الدرس (13) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي
[المتن]
واعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به على أربعة أقسام.
[الشرح]
الآن يقول رحمه الله: (واعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به)،ما هي عبادة الله تعالى؟ هي التقرب إليه جل وعلا بفعل ما أمر وترك ما نهى، رغبة ورهبة. هـٰذه العبادة، إذن العبادة المقصود بها هنا فعل حق الله تعالى، القيام بحقه، والاستعانة هي: طلب العون من الله -جل وعلا- وسؤال الإعانة على تحصيل المصالح الدنيوية والدينية، فهي تجمع الأمرين:
تجمع العبادة من جهة السؤال والطلب؛ لكن المقصود منها بالدرجة الأولى، تحصيل مصلحة العبد، الأخذ من الرب جل وعلا، فهي للعبد أو للرب؟ للعبد، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه الإمام مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمـٰن عن أبيه عن أبي هريرة قال الله تعالى: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين))ثم قال جل وعلا:((فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمـٰن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى: هـٰذه بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل))هـٰذا: ((ولعبدي ما سأل))[مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم (395).]في أول الحديث، ((وبيني وبين عبدي نصفين))، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، هـٰذه للرب، و﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إذن للعبد.
ثم تأتي المسائل التي وعد الله بإجابتها في قوله: ((ولعبدي ما سأل))وهي: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾، سائر ما أخبر الله تعالى به من المسائل العظام في هـٰذه السورة المباركة، فالاستعانة حق العبد على الرب، والعبادة حق الرب على العبد، أقسام الناس في هـٰذا الأمر، حق الله تعالى على عباده، حق العباد على الرب الذي أوجبه على نفسه تفضّلا وإنعاما ورحمة وكرما، الناس فيه على أربعة أقسام، يقول رحمه الله: (واعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به على أربعة أقسام)، هـٰذه القسمة يسميها العلماء القسمة العقلية، القسمة العقلية في هـٰذا المقام أربعة أقسام:
قوم كملوا العبادة والاستعانة.
قوم تركوا العبادة والاستعانة، هـٰذان متقابلان.
قوم عبدوا الله ولم يستعينوا به.
قوم لم يعبدوا الله واستعانوا به.
وبهـٰذا تتم القسمة الرباعية وهي ما يعرف بالقسمة العقلية الممكنة في هذين القسمين، القسمة العقلية يعني القسمة الممكنة عقلا في هذين الأمرين.
ابتدأ المؤلف -رحمه الله- بذكر أعلى الأقسام وأجلها وأشرفها، قال:(أجلها) يعني أعظمها، (وأفضلها)، أي أكملها وخيرها وأكرمها على الله تعالى (أهل العبادة والاستعانة بالله عليها)،الذين كملوا الأمرين، فعبدوا الله تعالى بإقامة حقه جل وعلا، وتوجّهوا إليه أيضا في تحصيل مقاصدهم وأغراضهم ومطالبهم ومصالحهم، فليس لهم إلـٰه ولا رب سواه -جل وعلا- يدركون مطالبهم ويحصلون حوائجهم منه.
ثم قال رحمه الله:
[المتن]
واعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به على أربعة أقسام: أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم، ولهٰذا كان أفضل ما يسأل الرب تعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبل فقال: ((يا معاذ، والله إني أحبك فلا تدع أن تقول في كل دبر صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشرك وحسن عبادتك))[مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين)، حديث رقم (22018).سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب في الاستغفارن حديث رقم (1522).
سنن النسائي: كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء حديث رقم (1303).قال الشيخ الألباني: صحيح.].
[الشرح]
يقول رحمه الله: (واعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به على أربعة أقسام)، وهـٰذا التقسيم ذكرنا أنه تقسيم بالاستقراء وهو القسمة العقلية، القسمة العقلية لاثنين تصير إلى أربعة،يقول رحمه الله:(أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة)أجل هـٰذه الأقسام وأفضلها، (أجلها)أي: أعظمها وأكبرها، وأفضلها أي منزلة وعلوا وأجرا ومثوبة عند الله تعالى، هم (أهل العبادة والاستعانة)الذين حققوا إياك نعبد وإياك نستعين، فحققوا الاستعانة بالله تعالى، بصدق الاعتماد عليه، وحققوا العبودية له بتمام القيام بأمره والانتهاء عما نهى عنه رغبة ورهبة.
يقول رحمه الله تعالى: (فعبادة الله غاية مرادهم) أي منتهى ما يطلبون، الغاية هي المنتهى، قوله: (غاية مرادهم) أي منتهى ما يطلبون ويسعون إليه، (وطلبهم منه أن يعينهم عليها)، طلبهم: أي ما يستعينون به، أو ما يستعينونه فيه، وما يطلبونه منه أن يعينهم عليها، فحققوا العبودية حيث اشتغلوا بأعظم ما يجب الاشتغال به، وأضافوا إلى ذلك أنهم لم يعتمدوا في تحقيق ذلك على أنفسهم؛ لأنهم ضعفاء ومن وكل إلى نفسه فقد وكل إلى ضعف وهوان، لكنهم اعتمدوا على الله -جل وعلا- سألوا منه الإعانة وطلبوا منه التوفيق والعون، في حصول هـٰذا المطلوب (وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها) أي بالعبادة، (نهاية مقصودهم، ولهـٰذا كان أفضل ما يسأل الرب تعالى الإعانة على مرضاته)، أفضل ما يطلب من الله جل وعلا، أن يعين على طاعته، وهو الذي علمه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لماذا كان أفضل ما يطلب هو الإعانة على طاعة الله تعالى؟ لأن الإعانة على طاعة الله تعالى سعادة الدنيا والآخرة، فإن الإنسان إذا أعين على الطاعة وُفق إليها وعمل بها وهُدي إليها، وكان ذلك سببا لجني ثمارها، ومن ثمارها السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، فإن الله تعالى كتب الحياة الطيبة لمن؟ للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكتب الفوز والنجاة للمتقين في الآخرة، فقال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)﴾[سورة: النبأ الآية (31). ]،ولذلك كانت أفضل ما يطلب وأفضل ما يستعان الله تعالى عليه، فإنه إذا استعان العبد بالله تعالى فيه، أي في الهداية حصولها كان ذلك أعظم ما يحصله العبد لأنه:
إذا لم يكون عون من الله للفتى |
|
فأول ما يجني عليه اختياره |
يقول رحمه الله: (وهو الذي علمه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-فقال: ((يا معاذ، والله إني أحبك))أو ((إني أحبك))وفي بعض الروايات تكرار هـٰذا الخبر من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ،((والله إني أحبك))ومن أحبه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد فاز، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حبه لله وبغضه لله، هـٰذا الأصل فيس محبته وبغضه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تعرض المحبة النبوية لأحد لقرابة كما جرى ذلك منه لأبي طالب، فإن محبته لأبي طالب محبة قرابة ومحبة معروف؛ لأنه نصره وناضل عنه وكافح المكافحة التي لم تكن من أحد من الناس من قرابته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حتى قال الله تعالى:﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾[سورة: القصص، الآية (56). ]العلماء بعضهم يقول: ﴿أَحْبَبْتَ﴾ أي أحببت هدايته؛ لكن هـٰذا ليس بظاهر القرآن، وكل هـٰذا فرارا من أن يحب المسلم الكافر، المسلم قد يحب الكافر لسبب من الأسباب إما لمعروف أو إحسان؛ لكن البغض الذي يكون من المسلم للكافر إنما بغض لما يتعلق بدينه، وكفره بالله تعالى، أما ما قد يكون من سبب صلة أو سبب من أسباب المحبة فإنها تكون بين المسلم والكافر، ولذلك لا يلام الرجل إذا نكح كتابية أن يحبها محبة الأزواج، فإن هـٰذا طبيعي، وقد قال الله تعالى:﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾[سورة: المائدة، الآية (5). ]، ومعلوم أنه إذا نكح امرأة فإنه سيقوم غالبا بينه وبينها مودة ومحبة، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[سورة: الروم، الآية (21).]فهـٰذا هو المقتضى، مقتضى عقد الزوجية الطبيعي سواء كانت الزوجة مسلمة أو كافرة.
الخلاصة: أن المحبة قد تكون لأمر ديني، وهـٰذا هو الأصل في محبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن قد تكون المحبة لأمر آخر تقتضيه الطبيعة من محبة من أحسن إليك، من محبة المشارك المقارن، فهـٰذا لا بأس به ومنه محبته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن؟ لعمه أبي طالب.
طيب: ((والله إني أحبك فلا تدع أن تقول في كل دبر صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشرك وحسن عبادتك))،((اللهم أعني))هـٰذا فيه طلب العون من الله تعالى على أجل المطلوبات؛ على ذكر الله تعالى وشكره وحسن عبادته، الذكر يشمل هنا ذكر القلب وذكر اللسان وأعلاه ذكر القلب الذي يوافقه ذكر اللسان، وأما الشكر هنا فالمقصود بالشكر هنا خصوص الثناء على الله تعالى لإنعامه وإحسانه،
أفادتكم النعماء مني ثلاثة |
|
يدي ولساني والضمير المحجب |
فإن الشكر هنا على الخصوص هو إيش؟ الثناء على الله تعالى لإنعامه، سواء كان الإنعام إنعام ديني، أو إنعام دنيوي، وأجل ما يشكر عليه جل وعلا الإنعام الديني بأن يهدي العبد ويرزقه الاستقامة.
وقوله: ((وحسن عبادتك))أي حسن طاعتك، وامتثال أمرك وترك وما نهيت عنه والتقرب إليك،وهـٰذا فيه أن الشأن كل الشأن في أن تحسن العبادة، الشأن كل الشأن أن تصلح العبادة وتحسن، لا أن تكثر، قال الله تعال: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[ سورة: الملك الآية (02). ]،ولذلك قال في الدعاء وحسن عبادتك ولم يقل وعبادتك، لأن الحسن هنا فيه العبادة وزيادة فيه العبودية لله تعالى، وفيه أيضا مع العبودية الحسن وهو أن تكون خالصة لله تعالى صوابا على السنة.
فحسن العبادة يكون بهذين الأمرين؛ تحقيق الإخلاص لله تعالى بأن لا يبتغي غير الله تعالى بعمل، ((فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا))،[البخاري: كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول..، حديث رقم (1410). مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث رقم (1014).] وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حديث أبي أمامة في الجهاد ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه))[رواه النسائي في الجهاد (2/59)، وإسناده حسن، كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (52).] فينبغي للعبد أن يحرر القصد، وأما المتابعة فقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عدة عبادات ((خذوا عني مناسككم))، في الصلاة قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))،[البخاري: كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر، حديث رقم (631).]وفي الحج قال: ((خذوا عني مناسككم))،[مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا وبيان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لتأخذوا عني مناسككم))، حديث رقم (1297).واللفظ للنسائي: كتاب مناسك الحج باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم، حديث رقم (3062).]والمناسك هنا المقصود بها أعمال الحج؛ ولكن هـٰذا أيضا يشمل كل عبادة؛ لأنه هو المصدر للتشريع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هو المبلغ لله تعالى:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[سورة: الحشر الآية (7). ]هـٰذا كله واضح، كله تضمنه هـٰذا الحديث والذي يُهمنا والذي من أجله ساق المؤلف هـٰذا الحديث قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اللهم أعني على ذكرك وشرك وحسن عبادتك))، بعد الفراغ من العبادة يسأل الله تعالى هـٰذهالمسائل التي فيها سؤال الله تعالى التوفيق لطاعته والقيام بحقه، وأنه بصلاته لا يكون قد فرغ من حق الله تعالى؛ بل هو مطالب بدوام ذكره وشكره وحسن عبادته وسؤال العون على ذلك.
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاة الله تعالى، فإنه لا يعين على العبادة المطلقة إلا الله تعالى، ولذلك هو المستعان -جل وعلا- على كل طاعة وإحسان؛ لأنه لا يعين على العبادة المطلقة إلا الله تعالى.
طيب: ما معنى الاستعانة بالله تعالى على العبادة ؟ هل يجني منها العبد ثمارا ؟ معنى الاستعانة بالله تعالى على العبادة، هو طلب عونه جل وعلا، وهل هـٰذا يحصل به العبد ثمارا وآثارا وفوائد؟ نعم يحصل آثارا وفوائد وثمارا، من ذلك: أنه إذا أعان الله تعالى العبد على الطاعة والإحسان وفقه إلى سلوك الطريق المستقيم، فإن إعانة الله تعالى لعبده على عبادته تكون بأمور كثيرة، لا يقدر عليها إلا الله جل وعلا؛ من ذلك: جعل العلم والهدى والتقوى والصلاح في قلب العبد، جعْل إرادة الاستقامة والهداية في قلب العبد، خلق القوة الظاهرة والباطنة التي بها يقوم العبد على العمل، إنما يكون من الله جل وعلا، خلق الأسباب التي بها تحصل الطاعات إنما تكون بتيسير الله تعالى وإعانته، ولذلك ينبغي أن نستشعر هـٰذه الأمور عند قولنا: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))، أنه لا يقذف في قلبك العلم الذي به تعبده إلا الله، لا يهديك إلى السبل التي تصل بها إليه إلا الله تعالى، لا يعينك في ظاهرك ويلهمك القوة في الظاهر التي تعينك على إيجاد العمل إلا الله تعالى، لا ييسر لك الأسباب التي توصلك إلى العبادة إلا الله جل وعلا، فكم من مريد للطاعة لا يبلغها؛ يحول بينه وبينها شهوة الشيطان وأصحاب السوء، تجده يميل إلى الطاعة والإحسان؛ لكن له أصحاب يدعونه إلى الشر وإلى الرذيلة ويقعدونه عن الصلاح والاستقامة، هـٰذه عوائق من الذي يزيلها عن فلان وييسر له الهداية؟ الله جل وعلا، فقولنا: ((اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))يتضمن معاني جليلة، ليس ذكرا يقال باللسان ونقوم لصلاتنا وانتهى الموضوع، إنه ذكر له معناه، وإن العبد ينبغي أن يتدبر ويتذكر هـٰذه المعاني، من الذي يسر لك المجيء إلى هـٰذا المكان، في صلاتك، في صلاة الجماعة، في صلاة قد تكون شديدة، في برد في فجر أو في ليل أو في حر في قائلة، أو فيما إلى ذلك من الأسباب من الذي يسر لك هـٰذا المجيء؟ الله جل وعلا وأنت تتوسل إليه بهـٰذا العمل أن يمدك بمزيد عون تديم فيه ذكر الله تعالى وشكره وحسن عبادته.
نفع الدعاء طلب العون على مرضاته ولذلك جعله الله تعالى في سورة إيش ؟ في سورة الفاتحة كلنا يقول، كل مسلم يصلي يقول:﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾[سورة: الفاتحة الآية (07).]تصور أن هـٰذا الدعاء الذي يقوله المسلم في كل ركعة إنما يقوله لعظيم حاجته إليه؛ ولأنه أنفع وأعظم ما يسأله الله جل وعلا؛ لأن هداية القلوب تتضمن هداية الدلالة والإرشاد لبيان الحق ووضوحه وهداية التوفيق والإلهام الذي يثمر العمل وينتج عنه الصالح من الأعمال، فلذلك ينبغي لنا أن نستحضر ونستذكر مثل هـٰذه المعاني،(فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته تعالى.[نقل ابن القيم في المدارج: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قدس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.]) ما الدليل على أن أنفع الدعاء الدليل على مرضاته؟ تكرراها في الصلاة، لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن، ألم نقل هـٰذا قبل قليل؟ الفاتحة نقرؤها في كل ركعة ويقرؤها كل مسلم، لعظيم حاجته إلى الهداية التي ضمنت هـٰذه السورة سؤالها وطلبها، الفاتحة التي فرضها الله على المؤمنين في صلواتهم إنما تضمنت هـٰذا الدعاء لعظيم حاجة الإنسان إليه وأن هـٰذا الدعاء أنفع دعاء، وإلا لما فرضه الله وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))[مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة فاتحة الكتاب، حديث رقم (394).]فهـٰذا يدل على عظيم منزلة هـٰذا الدعاء، وأنه أنفع دعاء يدعوه العبد قال رحمه الله بعد هـٰذا :
[المتن]
ويقابل هؤلاء القسم الثاني، المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة؛ بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ يسأله من في السمٰوات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه فيمد هؤلاء وهؤلاء.
وأبغض خلقه إليه إبليس، ومع هٰذا أجاب سؤاله وقضى حاجته ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاته كانت زيادة في شقوته وبعده.
وهكذا كل من سأله تعالى واستعان به على ما لم يكن عوناً له على طاعته كان سؤاله مبعداً له عن الله، فليتدبر العاقل هٰذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه؛ بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه منها حماية له وصيانة، والمعصوم من عصمه الله. والإنسان على نفسه بصيرة.
[الشرح]
يقول رحمه الله:(ويقابل هؤلاء القسم الثاني)يقابل القسم الأول الذين حققوا العبودية لله تعالى والاستعانة به، يقابلهم من تخلى عن هذين الوصفين فلم يعبد الله تعالى ولم يستعنه جل وعلا، المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة، بل إن سأله تعالى (بل إن سأله تعالىأحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته)يعني هـٰذا يدل على أنه لا غنية للإنسان عن الاستعانة، ما في إنسان يستغني عن الاستعانة بالله تعالى لكن من الناس من يستعين لكن لا يستعين بالله إلا في حظوظه الدنيوية، مأكل ومشرب ومنكح وما إلى ذلك، هؤلاء أعرضوا عن العبادة وعن الاستعانة به على عبادته وتحقيق العبودية له جل وعلا وهم المقابلون للقسم الأول، (والله سُبْحَانَهُ يسأله من في السمٰوات والأرض)فلا أحد غني عن رحمة الله وعن إحسانه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[سورة: فاطر الآية (15).](ويسأله أولياؤه وأعداؤه)يسأله أولياؤه من فضله وإحسانه، ويسأله أعداؤه لكنهم لا يسألونه الإعانة على الطاعة والهداية، إنما يسألونه مُتع الدنيا، بل قد يسأله بعضهم ما يكون له عونا له على معصية الله تعالى، كالذي يسأل الله تعالى تيسر المعاصي، أو تسهيلها أو ما إلى ذلك من ألوان المسائل التي يحصّل الإنسان بها مقصوده.
يقول رحمه الله: (والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ يسأله من في السمٰوات والأرض ويسأله أولياؤه وأعداؤه فيمد هؤلاء وهؤلاء.) يمد أي: يعطي، ويبلغ هؤلاء أي الأعداء، وهؤلاء أي الأولياء، كما قال الله تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾[سورة: الإسراء الآية (20). ] أي: ممنوعا عن هؤلاء ولا عن هؤلاء، وهـٰذا بعد أن ذكر الله تعالى صنفي الناس، قال الله تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18﴾[ سورة: الإسراء الآية (18)]هـٰذا الصنف الثاني ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾[سورة: الإسراء الآية (19). ]هـٰذان صنفان، ثم قال:﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء﴾الصنف الأول والصنف الثاني ﴿مِنْ عَطَاء رَبِّكَ﴾، قال جماعة من أهل التفسير، يمد أهل الطاعة بالطاعة ويمد أهل المعصية بالمعصية، وقال جماعة من أهل التفسير: يمد هؤلاء وهؤلاء من العطاء المطلق الذي تقوم به أبدانهم وتصلح به دنياهم ﴿وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾والذي يدل على أن المعنى الثاني هو الأقرب، وهو أنه يمد الجميع من عطائه: قوله بعد ذلك: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾[سورة: الإسراء الآيات (20-21). ]أمر الله تعالى رسوله وأمر الأمة أن تنظر إلى هـٰذا التفاضل بين الناس في أرزاقهم وأقواتهم وحظوظهم من الدنيا وجاههم؛ تفاوت كبير جدا لكن التفاوت الذي في الآخرة أعظم من ذلك بما لا يقاس بتفاوت الدنيا، ولذلك قال: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾[سورة: الإسراء الآية (21)]نسأل الله أن يجعلنا ممن علا في الآخرة، وارتفعت منزلته عند الله رب العالمين.
يقول:(وأبغض خلقه إليه إبليس) ومع ذلك لا غنية به عن فضل الله تعالى، ما الدليل على أن إبليس يسأل الله تعالى، ﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[ سورة: الأعراف، الآية (14).]فسأل الله ودعاه، هل أعطاه الله مسألته أو لا؟ أعطاه الله مسألته يقول:( وأبغض خلقه إليه إبليس)لأنه أعظمهم جحودا وكفرا وإعراضا (ومع هٰذا أجاب سؤاله)،﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ﴾[سورة: الأعراف، الآية (15) ]فأنظره الله تعالى وقضى حاجته ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونا على مرضاته هل كانت خيرا له أو شرا عليه؟ كانت شرا عليه ولذلك قال: (كانت زيادة في شقوته وبعده)عن رب العالمين بزيادة معارضته ومحادته لله رب العاملين قال: (وهكذا كل من سأله تعالى واستعان به على ما لم يكن عوناً له على طاعته كان سؤاله مبعداً له عن الله) فهـٰذا ينبغي أن يتنبه فهـٰذا ينبغي أن يتنبه له إذا أعطاك الله تعالى أمرا وهو من معصية الله تعالى وقد سألته ذلك فلا تفرح، فإنما هو من الإملاء الذي يدخل في قوله -جل وعلا-:﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾[سورة: الأعراف، الآية (182).]فهـٰذا استدراج وإملاء، ثم إذا أخذ الله تعالى الظالم لم يفلته، كما جاء في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته))[مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2583).] فليتدبر العاقل، فليتأمل وينظر وليتفكر بعقله وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه؛ بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه ويكون منعه منها حماية له وصيانة، هـٰذا يدل إذا منعت من إجابة بعض ما تسأله الله تعالى فلا تضجر ولا تجزع ولا يضيق صدرك، ولا تقل: ربي لم يعطني ما سألته بل يجب عليك أن تثق بأن الله لا يمنع بخلا، ولا يمنع جل وعلا عجزا، وإنما يكون المنع منه لحكمة ورحمة، فهو يمنعك ما تسأل رحمة بك، أعلم بك جل وعلا وبمصالحك من نفسك، وهو المقدم المؤخر، الذي يقدم لعبده الخير، ويؤخر عن عبده المؤمن الشر، فقد يكون نوالك وتحصيلك لما سألت سببا لهلاكك، كم من إنسان سأل الله المال فلما أتاه الله المال انقلب على عقبيه، كم من إنسان سأل الله نوعا من المسائل فلما أتاه الله تعالى ذلك الطلب وتلك المسألة صارت وبالا عليه.
فينبغي للمسلم أن يرضى ويسلم، وأن يعلم أنه في خير من ربه، لا يعدم خيرا من رب وثق به ولجأ إليه واعتصم به سبحانه وبحمده.
يقول :(والمعصوم من عصمه الله. والإنسان على نفسه بصيرة.)نعم المعصوم من منعه الله تعالى من الشر ووقاه من السوء (والإنسان على نفسه بصيرة) يعلم ما ينفعه وما يضره وهو أخبر بمصالح نفسه فيجب عليه أن يسعى في مصالحها، وأن يصبر فيما منعه الله تعالى، وأن يعلم أن منعه جل وعلا لا لبخل ولا لعجز، قال:
[المتن]
وعلامة هٰذا أنك ترى من صانه الله من ذلك، وهو يجهل حقيقة الأمر إذا رآه سُبْحَانَهُ يقضي حوائج غيره يسيء ظنه به تعالى وقلبه محشو بذلك وهو لا يشعر.
وأمارة ذلك حمله على الأقدار وعتابه في الباطن لها، ولقد كشف الله تعالى هٰذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى:﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلاَّ﴾[سورة: الفجر الآيات (15-17) ]أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخوّلته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته عليّ؛ ولكنه ابتلاء مني وامتحان له؛ أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه وأحوّله عنه لغيره، وليس كل من ابتليته فضيّقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذاك من هوانه عليّ ولكن ابتلاء وامتحان له مني، أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته أم يتسخط فيكون حظه السخط.
وبالجملة، فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره فإنه سُبْحَانَهُ يوسّع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنما يكرم سُبْحَانَهُ من يكرم من عباده بأن يوفقه لمعرفته ومحبته وعبادته واستعانته.
فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها.
[الشرح]
يقول رحمه الله تعالى: (وعلامة هٰذا)أي العلامة التي يدرك بها الإنسان ما تقدم (أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر إذا رآه سُبْحَانَهُ يقضي حوائج غيره يسيء ظنه به) إذا رأى أن الله جل وعلا يقضي حوائج غيره يسيء ظنه به، وإساءة الظن تعود في مسألة الدعاء إلى أحد أمرين:
إما أن يظن أن الله عز وجل عاجز عن تبليغه ما يريد.
أو أنه يبخل جل وعلا عن عبده فلا يعطيه بخلا.
وقد يسيء بعض الناس الظن بالله تعالى في أمر ثالث وهو جل وعلا لا يسمع دعاءهم، وهـٰذا فيه غاية إساءة الظن بالله تعالى، فالله تعالى أحاط بكل شيء سمعا، فلا يغيب عنه صوت من الأصوات.
يقول: (وقلبه) هـٰذا الذي أساء ظنه بربه (محشو بذلك وهو لا يشعر، وأمارة هـٰذا حمله على الأقدار وعتابه في الباطن لها) تجده يتسخط من القدر، ويعاتب القضاء والقدر، ويلومه، ويقول: كيف يكون كذا وأنا كذا! وكيف يعطي هـٰذا وهو كذا؟! ويدخل في مثل هـٰذه الكلمات التي تنبئ عن عدم رضاه بربه جل وعلا.
يقول: (ولقد كشف الله تعالى هٰذا المعنى غاية الكشف)أي: أنه يعطي لا للإكرام ويمنع لا للإهانة، وأن الله - جل وعلا- يعطي العبد ويكون وبالا عليه ويمنعه ويكون خيرا له، فليس كل عطاء من الإكرام وليس كل منع من الامتهان﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾أي ضيق عليه رزقه﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) ﴾[سورة: الفجر الآيات (15-16). ]الآية تقول: أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، أين هـٰذا النفي؟ هـٰذا مستفاد من قوله تعالى بعد ذلك من قوله: ﴿كَلاَّ﴾كلمة ردع وزجر تنقض ما تقدم، فهي تردع عما يظنه الإنسان وتزجره عما يظنه من أن إكرام الله تعالى وأن إعطاءه إكرام، أو أن منعه إهانة؛ بل الإعطاء يكون لمن أكرمه ولمن لم يشأ إكرامه، فالله تعالى حكيم خبير، يقول: (ولكنه ابتلاء مني وامتحان له)في حال الإعطاء وفي حال المنع يبتلي ويمتحن العباد في منعه وعطائه، قال رحمه الله: (أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه وأحوّله عنه لغيره)، المقصود أنه ابتلاء وامتحان يبتلي الله عز وجل الناس بالسراء والضراء، قال الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35﴾[سورة: الأنبياء الآية (35).] أي: اختبار وامتحان ليرى الله جل وعلا حال العبد في السراء والضراء ، (وليس كل من ابتليته فضيّقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذاك من هوانه عليّ)يعني ليس كل من أعطي على قدر حاله، وليس عنده ما يفيض عن حاجته، ذلك لهوانه بل يكن ذلك ابتلاء (ولكن ابتلاء وامتحان له مني، أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته أم يتسخط فيكون حظه السخط.).
ثم قال رحمه الله:(وبالجملة، فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره)، أي ليس مناطهما ما يفتح الله تعالى من أرزاق الدنيا، ليس مناط الإكرام والإهانة فتح الأرزاق وتضييقها، إنما مناط الكرامة الحقيقية هو التوفيق إلى التقوى ، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[سورة: الزخرف الآية (33-35) ]فالآية دالة دلالة واضحة أن الله -جل وعلا- لو شاء لفتح للكفار أنواع المتع الدنيوية، وهـٰذا كله على اختلاف ألوانه وأصنافه وصوره متاع الحياة الدنيا فأضافه إلى الحياة الدنيا لدنوها وسفولها وقصرها وزوالها، وأما الآخرة وما أعدها الله تعالى من النعيم وسائر ما أخبر الله تعالى به من المنح والمنن التي أعدها لعباده، فتلك للمتقين والآخرة عند ربك للمتقين، نسأل الله أن كون منهم.
ثم قال رحمه الله: (ويقتر على المؤمن)،قد جاء أثر عن ابن مسعود وورد موقفا ومرفوعا، والصحيح أنه موقوف قال فيه ابن مسعود: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب.) وهـٰذا فيه أن مناط الإكرام هو الإيمان والتقوى كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[سورة: الحجرات الآية (13).]فهـٰذا هو مناط الإكرام الحقيقي الذي ينبغي أن يلاحظه الإنسان، أما الدنيا سعة وضيقا فإنها تكون للمؤمن وتكون للكافر، وتكون للمسلم وتكون لغيره، فلا ينبغي أن يكترث بذلك المسلم بل يرضى بما قسم الله تعالى ويسلم لحكمة الله تعالى ويعلم أنه إنما منعه لرحمة وحكمة.
قال رحمه الله: (ويقتر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنما يكرم سُبْحَانَهُ من يكرم من عباده بأن يوفقه لمعرفته ومحبته وعبادته واستعانته.) هـٰذا هو الإكرام الحقيقي نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الإكرام والتقوى والصلاح.
قال رحمه الله: (فغاية سعادة الأبد) يعني السعادة التي لا انقطاع لها (في عبادة الله والاستعانة به) أي بالله تعالى عليها على عبادته جل وعلا، ثم ذكر المؤلف رحمه الله القسم الثالث.
مر قسمان:
القسم الأول من حقق العبودية والاستعانة.
والقسم الثاني من أعرض عنهما وتركهما، ترك العبودية والاستعانة.
لقسم الثالث:
[المتن]
القسم الثالث من له نوع عبادة بلا استعانة. وهؤلاء نوعان:
أحدهما: أهل القدر القائلون: بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ قد فعل بالعبد جميع مقدروه من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدروه إعانة له على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق، وإرسال الرسول، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعدها إعانة مقدورة يسأله إياها. وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم، مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذّب بقدره نقض تكذيبُه توحيدَه.
[الشرح]
يقول رحمه الله:(القسم الثالث)من الناس فيما يتعلق بالعبادة، والاستعانة (من له نوع عبادة) يعني معه نوع تعبد وتقرب إلى الله تعالى (بلا استعانة) عبادة مجردة عن طلب العون من الله تعالى سواء كان العون فيما يتعلق بتحقيق العبودية، أو كان الأمر فيما يتعلق بأمر الدنيا، يقول رحمه الله: (وهؤلاء نوعان)هؤلاء نوعان النوع الأول: (أهل القدر)وهم الجبرية وأضافهم إلى القدر لأنهم انحرفوا فيه وضلوا فيه، قال رحمه الله:(القائلون: بأنه سُبْحَانَهُ قد فعل بالعبد جميع مقدروه من الألطاف)يعني ليس في الإمكان أحسن مما كان، فقد فعل سبحانه كل ما يستطيعه بالعبد، فلا يستطيع أن يهدي الضالين، ولا أن يزيد في هداية المهتدين، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، يقول:(وأنه لم يبق في مقدروه إعانة له على الفعل)فإذا كان لم يبق في مقدور الله تعالى؛ أي لم يبق في قدرته جل وعلا أن يعين العبد على الفعل معنى هـٰذا إيش، لا يسأل أن يعين، لا يسأل أن يعين؛ لأنه يسأل الله جل وعلا ما لا يقدر عليه هؤلاء جهلوا بالله تعالى وبصفاته ولم يؤمنوا بأنه على كل شيء قدير، فنقص هـٰذا من عبوديتهم لله تعالى ولم يطلبوا منه العون على حوائجهم، ولا على مصالحهم الدينية ولا الدنيوية(فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها)أعانه بخلق الآلات؛ الآلات أي الأسباب التي يحصل بها تحصيل المقصود (وسلامتها وتعريف الطريق) أي الدلالة عليه (وإرسال الرسول وتمكينه من الفعل فلم يبق بعدها إعانة مقدورة يسأله إياها) واضح هـٰذا، هـٰذا القسم واضح، يعني إنه خلاص الله تعالى فعل كل ما يقدر عليه، وإذا كان قد فعل بك كل ما يقدر عليه، فهل تسأله أكثر من ذلك؟ لا، لا تسأله لماذا؟ لأن سؤالك في هـٰذه الحال سؤال لله تعالى ما لا يقدر عليه، وهؤلاء لما ساء اعتقادهم ساء فعلهم، فلم يسألوا الله تعالى شيئا، ولم يستعينوه في تحصيل شيء.
قال رحمه الله (وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم)لا شك أنهم مخذولون وموكلون إلى أنفسهم فليس من الله تعالى إعانة لهم؛ لأنهم وصفوه بالنقص، فليس لهم من الله نصيب في الإعانة والتوفيق للهداية (مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد، قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد) يعني ينتظم به أمر التوحيد والعبادة، والمقصود بالتوحيد هنا توحيد الأسماء والصفات توحيد الربوبية توحيد الإلهية، فالتوحيد هنا يشمل جميع أنواعه فمن أخل بالقدر انتقض توحيده واضطرب توحيده لم يكن عنده توحيد مستقر سليم؛ بل توحيده في انتقاض واضطراب ولذلك، قال:( فمن آمن بالله وكذّب بقدره نقض تكذيبه)أي تكذيبه بالقدر (نقض تكذيبه توحيده.)فينبغي أن يعلم أن الإيمان بالقدر من أعظم ما يحصل به اكتمال الإيمان بربوبية الله تعالى بإلهيته جل وعلا وبأسمائه وصفاته، وهـٰذا الأثر مشهور عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة لكنه جاء من طريق ضعيف وذلك أن الراوي عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مجهول فهو من طريق عمر بن محمد عن رجل عن عبد الله ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، والرجل هـٰذا مجهول، ولهـٰذا إسناد هـٰذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه ضعيف.