسجد، مثلا جاء إنسان وقال: أطوف على هـٰذا المسجد، نقول: هـٰذا منكر وبدعة ولا يجوز؛ لأنه لم يشرع الطواف إلا للبيت الحرام.

وقد قال النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه بخاري ومسلم  من حديث القاسم بن محمد عن عائشة: ((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد))[البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم 2697.مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم 1718.] فلا يجوز الطواف بغير البيت الحرام؛ لكن فرق بين الطائف تعظيما للمقبور وعبادة له، وبين الطائف تعظيما لله تعالى بغير ما أمر، إذا طاف بشيء تعظيما لله وعبادة لله، نقول: هـٰذا شرك أو بدعة؟ هو بدعة وقد يكون من وسائل الشرك؛ لكن إذا طاف تعظيما للمطوف عليه وتقربا إليه فهـٰذا شرك؛ لأنه صرف العبادة لغير الله تعالى.

قال -رحمه الله-: (وحلق الرأس عبودية) أي من حلق الرأس عبودية من الشرك، (وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره) الدليل أن الله تعالى أمر بالحلق، وجعله من وسائل التقرب إليه، فقال تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ[سورة: الفتح، الآية (26).] فجعل الحِلاق والتقصير من سمات المتقرب إليه بدخول هـٰذا البيت، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((رحم الله المحلقين، رحم الله المحلقين، رحم الله المحلقين))[البخاري: كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإخلال، حديث رقم (1727).مسلم: كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، حديث رقم (1301)..]فالحلاقة عبادة ونهي عن الحلاق وقت الإحرام فقال: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[سورة: البقرة، الآية (196).] فكل هـٰذا يدل على أن الحلاق عبادة، يذلّ بها الحالق لله -جل وعلا-، فإذا حلق رأسه تعظيما لشيخه تعظيما للمقبور كما يفعله بعض المنحرفين، فإنه يكون بهـٰذا قد وقع في الشرك؛ لأنه صرف عبادة لا تكون إلا لله تعالى؛ لكن لو حلق رأسه تبردا ودفعا لأذى القمل أو ما إلى ذلك من الأسباب، أو أنه يفرض على أصحاب هـٰذا العمل أن تكون رؤوسهم خفيفة، شعورهم خفيفة، فهـٰذا لا بأس به؛ لأن المنهي عنه هو حلق الرأس عبودية وخضوعا لغير الله تعالى.

قال: (وتقبيل الأحجار) التقبيل هو وضع الشفة على المقبل، على الحجر، (وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه تعالى في الأرض) وهـٰذا جعله المؤلف -رحمه الله- من الشرك، وذلك إذا كان هـٰذا التقبيل تعظيمًا للحجر وطلبا للخير منه، أما إذا كان التقبيل لظن أنه يشرع تقبيله، فإن هـٰذا ليس من الشرك لكنه من البدع، والذي يدل على النهي من تقبيل الأحجار ما في الصحيحين من طرق عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال لما أتى الحجر الأسود: إني لا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلك ما قبلتك. فهـٰذا يدل على أنه لا يجوز تقبيل غير الحجر الأسود، وأن الأصل في التقبيل المنع، فإن عمر رضي الله عنه قال: لولا أني رأيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلك ما قبلتك. فيدل هـٰذا على مانع تقبيل غير الحجر الأسود، وهـٰذا قوله -رحمه الله- معنى قوله: (وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه تعالى في الأرض) والسبب في منع تقبيل غير الحجر الأسود أنّ التقبيل والاستلام ونحوهما تعظيم، والتعظيم خاص بالله تعالى، فلا يجوز إلا فيما أذن فيه؛ يعني لا يجوز تعظيم إلا ما عظمه الله تعالى ورسوله، تقبيل سائر البيت، هـٰذا ما وقع فيه خلاف بين أهل العلم، فإن من أهل العلم من يري جواز تقبيل سائر البيت، ومن ذلك ما جاء عن الشافعي -رحمه الله- في الأم حيث قال: وأي البيت قبَّل فحسن. يعني أي جهة من البيت قبَّل فحسن، غير أنا إنما نأمر بالاتباع؛ يعني لا نأمر إلا بما أمر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشرع، وهـٰذا يدل على أنه يرى أن تقبيل غير الحجر الأسود مباح؛ لكنه يرى أن السنة الاقتصار على ما كان النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-من تقبيل الحجر الأسود.

وقول المؤلف -رحمه الله-: (الذي هو يمينه تعالى في الأرض) هـٰذا يشير إلى ما جاء عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنه قد روي  عن ابن عباس، جاء مرفوعا موقوفا؛ لكنه لم يثبت عن أن الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض، وهـٰذا الحديث كما ذكرت لا يصح مرفوعا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن في سنده إسحاق بن بشر الكاهلي، عن محمد بن المنكدر عن جابر وهو ضعيف، وقد ضعفه جماعة من أهل العلم قال عنه ابن عدي: إنه في عداد من يضع الحديث. على كل الحديث لا يصح في هـٰذا مرفوعا، وإنما غايته ما هو موقوف عن ابن عباس وليس فيه تمثيل ولا تشبيه، ما نريد أن ندخل في هـٰذا ولا نحتاج إلى التأويلات التي يزعمها بعضهم من يجعل التأويل أصلا في الصفات.

يقول -رحمه الله-: (تقبيل القبور واستلامها والسجود لها.) الدليل على تحريم تقبيل القبور واستلامها، والسجود لها أن ذلك من تعظيمها، والله تعالى لم يأذن بتعظيم إلا ما عظم -جل وعلا-، فكل من عظم شيء غير ما عظّمه الله تعالى فإنه واقع في مخالفة شرع الله تعالى، وقد يصل به ذلك إلى الكفر وأدنى أحواله البدعة، أدنى أحواله البدعة، وقد يصل به الحد إلى الكفر.

هـٰذه الأمور ذكرها المؤلف -رحمه الله- على وجه الإجمال في صور الشرك في الأفعال، ذكر السجود وذكر الطواف، وذكر تقبيل الأحجار، وذكر تقبيل القبور، والجامع لهـٰذا أن كل ما أمر الله تعالى به  ورسوله فلا يجوز صرفه لغير الله -جل وعلا-؛ بل يجب صرفه إلى الله سبحانه وبحمده، فإذا صرفه العبد لغير الله تعالى فإنه يكون واقعا فيما نهى عنه من الإشراك به.

ثاني ما ذكر المؤلف -رحمه الله- من صور الشرك بالله تعالى بالأفعال ما يتعلق بالقبور، وقد أطال المؤلف -رحمه الله- من ذكر ما يتعلق بالقبور؛ لأنها أعظم الفتن الصارفة عن التوحيد، فأول شرك وقع في الدنيا سببه الغلو في الصالحين بتعظيم قبورهم، ولذلك أطال المؤلف -رحمه الله- في ذكر النصوص الواردة في هـٰذا.

قال -رحمه الله-: (وقد لعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ  سَلَّمَ من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله فيها.. فكيف من اتخذ القبور أوثانا تُعبد من دون الله؟ فهٰذا لم يعلم معنى قول الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ[سورة: الفاتحة، الآية (05).]) إذن المؤلف -رحمه الله- ذكر صورا مجملة ثم أتى بأصل من أصول الشرك، وهو اتخاذ القبور مساجد، يقول الشيخ إسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فإن من أصول الشرك بالله تعالى اتخاذ القبور مساجد. وهـٰذا واقع وواضح ومن رأى حال الناس وجد ذلك ظاهرا، ومن قرأ سيرة الشرك في الدنيا وتاريخ الشرك في الدنيا يعلم أن القبور هي مبعث الشرك بالله تعالى، وأنها من أصول الشرك بالله تعالى، ولذلك تواترت النصوص عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وجاءت النصوص في التغليظ على من اتخذ القبور مساجد ،كما سنشاهد ذلك ونسمعه في الأحاديث التي ذكرها المؤلف -رحمه الله-.

لكن قبل أن ندخل فيما ذكر المؤلف من الأحاديث، ما معنى اتخاذ القبور مساجد؟ اتخاذ القبور مساجد هو تصييرها وجعلها محلا للعبادة، وذلك إما ب بالصلاة عليها أو الصلاة إليها أو الصلاة عندها، هـٰذه ثلاثة صور كلها يصدق عليها أنها من اتخاذ القبور مساجد: الصلاة عليها، الصلاة إليها بأن تستقبل، الصلاة عندها، ينضاف على هـٰذا بناء المساجد على القبور، فاتخاذ القبور مساجد يكون بالصلاة عليها، والصلاة عندها، والصلاة إليها ولو لم يبن مسجد، فإذا بُني مسجد كان ذلك أعظم شركا وكفرا؛ لأنه جعل وتصيير لهـٰذه القبور محلا للصلاة الدائمة بخلاف ما لو صلى عند قبر أو على قبر أو إلى قبر، فإن ذلك قد ينتهي بانتهاء الصلاة، أما إذا بني عليها مسجدا فهـٰذا أعظم في الشرك وأشد في تحقيق ما لعن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه، وتحقيق ما نهى عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

إذن قول المؤلف: (وقد لعن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ  سَلَّمَ- من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجديصلي لله فيها) يشمل هـٰذه الصور الثلاثة: أول الصور: الصلاة عليها، والصلاة إليها، والصلاة عندها، كل هـٰذه الصور مما يدخل في قول المؤلف: (وقد لعن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ  سَلَّمَ- من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد).

المؤلف قال: (قبور الأنبياء والصالحين) اتخاذ قبور الفساق والكفار مساجد، هل هو جائز؟ ليس جائزا، لماذا نص على الأنبياء والصالحين؟ لأن العادة جارية بتعظيم هؤلاء، وأما غيرهم فإنه لا يجوز، إذا كان لا يجوز في حق من يظن فيه النفع، وقد يعتقد فيه الفائدة، فقبور غيرهم النهي عن الصلاة عندها من باب أولى.

يقول -رحمه الله-: (فكيف من اتخذ القبور أوثانا تُعبد من دون الله؟) إذا كان اللعن متوجه إلى من صلى لله عند قبر، فكيف لمن صلى لصاحب القبر، كيف بمن وجه العبادة لصاحب القبر، لا شك أن شأنه أخطر وعمله أبعد عن هدي الله تعالى وعن كتاب الله وسنة رسوله، وهو أوقع في الشرك، فإذا كانت الصلاة لله عندها وإليها وعليها مما نهي عنه، فكيف للصلاة للمقبورين وجعل المقبورين محلا للتقرب بالدعاء إليهم والاستغاثة بهم وإنزال الحوائج بهم والذبح لهم والنذر لهم.. وسائر ما يفعل عند القبور من صور الشرك الكثيرة المشتهرة المعروفة.

يقول -رحمه الله-: (فكيف من اتخذ القبور أوثانا تُعبد من دون الله؟ فهـٰذا) يعني الواقع في هـٰذا الأمر (لم يعلم معنى قول الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ[سورة: الفاتحة، الآية (05).]) لو علم أن الله -جل وعلا- هو الإله الحق الذي لا يعبد سواه لما صلّى إليها ولا عندها ولا عليها ولا تقرب إلى المقبورين فيها؛ بل تقرب إلى الله تعالى، وهـٰذا واضح وبين فإن من تعلق بالله تعالى انصرف عمن سواه، ومن وحد قصده وطلبه لم يكن في قلبه ميل إلى سواه -جل وعلا-.

يقول -رحمه الله- بعد ذكر هـٰذه المقدمة، ذكر النصوص الواردة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد

[المتن]

وفي الصحيح[البخاري: كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور،حديث رقم (1330).مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بيناء المساجد على القبور، حديث رقم (529).وليس في الحديث (يحذر ما صنعوا) إنما هو في حديث آخر.] عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ أنه قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))

وفيه[قال الشيخ علي حسن: ليس في الصحيح، إنما رواه أحمد (1/435)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/345)، وابن خزيمة (789)، وابن حبان (340 و341-موارد)، والطبراني في الكبير (10413)، وأبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) (1/142) عن بن مسعود بسند حسن كما قال الهيثمي في المجمع (2/27)، وجوّد إسناده شيخ الإسلام في ((الاقتضاء)) (330).

قلت: ولعل منشأ الوهم عند المصنف رحمه الله أن البخاري قد علق الشطر الأول من الحديث في ((صحيحه)) (13/14)، دون ذكر ((الذين يتّخذون القبور مساجد)) وقد بيّض الحافظ ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/278) لـهٰذا الحديث!!! وتكلم فيه في ((هدي الساري)) (68) فليراجع. ]عنه أيضا: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد)).

[الشرح]

يقول -رحمه الله-: (وفي الصحيح) هـٰذا الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- في الصحيح مقصوده البخاري ومسلم، الحديث في الصحيحين من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أن النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما نزل به يعني في سياق الموت طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها فقال وهو على ذلك -يعني في هـٰذه الحال- قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))لا يمكن أن يتكلّم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هـٰذه الحال التي يعالج فيها سكرات الموت بهـٰذا الكلام إلا لعظيم خطورته وشدة تأثيره على الأمة وشفقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أن يتورّط فيه أحد من أهل الإسلام، ((لعن الله اليهود والنصارى))اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، ((اليهود والنصارى))أمتان هما من أشرف الأمم قبل أهل الإسلام؛ لأنهم أهل الكتاب، وسواهم إما مشركون أو دهريون، واليهود والنصارى خُصّوا باللعن مع أن الشرك في المشركين أظهر من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى عندهم أثارة علم عن الأنبياء الذين نهوهم عن الشرك وأمروهم بالتوحيد؛ فخالفوا ذلك، بخلاف المشركين الذين ليس عندهم كتاب ولا هدى ولا عندهم نور من الله تعالى يستمسكون به ((لعن الله اليهود والنصارى))إذن تخصيص اليهود والنصارى لأنهم عندهم من العلم ما يحجزهم ويمنعهم من ماذا؟ من الوقوع في الشرك، ومع ذلك أعرضوا عنه ووقعوا في الشرك ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))قبور أنبيائهم مساجد، القبور جمع قبر، وهو مدفن الموتى، ومقصود النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((قبور أنبيائهم))يعني القبور التي دفن فيها أنبياؤهم ((مساجد))أي محلا للعبادة، واتخاذ القبور مساجد يكون بالصور التي ذكرناها: بالصلاة إليها، بالصلاة عندها، بالصلاة عليها، يكون بقصدها أيضا للتعبد؛ لأن المساجد لا يصلح فيها شيء من القبر كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  إنما هي للذكر وقراءة القرآن والتسبيح والصلاة وسائر ما ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الأعمال التي تكون في المساجد، فهي لم تبن لغير هـٰذا، فإذا جعل القبور محلاّ لهـٰذه الأمور، تقصد القبور لأجل هـٰذه الأمور، فإنه قد يكون قد وقع الشرك.

يقول -رحمه الله-: (وفيه) أي في الصحيح (عنه) أي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((إنّ من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ويتخذون القبور مساجد))هـٰذا الحديث ليس في الصحيحين، ولا في صحيح البخاري، ليس في البخاري مسندا؛ بل هو فيه معلق عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والحديث جاء عند أحمد وغيره من طريق عاصم بن النجود عن أبي وائل شقيق بن سلمه عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد))الشاهد في هـٰذا الحديث قوله: ((والذين يتخذون القبور مساجد))فجعلهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجملة من شرار الناس ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد))العلة في كون شرار الناس من تدركهم الساعة، ما هي العلة؟ هل العلة تتعلق بالزمان أو بأفعالهم الزمان لا يذم ولا يمدح، إنما المدح والذم للفعل، وإنما ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنهم شرار الناس من تدركهم الساعة؛ لأنه الزمان الذي يتعطل فيه توحيد الله تعالى بالكلية، وقد جاء ذلك في أحاديث عديدة ففي صحيح الإمام مسلم من طريق أبي الأحوص عن عبد الله ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس))وفي حديث النواس بن سمعان في سياق ذكر الدجال قال بعد ما قص خبر الدجال ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج قال: ((ويبقي شرار الناس يتهارجون  تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة))وأيضا جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عامر أن النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر أهل الجاهلية أم هم شر من أهل الجاهلية))قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا يدعون الله بشيء إلا ردهم))طيب ما السر لكل هـٰذا الذم لهؤلاء؟ السر وما في الصحيح من حديث ثابت عن أنس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله))أي أنه يغيب ذكره -جل وعلا- وتغيب عبادته ويغفل الناس عنه بالكلية، حتى لا يقال: الله الله، وهـٰذا في آخر الزمان عندما يبعث الله تعالى الريح التي تقبض أرواح أهل الإيمان، ولا يبقى في الأرض إلا أهل الشرك، وهـٰذا هو السر في وصف هؤلاء بالشر؛ لأنهم عطلوا ما من أجلهم خلقوا، هم خلقوا لأي شيء؟ للعبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)[سورة: الذاريات، الآية (56).] التعطيل التام الكلي الكامل هو في أهل هـٰذا الزمان، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء))والشاهد في الحديث قوله: ((والذين يتخذون القبور مساجد)) هنا أيضا في قوله: ((يتخذون القبور مساجد))لأنهم مشركون، هم من شرار الناس لأنهم مشركون سواء إن كانوا في الزمن الأخير أو الزمن الأول، فذم أهل الزمن الأخير الذين تدركهم الساعة ليش؟ لكونهم مشركين فكل من وقع في الشرك سوءا في ذلك الزمن أو غيره فهو موصوف بأنه من شرار الناس، والعلة أنه لم يحقق الغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الخلق.

[المتن]

وفيه[مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث رقم (532).] أيضا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنّ من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنِّي أنهاكم عن ذلك)).

وفي مسند (الإمام أحمد) و(صحيح ابن حبان) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لعنالله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)).[قال الشيخ علي حسن: هو في المسند (2/337)، وفي ابن حبان (788-موارد)، ورواه الترمذي (320)، وأبو داوود (3236)، والحاكم (1/374)، والبيهقي (4/78)، والطيالسي (1/171)، والبغوي (510) عن ابن عباس بلفظ ((..زوارات..))، وسنده ضعيف، وطرفه الأول ورد من حديث حسان بن ثابت، رواه أحمد (3/442 و443)، وابن أبي شيبة (3/345)، وابن ماجه (1574)، والطبراني في الكبير (3591 و3592) والحاكم (1/374)، والبيهقي (4/78) وفي سنده راوٍ مجهول، ومن حديث أبي هريرة عند الطيالسي (817-ترتيبه) ، وأحمد (2/337 و356)، والترمذي (1056)، وابن ماجه (1576)، وابن حبان (789)، والبيهقي (4/78) وفيه من تكلم فيه ورواه عبد الرزاق عن عكرمة مرسلا بإسناد صحيح.

       فالحديث إن شاء الله حسن، وصححه البغوي في شرح السنة (2/417)، وابن قدامة في الكافي (1/275).]

وقال: ((اشتدغضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).[قال الشيخ علي حسن: رواه مالك (1/172)، وعنه ابن سعد (2/240)، عن عطاء مرسلا بسند صحيح، ورواه عبد الرزاق (1/406)، وابن أبي شيبة (3/345) بسند صحيح مرسل عن زيد بن أسلم، ووصله أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو نعيم (6/283) عن أبي هريرة بسند حسن.]

وقال: ((إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصّالح بنوا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)).[البخاري: كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، حديث رقم (427).

     مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث رقم (528).]

 [الشرح]

فقد تقدم الكلام على أوله هـٰذا المقطع من كلام المؤلف -رحمه الله- في ذكر صور الشرك في الأفعال، (وفيه أيضا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنّ من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنِّي أنهاكم عن ذلك)).) هـٰذا الحديث من رواية عبد الله بن الحارث النجراني عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يموت بخمس -يعني بخمس ليالي- يقول: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد))يتخذون القبور مساجد بأحد الصور المتقدمة، البناء عليها، الصلاة عليها، الصلاة إليها ((ألا فلا تتخذ القبور مساجد))وهـٰذا فيه التحذير من عمل من تقدم، وأتى به مستفتحا الكلام بـ((ألا))التي تحث وتطلب وتعرض وترغب وتشد الانتباه ((فلا تتخذ القبور مساجد))نهي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على اتخاذ القبور مساجد، وهـٰذا يفيد تحريم البناء عليها وتحريم الصلاة إليها وتحريم الصلاة عليها، وأكد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هـٰذا المعنى فقال: ((فإني أنهاكم عن ذلك))وهـٰذا فيه التصريح بالنهي بعد ذكره فإنه قال: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد))هـٰذا كاف في النهي؛ لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكد هـٰذا النهي فقال: ((فإني أنهاكم عن ذلك))وهـٰذا فيه تأكيد وتقرير المعني المتقدم، وإنه نهي مقصود مطلوب مرغوب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

ثم قال: (وفي مسند (الإمام أحمد) و(صحيح ابن حبان) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج))) هـٰذا الحديث رواه أحمد وابن حبان وكذلك هو من رواية ابن داوود والنسائي وغيرهما من طريق محمد بن جحادة عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لعن الله زائرات القبور))هـٰذا لفظ ابن عباس، لفظ حديث ابن عباس ((لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها السرج))وهو حديث ضعيف، وقد تفرد به أبو صالح باذام، وهو ممن تكلم فيه أهل العلم، وقد جاء هـٰذا المعنى معني أول الحديث من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، رواه الترمذي  وغيره من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((لعن الله زوّارات القبور))وليس فيه ((المتخذين عليها المساجد والسرج))وهـٰذا الحديث يفيد تحريم إكثار زيارة من النساء للقبور، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((لعن الله زوارات القبور))و(زوارات) صيغة مبالغة من كثرة الزيارة، ولا فرق في ذلك بين قبور الصالحين وغيرهم، ولا فرق في ذلك بين قبور الأقرباء وغيرهم؛ لأن اللعنة جاء على وصف مضاف فيشمل كل من تحقّق فيه الوصف، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في ما يفيد هـٰذا الحديث، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تجوز زيارة النساء للقبور مطلقا، واستدلوا بهـٰذا الحديث وأمثاله كحديث ابن عباس الذي قووه بحديث أبي هريرة، مع أن المعنى مختلف لأن حديث ابن عباس فيه اللعن للزائرات سواء قل أو كثر؛ لأنه وصف وليس وارد عن صيغة مبالغة فيشمل القليل والكثير، المراد أن هـٰذا هو القول الأول وهو التحريم.

والقول الثاني أن الذي يحرم من زيارة القبور هو الكثرة التي تفضي إلى الجزع والضجر والتسخّط لأقدار الله، أما الزيارة العارضة أو التي لا توصف بالكثرة، فإنها تكره ولا تحرم، وهـٰذا قول جمهور أهل العلم.

والقول الثالث أن زيارة القبور للنساء كزيارة الرجال للقبور مطلوبة لما جاء في الصحيح من طريق محارب ابن ديثار عن عبد الله بن بريدة، عن بريدة بن الحصيب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها))[مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم (977).] قالوا: هـٰذا يشمل الذكور والإناث، خطاب عام ليس فيه تخصيص، وحملوا حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة على ما قبل الإذن، حملوا حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة على ما قبل الإذن، وهـٰذا قال به جماعة من أهل العلم.

وأقرب هـٰذه الأقوال إلى ظاهر النصوص ما ذهب إليه الجمهور من أن زيارة القبور للنساء مكروهة لأن اللعن لم يأت للزيارة المطلقة، إنما جاء لزيارة موصوفة بالكثرة وذلك أن اللفظ جاء بصيغة المبالغة ((لعن الله زوارات القبور))وأما اتخاذ المساجد على القبور فهـٰذا أفادته الأحاديث الكثيرة المتقدّمة، وأفادته الأحاديث الواردة في هـٰذا الباب وهي تبلغ حد التواتر.

أما اتخاذ السرج فهـٰذا ليس فيه حديث صحيح؛ ولكن أهل العلم تواردت أقوالهم على النهي عنه ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وبناء المساجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم فيه خلاف أنه معصية لله ورسوله، وهـٰذا نوع حكاية للاتفاق على تحريم الإسراج على القبور لما فيه من تعظيمها ودعاء الفتنة بها؛ لكن الحديث الوارد ضعيف، قال شيخ الإسلام: اتخاذ المساجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم فيه خلافا أنه معصية لله ورسوله.

قال -رحمه الله-: (وقال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)))، (اشتد غضب الله) أي عظم غضب الله تعالى ((على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))؛ أي: سيروها مساجد، وهـٰذا الحديث الذي ذكره المؤلف مقطع من حديث رواه الإمام مالك في موطئه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار مرسلا قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[الموطأ: كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، حديث رقم (416)، وهو مرسل. مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر) حديث رقم (7352)، قال أحمد شاكر: إسناده حسن.] وقد جاء هـٰذا الحديث من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومن حديث الحسين بن علي بن الحسين عن جده علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في نفس المعنى، وهـٰذا يفيد تحريم اتخاذ القبور مساجد، وأن ذلك من أسباب غضب الله ومقته لما فيه من الظلم العظيم الذي قال الله تعالى فيه: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[سورة: لقمان، الآية (13).]فهي من وسائل الشرك.

وقال: (وقال: ((إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصّالح بنوا على قبره مسجداً)).) الأحاديث المتقدمة فيها مطلق في النهي على اتخاذ القبور مساجد كقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فتتخذوا القبور مساجد))وهـٰذا عام لكل قبر سواء كان قبر نبي أو صالح أو غيرهما، ومنها ما هو خاص بقبور الأنبياء، وذلك في حديث ابن عباس وعائشة ((لعن الله واليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))هـٰذا الحديث فيه النهي عن اتخاذ قبور الصالحين مساجد، ولو لم يكونوا أنبياء، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرته أم حبيبة وأم سلمة كما في الصحيحين من حديث عائشة عن كنيسة رأينها بالحبشة وما فيها من التصاوير فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور))ثم قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أولئك شرار الخلق عند الله))لأنهم اشتغلوا بأسباب الخروج عن طاعة الله تعالى وأسباب الخروج عن توحيده وإفراده بالعبادة، ولذلك وصفهم فقال: ((أولئك شرار الخلق عند الله))فوصفهم هنا بأنهم شرار الخلق؛ لأنهم عملوا بالأسباب التي تخرجهم عن توحيد الله تعالى، فإن اتخاذ المساجد على القبور وبناء القبور مما يصيرها أوثانا تعبد، وكذلك تعظيم الصور ورفعها تصوير الصور عند قبور الصالحين مما يصيرها أوثانا تعبد من دون الله وهـٰذا المعنى واضح في الحديث الأخير حديث عائشة رضي الله عنها فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن البناء على القبور.

خلاصة الأحاديث المتقدمة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن أفعال الشرك ومن ذلك ما يتعلق بأعظم الأسباب الموقعة في الشرك وهو إيش؟ اتخاذ القبور مساجد.

هنا مسألة قبل أن نمضي في كلام المؤلف -رحمه الله- حكم بناء المساجد على القبور، جمهور العلماء على تحريمه، وقد حكى بعضهم أن الجمهور يرون الكراهة؛ ولكن النصوص في هـٰذا واضحة في أدنى التحريم بيّن ظاهر، وقد اختلف العلماء في صحة الصلاة في المسجد الذي بني على قبر:

فمنهم من قال بكراهية الصلاة، وهـٰذا قول الجمهور.

ومنهم من قال بتحريم الصلاة، وهـٰذا قول جماعة من أهل العلم.

ومنهم من قال بإباحة الصلاة في المساجد التي بنيت على القبور.

والذي يترجح من هـٰذه الأقوال هو القول بالتحريم؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الصلاة على القبور وإليها وعندها، ولعن المتخذين القبور مساجد، وهـٰذا لا شك أنه يفيد تحريمها، واتخاذ القبور مساجد يكون بالبناء عليها ويكون بالصلاة عندها إما إليها أو عليها، فإذا جمع بين الأمرين بأن بنى مسجدًا على القبر وصلى عند القبر إليه أو عليه فإنه يكون بهـٰذا قد جمع بين الصورتين أو بين الصور التي نهى عنها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من اتخاذ القبور مساجد.

فالراجح من الأقوال أنه يحرم أن يصلي الإنسان في مسجد بني على قبر، وظاهر النصوص عدم التفريق بين المساجد التي بنيت على القبور وبين المساجد التي أدخلت إليها القبور، والظاهر -ظاهر النص- قد يفيد العموم في النهي لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر عن لعنة الله تعالى لمن اتخذ القبور مساجد، وهـٰذا يشمل ما إذا كانت القبور سابقة أو كانت المساجد سابقة، وبهـٰذا قال جماعة من العلماء؛ ولكن الذي يظهر أن مراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باللعن هو من بنى المسجد على القبر أو من قصد الصلاة عند القبر، أما مسجد مقام لذكر الله تعالى وعبادته وليس فيه إشكال من جهة بنائه على القبر فإنه لا يوصف بأنه يدخل في ما نهى عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا الإنسان صلى في المسجد لكونه سابقا، والقبر هو الطارئ، والواجب إخراج القبر من المسجد، وهـٰذا القول أقرب إلى الصواب وهو الأليق بالمعنى؛ لأن المسجد أحق وهو أسبق من القبر الحادث اللاحق الذي طرأ على المسجد، فتحمل هـٰذه النصوص على ما إذا كان المسجد قد أقيم على القبر، وأيضا تحمل على من قصد المسجد الذي أدخل فيه القبر للصلاة عند القبر؛ يعني إذا كان المسجد بني لذكر الله تعالى على قواعد الشريعة ثم إنه دفن فيه ميت ما حكم الصلاة حرام أو ليست بحرام؟ من العلماء من يقول إن الصلاة فيه محرمة لماذا؟ لأنه يدخل في ما نهى عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من اتخاذ القبور مساجد ويستدلون بظواهر النصوص.

والقول الثاني: أنه لا يدخل في النهي إذا كان يصلي في المسجد؛ لأنه بيت من بيوت الله تعالى؛ وهـٰذا المعنى أقرب؛ لكن إذا كان الإنسان دخل يصلي عند القبر أو إلى القبر أو ملاحظا القبر في الصلاة في هـٰذا المكان، فإنه يدخل في ما نهى عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من اتخاذ القبور مساجد؛ لأنه لو لم يكن مسجد وكان فيه قبر وذهب يصلي عند القبر فإنه مما ينهى عنه لما دلت عليه النصوص.

أما ما يتعلق بصحة الصلاة فإن من العلماء من يقول من لازم التحريم أن الصلاة ليست بصحيحة، وجمهور العلماء على أن الصلاة صحيحة في المساجد التي فيها القبور إذا لم يصل لأصحاب القبور طبعا، إذا صلى لله تعالى في مسجد فيه قبر فإنه الصلاة صحيحة وإن كانت تحرم، واستدلوا لذلك ببعض الآثار ومن ذلك ما رواه البخاري من أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رأى أنس بن مالك يصلي إلى قبر فقال: القبر القبر، فلم يسمع أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قول عمر فظنه يقول: القمر القمر، فرفع رأسه ينظر إلى السماء، فكرر عليه عمر حتى أدرك أنه يريد تنبيهه إلى القبر، ولم يأمره بالإعادة قالوا: لما لم يأمره بالإعادة دل على أن الصلاة عند القبر صحيحة.

 

هـٰذه هي الأقوال في ما يتعلق بالصلاة في المساجد التي بنيت على القبور، أولا من حيث البناء أصله، ومن حيث حكم الصلاة فيها، ومن حيث الصحة.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94004 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف