الدرس (7) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
ثم قال رحمه الله:
[المتن]
والناس في هٰذا الباب -أعني زيارة القبور-، ثلاثة أقسام:
- قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهٰذه هي الزيارة الشرعية.
- وقوم يزورونهم يدعون بهم، وهؤلاء هم المشركون وجهلة العوام والطغام من غلاتهم.
- وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد))،[الموطأ: كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، حديث رقم (416)، وهو مرسل.مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر) حديث رقم (7352)، قال أحمد شاكر: إسناده حسن.] وهؤلاء هم المشركون في الربوبية.
[الشرح]
زيارة القبور الأصل فيها أنها مشروعة، ويمكن أن يقال: إن زيارة القبور تنقسم على قسمين:
زيارة شرعية جاء الأمر بها في الشرع.
وزيارة بدعية نهى الله عنها ورسوله.
القسم الأول وهو الزيارة الشرعية هي الزيارة التي أذن فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في صحيح الإمام مسلم من حديث محارب بن ديثار، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها))[مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم (977).] فبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإذن بعد التحريم، وفي صحيح الإمام مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال زار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبر أمه فبكى وأبكى وقال: ((زورواالقبور فإنها تذكر الموت))[مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم (976).]وفي رواية الترمذي قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فإنها تذكر الآخرة))وفي رواية ابن ماجه من حديث ابن مسعود قال: ((فإنها تزهد في الدنيا وتذكر في الآخرة))هـٰذه الأحاديث تدل على أن الزيارة مشروعة ومندوب إليها، وأن النفع فيها لمن؟ للزائر، ونفع الزائر بعضته واعتباره، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فزوروا القبور فإنها تذكر الموت))في رواية مسلم وفي رواية الترمذي قال: ((تذكر الآخرة))وفي رواية ابن ماجه: ((تزهد في الدنيا وتذكربالآخرة))وهـٰذه كلها منافع عائدة إلى من؟ الزائر بالاتعاظ والاعتبار والادكار، وهي أيضا نافعة للمزور إذا كان مسلمًا، وذلك بالدعاء له فقد جاء في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم عائشة ما تقوله عند زيارة القبور، فقالت: ما أقول؟ كما في الصحيح قال قولي: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، أنتم السابقون وإنا بكم لاحقون))[مسلم: كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث رقم (974).]وجاء هـٰذا من حديث أبي هريرة بلفظ مقارب، وجاء عن غيرهما -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وهـٰذا فيه الدعاء للأموات.
وتبين من هـٰذا أن الزيارة شرعية فيها فائدتان:
الفائدة الأولى: استفادة الزائر وانتفاعه بإيش؟ بالدعاء والاعتبار والاتعاظ؛ لأن الدعاء ينفع العبد و((الدعاء هو العبادة))[سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب الدعاء، حديث رقم (1479). سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب (ومن سورة البقرة)، حديث رقم (2969).سنن ابن ماجه: كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، حديث رقم (3828).قال الشيخ الألباني: صحيح.]كما في حديث النعمان بن بشير، فالدعاء له به أجر من الله تعالى، وأيضا يعتبر ويتعظ.
الثاني نفع الموتى المقبورين بالدعاء لهم، على وجه العموم، والدعاء على وجه الخصوص على من يقف على قبره ويدعو له، وهـٰذه الفائدة لا تكون إلا لأهل الإسلام؛ لأن حديث أبي هريرة فيه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استأذن ربه في أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذنه في أن يزورها فأذن له، فدل هـٰذا على فإنه في زيارة الكافر، ينتفع الإنسان بالاتعاظ والاعتبار والادكار؛ ولكن ليس هناك دعاء ينفع المقبور لأنه مما نهي عنه ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾[سورة: التوبة الآية (113).].
أما الزيارة البدعية فهي ما خرج عن هـٰذا، فالزيارة البدعية هي الزيارة التي تخرج عن سَنن الشريعة، وهي مما نهى الله عنه في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾[سورة: الشورى الآية (21).] وهي مما نهى الله تعالى عنه في ما أخبر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه البخاري ومسلم من حديث القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد))[البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم 2697.مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم 1718.]،ومن ذلك كثرة زيارة بالنسبة للنساء فإن حديث أبي هريرة الذي ذكرنا قبل قليل دال على النهي عن كثرة الزيارة من النساء، فهو من الزيارة البدعية.
فالذي يزور القبور ليسألهم أو ينزل حاجته بهم، أو ليدعو عند قبورهم، أو ليصلي عند قبورهم فإن هـٰذا من الزيارة البدعية التي لم يأذن بها الله ورسوله.
المؤلف -رحمه الله- قسم الناس من حيث زيارة القبور إلى ثلاثة أقسام، فقال: (قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهـٰذه هي الزيارة الشرعية) والمؤلف -رحمه الله- ذكر هنا أمر يتعلق بالموتى، ولم يذكر النفع العائد إلى الزائر؛ لأن الشأن الآن في تقسيم الناس باعتبار حالهم مع الموتى ناس يزورون القبور يدعون للموتى وهـٰذه هي الزيارة الشرعية التي فعلها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأذن فيها، والقسم الثاني (يزورونهم يدعون بهم، وهؤلاء هم المشركون وجهلة العوام والطغام من غلاتهم.) ويشاركهم في هـٰذا الوصف أنهم أصحاب زيارة بدعية (قوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم) أي يدعون الموتى المقبورين أنفسهم فيسألون منهم كشف الكربات وحل المعضلات ورفع النوازل والمدلهمات.
يقول -رحمه الله-: (قوم يزورونهم) يزورون الموتى (يدعون بهم) يعني يسألون الله تعالى بهم، فيأتي إلى المقبور يقول: يا رب العالمين أسألك بهـٰذا الولي الصالح، أو النبي المرسل، أو النبي فلان أن تفعل كذا وأن تيسر كذا، وهـٰذا من السؤال بهم، هـٰذه صورة من الصور، من الصور أيضا أن لا يسمي المقبور لا يسمي صاحب القبر، إنما يعتقد أن الدعاء عند قبره سبب للإجابة، فهـٰذا يدخل أيضا في قوله -رحمه الله-: (يدعون بهم) فتكون هنا الباء للسببية أي بسببهم وهو قريب من الأول في كونه نوع توسل، هناك توسل بذواتهم، وهنا توسل بمكان دفنهم؛ لكن باعتبار أن مكان الدفن مكان مبارك ومثوى صالح وترجى عنده الإجابة، هـٰذه الصورة الثانية التي تدخل في قول المؤلف -رحمه الله- (يدعون بهم).
الصورة الأولى تسميتهم في الدعاء بأن يقول الداعي الزائر: أسألك بفلان بجاهه بمكانته بما له عندك بصلاحه.. وما على ذلك من الأمور المتعلقة بالميت.
الصورة الثانية لا يذكر الميت؛ لكن يقصد قبره رجاء إجابة الدعاء، كونه قبر عبد صالح ومثوى ولي من أولياء الله تعالى، فيظن أن ذلك من أسباب إجابة الدعاء. وهـٰذا ذكره حتى بعض فقهاء ممن التبس عليهم الأمر، فذكروا أن قبر فلان تجاب الدعوة عنده، وأنه ترياق مجرب، كما ذكر ذلك بعض أصحاب السير.
المراد أن هـٰذا مما يدخل في قوله –رحمه- الله: (يدعون بهم) ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وهؤلاء هم المشركون) هؤلاء هم المشركون، والحكم عليهم هنا بهـٰذا الكلام هو بيان لمرتبة هـٰذا العمل وأنه شرك، والمقصود بالشرك هنا فيما يظهر في كلام المؤلف أنه شرك أكبر مخرج عن الملة؛ لكن في الحقيقة أن الدعاء بهم الدعاء بالمقبورين لا يصل إلى حد الشرك المخرج عن الملة، إنما هو من ذرائع الشرك ووسائله، فهو من الشرك الأصغر الذي يفضي بصاحبه على الشرك الأكبر؛ فإنه يدعو في أول الأمر عند هـٰذه القبور أو يدعو و يتوسل بأصحابها في دعائه، ويذكرهم في دعائه، ثم يرتقي به الأمر إلى أن يدعوهم حيث إن القلب ضعيف يتعلق بهؤلاء فيدعوهم من دون الله تعالى، وهـٰذه هي الفتنة التي جرت من أول شرك وقع في الدنيا؛ فإنه كان سببه القبور، فكانوا يتعلقون بها حتى تدرج بهم الأمر إلى أن عبدوهم من دون الله كما ذكر ذلك ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما رواه البخاري في بيان شرك قوم نوح.
فقوله -رحمه الله-: (وهؤلاء هو المشركون) لا ندري ما مراد المؤلف -رحمه الله- بقوله يدعون بهم على وجه التحديد فإن كان مقصوده قصد البقعة للدعاء فهـٰذا بدعة، وإن كان مقصوده ذكر الميت في الدعاء والتوسل لله تعالى به أو إلى الله تعالى به فهـٰذا أيضا من البدع السيئة المنكرة التي لم يفعلها السلف وهي من وسائل الشرك وذرائعه وأسبابه، وليست شركا؛ لأنه لم يصرف العبادة لغير الله تعالى هنا.
صورة ثالثة تدخل في قوله: (يدعون بهم) ولعل المؤلف رحمه يريدها بقوله وهؤلاء هم المشركون وهو أن يسألهم الموتى الشفاعة عند الله تعالى فيقول للميت: أسألك يا فلان أن تشفع لي عند رب العالمين أسألك يا فلان أن تدعو الله تعالى لي أن يفرج كربتي، أو أن يغيث حاجتي، أو أن يكشف نازلتي، أو ما إلى ذلك، فهـٰذا النوع قال جماعة من أهل العلم: إنه من الشرك الأكبر المخرج عن الملة لأنه خطاب ودعاء لمن لا يملك نفعا ولا ضرا، فأدرجوه في جملة النصوص من الآيات والأحاديث التي فيها النهي عن سؤال ودعاء غير الله تعالى كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾[سورة: المؤمنون الآية (117).]وما أشبه ذلك من النصوص التي فيها النهي عن دعاء غير الله تعالى.
والقول الثاني في هـٰذا النوع أنه من وسائل الشرك وذرائعه وليس شركا أكبر يخرج عن الملة؛ بل هو بدعة منكرة، وهـٰذا هو قول شيخ الإسلام -رحمه الله-، وقول جماعة من أهل العلم منهم شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- أن هـٰذا ليس من الشرك الأكبر إنما هو من وسائل الشرك وأسبابه، وهو أن يخاطب المقبور لكن لا يخاطبه في السؤال منه أن يقضي حاجته أو يفعل به شيئا لا يفعله إلا الله، إنما يسأله أن يسأل الله له فيقول: يا حسين ادع الله لي أن يكشف كربتي، يا رسول الله اشفع لي عند الله تعالى في تحصيل طلبتي، وما إلى ذلك من المسائل وصورها هـٰذا يدخل في كلام المؤلف -رحمه الله- في قوله: (وقوم يزورونهم يدعون بهم وهؤلاء هم المشركون وجهلة العوام والطغام) الطغام قريب من العوام؛ لكن المقصود بالطغام ضعيف الرأي والأراذل من الناس ومن لا يؤبه له يقول: (والطغام من غلاتهم وجهلة العوام والطغام من غلاتهم) أي من غلاة الجهلة أو من غلاة العوام.
على كل حال هـٰذا هو القسم الثاني من أقسام الزيارة، والذي يظهر من هـٰذه الأنواع التي ذكرناها أنها من الشرك في الإلهية، أنها من الشرك في الإلهية يعني أنها على حسب قول المؤلف -رحمه الله- من الشرك في الإلهية إما شرك أكبر و إما شرك أصغر.
والنوع الثالث التي من الأنواع التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- من أنواع الزيارة قال: (وقوم يزورونهم) أي يزورون الموتى (فيدعونهم أنفسهم) أي يدعون الموتى أنفسهم يسألون الموتى أنفسهم قال: (وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد))،وهؤلاء هم المشركون في الربوبية.) القسم الثالث قوم توجهوا بالدعاء إلى الموتى فقال للميت: أغثني اغفر ذنبي، يسر أمري، اشرح صدري، اهدني؛ يعني مجمل الدعاء أن يسأله أن يفعل به ما لا يقدر عليه إلا الله أن يسأله أن يفعل به ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى هـٰذا النوع لا شك أنه شرك وكفر يخرج منه الإنسان من الإسلام؛ لأنه دعاء غير الله تعالى، وقد جاءت النصوص والأدلة في الكتاب والسنة على التحذير من هـٰذا والنص على كفره، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[سورة: الجن الآية (18).] هـٰذا فيه النهي عن دعاء غير الله تعالى، ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾[سورة: الرعد الآية (14).] فحكم الله -جل وعلا- عليهم بالكفر حيث قال: ﴿وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾[سورة: الرعد الآية (14).] ، وكذلك الآيات في هـٰذا عديدة يكفي من هـٰذا، وكذلك قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من مات وهو يدعو مع الله ندا دخل النار)) فهـٰذا الحديث يدل على أن كل من دعا مع الله ندا؛ أي سوى مع الله غيره فإنه مستوجب للنار، وهـٰذا قد دعا مع الله ندا وسوى بالله غيره.
المراد أن الدعاء في هـٰذه الصورة من الشرك المخرج عن الملة، المؤلف -رحمه الله- استدل على تحريم هـٰذا بقوله: (وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)))الوثن هو ما عبد من دون الله على غير صورة سواء كان له صورة أو على غير صورة؛ لكن لا يتحدد بصورة معينة، يعني لا يلزم أن يكون ذا صورة إنما يصلح أن يكون له صورة وأن يكون لا صورة له، هـٰذا معنى الوثن، وأما الصنم فهو ما عبد على صورة معينة ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد))هـٰذا مقطع من حديث رواه الإمام مالك من طريق عطاء بن يسار مرسلا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[قال الشيخ علي حسن: رواه مالك (1/172)، وعنه ابن سعد (2/240)، عن عطاء مرسلا بسند صحيح، ورواه عبد الرزاق (1/406)، وابن أبي شيبة (3/345) بسند صحيح مرسل عن زيد بن أسلم، ووصله أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو نعيم (6/283) عن أبي هريرة بسند حسن.] هـٰذا مرمى عنه وفيه قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد))فجاء مرسلا عند الترمذي، وقد جاء موصولا من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((ولا تجعلوا قبري عيدًاوصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني))[صححه الشيخ الألباني في الجامع الصغير برقم (3785).] هـٰذا يؤيد ما في هـٰذا الحديث من معنى، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سأل الله تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد.
واتخاذ القبر وثن له صور منها أن يأتي إلى القبر ويدعو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولذلك ذكره المؤلف -رحمه الله- في هـٰذه الصورة الثالثة؛ لأنه كثيرا ما يفعل عند قبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأتي الناس إلى قبره ثم يسألونه قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وما إلى ذلك من المسائل التي لا يجوز سؤالها إلا من الله تعالى.
فلذلك ذكر هـٰذا الحديث في هـٰذا الموضع في هـٰذا القسم من أقسام الزيارة، وعلى هـٰذا فمن فعل هـٰذا فقد خالف ما سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ربه من أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، على أن الحقيقة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أجاب الله تعالى دعاءه فليس قبره وثنا يعبد، وذلك أن كل شرك حول قبره فإنه ليس عند القبر بينهم وبين القبر حواجز وحجب، فليس هو عند قبره، فلذلك ليس هو من الأوثان التي تعبد من دون الله، وهـٰذا من إكرام الله عز وجل لنبيه الذي أخلص الدعاء للتوحيد أن سلّم الله تعالى قبره من أن يجعل وثنا يعبد، وقد قال ابن القيم -رحمه الله- في هـٰذه الدعوة:
وأجاب رب العالمين دعاءه |
|
وأحاطه بثلاثة الجدران |
فأجاب الله تعالى دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، وذلك بإحاطته بثلاثة جدران، هـٰذه الثلاثة جدر حالت بينه وبين الناس، ولذلك لا فرق بين الذي يدعو رسول الله في هـٰذا الموضع وبين الذي يدعو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند قبره أو قريبا من قبره في كونه لم يصير القبر وثنا يعبد.
وبعض العلماء يقول: إن الذي يكرر الزيارة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل وقت وكل زمان وكل دخول للمسجد يخشى لأن يصير قبره وثنا يعبد، كما ذكر ذلك الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في خبر الرجل الذي كان يأتي على فرجة عند قبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويسأل فقال: ما تصنع؟ فقال: أجيء إلى هـٰذه الفرجة فأدعو الله تعالى. فقال: حدثني أبي عن جدي أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تجعلوا قبري عيداوسلموا علي حيث كنتم فإن تسليمكم يبلغني))وهـٰذا يدل على أن قصد القبر من اتخاذه عيدا أو من اتخاذه وثنا؛ لكن على كل حال حمى قبر رسوله فلا يوصل إليه، وهـٰذا من نعمة الله.
يقول -رحمه الله-: (وهؤلاء) أي الذين يدعون الموتى أنفسهم (هؤلاء هم المشركون في الربوبية) بيّن المؤلف -رحمه الله- أن هـٰذا النوع من أنواع الشرك شرك في الربوبية، والحقيقة أنه شرك في الإلهية وقد يكون شركا في الربوبية، شرك في الإلهية وذلك إذا دعوا غير الله، وقد جاء في الترمذي أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((الدعاء هو العبادة))فإذا صرف الدعاء لغير الله تعالى فقد وقع في صرف العبادة لغير الله الذي هو الشرك المخرج عن الملة، وكذلك يدخل في الآيات التي تقدمت في من دعا غير الله تعالى وأنه مشرك كافر وهـٰذا الشرك في العبادة هـٰذا شرك في العبادة، وهو شرك في الإلهية، كيف يكون شركا في الربوبية؟ يكون شركا في الربوبية إذا اعتقد أن المدعو المقبور يقضي حاجته ويفعل فعلا مستقلا عن الله تعالى، فعند ذلك يكون قد جمع بين نوعي الشرك: الشرك في الربوبية والشرك في الإلهية؛ لكن من حيث الأصل دعاء غير الله تعالى من أي أنواع الشرك؟ من الشرك في الإلهية من الشرك في العبادة.
يقول -رحمه الله- بعد هـٰذا: (وقد حمى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جانب التوحيد أعظم حماية تحقيقا لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[سورة: الفاتحة الآية (05).]) ولا ريب إذ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمى التوحيد أعظم حماية، (حمى التوحيد) أي صانه وحفظه ودافع عنه وقطع الطرق التي تشغّب عليه، (حمى جانب التوحيد أعظم حماية تحقيقا لقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾)ومن ذلك قوله: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد))ومن ذلك قوله: ((ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني))كل هـٰذا صيانة للتوحيد، وحماية له من أن يتطرق الشرك إلى قلوب الأمة، أو أن يقعوا بسبب التعظيم له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما نهاهم عنه من عبادة غيره، يقول في صور حماية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للتوحيد:
[المتن]
وقد حمى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جانب التوحيد أعظم حماية تحقيقا لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ حتى نهى عن الصلاة في هٰذين الوقتين لكونها ذريعة إلى التشبيه بعبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين.
وسدَّ الذريعة بأن مَنَعَ من الصلاة بعد العصر والصبح لاتصال هٰذين الوقتين اللذينيسجد المشركون فيهما للشمس.
وأما السّجود لغير الله فقد قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله))،[زاد المعاد (3/138)] (ولا ينبغي) في كلام الله ورسوله إنما تستعمل للذي هو في غاية الامتناع كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾[سورة: مريم الآية (92).] وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾[سورة: يس الآية (69).] وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ﴾[سورة: الشعراء الآية (210)،(211).] وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء﴾[سورة: الفرقان الآية (18).] .
[الشرح]
نعم يقول -رحمه الله-: (حتى نهى عن الصلاة في هٰذين الوقتين لكونها ذريعة إلى التشبيه بعبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين.) المؤلف -رحمه الله- يشير بالوقتين إلى وقت غروب الشمس ووقت شروقها وقت شروق الشمس ووقت غروبها وقد جاء النهي عن هـٰذا في أحاديث عديدة منها ما في الصحيحين من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز))إذا طلع حاجب الشمس أي طرفها الأعلى فدعوا الصلاة أي اتركوها حتى تبرز ((وإذا غرب حاجب الشمس))يعني الأسفل ((فدعوا الصلاة حتى تغيب))ثم قال: ((ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها))[البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، حديث رقم (3272-3273).مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، حديث رقم (828- 829).] وكذلك جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق يحي بن أبي كثير عن أبي أمامة عن عمر بن عبسة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في ذكر الصلاة قال: ((صل الصبح ثم أقصر))يعني أمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ((ثم صلي العصر ثم أقصر حتى تغيب الشمس))وقال له في صلاة الصبح قال: ((فحينئذ يسجد الكفار حين تطلع الشمس بين قرني شيطان))[مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، حديث رقم (832).] وهـٰذا يبين لنا أن النهي عن السجود في هذين الوقتين هو الامتناع عن السجود للشمس عند غروبها والشمس عند شروقها، وكذلك الامتناع من السجود للشيطان لأنه يأتي في هـٰذه الحال عند غروب الشمس وعند شروقها، فالذين يسجدون للشمس في الشروق و الغروب إنما يسجدون للشيطان، فيخيل له أنه إله يعبد، ولذلك منع الشرع من السجود لله تعالى في هذين الوقتين؛ لأجل حماية أهل الإسلام من مشابهة الكفر في عبادة غير الله تعالى.
وهـٰذا من حماية التوحيد وصيانته.
يقول -رحمه الله-: (وسدَّ الذريعة بأن مَنَعَ من الصلاة بعد العصر) عندنا الآن وقت تحريم هو غاية ووقت تحريم هو وسيلة:
فوقت التحريم الذي هو غاية وقت الغروب ووقت الشروق.
والذي هو وسيلة من بعد صلاة الصبح إلى أن تبدأ الشمس في الشروق، ومن بعد العصر إلى بداية الغروب هـٰذا وقت وسيلة.
ثم وقت الغاية من بداية الغروب إلى أن يستتم غروبها، ولذلك أوقات النهي هي في الجملة ثلاثة وبالتفصيل خمسة، وهـٰذا معروف، فالأوقات الرئيسة هي ما تضمنها حديث عقبة بن عامر: نهانا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في ثلاثة ساعات أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا، وهي حين تشرق الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب. هـٰذه الأوقات أوقات مقصودة، النهي فيها مقصود ومؤكد أكثر من الأوقات التي هي من باب سد الذرائع، ولذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: (وسدَّ الذريعة بأن مَنَعَ من الصلاة بعد العصر والصبح لاتصال هٰذين الوقتين اللذينيسجد المشركون فيهما للشمس).
يقول -رحمه الله-: (وأما السّجود لغير الله) هـٰذه مسألة أخرى لكنها متصلة بصيانة التوحيد وحمايته.
فمن صيانة التوحيد وحمايته أنه منع من السجود لغير الله، ولو كان ذلك على وجه التحية أو على وجه التقدير، قال: (وأما السّجود لغير الله فقد قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله))) مع أنه ينقسم السجود إلى نوعين: سجود تحية، وسجود عبادة.
سجود التحية كان في الأمم السابقة، ومنه سجود إخوة يوسف ليوسف عليه السلام.
وسجود العبادة هو ما أمر الله تعالى به خضوعا وذلا له -جل وعلا-، ولا يكون إلا له.
فنهيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن السجود في قوله: ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله))هـٰذا يدل على تحريم السجود لغير الله جل وعلا، وأنه يجب إفراده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعبادة، وهو صيانة للتوحيد وحماية.
وقد جاء هـٰذا النهي من طرق عديدة، جاء عن أكثر من أحد عشرة صحابيا أو قريبا من أحد عشرة صحابيا، كما ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله- في السنن.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا ينبغي لأحد))أي لا يحل شرعا، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: ((ولا ينبغي) في كلام الله ورسوله إنما تستعمل للذي هو في غاية الامتناع) يعني عدم الجواز وعدم إمكان الوقوع، والامتناع إما أن يكون شرعيا وإما أن يكون قدريا، في قوله: ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله))امتناع إيش؟ شرعي.
قال -رحمه الله- : (كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً﴾) الامتناع هنا إيش ؟ قدري، ﴿وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ قضى الله تعالى أن لا يكون له ولد.
وقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾[سورة: يس الآية (69).] الامتناع هنا إيش ؟ شرعي أم قدري ؟ يعني ما يجوز للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتعلم الشعر أو أنه قدرا ؟ الواقع أنه قدر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما تعلم الشعر، قضى الله أن لا يتعلم، ولذلك ما تعلم الشعر ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾ قال: وما تنزلت به لأنه الآن الله -جل وعلا- هنا يقول: ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾قدرا لأنه تكلم -جل وعلا- عن فعل ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ وما ينبغي له تعلمه لكون ذلك منه قدرا ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ﴾[سورة: الشعراء الآية (210)،(211).] الامتناع هنا إيش ؟ وما ينبغي لهم قدري أم شرعي ؟ قدري ﴿مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء﴾[ سورة: الفرقان الآية (18).]الامتناع هنا شرعي.
من أمثلة الامتناع الشرعي أيضا قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: الله تعالى: ((يشتمني ابن آدم وما ينبغي له، ويكذبني))[البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: ﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه﴾، حديث رقم (3193).]، (وما ينبغي له) يعني يستحيل عليه شرعا، يحرم عليه شرعا أن يشتم الله تعالى أو أن يكذبه.
وبهـٰذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف -رحمه الله- مما يتعلق بالقسم الأول من أنواع الشرك، فإن المؤلف قال: (والشرك يكون في الأفعال وفي الألفاظ وفي الإرادات) في قوله: (فتضمنت هـٰذه الآية ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[سورة: الفاتحة الآية (05).]تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات) فانتهي الآن المؤلف -رحمه الله- من الأفعال وانتقل إلى القسم الثاني وهو الشرك الواقع في الألفاظ.
[المتن]
ومن الشرك بالله تعالى المباين لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُد﴾ الشرك به في اللفظ كالحلف بغيره، كما رواه الإمام أحمد وأبو داوود[مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر) حديث رقم (5375)، قال أحمد شاكر: صحيح الإسناد. سنن أبي داوود: كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، حديث رقم (3251)، سنن الترمذي: النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، حديث رقم (1535). قال الشيخ الألباني: صحيح.] عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))صححه الحاكم وابن حبان.[الحاكم (1/18 و4/297)، وابن حبان (177-موارد).]
قال ابن حبان: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا عبد الله بن عمر الجعفي حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن الحسن بن عبيدالله النخعي عن سعدبن عبيدة قال كنت عند ابن عمر فحلف رجل بالكعبة فقال ابن عمر: ويحك! لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:((من حلف بغير الله تَعَالىٰ فقد أشرك)).
[الشرح]
هـٰذا هو القسم الثاني من أقسام الشرك التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- في هـٰذا الكتاب يقول -رحمه الله-: (ومن الشرك بالله تعالى المباين لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُد﴾) المباينة هناقد تكون مباينة كلية وقد تكون مباينة جزئية:
المباينة الكلية هي التي يخرج بها الإنسان من الإسلام إلى الكفر، وهـٰذه هي الأقوال التي يكون صاحبها قد وقع في الشرك الأكبر المخرج عن الملة.
والمباينة الجزئية هي التي يتكلم فيها الإنسان بكلام من وسائل الشرك وذرائعه، ولكنها لا تصل به إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وهـٰذه لا شك أنها خطيرة ويجب التوقي من التكلم بها والحذر؛ لكنها لا توصف بأنها شرك أكبر وهكذا في الأقوال وهكذا في الاعتقادات، كل الشرك الواقع في جميع المحال على هـٰذا النحو منه من يباين مباينة كلية، ومنه ما يباين مباينة جزئية؛ يعني منه ما هو شرك أكبر مخرج عن الملة ومنه ما هو شرك أصغر يكون صاحبه في دائرة الخطر؛ لكنه لا يخرج به عن الإسلام ولا يرتفع عنه حكم أهله.
يقول -رحمه الله-: (ومن الشرك بالله تعالى المباين لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُد﴾ الشرك به في اللفظ) أي الشرك الواقع في القول، فاللفظ هو القول الصادر عن الإنسان، واللفظ يطلق على كل ما صدر عن الإنسان سواء أن كلاما مفيدا أو غير مفيد، ولذلك في تعريف الكلام، لا في يقال أن الكلام هو اللفظ؛ بل لا بد من تقييدات يتبين بها اللفظ المفيد من غيره، ولذلك يقول ابن مالك في تعريف الكلام:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم |
|
..................................... |
قوله: (لفظ) يخرج الألفاظ التي لا يحصل بها الفائدة، فقوله هنا: (الشرك في اللفظ) يعني في الكلام، (الشرك في اللفظ) مراد المؤلف بالشرك في اللفظ؛ يعني صرف ما يجب إفراد الله تعالى به من الألفاظ لغيره، صرف ما يجب إفراد الله تعالى به من الألفاظ إلى غيره أو لغيره، فالله -جل وعلا- أوجب على عباده أن يفردوه بالحلف، فلا يحلفوا بآبائهم ولا بغير الله تعالى، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في الصحيح:((من كان حالفا فليحلف بالله))[البخاري: كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، حديث رقم (6108).مسلم: كتاب الأيمان، النهي عن الحلف بغير الله تَعَالىٰ، حديث رقم (1646).] فهـٰذا بين أنه لا يجوز صرف هـٰذا النوع من اللفظ لغير الله تعالى، فمن صرفه لغيره فقد وقع في الشرك، ولذلك مثل المؤلف -رحمه الله- في أول ما مثل بالحلف، ولماذا اختار الحلف في أول أمثلة الشرك في الألفاظ، هل هو أخطر الشرك في الألفاظ، المؤلف ذكر أمثلة الآن هو ذكر في أول الأمثلة الشرك في الحلف قال: (كالحلف بغيره) لكثرة ذلك؛ لأنه كثير في ألسنة الناس، ولذلك بدأ به المؤلف -رحمه الله- لكثرته حتى ينهى عنه ويبين أنه من الشرك، وإلا فهو ليس الحلف أخطر أنواع الشرك اللفظي؛ بل هناك ما هو أخطر كدعاء غير الله الاستغاثة بغير الله وما أشبه ذلك مما قد يأتي الإشارة إليه.
قال -رحمه الله- كالحلف بغيره، والحلف هو ذكر معظم لتوكيد المحلوف عليه، سواء كان نفيا أو إثباتا، أو حثا أو منعا، فالحلف هو في الحقيقة ذكر لمعظم، فائدة ذكر هـٰذا المعظم توكيد الخبر أو الإنشاء، الحث والمنع أو التصديق والتكذيب، يقول: (الحلف بغيره) أي بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته وما يختص به -جل وعلا-، فيشمل هـٰذا الحلف بالآباء، الحلف بالأنبياء، الحلف بالأموات، الحلف بكل ما سوى الله -جل وعلا- (كما رواه الإمام أحمد وأبو داوود عنه أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) صححه الحاكم وابن حبان). والمؤلف -رحمه الله- بعد أن ذكر الحديث ومن صححه ساق إسناده، قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من حلف بغير الله))، ((من حلف))هـٰذه جملة شرطية فيها فعل الشرط ((حلف))وجوابه في قوله: ((فقد أشرك))، وهـٰذا فيه الحكم على كل من حلف بغير الله، قوله: ((من حلف بغير الله))الحلف هو قسم مقصوده التوثيق بذكر معظم، التوثيق والتوكيد بذكر معظم، وقوله: ((بغير الله))أي بغير اسم الله تعالى وسائر أسمائه، وليس المقصود اسم الله -جل وعلا- (الله)، بل يصح الحلف بغيره من أسمائه -جل وعلا- فقوله: ((بغير الله))أي بغير ذات الله تعالى وصفاته وما يختص به -جل وعلا-، ((فقد أشرك))هـٰذا فيه الحكم عليه بالشرك، والحكم هنا بالشرك يحتمل أنه شرك أكبر، ويحتمل أنه شرك أصغر، وذلك باعتبار ما يقوم بقلب الحالف، فإذا كان الحالف يريد بمن ذكره في يمينه؛ أنه معظم عنده كتعظيم الله تعالى، فإنه قد وقع في أي نوع من أنواع الشرك؟ في الشرك الأكبر المخرج عن الملة.
وإن كان مقصوده أنه معظم، لكنه لا يصل في تعظيمه إلى ما يستحقه الله -جل وعلا- من التعظيم والإجلال والتقدير فإنه من الشرك الأصغر؛ أي من وسائل وأسباب الشرك؛ لأنه إذا حلف به وذكره في حلفه ويمينه معظما له يوشك أن يصرف إليه أنواعا من العبادة قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))وهـٰذا فيه الجزم لأنه أشرك، وفي بعض الروايات ((فقد كفر أو أشرك))وفي بعضها ((قد كفر وأشرك))والذي يظهر أنه لا فرق بين هـٰذه الروايات فيما تفيد من الحكم، وهو أن من حلف بغير الله تعالى فقد وقع في الكفر أو في الشرك سواء كان الكفر الأكبر أو الأصغر.
يقول -رحمه الله-: (صححه الحاكم وابن حبان، قال ابن حبان: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا عبد الله بن عمر الجُعْفِي، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، حدثنا الحسن بن عبيد الله النخعي عن سعد ابن عبيدة، قال: كنت عند ابن عمر فحلف رجل بالكعبة) يعني قال: والكعبة. (فقال ابن عمر: ويحك! لا تفعل)، (ويحك) هـٰذه كلمة ترحم، وهي تقابل: (ويلك) فهي تقال لمن تشفق عليه وترحمه بخلاف كلمة (ويلك) فإنها تقال لمن تزجره وتنهاه وتتوعده بالعقوبة أو تدعو عليه بالعقوبة (لا تفعل) هـٰذا نهي أن يحلف بغير الله تعالى قال: (فإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((من حلف بغير الله تعالى فقد أشرك))) والسر الذي جعل الحلف بغير الله تعالى شركا هو إيش؟ التعظيم . أن الحلف يتضمّن تعظيم المحلوف به وهـٰذا لا يصلح إلا لله تعالى، فلا يجوز الحلف بغيره -جل وعلا- ومن حلف بغير الله تعالى، فإنه قد وقع في ما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في أحاديث عديدة، المؤلف ذكر حديثا واحدا من الأحاديث الواردة في ذلك، وإلا فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النهي عن ذلك أحاديث متعددة، منها ما في الصحيحين من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أدرك عمر يحلف بماذا؟ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((ألا لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت))وقوله: ((فليحلف بالله))قلنا: إنه ليس المقصود الحلف بهـٰذا الاسم على وجه الخصوص إنما المقصود بصاحب هـٰذا الاسم بهـٰذا الاسم وغيره من أسماء الله تعالى وصفاته.
قال -رحمه الله-:
[المتن]
ومن الإشراك قول القائل لأحد من الناس: ما شاء الله وشئت. كما ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده))[ مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر): حديث رقم (1839)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. سنن البيهقي: كتاب الجمعة، باب ما يكره من الكلام في الخطبة، حديث رقم (5812).
أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (139) وقال: إسناده حسن.] هٰذا مع أن الله سبحانه قد أثبت للعبد مشيئة كقوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾[سورة: التكوير، الآية (28).]، فكيف بمن يقول: أنا متوكّل على الله وعليك، وأنا في حَسَبِ الله وحَسَبِكَ، ومالي إلا الله وأنت، وهٰذا من الله ومنك، وهٰذا من بركات الله وبركاتك والله لي في السماء وأنت لي في الأرض.
[الشرح]
قال -رحمه الله- في ثاني مثال ذكره المؤلف -رحمه الله- من أمثلة الشرك في الألفاظ: (ومن الإشراك قول القائل لأحد من الناس: ما شاء الله وشئت.) فأضاف مشيئة غير الله تعالى أو عطف مشيئة غير الله تعالى على مشيئة الله تعالى بحرف الواو الذي يقتضي التسوية، ولا شك أن الشرك دائر على إيش؟ دائر على تسوية غير الله تعالى به، فلا يجوز تسوية غير الله تعالى به لا في القول ولا في العمل ولا في الاعتقاد، فقوله: (ما شاء الله وشئت) سوى بين مشيئة الله تعالى ومشيئة غيره في حصول الأمر، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن ذلك يقول: (كما ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال) النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده))وهـٰذا الحديث فيه النهي عن قول: ما شاء الله وشئت؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جعل ذلك من التنديد قال: ((أجعلتني لله ندا؟))والند هو النظير والمثل، وقد نهى الله تعالى عن أن يسوّى به غيره فقال جل وعلا: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون﴾[سورة: البقرة الآية (22).] ولذلك نهاه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن سوّاه بالله تعالى، أن سوى هـٰذا الرجل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالله في شيء من الأشياء هو المشيئة (ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده))) وجَّهه إلى ما يجب أن يقوله على وجه الكمال، ما شاء الله وحده، وهـٰذا الحديث رواه الإمام أحمد وغيره من طريق الأجلح بن عبد الله، عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه الأجلح، وقد تكلم فيه جماعة من أهل العلم؛ لكنه جاء من حديث حذيفة بإسناد لا بأس به، وفيه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان))،[سنن أبي داوود: كتاب الأدب، باب لا يقال: خبثت نفسي، حديث رقم (4980)، قال الشيخ الألباني: صحيح، وهو برقح (137) في السلسلة الصحيحة.] وهـٰذا الحديث فيه جواز عطف مشيئة غير الله تعالى على الله بغير ما يفيد التسوية؛ يعني بحرف لا يفيد التسوية، وهو (ثم) التي تفيد التعقيب والترتيب والتراخي وتفيد النزول في الرتبة عن المتقدم ذكرا، بخلاف الواو في قول: (ما شاء الله وشئت) فإن الواو قلنا تفيد إيش ؟ التسوية.
والواو من حيث اللغة للجمع المطلق، فتوهم هـٰذه الكلمة الشركة والتسوية بين مشيئة الله تعالى ومشيئة العبد، ولذلك نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، وفي بعض الروايات قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للرجل: ((أجعلتني لله عدلا؟))أي: مساويا، مثيلا ((قل: ما شاء الله وحده))وهـٰذا يدل على نهي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وملاحظته ذلك في الألفاظ، يقول المؤلف -رحمه الله-: (هـٰذا مع أن الله سبحانه قد أثبت للعبد مشيئة) يعني العبد له مشيئة؛ لكن لا يجوز ذكر مشيئة العبد مع مشيئة الرّب -جل وعلا- على وجه التسوية؛ لأن الله فرق بين المشيئتين فقال جل وعلا: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾[سورة: الإنسان الآية (30).] فجعل مشيئة العبد تابعة لمشيئته، وجعل مشيئته حاكمة غالبة على مشيئة غيره، فيدل هـٰذا على أنه لا يجوز أن تسوى مشيئة الله تعالى بغيره، وقد جاء في عدة نصوص ذِكْر الله وذكر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما يفيد العطف بحرف الواو؛ لكن هـٰذه الموارد التي جاءت وأذن فيها الشارع أو تكلم بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا تفيد التسوية.