الدرس (8) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه ونثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فيقول –رحمه الله-: هذا مع أن الله تعالى سبحانه قد أثبت للعبد مشيئة في كقوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾[التكوير: 28]، فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك؟
المؤلف –رحمه الله-يقول: إذا كان من سوى بين الله تعالى وبين غيره فيما هو ثابت لله وثابت للعبد، فكيف فيما لا يثبت أو لم يثبت إلا لله تعالى مثل التوكل، التوكل قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 23] فهو حق لله لا يشركه فيه غيره، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5]، فلا يجوز التوكل على غير الله تعالى، لأن التوكل عمل قلبي لا يكون إلا لله تعالى، فإذا كان ما ثبت للمخلوق لا يضاف إلى الله تعالى أو لا يعطف على الله –جل وعلا-في ذكر الله تعالى بالواو التي تفيد التسوية والتشريك، وتوهم الجمع المذموم، فكيف بما ليس للعبد فيه حق يكون النهي هنا أوكد وأشد.
يقول –رحمه الله-: فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، طيب لو قال: أنا متوكل على الله ثم عليك هل يخرج من الإشكال؟ بعض أهل العلم يقول: يخرج من الإشكال، والصحيح أنه لا يخرج من الإشكال لأن التوكل عمل قلبي لا يكون إلا على الله تعالى، ولا يكون إلا له –جل وعلا-لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾[المائدة: 23]، قد ذكر هذا في قول شيخ الإسلام –رحمه الله-في بعض رسائله، إنما يقول: توكلت على الله ثم يقول: ووكَّلتك، أو فوضتك أو ما أشبه ذلك من الألفاظ التي تفيد إسناد الأمر أو تفيد تفويض الغير في فعل ما يريد من الأمور لكن ليست بلفظ "توكل"؛ لأن التوكل لا يكون إلا لله تعالى وهو من أعمال القلوب التي يجب إخلاصها لله –جل وعلا-.
قال –رحمه الله-: وأنا في حسب الله وحسبك أي: إن هذا من ألفاظه الشركية، الحسب هو: الكفاية، والقرآن لم يذكر الكفاية إلا بالله –جل وعلا-، لا بغيره، قال –جل وعلا-: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾[الأنفال: 62]، وقال –جل وعلا-في خبر الذين قالوا للنبي –صلى الله عليه وسلم-﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾[آل عمران: 173]، فماذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173]، فالحسب لله وحده، الكفاية له وحده ليست لغيره، ولذلك لا يجوز أن يقول العبد: حسبي الله وحسبي كذا بمعنى أنه يكفيه ما أهمه، لكن لو قال: حسبك يعني يكفيك مثلا ما أخذت من مال، يكفيك ما قرأت، فإن هذا لا بأس به، وقد جاء في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء حتى بلغ قول الله تعالى «{فَكيفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بشَهِيدٍ، وجِئْنا بكَ علَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قالَ: حَسْبُكَ»[] يكفيك، هذه الكفاية ليست معناها معنى الكفاية التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾[الأنفال: 62]وفي قوله تعالى ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173]، هذه الكفاية التامة المطلقة التي تقتضي الوقاية من الشرور وتحصيل الخير، فإن هذه لا تكون إلا من الله –جل وعلا-فلا يجوز للعبد يقول مثلا، يأتيك شخص خائف تقول: حسبك الله ثم أنا، هذا لا يصلح لأن الحسب لله وحده، كذلك لا يجوز -أشد من هذا- أن يقول: حسبك الله وأنا، فإن هذا من الشرك.
يقول –رحمه الله-: ومالي إلا الله وأنت، هذا أيضًا لا يصلح لأنه تسوية بين الله تعالى وغيره فيما لا يكون إلا لله تعالى، وهي تفيد الاعتماد والتوكل والاستعانة والاستغاثة واللجأ والاعتصام، مالي إلا الله فأعتصم به وألتجئ إليه وأرقب الفرج منه، هذا معنى هذه الكلمة، وهذه لا تصلح إلا لله –جل وعلا-، "وهذا من الله ومنك" أيضًا لا يجوز مثل هذا؛ لأن الكل من الله تعالى، كما قال –جل وعلا-: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]، ليست من غيره، غيره كلها أسباب تمضي ما قضى، وتفعل ما أمر –جل وعلا-.
قال –رحمه الله-: وهذه من بركات الله وبركاتك.
وهذا غلط أيضًا "من بركات الله" أي: من خيراته ونعمه وحسانته، فلا تسوى بركات الله –جل وعلا-ببركات غيره، فهو –جل وعلا-المتبارك ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾[الملك: 1] تبارك وتعالى، ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[المؤمنون: 14]، ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[غافر: 64] فهو –جل وعلا-الذي كثرت خيراته وفاضت على عباده، فليس له نظير في ذلك.
وهذا الفعل "تبارك" مما لا يقال إلا لله –جل وعلا-فهو من الأفعال المختصة به –جل وعلا-ولذلك لا يقال تبارك زيد، ولا تبارك رسول الله، فمهما كثر خير العبد ونفعه لا يوصف بهذا، لأنه الذي لله –جل وعلا-ليس لأحد سواه.
كذلك وهذا من بركة الله ثم بركاتك، هذه الألفاظ محتملة، هذه والتي قبلها يحتمل أنه أصبح أن يقول "هذه من الله ثم منك" على وجه التبع والسبب، وهذه من بركات الله ثم بركاتك على وجه التبع والسبب لكن ما قبله لا يكون إلا لله تعالى، "والله لي في السماء وأنت لي في الأرض" أعوذ بالله، هذا من أشق الألفاظ وأرعنها، لأنه تسوية بل ليس تسوية، يقول لي الله في السماء ينصرني، وأنت لي في الأرض وكأن الله تعالى لا ينصره في الأرض، وهذا جهل بالله تعالى وضلال كبير وخطأ في اللفظ.
يقول المؤلف –رحمه الله-وازن بين هذه الألفاظ الصادرة من غالب الناس اليوم وبين ما نهي عنه أو ما نهى عنه في قوله: ما شاء الله وشئت وازن تجد بونا شاسعا وغلوا كثيرا وفرقا كبيرا بين هذه الألفاظ وبين ذلك اللفظ الذي غايته الخطأ في العطف بتسوية الله تعالى بالإتيان بحرف يسوى به الله تعالى وغيره.
قال –رحمه الله-: ثم انظر أيهما أفحش يتبين لك أن قائلها أولى بالبعد من "إياك نعبد" يعني أولى بالبعد من تحقيق العبودية لله تعالى من تحقيق التوحيد، وبالجواب من النبي –صلى الله عليه وسلم-لقائل تلك الكلمة وأنه إذا كان قد جعل رسول الله ندا، فهذا قد جعل من لا يدانيه لله ندا، والنبي –صلى الله عليه وسلم-أعظم الخلق جاهًا عند ربه، ومع ذلك لم يرض أن يسوى بينه وبين الله تعالى، فكيف بغيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة: 5] هي السجود والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتوبة والنذور والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعا وتعبدا، والدعاء، كل ذلك محض حق لله تعالى.
وفي مسند أحمد أن رجلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلّم قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: «اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال صلى الله عليه وسلّم: عرف الحق لأهله»[حديث ضعيف، أخرجه أحمد ف مسنده(15587)، وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي] وخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سريع وقال: حديث صحيح.
فهذا المقطع من كلام المؤلف –رحمه الله-هو بقية ما ذكره فيما يتعلق بالقسم الثاني من أقسام الشرك، وهو الشرك الواقع في الألفاظ، وقد ذكر المؤلف –رحمه الله-عدة نماذج وأمثلة للشرك الواقع في الألفاظ وبعد ذلك أشار إلى أن الألفاظ التي نهي عنها مما يكون فيه تسوية الله تعالى بغيره يقول كثير من الناس ما هو أعظم منها، ومثل لذلك بقوله –رحمه الله-: أنا في حسب الله وحسبك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وما إلى ذلك، ثم طلب المقارنة فقال: وازن بين هذه الألفاظ الصادرة من غالب الناس اليوم وبين ما نهي عنه من قول: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش، يتبين لك أن قائلها أولى بالبعد من إياك نعبد، وبالجواب من النبي –صلى الله عليه وسلم-لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ندا، فهذا قد جعل من لا يدانيه لله ندا، جعل رسول الله ندا وهو أعظم الخلق جاهًا، ومع ذلك أنكر عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-فغيره من باب أولى.
قال –رحمه الله-: "وبالجملة" وهذه خاتمة ما يتعلق بشرك الألفاظ "وبالجملة فالعبادة المذكورة في إياك نعبد" أي في قوله: –جل وعلا-: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة: 5]، هي السجود والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتوبة والنذور، وهذه أمثلة.
قال: والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعا وتعبدا والدعاء، كل ذلك محض حق الله تعالى، هذه المجموعة من العبادات التي ذكرها المؤلف –رحمه الله-منها ما هو قولي ومنها ما هو فعلي، ومنها ما هو قلبي، فهي في الحقيقة المجيء بها هنا قبل الفراغ من ذكر الشرك لإيرادات لعل فيه تقديما وتأخيرا من النساخ، وإلا فإن الأولى بهذه العبارة أن تكون بعد ذكر ما يتعلق بشرك النيات.
على كلٍّ نحن نعلق عليها في موضعها الذي جاء في الكتاب، لكن هي أحق بأن تكون في خاتمة صور الشرك كلها.
قال –رحمه الله-: "فالعبادة المذكورة في قوله إياك نعبد هي السجود والتوكل، السجود عمل بدني، والتوكل عمل قلبي، والإنابة عمل قلبي، والتقوى تكون في القلب واللسان والجوارح، والخشية في القلب، والتوبة تكون في القلب واللسان، والنذور هي أعمال قولية، وتكون أيضًا قلبية من جهة نية التقرب بها والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعًا وتعبدًا الطائفة الأولى كلها قولية، وحلق الرأس عملي والدعاء قولي، ويكون أيضًا عمليًّا.
فهذه كلها من العبادات التي تدخل في قوله: إياك نعبد، وإياك نعبد يشمل كل عبادة أمر الله تعالى بها ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب، من العبادات الظاهرة ومن العبادات الباطنة، وهذا يريحك من أن تبحث عن الأمثلة أو أن تستحضرها؛ لأنه إذا أردت أن العبادة التي في قول إياك نعبد هي كل ما أمر الله به ورسوله من العبادات الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة، بين لك ما المقصود بإياك نعبد، فكل عبادة يمكن أن تندرج بل كل عبادة تندرج تحت هذا التوحيد في قوله –جل وعلا-إياك نعبد.
ثم قال المؤلف –رحمه الله-: كل ذلك محض حق الله تعالى أي: حقه الذي لا يجوز أن يشرك معه فيه غيره، بل يجب أن يفرد به –سبحانه وتعالى-وألا يسوى فيه غيره بأي نوع من التسوية.
ثم قال –رحمه الله-: وفي المسند في الاستدلال لكون ذلك حقه الذي لا يجوز أن يشرك فيه أو يشرك معه فيه غيره ذكر المؤلف –رحمه الله-حديثا والأدلة على هذا كثيرة، لكن المؤلف –رحمه الله-اختصر على ذكر هذا الحديث لكونه مما يتعلق بالعبادات القلبية والعبادات أيضًا اللفظية، وهو ما جاء في مسند الإمام أحمد أن رجلا أتي به للنبي –صلى الله عليه وسلم-قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه أي بين يدي النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد»[سبق]
التوبة معناها: الرجوع هذا من حيث اللغة، تاب من كذا أي: رجع منه، فالتوبة يدور معناها على الرجوع وهي رجوع في الاصطلاح الشرعي، رجوع من الخطأ إلى الصواب، من المعصية إلى الحسنة، من التقصير إلى التكميل، وهذا الرجل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مذنبًا قال: هذه الكلمات التي هي من الحق فقال: «اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد»، وفي هذا نوع جفا لكن النبي –صلى الله عليه وسلم-لما كانت هذه الكلمة كلمة حق قال: «عرف الحق لأهله» يعني التوبة الحقيقية الكاملة المطلوبة هي التوبة إلى الله تعالى الرجوع إلى الله تعالى، لا الرجوع إلى غيره.
والرجوع إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بترك المعصية، ومعرفة حقه –صلى الله عليه وسلم-هذا مما هو حقه –صلى الله عليه وسلم-لكن لعل الذنب الذي وقع فيه الرجل مما يتعلق بحق الله لا بحق النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولذلك ليس هناك رجعة إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-: لأن الذنب الذي قارفه هذا الرجل مما يتصل بالله تعالى، وبه ينحل الإشكال الذي قد يرد في أذهان بعض الناس مما في الصحيحين من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها «أنَّها اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فيها تَصاوِيرُ، فَلَمَّا رَآها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قامَ علَى البابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفَتْ في وجْهِهِ الكَراهيةَ، قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، أتُوبُ إلى اللَّهِ وإلَى رَسولِهِ، ماذا أذْنَبْتُ؟»[صحيح البخاري(2105)، ومسلم(2107)]، فجعلت التوبة إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم-لكن التوبة هنا مختلفة، التوبة إلى الله ليست كالتوبة للنبي –صلى الله عليه وسلم-لكن ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-لأن له حقا في الأمر، وهو ما يتعلق ببيته، فهي ترجع إلى الله تعالى من الذنب الذي يتعلق به وينقص حقه وتتوب إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-فيما يتعلق بحقه، وحق النبي –صلى الله عليه وسلم-من حق الله، فلا إشكال في هذه اللفظة، وليس فيها تسوية غير الله تعالى بالله للعلم بتفاوت بين التوبتين؛ التوبة إلى الله تعالى، والتوبة إلى رسوله.
على أن الحديث الذي ذكره المؤلف –رحمه الله-يقول وخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سريع وقال حديث صحيح، فالحاكم –رحمه الله-ممن يتجاوز ويتساهل كثيرًا في التصحيح وحكم على الحديث بأنه على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما، ويوافقه في ذلك الذهبي كثيرا.
هذا الحديث من رواية الحسن عن الأسود بن سريع، والحسن في سماعه من الأسود خلاف، ولذلك ضعف جماعة من العلماء هذا الحديث لعدم سماع الحسن من الأسود بن سريع، لكن جاء ما يدل على السماع، ففي التاريخ الصغير للبخاري –رحمه الله-ذكر هذا الحديث، وفيه تصريح الحسن بالسماع من الأسود حيث قال: حدثنا الأسود، لكن فيه آفة أخرى وهي محمد بن مصعب وهو أحد رجال الحديث وفيه ضعف، فالحديث لأجل هذا ضعيف.
وأما رواية الحسن عن الأسود فليست منقطعة، كما جاء ذلك في التاريخ الصغير حيث قال الحسن: حدثني الأسود هذا ما يتعلق بهذا المقطع من كلام المؤلف –رحمه الله-وهو القسم الثاني من أقسام الشرك، وهو الشرك الواقع في الألفاظ.
"وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن نوى بعمله غير وجه الله تعالى فلم يقم بحقيقة قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فإن إِيَّاكَ نَعْبُدُ هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ فاستمسك بهذا الأصل، وردّ ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تحقّق معنى الكلمة الإلهية".
هذا القسم الثالث من أقسام الشرك، وهو الشرك الإرادات والنيات، ولم يذكر المؤلف –رحمه الله-له إلا مثالًا واحدًا.
قال –رحمه الله-: وأما الشرك في الإيرادات والنيات يعني في المقاصد والغايات، فذلك البحر الذي لا ساحل له وصدق –رحمه الله-ذلك أي: الشرك في هذا الباب البحر الذي لا ساحل له من حيث تنوعه وكثرته وخطورته وشدته وخفائه أيضًا، فإنه يخفى على كثير من الناس كثير من ألوان، هذا الشرك الذي نسأل الله أن يسلم قلوبنا منه، وهو الشرك في القصد والطلب.
ولا شك أن الشرك في القصد والطلب مما يؤثر على العمل تأثيرًا بالغًا، فهو من أعظم أسباب حبوط العمل ورده وعدم قبوله، كما دل على ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق العلاء ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي –صلى الله عليه وسلم-يقول الله تعالى: «أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ».[صحيح مسلم(2985)]
وهذا فيه التحذير من قصد غير الله تعالى في العمل، والأحاديث فيما يتعلق بشرك النيات وتصحيح القصد لله تعالى وما يتعلق بإفراده –جل وعلا-بالعمل كثيرة جدا.
يقول –رحمه الله-: وقل من ينجو منه أي: من أن يتورط في شيء من صوره، أو يتلطخ بشيء من أعماله، ولكن النجاة في أن يداوم العبد النظر في قلبه، وأن يفتش ما فيه من المقاصد والنيات، وأن يخلص الطلب لله تعالى، وأن يديم الدعاء بأن يخلص قلبه ويخلصه من هذه الآفة.
ولذلك جاء في الحديث -وإن كان سنده فيه بعض المقال في بيان خطورة الشرك- من حديث عائشة وغيرها أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «الشِّركُ أخفى في أمَّتي من دَبيبِ النَّملِ علَى الصَّفا في اللَّيلةِ الظَّلماءِ»، وفي سؤال أبي بكر «فكيفَ النجاةُ والمخرجُ من ذلك فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ألا أُعلِّمُك شيئًا إذا قُلتَه برِئتَ من قليلِه وكثيرِه قال قُلِ اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أُشركَ وأنا أعلمُ وأستغفرُك مِمَّا لا أعلمُ»[أخرجه أحمد في مسنده(19606)، وسنده ضعيف]، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من دعائه الذي حفظ عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحًا واجعله لك خالصًا ولا تجعل فيه لأحد نصيبًا"، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحضروه خطورة الأمر ويلاحظونه ملاحظة فائقة ويولونه عناية خاصة، كيف والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في المسلم من حديث محمود بن لبيد «إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصغرُ قالوا: يا رسولَ اللهِ وما الشِّركُ الأصغرُ، قال: الرِّياءُ»[أخرجه أحمد في مسنده(23630)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/207، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. ] وهو من الشرك الواقع في النيات والمقاصد، ولذلك يجب على طالب العلم يجب على كل مسلم فضلا عن طالب العلم الذي قد يصيب قلبه من ذلك ما لا يصيب غيره، يجب أن يتحرى الرغبة فيما عند الله تعالى والقصد له –جل وعلا-في قوله وحاله وعمله، وأن يعلم أن ما كان لله فهو الباقي، وما ليس لغيره فهو يضمحل، والله –جل وعلا-لا يصلح عمل المفسدين، ولا يمكن أن يوفق الإنسان بنية مشوبة برياء وعجب وتسميع وما إلى ذلك من ألوان الآفات التي تصيب العمل، فلا بد من إخلاص القصد والطلب، وأن يعلم العبد أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه، كما جاء في الصحيح في حديث أبي أمامة في المسند وغيره.[أخرجه النسائي في "المجتبى" 6/24 ، وجَوَّدَ إسناده الحافظُ في "الفتح" 6/28.]
وهذه مسألة يحتاج أن يتعهد الإنسان نفسه فيها دائما، ليست في مرحلة ولا في زمن ولا في منزلة، بل هو في الليل والنهار، في القدوم والذهاب، في القيام والقعود، في سائر حاله يحتاج إلى أن يراقب نيته، والذي يغفل عن نيته يدخله من الفساد ما لا يوصف، ويفوته من الخير والأجر ما لا يوقف له على حد، بخلاف الذي يصحح النية ويقصد الله –جل وعلا-بخصوص الطلب، ويجعل قصد الله تعالى بين عينيه في قيامه وقعوده، في ذهابه ومجيئه، في حديثه وسكوته، فإنه يدرك خيرًا كثيرًا وفضلا كبيرا، وأجرا عظيما لا يدركه غيره.
هذا مع السلامة من المؤاخذة؛ لأن الذي يخلط في عمله يفوته الأجر هذا واحد «أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ».[سبق]
فالترك معناه عدم القبول والرد هذا إن سلم من المؤاخذة، فإنه وإذا قصد غير الله تعالى بعمله قد يؤاخذه الله –جل وعلا-على ذلك، ويعاقبه على هذه النية التي صرفها لغيره –جل وعلا-، فالمسألة تحتاج إلى نظر وتحرير ومراقبة ودوام عناية، ليس في لحظة ولا في وقت ولا في زمن بل في كل حال وفي كل حين وفي كل وقت وعلى دوام الليالي والأيام، هذه عبادة مستمرة لا تنقطع؛ لأن التوحيد والإخلاص هما عبادة العمر، لا ينفك عنهما العبد ما دامت عينه تلحظ وعرقه ينبض.
يقول –رحمه الله-: فمن نوى بعمله غير وجه الله تعالى فلم يقم بحقيقة قوله: (إياك نعبد) صحيح من نوى بعمله غير الله تعالى فإنه لم يقم بحقيقة إياك نعبد، لأن مقتضى إياك نعبد ماذا؟ ألا يعبد غيره أن يفرده –جل وعلا-بالعبادة، ألا يتعلق بسواه، ألا يحب إلا إياه، هذا معنى إياك نعبد، فلا يكون في قلبه إلا الله –جل وعلا-، محبة وخوفا وإجلالًا وتعظيمًا ورجاء وخشية وإنابة، فليس في قلبه سواه –جل وعلا-ولا في قلبه تعلق بغيره –سبحانه وبحمده-.
ومن علق قلبه بغير الله في قصده وطلبه فإنه خاسر، يقول الله –جل وعلا-: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة: 72]، وقال –جل وعلا-فيمن أراد بعمله غير الله –جل وعلا-: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[هود: 15-16]، ثم إن من طلب غير الله وصرف القصد إليه لا يسعد، بل هو في غاية الشقاء والذل، يدل لذلك ما في صحيح البخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ»[صحيح البخاري(2887)]، هذا الحديث فيه بيان تعاسة كل من قصد غير الله تعالى من قصد الدنيا أو قصد الخلق بعمله، فإنه لا يدرك إلا شقاء وتعاسة وتعثرًا، وفواتًا لمصالحه وتورطًا في أنواع من المضار والآفات، فمن نوى بعمله غير الله تعالى لم يصب خيرًا.
النية -نية غير الله تعالى بالعمل- تنقسم إلى أقسام منها؛ ما هو مخرج عن دين الإسلام بالكلية كحال المنافقين الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، فهؤلاء قد قال الله تعالى فيهم ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[النساء: 145] هذا القسم الأول.
القسم الثاني ممن يعمل لغير الله تعالى، من هو مسلم ويقصد الله –جل وعلا-، لكن يدخل عليه طلب غير الله تعالى في بعض أعماله، فهذا يفسد عمله بقدر ما معه من قصد غير الله تعالى، فإن كان البعث على العمل قصد غير الله –جل وعلا-، فهذا عمله حابط وباطل، وإن كان عمله لله ثم طرأ عليه طلب الدنيا أو طلب ما لا يؤذن بطلبه من مقاصد الناس في أعمالهم، فإنه يفسد عمله إذا استمر وركن إليه، وينقص أجره إذا كان ذلك عارضًا وقاومه وصرفه.
المقصود أن تأثير نية غير الله تعالى بالعمل تختلف، هذا الذي نريد أن نخلص إليه، إن قصد غير الله تعالى بالعمل يختلف حكمه، قد يكون كفرًا وشركًا، وقد يكون ليس كفرا ولا شركا، لكنه يحبط العمل المقارن، وقد ينقصه ولا يحبطه، وقد يكون قصد ذلك مفوتًا لكمال الأجر، ولا يحصل به الإثم كمن يعمل مثلا عملًا صالحًا ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-أو ذكر الله –جل وعلا-فائدة دنيوية منه، فيقصد بهذا العمل تحصيل الفائدة الدنيوية مع الأجر الأخروي كما في حديث أنس «مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[أخرجه البخاري(2067)، ومسلم(2557)]، فإذا وصل رحِمه طاعة لله تعالى، ورغبة في تحصيل ما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم- من إنساء الأثر وبسط الرزق، هذا قصد أمر دنيوي أليس كذلك؟ قصد بعمله غير الله تعالى، هذا هل يحبط العمل؟ لا، هل يحصل به الإثم؟ الجواب: لا، هل ينقص الأجر؟ نعم يفوته من الأجر بقدر ما حصل من الشركة.
ومن العلماء من يقول: أنه لا ينقص أجره، لكن حقيقة أنه يختلف ما يكون بقلب العبد، إذا كان قصده الله أولا، وليس له رغبة إلا فيما عنده، ولا ينظر إلا إليه –جل وعلا-، وهذه أمور تابعة ينظر إليها على وجه التبع، فإنه لا ينقص.
أما إذا قصدها قصدًا يعني أصليًّا مع نية التقرب إلى الله تعالى، فإنه ينقص أجره بقدر ما حصل من وارد على قلبه يفوت كمال القصد، وهذا الأمر يا إخواني أمر عجيب، وليس أمرا يمكن أن يحد بضابط، أو أن يحد بحد لأن أعمال القلوب تتفاوت تفاوتًا بعيدًا كبيرًا، حتى إن الأعمال تكون في السورة واحدة متقاربة، بل قد تكون متطابقة تمامًا، لكنها في الأجر والمثوبة بينها كما بين السماء والأرض من فضل ومن رجحان كما يقول ابن القيم –رحمه الله-في نونيته.
المقصود في العمل إذا قصد به غير الله تعالى فله أحوال كثيرة، منها ما هو كفر، منها ما هو إثم، ومنها ما هو نقص في الأجر، ومنها ما لا يؤثر على عمل الإنسان.
الآن يبين لنا كيف كان قصد غير الله تعالى بالعمل خروجًا عن (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: فإن (إياك نعبد) هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، الحنيفية مأخوذة من الحنف وهي الاستقامة على التوحيد، ملة إبراهيم، الملة تقدم لنا بيانها، قلنا: إن الملة هي الدين، وتضاف إلى العباد، لا تضاف إلى الله تعالى، والملة هي مجموعة الأقوال والأعمال والاعتقادات التي يتحقق بها إفراد الله تعالى بالعبادة، هذه الملة الحنيفية، لكن الملة عمومًا هي مجموعة أقوال وأفعال واعتقادات وتطلق على غير ملة الإسلام، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[البقرة: 130]، فإن الرغبة عن ملة إبراهيم إلى ملة غيره.
وقد أضاف الله –جل وعلا-الملة إلى إبراهيم في مواضع عديدة من الكتاب، وذلك لكون إبراهيم حصل له من تقرير التوحيد والدعوة إليه وبيانه والمجاهدة في سبيل تقريره ما لم يكن لغيره من الأنبياء، يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[البقرة: 130]، وقال الله –جل وعلا-: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنعام: 161]، وقال الله –جل وعلا-: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾[النحل: 123]، والآيات والنصوص في هذا كثيرة، هذا منها، وفيها أن الملة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم-هي ملة إبراهيم عليه السلام، وسبب الإضافة إلى إبراهيم أنه من أعظم من دعا إلى التوحيد وقرره وجاهد في دحض الشرك والدعوة إلى التوحيد.
قال: ولا يقبل من أحد غيره ملة إبراهيم التي أمر بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحدا غيرها أي غير هذه الملة وهي حقيقة الإسلام، (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) نعوذ بالله من الخسران.
من يبتغي أي: من يطلب غير الإسلام دينا أي: عبادة في قوله وعمله واعتقاده، فلن يقبل منه وعدم القبول يفيد عدم الرضا، يفيد الرد، يفيد عدم الإثابة، ثم قال: وهو في الآخرة من الخاسرين أي: لا يدرك خيرا بل، هو قد خسر نفسه، وخسر ما أعده الله تعالى لأوليائه وعباده.
بعد هذا يقول المؤلف –رحمه الله-: فاستمسك بهذا الأصل ما هو الأصل الذي يستمسك به؟ الذي يظهر لي أن الأصل هو ما ذكره في قوله، وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله: (إياك نعبد) هي السجود والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتوبة والنذور إلى آخر ما ذكر، وبعدها يأتي قوله: فإن إياك نعبد هي الحنيفية ملة إبراهيم.
فقوله: فاستمسك بهذا الأصل أي بملة إبراهيم التي تضمنت هذه العبادات الجليلة، وهذه الأعمال الفاضلة التي هي حق الله تعالى، فاستمسك بهذا الأصل وهو توحيد الله تعالى والاستسلام له والتعظيم له وإفراد العبادة له، ورد ما أخرجه المبتدعة المشركون إليك أي: احكم على ما وقع فيه المبتدعة في أقوالهم وفي أعمالهم وفي اعتقاداتهم على وفق هذا الأصل الذي جاء به إبراهيم عليه السلام.
ويمكن أن يقال: إن مراد المؤلف فاستمسك بهذا الأصل يعني هذا التقسيم الذي ذكره في الشرك، شرك الإيرادات، وشرك الأقوال وشرك الأعمال، فإنه بين الشرك قال: ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليك أي: إما أن يكون ما وقع فيه المبتدعة والمشركون شرك في الإرادة، أو شرك في النية، أو شرك في العمل، أو شرك في القول.
والذي يظهر هو المعنى الأول أنه فاستمسك بهذا الأصل يعني ملة إبراهيم الحنيفية التي تضمنت تلك العبادات الجليلة ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليك تحقق معنى كلمة الإلهية "لا إله إلا الله"، فإن لا إله إلا الله تدل على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة (إياك نعبد وإياك نستعين) إنها دالة على وجوب التعلق به، "لا إله" نفي لعبادة ما سوى الله –جل وعلا-"إلا الله" فيها إثبات العبادة له وحده لا شريك له، وبهذا يتحقق للعبد التوحيد.
الآن بعد أن فرغ المؤلف –رحمه الله-من ذكر هذا التقسيم للتوحيد انتقل –رحمه الله-إلى ذكر بعض الأسئلة التي قد ترد على الإنسان من الواقعين في الشرك، من الذين وقعوا في الشبهة أو شُبِّه عليهم، أو المشككين في صحة ما تقدم من وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة.
فإن قيل: المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله تعالى وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية، وإنما قصد تعظيمه وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وإنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدخل بي عليه، فهو الغاية وهذه وسائل.
هذه الكلمات التي ذكرها –رحمه الله-كلمات مهمة ويجب الوقوف عندها وحلها حتى يسلم الإنسان من أعظم الشُّبه التي ترد على التوحيد، فإنه قد ذكر في هذا المقام شبهة هي المستمسَك الأكبر الذي سوغ به أهل الشرك شركهم، وهذه الشبهة الكبرى ليست حديثة الولادة، وليست جديدة الطروق، بل هي مما ذكرها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها في سورة تامة وهي سورة الزمر، فإن سورة الزمر ذكر الله تعالى فيها من تقرير التوحيد ودحض شبه المشركين ما هو واضح وبين لمن قرأ آيات في السورة المباركة.
فيها قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر: 3]، هذا هو الذي ذكره المؤلف –رحمه الله-في أول هذا المقطع، فإنه ذكر أعظم شبهة يحتج بها خصوم التوحيد الواقعون في الشرك، يقول: فإن قيل: المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله تعالى يعني بشركه إنما قصد تعظيم لجناب الله تعالى بشركه، وإنه لعظمته وجلاله –سبحانه وبحمده-لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط، والوسائط جمع واسطة، وهو ما يجعل بين الله تعالى وبين عباده.
والوسائط المقصود بهم هنا هم الشفعاء الذين يتقرب إليهم بأنواع القربات ليصل إلى ما يريد من حوائج ومطلوبات، والوسائط سيتبين أن الواسطة التي ذكرها المؤلف هنا هي الوسائط الممنوعة؛ لأن الوسائط نوعان؛ نوع جاء القرآن والسنة بالإقرار به وإثباته، ونوع جاء بتكذيبه ودحضه وبيان بطلانه.
النوع الأول: هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فهؤلاء وسطاء بين الله وبين الخلق يبلغون رسالات الله ويبصرون من العمى، ويهدون سبل السلام وهؤلاء الإيمان بهم والإقرار بما جاءوا به من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان أحد إلا بها، وحقهم طاعتهم واتباعهم والإيمان بهم وتصديقهم وإجلالهم وتوقيرهم.
والقسم الثاني من الوسائط هم من جعلهم المشركون واسطة بينهم وبين رب العالمين في قضاء الحوائج ونيل المعارض، وتفريج الكروبات ونيل المرغوبات، وما إلى ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وهذا النوع من الوسائط إثباته شرك.
وقد بين الله تعالى ضلال هؤلاء ورد عليهم في كتابه في مواضع عديدة، من ذلك ما ذكره الله تعالى في سورة الزمر فإن الله –جل وعلا-ذكر في أولها شرك المشركين واتخاذهم الأولياء من دونه وذكر حجتهم بل ذكر شبهتهم التي استمسكوا بها، قال الله –جل وعلا-: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر: 3]، وقال في هذه السورة ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر: 44]، فنفى الله تعالى الشفاعة عما سواه، الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك التي تقتضي الفزع واللجأ والاعتصام بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله –جل وعلا-، والتي تقتضي صرف أنواع العبادة العملية والقلبية لغير الله –جل وعلا-، هذه الشفاعة هي ما أشار إليه المؤلف –رحمه الله-هنا حيث قال: فإن قيل: المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله تعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك، فالمشرك لا يقصد الاستهانة بجناب الربوبية وإنما قصد تعظيمه، وقال: (إياك نعبد) وإنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدخل بي عليه، فهو الغاية وهذه الوسائل.
سيأتي الجواب على هذه الشبهة، لكن في الجملة حسن المقاصد لا يشفع لخطأ الأعمال، فكونهم قصدوا حسنًا لا يسوغ أن تكون أعمالهم سيئة، بل كل عمل لا بد فيه من سلامة القصد وصحة الطريق الذي يوصل إلى الغرض والقصد، فلو أن إنسانًا في أمور الدنيا كان قصده الرياض مثلا في سفر من الأسفار قصده الرياض، وسلك طريقا يوصله إلى غير هذه البلدة قصد المغرب والرياض في المشرق هل يشفع له حسن قصده في الوصول إلى غايته؟
الجواب: لا، لا يمكن فكذلك فيما يتعلق بسائر الأمور حسن المقاصد لا تشفع لصاحبها في صحة العمل لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف: 110]، فذكر الله تعالى النية وذكر صلاح العمل، فقال –جل وعلا-: ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ هذا في القصد والطلب، وقال –جل وعلا-: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ وهذا فيه صحة العمل، وأنه يجب أن يكون العمل صالحا ولا يكون صالحًا إلا إذا كان موافقًا لما جاءت به الرسل.
فاعتذارهم بأن قصدهم تعظيم الله –جل وعلا-ليس بعذر، ثم في الواقع أنه ليس تعظيمًا، أن هذا الذي يزعمون ليس تعظيمًا لله تعالى، بل هو في غاية النقص لحقِّه، والانتهاك لجلاله –جل وعلا-إذ إن المعظم لله تعالى يعلم أن ربه –جل وعلا-من الكرم والرحمة وسعة الفضل وعظيم الإحسان ما لا يحتاج أن يدخل عليه بوسائط.
ولذلك قال الله –جل وعلا-: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[البقرة: 186]، فلم يقل: فليتوجهوا إليَّ بكذا وكذا مما يزعم هؤلاء من الشفعاء والأولياء، بل أمر –جل وعلا-أن يتوجه إليه وحده، وأخبر بقربه وأنه ينيل السائل مطلوبه إذا صدق في سؤاله ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
هذه الشبهة الأولى التي ذكرها المؤلف –رحمه الله-، وهو نوع تساؤل ذكره سيأتي مزيد بسط وتفصيل في الجواب عما ذكر –رحمه الله-.
نقف على هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.